الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٩٠] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إنْ هو إلا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ﴾ ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارَةٌ إلى الأنْبِياءِ المَذْكُورِينَ: ﴿الَّذِينَ هَدى اللَّهُ﴾ أيْ: إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ: ﴿فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ أيْ: بِطَرِيقَتِهِمْ في الإيمانِ بِاللَّهِ وتَوْحِيدِهِ، والأخْلاقِ الحَمِيدَةِ، والأفْعالِ المَرْضِيَّةِ، والصِّفاتِ الرَّفِيعَةِ، اعْمَلْ. تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ: اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ مَن قالَ: إنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا شَرْعٌ لَنا، ما لَمْ يَرِدْ ناسِخٌ. الثّانِي: اسْتَدَلَّ بِها ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلى اسْتِحْبابِ السَّجْدَةِ في (ص)؛ لِأنَّ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ سَجَدَها، رَواهُ البُخارِيُّ وغَيْرُهُ - ولَفْظُ البُخارِيِّ: عَنِ العَوّامِ، قالَ «سَألْتُ مُجاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ (ص)، فَقالَ: سَألْتُ ابْنَ عَبّاسٍ: مِن أيْنَ سَجَدْتَ؟ فَقالَ: أوْ ما تَقْرَأُ: ﴿ومِن ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وسُلَيْمانَ﴾ [الأنعام: ٨٤] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ فَكانَ داوُدُ (p-٢٤٠٢)مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكم ﷺ أنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، فَسَجَدَها داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَسَجَدَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ». الثّالِثُ - قالَ الرّازِيُّ: احْتَجَّ العُلَماءُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ رَسُولَنا ﷺ أفْضَلُ مِن جَمِيعِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وتَقْرِيرُهُ: أنّا بَيَّنّا أنَّ خِصالَ الكَمالِ، وصِفَةَ الشَّرَفِ، كانَتْ مُفَرَّقَةً فِيهِمْ بِأجْمَعِهِمْ، فَداوُدُ وسُلَيْمانُ كانا مِن أصْحابِ الشُّكْرِ عَلى النِّعْمَةِ، وأيُّوبُ كانَ مِن أصْحابِ الصَّبْرِ عَلى البَلاءِ، ويُوسُفُ كانَ مُسْتَجْمِعًا لِهاتَيْنِ الحالَتَيْنِ، ومُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ صاحِبَ الشَّرِيعَةِ القَوِيَّةِ القاهِرَةِ، والمُعْجِزاتِ الظّاهِرَةِ، وزَكَرِيّا ويَحْيى وعِيسى وإلْياسُ كانُوا أصْحابَ الزُّهْدِ، وإسْماعِيلُ كانَ صاحِبَ الصِّدْقِ، ويُونُسُ كانَ صاحِبَ التَّضَرُّعِ، فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى إنَّما ذَكَرَ كُلَّ واحِدٍ مِن هَؤُلاءِ الأنْبِياءِ؛ لِأنَّ الغالِبَ عَلَيْهِ خَصْلَةٌ مُعَيَّنَةٌ مِن خِصالِ المَدْحِ والشَّرَفِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ الكُلَّ، أمَرَ نَبِيَّنا ﷺ بِأنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ بِأسْرِهِمْ، فَكَأنَّهُ أُمِرَ بِأنْ يَجْمَعَ مِن خِصالِ العُبُودِيَّةِ والطّاعَةِ كُلَّ الصِّفاتِ الَّتِي كانَتْ مُفَرَّقَةً فِيهِمْ بِأجْمَعِهِمْ، وهو مَعْصُومٌ عَنْ مُخالَفَةِ ما أُمِرَ بِهِ، فَثَبَتَ أنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ جَمِيعُ ما تَفَرَّقَ فِيهِمْ مِنَ الكَمالِ، وثَبَتَ أنَّهُ أفْضَلُهم. وهو اسْتِنْباطٌ حَسَنٌ. الرّابِعُ: "اقْتَدِهْ" يُقْرَأُ بِسُكُونِ الهاءِ وإثْباتِها في الوَقْفِ دُونَ الوَصْلِ، وهي عَلى هَذا هاءُ السَّكْتِ. ومِنهم مَن يُثْبِتُها في الوَصْلِ أيْضًا لِشَبَهِها بِهاءِ الإضْمارِ. ومِنهم مَن يَكْسِرُها وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما هي هاءُ السَّكْتِ أيْضًا، شُبِّهَتْ بِهاءِ الضَّمِيرِ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ. الثّانِي هي هاءُ الضَّمِيرِ والمَصْدَرِ؛ أيِ: اقْتَدِ الِاقْتِداءَ. ومِثْلُهُ: ؎هَذا سُراقَةُ لِلْقُرْآنِ يَدْرُسُهُ والمَرْءُ عِنْدَ الرُّشا، إنْ يَلْقَها ذِيبُ (p-٢٤٠٣)(فالهاءُ) ضَمِيرُ (الدَّرْسِ) لا مَفْعُولٌ؛ لِأنَّ (يَدْرُسُ) قَدْ تَعَدّى إلى (القُرْآنِ). وقِيلَ: مَن سَكَّنَ الهاءَ جَعَلَها هاءَ الضَّمِيرِ، وأجْرى الوَصْلَ مَجْرى الوَقْفِ. أفادَهُ أبُو البَقاءِ. وأمّا قَوْلُ الواحِدِيِّ: الَّذِينَ أثْبَتُوا الهاءَ رامُوا مُوافَقَةَ المُصْحَفِ، فَإنَّ الهاءَ ثابِتَةٌ في الخَطِّ، فَكَرِهُوا مُخالَفَةَ الخَطِّ في حالَتَيِ الوَقْفِ والوَصْلِ، لَأثْبَتُوا - فَقَدْ قالَ الخَفاجِيُّ: إنَّهُ مِمّا لا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي أنَّ القِراءَةَ بِغَيْرِ نَقْلٍ تَقْلِيدًا لِلْخَطِّ. فَمَن قالَهُ فَقَدْ وهِمَ. قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا أيْ: عَلى القُرْآنِ أوِ التَّبْلِيغِ. فَإنَّ مَساقَ الكَلامِ يَدُلُّ عَلَيْهِما، وإنْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهُما إنْ هو إلّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ أيْ: عِظَةٌ وتَذْكِيرٌ لَهم لِيُرْشَدُوا مِنَ العَمى إلى الهُدى. تَنْبِيهانِ: الأوَّلُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ ﷺ كانَ مَبْعُوثًا إلى جَمِيعِ الخَلْقِ، مِنَ الجِنِّ والإنْسِ. وأنَّ دَعْوَتَهُ قَدْ عَمَّتْ جَمِيعَ الخَلائِقِ. الثّانِي: قالَ الخَفاجِيُّ: قِيلَ: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ يَحِلُّ أخْذُ الأجْرِ لِلتَّعْلِيمِ وتَبْلِيغِ الأحْكامِ. قالَ: ولِلْفُقَهاءِ فِيهِ كَلامٌ. انْتَهى. (p-٢٤٠٤)وعَكَسَ بَعْضُ مُفَسِّرِي الزَّيْدِيَّةِ حَيْثُ قالَ: في هَذا إشارَةٌ إلى أنَّهُ لا يَجُوزُ أخْذُ الأُجْرَةِ عَلى تَعْلِيمِ العُلُومِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ جَرى مَجْرى تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ. انْتَهى. أقُولُ: إنَّ الآيَةَ عَلى نَفْيِ سُؤالِهِ ﷺ مِنهم أجْرًا، كَيْ لا يَثْقُلَ عَلَيْهِمُ الِامْتِثالُ. وأمّا ما اسْتَفادَةُ الحِلِّ والتَّحْرِيمِ مِنها، فَفِيهِ خَفاءٌ. والقائِلُ بِالأوَّلِ يَقُولُ: المَعْنى: لا أسْألُكم جُعْلًا تَعَفُّفًا. أيْ: وإنْ حَلَّ لِي أخْذُهُ. وبِالثّانِي: لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا لِأنِّي حُظِرْتُ مِن ذَلِكَ. قالَ ابْنُ القَيِّمِ: أمّا الهَدِيَّةُ لِلْمُفْتِي، فَفِيها تَفْصِيلٌ: فَإنْ كانَتْ بِغَيْرِ سَبَبِ الفَتْوى، كَمَن عادَتْهُ يُهادِيهِ أوْ مَن لا يَعْرِفُ أنَّهُ مُفْتٍ، فَلا بَأْسَ بِقَبُولِها، والأوْلى أنْ يُكافَأ عَلَيْها. وإنْ كانَتْ بِسَبَبِ الفَتْوى، فَإنْ كانَتْ سَبَبًا إلى أنْ يُفْتِيَهُ بِما لا يُفْتِي بِهِ غَيْرَهُ مِمَّنْ لا يُهْدِي لَهُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ قَبُولُ هَدِيَّتِهِ؛ لِأنَّها تُشْبِهُ المُعاوَضَةَ عَلى الإفْتاءِ. وأمّا أخْذُ الرِّزْقِ مِن بَيْتِ المالِ، فَإنْ كانَ مُحْتاجًا إلَيْهِ، جازَ لَهُ ذَلِكَ. وإنْ كانَ غَنِيًّا عَنْهُ، فَفِيهِ وجْهانِ: وهَذا فَرْعٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ عامِلِ الزَّكاةِ، وعامِلِ اليَتِيمِ. فَمَن ألْحَقَهُ بِعامِلِ الزَّكاةِ قالَ: النَّفْعُ فِيهِ عامٌّ، فَلَهُ الأخْذُ. ومَن ألْحَقَهُ بِعامِلِ اليَتِيمِ مَنَعَهُ مِنَ الأخْذِ. وحُكْمُ القاضِي في ذَلِكَ حُكْمُ المُفْتِي، بَلِ القاضِي أوْلى بِالمَنعِ. وأمّا أخْذُ الأُجْرَةِ فَلا يَجُوزُ؛ لِأنَّ الفُتْيا مَنصِبُ تَبْلِيغٍ عَنِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، فَلا يَجُوزُ المُعاوَضَةُ عَلَيْهِ، كَما لَوْ قالَ: لا أُعَلِّمُكَ الإسْلامَ والوُضُوءَ والصَّلاةَ إلّا بِأُجْرَةٍ. أوْ سُئِلَ عَنْ حَلالٍ أوْ حَرامٍ؟ فَقالَ لِلسّائِلِ: لا أُجِيبُكَ عَنْهُ إلّا بِأُجْرَةٍ، فَهَذا حَرامٌ قَطْعًا، ويَلْزَمُهُ رَدُّ العِوَضِ، ولا يَمْلِكُهُ، انْتَهى. وفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: ««اقْرَؤُوا القُرْآنَ، ولا تَغْلُوا فِيهِ، ولا تَجْفُوا عَنْهُ، ولا تَأْكُلُوا بِهِ، ولا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ»» - أخْرَجَهُ الإمامُ أحْمَدُ بِرِجالِ الصَّحِيحِ. وأخْرَجَهُ أيْضًا البَزّارُ. ولَهُ شَواهِدُ. (p-٢٤٠٥)وأخْرَجَ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ - وحَسَّنَهُ - عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ««مَن قَرَأ القُرْآنَ فَلْيَسْألِ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالى بِهِ، فَإنَّهُ سَيَجِيءُ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ القُرْآنَ يَسْألُونَ النّاسَ بِهِ»» . وأخْرَجَ ابْنُ ماجَهْ والبَيْهَقِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قالَ: «عَلَّمْتُ رَجُلًا القُرْآنَ فَأهْدى لِي قَوْسًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: إنْ أخَذْتَها أخَذْتَ قَوْسًا مِن نارٍ». وهُناكَ أحادِيثُ أُخَرُ، ومِنها اسْتُدِلَّ عَلى حَظْرِ أخْذِ الأُجْرَةِ عَلى التَّعْلِيمِ. وأمّا أخْذُ الأُجْرَةِ عَلى التِّلاوَةِ، فَفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ في قِصَّةِ اللَّدِيغِ مِن قَوْلِهِ ﷺ: ««إنَّ أحَقَّ ما أخَذْتُمْ عَلَيْهِ أجْرًا، كِتابُ اللَّهِ، أصَبْتُمُ اقْتَسِمُوا، واضْرِبُوا لِي مَعَكم سَهْمًا»» . (p-٢٤٠٦)قالَ العَلّامَةُ الشَّوْكانِيُّ: حَدِيثُ: (أحَقُّ ما أخَذْتُمْ عَلَيْهِ أجْرًا) عامٌّ يَصْدُقُ عَلى التَّعْلِيمِ، وأخْذِ الأُجْرَةِ عَلى التِّلاوَةِ. لِمَن طَلَبَ مِنَ القارِئِ ذَلِكَ، وأخْذِ الأُجْرَةِ عَلى الرُّقْيَةِ، وأخْذِ ما يُدْفَعُ إلى القارِئِ مِنَ العَطاءِ، لِأجْلِ كَوْنِهِ قارِئًا، ونَحْوِ ذَلِكَ. فَيَخُصُّ مِن هَذا العُمُومِ تَعْلِيمُ المُكَلَّفِ، ويَبْقى ما عَداهُ داخِلًا تَحْتَ العُمُومِ. وبَعْضُ أفْرادِ العامِّ فِيهِ، أدِلَّةٌ خاصَّةٌ تَدُلُّ عَلى جَوازِهِ، كَما دَلَّ العامُّ عَلى ذَلِكَ. فَمِن تِلْكَ الأفْرادِ أخْذُ الأُجْرَةِ عَلى الرُّقْيَةِ، وتَعْلِيمُ المَرْأةِ في مُقابَلَةِ مَهْرِها. قالَ: هَكَذا يَنْبَغِي تَحْرِيرُ الكَلامِ في المَقامِ، والمَصِيرُ إلى التَّرْجِيحِ مِن ضِيقِ العَطَنِ. أيْ: لِأنَّهُ يُصارُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الجَمْعِ، وقَدْ أمْكَنَ، فَكانَ الأحَقَّ. واللَّهُ المُوَفِّقُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب