الباحث القرآني

(p-٢٣٢٣)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٥٢] ﴿ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِن حِسابِهِمْ مِن شَيْءٍ وما مِن حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهم فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ رَوى الإمامُ مُسْلِمٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «كُنّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقالَ لَهُ المُشْرِكُونَ: اطْرُدْ هَؤُلاءِ يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنا! قالَ: وكُنْتُ أنا وابْنُ مَسْعُودٍ ورَجُلٌ مِن هُذَيْلٍ وبِلالٌ ورَجُلانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِما، فَوَقَعَ في نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ﴾ الآيَةَ...» وأخْرَجَ نَحْوَهُ الحاكِمُ وابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِيهِما. ورَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «مَرَّ المَلَأُ مِن قُرَيْشٍ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وعِنْدَهُ خَبّابٌ وصُهَيْبٌ وبِلالٌ وعَمّارٌ، فَقالُوا: يا مُحَمَّدُ! أرَضِيتَ بِهَؤُلاءِ؟ فَنَزَلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ: وأنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أنْ يُحْشَرُوا إلى رَبِّهِمْ إلى قَوْلِهِ: ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِأعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٥٣]» . ورَواهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أيْضًا قالَ: «مَرَّ المَلَأُ مِن قُرَيْشٍ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وعِنْدَهُ صُهَيْبٌ وبِلالٌ وعَمّارٌ وخَبّابٌ وغَيْرُهم مِن ضُعَفاءِ المُسْلِمِينَ. (p-٢٣٢٤)وفِيهِ: فَقالُوا: يا مُحَمَّدُ! أرَضِيتَ بِهَؤُلاءِ مِن قَوْمِكَ، أهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنا ونَحْنُ نَصِيرٌ تَبَعًا لِهَؤُلاءِ؟ اطْرُدْهُمْ، فَلَعَلَّكَ إنْ طَرَدْتَهم نَتَبِعْكَ! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ﴾ الآيَةَ». ووَراءَ ما ذَكَرْنا، رِواياتٌ لا تَصِحُّ ولا يُوثَقُ بِها. إذا عَلِمْتَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أنَّهُ ﷺ لَمْ يَطْرُدْهم بِالفِعْلِ، وإنَّما هَمَّ بِإبْعادِهِمْ عَنْ مَجْلِسِهِ آنَ قُدُومِ أُولَئِكَ، لِيَتَألَّفَهم فَيَقُودَهم ذَلِكَ إلى الإيمانِ، فَنَهاهُ اللَّهُ عَنْ إمْضاءِ ذَلِكَ الهَمِّ. فَما أوْرَدَهُ الرّازِيُّ مِن كَوْنِهِ ﷺ طَرَدَهُمْ، ثُمَّ أخَذَ يَتَكَلَّفُ في الجَوابِ عَنْهُ، لِمُنافاتِهِ العِصْمَةَ عَلى زَعْمِهِ، فَبِناءٌ عَلى واهٍ. والقاعِدَةُ المُقَرَّرَةُ أنَّ البَحْثَ في الأثَرِ فَرْعُ ثُبُوتِهِ، وإلّا فالباطِلُ يَكْفِي في رَدِّهِ، كَوْنُهُ باطِلًا. وقَدْ أوْضَحْتُ ذَلِكَ في كِتابِي: "قَواعِدُ التَّحْدِيثِ مِن فُنُونِ مُصْطَلَحِ الحَدِيثِ". والمَعْنى: لا تُبْعِدْ هَؤُلاءِ المُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفاتِ عَنْكَ، بَلِ اجْعَلْهم جُلَساءَكَ وأخِصّاءَكَ. كَقَوْلِهِ: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهم تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدُّنْيا ولا تُطِعْ مَن أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا واتَّبَعَ هَواهُ وكانَ أمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: ٢٨] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ أيْ: يَعْبُدُونَهُ ويَسْألُونَهُ ﴿بِالغَداةِ والعَشِيِّ﴾ قالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ وغَيْرُهُ: المُرادُ بِهِ الصَّلاةُ المَكْتُوبَةُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُرِيدُونَ وجْهَهُ﴾ المُرادُ بِالوَجْهِ الذّاتُ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلا وجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] ومَعْنى إرادَةِ الذّاتِ الإخْلاصُ لَها، والجُمْلَةُ حالٌ مِن: يَدْعُونَ أيْ: يَدْعُونَ رَبَّهم مُخْلِصِينَ لَهُ فِيهِ، وتَقْيِيدُهُ بِهِ لِتَأْكِيدِ عِلِّيَّتِهِ لِلنَّهْيِ، فَإنَّ الإخْلاصَ مِن أقْوى مُوجِباتِ الإكْرامِ، المُضادِّ لِلطَّرْدِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما عَلَيْكَ مِن حِسابِهِمْ مِن شَيْءٍ وما مِن حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِن شَيْءٍ﴾ (p-٢٣٢٥)كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ في الَّذِينَ قالُوا: ﴿قالُوا أنُؤْمِنُ لَكَ واتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ﴾ [الشعراء: ١١١] ﴿قالَ وما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الشعراء: ١١٢] ﴿إنْ حِسابُهم إلا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ [الشعراء: ١١٣] أيْ: إنَّما حِسابُهم عَلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، ولَيْسَ عَلَيَّ مِن حِسابِهِمْ مِن شَيْءٍ، كَما أنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ مِن حِسابِي مِن شَيْءٍ. قالَ العَلّامَةُ أبُو السُّعُودِ: الجُمْلَةُ اعْتِراضٌ وسَطٌ بَيْنِ النَّهْيِ وجَوابِهِ، تَقْرِيرًا لَهُ ودَفْعًا لِما عَسى يُتَوَهَّمُ كَوْنُهُ مُسَوِّغًا لِطَرْدِهِمْ مِن أقاوِيلِ الطّاعِنِينَ في دِينِهِمْ، كَدَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ حَيْثُ قالُوا: ﴿وما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلا الَّذِينَ هم أراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ﴾ [هود: ٢٧] أيْ: ما عَلَيْكَ شَيْءٌ مِن حِسابِ إيمانِهِمْ وأعْمالِهِمُ الباطِنَةِ، حَتّى تَتَصَدّى لَهُ، وتَبْنِيَ عَلى ذَلِكَ ما تَراهُ مِنَ الأحْكامِ، وإنَّما وظِيفَتُكَ، حَسْبَما هو شَأْنُ مَنصِبِ النُّبُوَّةِ، اعْتِبارُ ظَواهِرِ الأعْمالِ، وإجْراءُ الأحْكامِ عَلى مُوجِبِها. وأمّا بَواطِنُ الأمْرِ فَحِسابُها عَلى العَلِيمِ بِذاتِ الصُّدُورِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ حِسابُهم إلا عَلى رَبِّي﴾ [الشعراء: ١١٣] وذَكَرَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وما مِن حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِن شَيْءٍ﴾ مَعَ أنَّ الجَوابَ قَدْ تَمَّ بِما قَبْلَهُ، لِلْمُبالَغَةِ في بَيانِ انْتِفاءِ كَوْنِ حِسابِهِمْ عَلَيْهِ ﷺ، بِنَظْمِهِ في سِلْكِ ما لا شُبْهَةَ فِيهِ أصْلًا، وهو انْتِفاءُ كَوْنِ حِسابِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَلَيْهِمْ، عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٤] وأمّا ما قِيلَ مِن أنَّ ذَلِكَ لِتَنْزِيلِ الجُمْلَتَيْنِ مَنزِلَةَ (p-٢٣٢٦)جُمْلَةٍ واحِدَةٍ، لِتَأْدِيَةِ مَعْنًى واحِدٍ، عَلى نَهْجِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [فاطر: ١٨] فَغَيْرُ حَقِيقٍ بِجَلالَةِ شَأْنِ التَّنْزِيلِ. انْتَهى. والقَوْلُ المَذْكُورُ لِلزَّمَخْشَرِيِّ، حَيْثُ ذَهَبَ إلى أنَّ الجُمْلَتَيْنِ في مَعْنى جُمْلَةٍ واحِدَةٍ، تُؤَدِّي مُؤَدّى: ولا تَزِرُ الآيَةَ. وأنَّهُ لا بُدَّ مِنهُما. هَذا، وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْمُشْرِكِينَ، والمَعْنى: لا يُؤاخَذُونَ بِحِسابِكَ، ولا أنْتَ بِحِسابِهِمْ، حَتّى يُهِمَّكَ إيمانُهُمْ، ويَجُرَّكَ الحِرْصُ عَلَيْهِ إلى أنْ تَطْرُدَ المُؤْمِنِينَ. وأغْرَبَ المَهايِمِيُّ حَيْثُ قالَ: والعُماةُ، لِكَوْنِهِمْ أرْبابَ شَرَفٍ ومالٍ، يَكْرَهُونَ مُجالَسَتَهُمْ، لِقِلَّةِ شَرَفِهِمْ ومالِهِمْ، فَقالَ عَزَّ وجَلَّ لِأشْرَفِ النّاسِ: ما عَلَيْكَ مِن حِسابِهِمْ مِن شَيْءٍ أيْ: ما يَعُودُ عَلَيْكَ مِن نَقْصِهِمْ في الشَّرَفِ والمالِ عَلَيْهِمْ مِن شَيْءٍ، فَإذا لَمْ يَلْحَقْكَ نَقْصُهُمْ، ولَمْ يَأْخُذُوا كَمالَكَ بِسَلْبِهِ عَنْكَ، فَلا وجْهَ لِطَرْدِهِمْ. انْتَهى. وفِيهِ بُعْدٌ؛ لِعَدَمِ مُلاقاتِهِ لِآيَةِ نُوحٍ السّالِفَةِ. ولا يَخْفى مُراعاةُ النَّظائِرِ. وفِي "العِنايَةِ": قَدَّمَ خِطابَهُ ﷺ في المَوْضِعَيْنِ، تَشْرِيفًا لَهُ. وإلّا كانَ الظّاهِرُ [ وما عَلَيْهِمْ مِن حِسابِكَ مِن شَيْءٍ ] بِتَقْدِيمِ (عَلى) ومَجْرُورِها، كَما في الأوَّلِ. وفي النَّظْمِ رَدُّ العَجُزِ عَلى الصَّدْرِ، كَما في قَوْلِهِ: عاداتُ السّاداتِ، ساداتُ العاداتِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتَطْرُدَهم فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ الظُّلْمُ: وضْعُ الشَّيْءِ في غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ أيْ: فَلا تَهُمَّ بِطَرْدِهِمْ عَنْكَ، فَتَضَعَ الشَّيْءَ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب