الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٢٤] ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أنْفُسِهِمْ وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾
﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ أيْ: بِنَفْيِ الإشْراكِ عَنْها أمامَ عَلّامِ الغُيُوبِ، بِحَضْرَةِ مَن لا يَنْحَصِرُ مِنَ الشُّهُودِ: ﴿وضَلَّ﴾ أيْ: وكَيْفَ ضاعَ وغابَ: ﴿عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أيْ: مِنَ الشُّرَكاءِ، فَلَمْ تُغْنِ عَنْهم شَيْئًا، فَفَقَدُوا ما رَجَوْا مِن شَفاعَتِها ونُصْرَتِها لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالُوا أيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنّا﴾ [الأعراف: ٣٧] فَ (ما) مَوْصُولَةٌ، كِنايَةً عَنِ الشُّرَكاءِ. وإيقاعِ الِافْتِراءِ عَلَيْها، مَعَ أنَّهُ في الحَقِيقَةِ واقِعٌ عَلى أحْوالِها مِنَ الإلَهِيَّةِ، والشَّرِكَةِ والشَّفاعَةِ ونَحْوِها - لِلْمُبالَغَةِ في أمْرِها، كَأنَّها نَفْسُ المُفْتَرى.
(p-٢٢٧٤)تَنْبِيهاتٌ:
الأوَّلُ: ما ذَكَرْناهُ مِن أنَّهُ عَبَّرَ عَنْ جَوابِهِمْ بِالفِتْنَةِ هو الأظْهَرُ. فالمُرادُ: الجَوابُ بِما هو كَذِبٌ؛ لِأنَّهُ سَبَبُ الفِتْنَةِ، فَتَجُوزُ بِها إطْلاقًا لِلْمُسَبِّبِ عَلى السَّبَبِ، أوْ هو اسْتِعارَةٌ. وقِيلَ: الفِتْنَةُ بِمَعْنى العُذْرِ، لِأنَّها التَّخْلِيصُ مِنَ الغِشِّ لُغَةً، والعُذْرُ يُخَلِّصُ مِنَ الذَّنْبِ، فاسْتُعِيرَتْ لَهُ. وقِيلَ: بِمَعْنى الكُفْرِ؛ لِأنَّ الفِتْنَةَ ما تَفْتَتِنُ بِهِ ويُعْجِبُكَ، وهم كانُوا مُعْجَبِينَ بِكُفْرِهِمْ مُفْتَخِرِينَ بِهِ، ويَظُنُّونَهُ شَيْئًا، فَلَمْ تَكُنْ عاقِبَتُهُ إلّا الخُسْرانَ، والتَّبَرُّؤَ مِنهُ، ولَيْسَ هَذا عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ، بَلْ جَعَلَ عاقِبَةَ الشَّيْءُ عَيْنَهُ، ادِّعاءً.
قالَ الزَّجّاجُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الآيَةِ حَسَنٌ في اللُّغَةِ، لا يَعْرِفُهُ إلّا مَن عَرَفَ مَعانِيَ الكَلامِ، وتَصَرُّفَ العَرَبِ في ذَلِكَ. وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ تَعالى بَيَّنَ كَوْنَ المُشْرِكِينَ مَفْتُونِينَ بِشِرْكِهِمْ، مُتَهالِكِينَ عَلى حُبِّهِ، فَأعْلَمَ في هَذِهِ الآيَةِ، أنَّهُ لَمْ يَكُنِ افْتِتانُهم بِشِرْكِهِمْ، وإقامَتِهِمْ عَلَيْهِ، إلّا أنْ تَبَرَّؤُوا مِنهُ وتَباعَدُوا عَنْهُ، فَحَلَفُوا أنَّهم ما كانُوا مُشْرِكِينَ. ومِثالُهُ: أنْ تَرى إنْسانًا يُحِبُّ غاوِيًا مَذْمُومَ الطَّرِيقَةِ، فَإذا وقَعَ في مِحْنَةٍ بِسَبَبِهِ تَبَرَّأ مِنهُ، فَيُقالُ: لَهُ ما كانَتْ مَحَبَّتُكَ لِفُلانٍ إلّا أنِ انْتَفَيْتَ مِنهُ.
قالَ الخَفاجِيُّ - بَعْدَ نَقْلِهِ ما ذُكِرَ -: ولَيْسَ هَذا مِن قَبِيلِ عِتابِكَ السَّيْفَ، ولا مِن تَقْدِيرِ المُضافِ، وإنْ صَحَّ فاحْفَظْهُ، فَإنَّهُ مِنَ البَدائِعِ الرَّوائِعِ.
الثّانِي: ما بَيَّناهُ مِن أنَّ (ما) في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ مَوْصُولَةٌ، كِنايَةً عَنِ الشُّرَكاءِ، بِمَعْنى عَدَمِ إغْنائِها عَنْهم - هو المُوافِقُ لِلْآيَةِ الثّانِيَةِ الَّتِي سُقْناها. وجُوِّزَ كَوْنُها مَصْدَرِيَّةً. أيِ: انْظُرْ كَيْفَ ذَهَبَ وزالَ عَنْهُمُ افْتِراؤُهم مِنَ الإشْراكِ، حَتّى نَفَوْا صُدُورَهُ عَنْهم بِالكُلِّيَّةِ، وتَبَرَّؤُوا مِنهُ بِالمَرَّةِ.
هَذا، وجَعَلَ النّاصِرُ في "الِانْتِصافِ": ضَلَّ بِمَعْنى سُلِبُوا عِلْمَهُ، فَكَأنَّهم نَسُوهُ وذَهَلُوهُ دَهَشًا. هو بَعِيدٌ لِعَدَمِ مُلاقاتِهِ لِلْآيَةِ الأُخْرى. والتَّنْزِيلُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وعِبارَتُهُ: (p-٢٢٧٥)فِي الآيَةِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلى أنَّ الإخْبارَ بِالشَّيْءِ عَلى خِلافِ ما هو بِهِ، كَذِبٌ، وإنْ لَمْ يَعْلَمِ المُخْبِرُ مُخالَفَةَ خَبَرِهِ بِمُخْبَرِهِ. ألا تَراهُ جَعَلَ إخْبارَهم وتَبِرِّيَهم كَذِبًا، مَعَ أنَّهُ تَعالى أخْبَرَ أنَّهم ضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ. أيْ: سُلِبُوا عِلْمَهُ حِينَئِذٍ دَهَشًا وحَيْرَةً. فَلَمْ يَرْفَعْ ذَلِكَ إطْلاقَ الكَذِبِ عَلَيْهِمْ. انْتَهى.
الثّالِثُ: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ أنْ يُكَذِّبُوا حِينَ يَطَّلِعُونَ عَلى حَقائِقِ الأُمُورِ، وعَلى أنَّ الكَذِبَ والجُحُودَ لا وجْهَ لِمَنفَعَتِهِ؟
قُلْتُ: المُمْتَحَنُ يَنْطِقُ بِما يَنْفَعُهُ وبِما لا يَنْفَعُهُ، مِن غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَهُما، حَيْرَةً ودَهَشًا، ألا تَراهم يَقُولُونَ: ﴿رَبَّنا أخْرِجْنا مِنها فَإنْ عُدْنا فَإنّا ظالِمُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠٧] ؟ وقَدْ أيَقْنُو بِالخُلُودِ، ولَمْ يَشُكُّوا فِيهِ ﴿ونادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ﴾ [الزخرف: ٧٧] وقَدْ عَلِمُوا أنَّهُ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ.
وأمّا قَوْلُ مَن يَقُولُ: مَعْناهُ: ما كُنّا مُشْرِكِينَ عِنْدَ أنْفُسِنا، وما عَلِمْنا أنّا عَلى خَطَأٍ في مُعْتَقَدِنا، وحَمْلُ قَوْلِهِ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ يَعْنِي في الدُّنْيا - فَتَمَحُّلٌ وتَعَسُّفٌ وتَحْرِيفٌ لِأفْصَحِ الكَلامِ، إلى ما هو عِيٌّ وإفْحامٌ؛ لِأنَّ المَعْنى الَّذِي ذَهَبُوا إلَيْهِ، لَيْسَ هَذا الكَلامُ بِمُتَرْجِمٍ عَنْهُ، ولا مُنْطَبِقٍ عَلَيْهِ، وهو نابٍ عَنْهُ أشَدَّ النُّبُوِّ. وما أدْرِي ما يَصْنَعُ مَن ذَلِكَ تَفْسِيرُهُ، بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكم ويَحْسَبُونَ أنَّهم عَلى شَيْءٍ ألا إنَّهم هُمُ الكاذِبُونَ﴾ [المجادلة: ١٨] بَعْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَحْلِفُونَ عَلى الكَذِبِ وهم يَعْلَمُونَ﴾ [المجادلة: ١٤] فَشُبِّهَ كَذِبُهم في الآخِرَةِ بِكَذِبِهِمْ في الدُّنْيا. انْتَهى.
والقَوْلُ المَذْكُورُ، والحَمْلُ الَّذِي ناقَشَ فِيهِ، أصْلُهُ لِأبِي عَلِيٍّ الجُبّائِيِّ والقاضِي. فَإنَّهُما (p-٢٢٧٦)ذَهَبا إلى أنَّ أهْلَ القِيامَةِ لا يَجُوزُ إقْدامُهم عَلى الكَذِبِ، واعْتَلّا بِوُجُوهٍ واهِيَةٍ ساقَها الرّازِيُّ. فَلْتُنْظَرْ ثَمَّتَ؛ فَإنّا لا نُسَوِّدُ وُجُوهَ صَحائِفِنا بِما فِيهِ تَحْكِيمُ العَقْلِ عَلى النَّقْلِ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى بَعْضَ ما كانَ يَصْدُرُ مِن مُشْرِكِي مَكَّةَ، مِمّا طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ بِسَبَبِهِ فَقالَ سُبْحانَهُ:
{"ayah":"ٱنظُرۡ كَیۡفَ كَذَبُوا۟ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡۚ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُوا۟ یَفۡتَرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











