الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٢] ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم مِن طِينٍ ثُمَّ قَضى أجَلا وأجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم مِن طِينٍ﴾ اسْتِئْنافٌ مَسُوقٌ لِبَيانِ بُطْلانِ كُفْرِهِمْ بِالبَعْثِ، مَعَ مُشاهَدَتِهِمْ لِما يُوجِبُ الإيمانَ بِهِ، إثْرَ بَيانِ بُطْلانِ إشْراكِهِمْ بِهِ تَعالى، مَعَ مُعايَنَتِهِمْ لِمُوجِباتِ تَوْحِيدِهِ. وتَخْصِيصِ خَلْقِهِمْ بِالذِّكْرِ مِن بَيْنِ سائِرِ دَلائِلِ صِحَّةِ البَعْثِ، مَعَ أنَّ ما ذَكَرَهُ مِن خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ مِن أوْضَحِها وأظْهَرِها، كَما ورَدَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ [يس: ٨١] لِما أنَّ مَحَلَّ النِّزاعِ بَعْثُهم. فَدَلالَةُ بَدْءِ خَلْقِهِمْ عَلى ذَلِكَ أظْهَرُ، وهم بِشُؤُونِ أنْفُسِهِمْ أعْرَفُ، والتَّعامِي عَنِ الحُجَّةِ النَّيِّرَةِ أقْبَحُ. والِالتِفاتُ لِمَزِيدِ التَّشْنِيعِ والتَّوْبِيخِ. أيِ: ابْتَدَأ خَلْقَكم مِنهُ، فَإنَّهُ المادَّةُ الأُولى لِلْكُلِّ، لِما أنَّهُ مَنشَأُ آدَمَ الَّذِي هو أبُو البَشَرِ. وإنَّما نُسِبَ هَذا الخَلْقُ إلى المُخاطَبِينَ، لا إلى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهو المَخْلُوقُ مِنهُ حَقِيقَةً. بِأنْ يُقالَ: هو الَّذِي خَلَقَ أباكم... إلَخْ. مَعَ كِفايَةِ عِلْمِهِمْ بِخَلْقِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنهُ، في إيجابِ الإيمانِ بِالبَعْثِ، وبُطْلانِ الِامْتِراءِ - لِتَوْضِيحِ مِنهاجِ القِياسِ، ولِلْمُبالَغَةِ في إزاحَةِ الِاشْتِباهِ والِالتِباسِ. مَعَ ما فِيهِ مِن تَحْقِيقِ الحَقِّ والتَّنْبِيهِ عَلى حِكْمَةٍ خَفِيَّةٍ: هي أنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ البَشَرِ لَهُ حَظٌّ مِن إنْشائِهِ، عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنهُ (p-٢٢٤١)حَيْثُ لَمْ تَكُنْ فِطْرَتُهُ البَدِيعَةُ مَقْصُورَةً عَلى نَفْسِهِ، بَلْ كانَتْ أنَمُوذَجًا مُنْطَوِيًا عَلى فِطْرَةِ سائِرِ آحادِ الجِنْسِ، انْطِواءً إجْمالِيًّا، مُسْتَتْبِعًا لِجَرَيانِ آثارِها عَلى الكُلِّ. فَكانَ خَلْقُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الطِّينِ خَلْقًا لِكُلِّ أحَدٍ مِن فُرُوعِهِ مِنهُ. ولَمّا كانَ خَلْقُهُ عَلى هَذا النَّمَطِ السّارِي إلى جَمِيعِ أفْرادِ ذُرِّيَّتِهِ، أبْدَعَ مِن أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلى نَفْسِهِ، كَما هو المَفْهُومُ مِن نِسْبَةِ الخَلْقِ المَذْكُورِ إلَيْهِ، وأدُلَّ عَلى عِظَمِ قُدْرَةِ الخَلّاقِ العَلِيمِ، وكَمالِ عِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ، وكانَ ابْتِداءُ حالِ المُخاطَبِينَ أوْلى بِأنْ يَكُونَ مِعْيارًا لِانْتِهائِها - فَعَلَ ما فَعَلَ. ولِلَّهِ دَرُّ شَأْنِ التَّنْزِيلِ! وعَلى هَذا السِّرِّ مَدارُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ خَلَقْناكم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] إلَخْ. وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [مريم: ٩] كَما سَيَأْتِي. وقِيلَ: المَعْنى خَلَقَ أباكم مِنهُ، عَلى حَذْفِ المُضافِ. وقِيلَ: مَعْنى خَلَقَهم مِنهُ، خَلَقَهم مِنَ النُّطْفَةِ الحاصِلَةِ مِنَ الأغْذِيَةِ المُتَكَوِّنَةِ مِنَ الأرْضِ. وأيًّا ما كانَ، فَفِيهِ مِن وُضُوحِ الدَّلالَةِ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ تَعالى عَلى البَعْثِ، ما لا يَخْفى؛ فَإنَّ مَن قَدَرَ عَلى إحْياءِ ما لَمْ يَشَمَّ رائِحَةَ الحَياةِ قَطُّ، كانَ عَلى إحْياءِ ما قارَنَها مُدَّةً أظْهَرَ قُدْرَةً. أفادَهُ أبُو السُّعُودِ. وفِي "العِنايَةِ": أنَّ في الآيَةِ التِفاتًا؛ لِأنَّ الخِطابَ - وإنْ صَحَّ كَوْنُهُ عامًّا - لَكِنَّهُ خاصٌّ بِالَّذِينِ كَفَرُوا، كَما يَقْتَضِيهِ: ثُمَّ أنْتُمْ تَمْتَرُونَ. ونُكْتَتُهُ أنَّ دَلِيلَ الأنْفُسِ أقْرَبُ إلى النّاظِرِ مِن دَلِيلِ الآفاقِ الَّذِي في الآيَةِ السّابِقَةِ، والشُّكْرُ عَلَيْهِ أوْجَبُ. وقَدْ أُشِيرَ في كُلٍّ مِنَ الدَّلِيلَيْنِ إلى المَبْدَأِ والمَعادِ، وما بَيْنَهُما. انْتَهى. (p-٢٢٤٢)أخْرَجَ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ««إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِن قَبْضَةٍ قَبَضَها مِن جَمِيعِ الأرْضِ، فَجاءَ بَنُو آدَمَ عَلى قَدْرِ الأرْضِ. جاءَ مِنهم. الأحْمَرُ والأبْيَضُ والأسْوَدُ، وبَيْنَ ذَلِكَ. والسَّهْلُ والحَزْنُ، والخَبِيثُ والطَّيِّبُ»» . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ قَضى أجَلا﴾ أيْ: كَتَبَ لِمَوْتِ كُلِّ واحِدٍ مِنكم أجَلًا خاصًّا بِهِ. أيْ: حَدًّا مُعَيَّنًا مِنَ الزَّمانِ يَفْنى عِنْدَ حُلُولِهِ. أوْ كَتَبَ، لِما بَيْنَ أنْ يُولَدَ كُلٌّ مِنكم إلى يَوْمِ أنْ يَمُوتَ، أجَلًا. ﴿وأجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ أيْ: وحَدٌّ مُعَيَّنٌ لِبَعْثِكم جَمِيعًا، مُثْبَتٌ مُعَيَّنٌ في عِلْمِهِ، لا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ، ولا يَقِفُ عَلى وقْتِ حُلُولِهِ أحَدٌ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إلا هُوَ﴾ [الأعراف: ١٨٧] فَمَعْنى: عِنْدَهُ أنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِعِلْمِهِ. و: وأجَلٌ مُبْتَدَأٌ لِتَخْصِيصِهِ بِالصِّفَةِ، ولِوُقُوعِهِ في مَوْقِعِ التَّفْصِيلِ. وتَنْوِينُهُ لِتَفْخِيمِ شَأْنِهِ، وتَهْوِيلِ أمْرِهِ، ولِذَلِكَ أُوثِرَ تَقْدِيمُهُ عَلى الخَبَرِ الَّذِي هُوَ: عِنْدَهُ، مَعَ أنَّ الشّائِعَ في مِثْلِهِ التَّأْخِيرُ، كَأنَّهُ قِيلَ: وأيُّ أجَلٍ مُعَيَّنٍ في عِلْمِهِ لا يَعْلَمُهُ أحَدٌ لا مُجْمَلًا ولا مُفَصَّلًا. أمّا أجَلُ المَوْتِ فَمَعْلُومٌ إجْمالًا وتَقْرِيبًا، بِناءً عَلى ظُهُورِ أمارَتِهِ، أوْ عَلى ما هو المُعْتادُ في أعْمارِ الإنْسانِ. ﴿ثُمَّ أنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ اسْتِبْعادٌ واسْتِنْكارٌ لِامْتِرائِهِمْ في البَعْثِ، بَعْدَ مُعايَنَتِهِمْ لِما ذُكِرَ (p-٢٢٤٣)مِنَ الحُجَجِ الباهِرَةِ الدّالَّةِ عَلَيْهِ. أيْ: تَمْتَرُونَ في وُقُوعِهِ وتَحَقُّقِهِ في نَفْسِهِ، مَعَ مُشاهَدَتِكم في أنْفُسِكم ما يَقْطَعُ مادَّةَ الِامْتِراءِ؛ فَإنَّ مَن قَدَرَ عَلى خَلْقِ المَوادِّ وجَمْعِها وإبْداعِ الحَياةِ فِيها، وإبْقائِها ما يَشاءُ، كانَ أقْدارَ عَلى جَمْعِ تِلْكَ المَوادِّ وإحْيائِها ثانِيًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب