الباحث القرآني

(p-٢٥٧٧)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١٥٨] ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أنْ تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ﴾ ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ يَعْنِي قَدْ أقَمْنا حُجَجَ الوَحْدانِيَّةِ وثُبُوتَ الرِّسالَةِ وأبْطَلْنا ما كانُوا يَعْتَقِدُونَ مِنَ الضَّلالَةِ. فَما يَنْتَظِرُ هَؤُلاءِ بَعْدَ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وإنْكارِهِمُ القُرْآنَ وصَدِّهِمْ عَنْ آياتِ اللَّهِ؟ قالَ البَيْضاوِيُّ: يَعْنِي أهْلَ مَكَّةَ. وهم ما كانُوا مُنْتَظِرِينَ لِذَلِكَ. ولَكِنْ لَمّا كانَ يَلْحَقُهم لُحُوقَ المُنْتَظِرِ، شُبِّهُوا بِالمُنْتَظِرِينَ ﴿إلا أنْ تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ يَعْنِي لِلْحُكْمِ وفَصْلِ القَضاءِ بَيْنَ الخَلْقِ يَوْمَ القِيامَةِ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وذَلِكَ كائِنٌ يَوْمَ القِيامَةِ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في مَعْنى الآيَةِ في سُورَةِ البَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ﴾ [البقرة: ٢١٠] بِما فِيهِ كِفايَةٌ. ومَذْهَبُ السَّلَفِ: إمْرارُ ذَلِكَ بِلا كَيْفٍ، كَما مَرَّ مِرارًا. قِيلَ: إلّا أنْ تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أيْ: مَلائِكَةُ المَوْتِ لِقَبْضِ أرْواحِهِمْ: ﴿أوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ﴾ وذَلِكَ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ، كائِنٌ مِن أماراتِ السّاعَةِ وأشْراطِها حِينَ يَرَوْنَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ. كَما رَوى البُخارِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِها. فَإذا رَآها النّاسُ آمَنَ (p-٢٥٧٨)مَن عَلَيْها. فَذاكَ حِينَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ». ورَواهُ مُسْلِمٌ أيْضًا، ولِمُسْلِمٍ والتِّرْمِذِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««ثَلاثٌ إذا خَرَجْنَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها، والدَّجّالُ، ودابَّةُ الأرْضِ»» ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ﴾ صِفَةُ (نَفْسًا): ﴿أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْرًا﴾ عَطْفٌ عَلى (آمَنَتْ) والمَعْنى أنَّ بَعْضَ أشْراطِ السّاعَةِ إذا جاءَ، وهي آيَةٌ مُلْجِئَةٌ مُضْطَرَّةٌ، ذَهَبَ أوانُ التَّكْلِيفِ عِنْدَها، فَلَمْ يَنْفَعِ الإيمانُ حِينَئِذٍ نَفْسًا غَيْرَ مُقَدِّمَةٍ إيمانَها مِن قَبْلِ ظُهُورِ الآياتِ. أوْ مُقَدِّمَةٍ الإيمانَ غَيْرَ كاسِبَةٍ في إيمانِها خَيْرًا لِفِسْقِها. فَتَوْبَتُها حِينَئِذٍ لا تُجْدِي. قالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنى الآيَةِ: لا يَنْفَعُ كافِرًا لَمْ يَكُنْ آمَنَ قَبْلَ الطُّلُوعِ، إيمانٌ بَعْدَ الطُّلُوعِ. ولا يَنْفَعُ مُؤْمِنًا -لَمْ يَكُنْ عَمِلَ صالِحًا قَبْلَ الطُّلُوعِ- عَمَلٌ صالِحٌ بَعْدَ الطُّلُوعِ؛ لِأنَّ حُكْمَ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ حِينَئِذٍ، حُكْمُ مَن آمَنَ أوْ عَمِلَ عِنْدَ الغَرْغَرَةِ. وذَلِكَ لا يُفِيدُ شَيْئًا. كَما قالَ تَعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهم إيمانُهم لَمّا رَأوْا بَأْسَنا﴾ [غافر: ٨٥] وكَما ثَبَتَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ««إنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ ما لَمْ يُغَرْغِرْ»» . انْتَهى. وبِالجُمْلَةِ: فالمَعْنى أنَّهُ لا يَنْفَعُ مَن كانَ مُشْرِكًا إيمانُهُ. ولا تُقْبَلُ تَوْبَةُ فاسِقٍ عِنْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الآيَةِ العَظِيمَةِ الَّتِي تَضْطَرُّهم إلى الإيمانِ والتَّوْبَةِ. وذَلِكَ لِذَهابِ زَمَنِ التَّكْلِيفِ. (p-٢٥٧٩)قالَ الضَّحّاكُ: مَن أدْرَكَهُ بَعْضُ الآياتِ، وهو عَلى عَمَلٍ صالِحٍ مَعَ إيمانِهِ، قَبِلَ اللَّهُ مِنهُ العَمَلَ الصّالِحَ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ، كَما قَبِلَ مِنهُ قَبْلَ ذَلِكَ. فَأمّا مَن آمَنَ مِن شِرْكٍ أوْ تابَ مِن مَعْصِيَةٍ عِنْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الآيَةِ، فَلا يُقْبَلُ مِنهُ؛ لِأنَّها حالَةُ اضْطِرارٍ. كَما لَوْ أرْسَلَ اللَّهُ عَذابًا عَلى أُمَّةٍ فَآمَنُوا وصَدَّقُوا. فَإنَّهم لا يَنْفَعُهم إيمانُهم ذَلِكَ، لِمُعايَنَتِهِمُ الأهْوالَ والشَّدائِدَ، الَّتِي تَضْطَرُّهم إلى الإيمانِ والتَّوْبَةِ. وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إذا أنْشَأ الكافِرُ إيمانًا يَوْمَئِذٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنهُ. فَأمّا مَن كانَ مُؤْمِنًا قُبِلَ ذَلِكَ، فَإنْ كانَ مُصْلِحًا في عَمَلِهِ، فَهو بِخَيْرٍ عَظِيمٍ. وإنْ لَمْ يَكُنْ مُصْلِحًا، فَأحْدَثَ تَوْبَةً حِينَئِذٍ، لَمْ تُقْبَلْ مِنهُ تَوْبَتُهُ. كَما دَلَّتْ عَلَيْهِ الأحادِيثُ. وعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْرًا﴾ أيْ: لا يُقْبَلُ مِنها كَسْبُ عَمَلٍ صالِحٍ، إذا لَمْ يَكُنْ عامِلًا بِهِ قَبْلُ. انْتَهى. والأحادِيثُ المُشارُ إلَيْها، مِنها ما رَواهُ (مُسْلِمٌ) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ؛ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««مَن تابَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها تابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.»» ورَوى التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ (p-٢٥٨٠)عَنْ صَفْوانَ بْنِ عَسّالٍ المُرادِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««بابٌ مِن قِبَلِ المَغْرِبِ مَسِيرَةُ عَرْضِهِ - أوْ قالَ: يَسِيرُ الرّاكِبُ في عَرْضِهِ - أرْبَعِينَ أوْ سَبْعِينَ سَنَةً خَلَقَهُ اللَّهُ تَعالى يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ. مَفْتُوحًا لِلتَّوْبَةِ لا يُغْلَقُ حَتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنهُ»» . ولِأبِي داوُدَ والنَّسائِيِّ مِن حَدِيثِ مُعاوِيَةَ رَفَعَهُ: ««لا تَزالُ تُقْبَلُ التَّوْبَةُ حَتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِها»» . قالَ ابْنُ حَجَرٍ: سَنَدُهُ جَيِّدٌ. وأخْرَجَهُ أحْمَدُ والدّارِمِيُّ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِن حَدِيثِهِ أيْضًا (p-٢٥٨١)بِلَفْظِ: لا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِها. ورَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنِ ابْنِ السَّعْدِيِّ؛ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««لا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ ما دامَ العَدُوُّ يُقاتَلُ»» . فَقالَ مُعاوِيَةُ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاصِ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ««إنَّ الهِجْرَةَ خَصْلَتانِ: إحْداهُما أنْ تَهْجُرَ السَّيِّئاتِ، والأُخْرى أنْ تُهاجِرَ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ، ولا تَنْقَطِعُ ما تُقُبِّلَتِ التَّوْبَةُ، ولا تَزالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنَ المَغْرِبِ، فَإذا طَلَعَتْ طُبِعَ عَلى كُلِّ قَلْبٍ بِما فِيهِ، وكُفِيَ النّاسُ العَمَلَ»» . قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذا الحَدِيثُ حَسَنُ الإسْنادِ ولَمْ يُخَرِّجْهُ أحَدٌ مِن أصْحابِ الكُتُبِ السِّتَّةِ. وهاهُنا مَسائِلُ: الأُولى: ذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّ المُرادَ بِ (البَعْضِ) في الآيَةِ هو طُلُوعُ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها. كَما في حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ السّابِقِ. ولا يُقالُ يُخالِفُ ذَلِكَ حَدِيثَ مُسْلِمٍ: «ثَلاثٌ إذا خَرَجْنَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها..» الحَدِيثَ. وفي ثُبُوتِ ذَلِكَ بِخُرُوجِ الدَّجّالِ نَظَرٌ؛ لِأنَّ نُزُولَ عِيسى ﷺ بَعْدَهُ. وفي زَمَنِهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ دُنْيَوِيٌّ وأُخْرَوِيٌّ. فالإيمانُ مَقْبُولٌ وقْتَئِذٍ. لِأنّا نَقُولُ: لا مُنافاةَ. وذَلِكَ لِأنَّ (البَعْضَ) في الآيَةِ، إنْ كانَ عِدَّةَ آياتٍ، فَطُلُوعُ الشَّمْسِ هو آخِرُها المُتَحَقَّقُ بِهِ عَدَمُ القَبُولِ، وإنْ كانَ إحْدى آياتٍ، فَهو مَحْمُولٌ عَلى المُعَيَّنِ في الحَدِيثِ؛ لِأنَّهُ أعْظَمُها. كَذا في "العِنايَةِ". قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إذا أخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِتَخْصِيصِ مانِعِ القَبُولِ بِالطُّلُوعِ، في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، لَمْ يُجْزِ العُدُولُ عَنْهُ، وتَعَيَّنَ أنَّهُ مَعْنى الآيَةِ. انْتَهى. وقالَ القاضِي عِياضٌ: المَعْنى: لا تَنْفَعُ تَوْبَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ. بَلْ يُخْتَمُ عَلى عَمَلِ كُلِّ أحَدٍ بِالحالَةِ الَّتِي هو عَلَيْها. والحِكْمَةُ في ذَلِكَ أنَّ هَذا أوَّلُ ابْتِداءِ قِيامِ السّاعَةِ بِتَغَيُّرِ العالَمِ العُلْوِيِّ. فَإذا (p-٢٥٨٢)شُوهِدَ ذَلِكَ حَصَلَ الإيمانُ الضَّرُورِيُّ بِالمُعايَنَةِ. وارْتَفَعَ الإيمانُ بِالغَيْبِ. فَهو كالإيمانِ عِنْدَ الغَرْغَرَةِ وهو لا يَنْفَعُ. فالمُشاهَدَةُ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ مِثْلُهُ. الثّانِيَةُ: قالَ السُّيُوطِيُّ في "الإكْلِيلِ": اسْتَدَلَّ المُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الإيمانَ لا يَنْفَعُ مَعَ عَدَمِ كَسْبِ الخَيْرِ فِيهِ. وهو مَرْدُودٌ. فَفي الكَلامِ تَقْدِيرٌ. والمَعْنى: لا يَنْفَعُ نَفْسًا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلِ إيمانِها حِينَئِذٍ، ولا يَنْفَعُ نَفْسًا لَمْ تَكْسِبْ خَيْرًا قَبْلَ تَوْبَتِها حِينَئِذٍ. وقالَ الشِّهابُ السَّمِينُ: قَدْ أجابَ النّاسُ بِأنَّ المَعْنى في الآيَةِ إنَّهُ إذا أتى بَعْضُ الآياتِ لا يَنْفَعُ نَفْسًا كافِرَةً، إيمانُها الَّذِي أوْقَعَتْهُ إذْ ذاكَ. ولا يَنْفَعُ نَفَسًا سَبَقَ إيمانُها ولَمْ تَكْسِبْ فِيهِ خَيْرًا. فَقَدْ عَلَّقَ نَفْيَ الإيمانِ بِأحَدِ وصْفَيْنِ: إمّا نَفْيُ سَبْقِ الإيمانِ فَقَطْ، وإمّا سَبْقُهُ مَعَ نَفْيِ كَسْبِ الخَيْرِ. ومَفْهُومُ الصِّفَةِ قَوِيٌّ فَيُسْتَدَلُّ بِالآيَةِ لِمَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ. ويَكُونُ فِيهِ قَلْبُ دَلِيلِ المُعْتَزِلَةِ، دَلِيلًا عَلَيْهِمْ. وأجابَ ابْنُ المُنَيِّرِ في "الِانْتِصافِ" فَقالَ: هَذا الكَلامُ مِنَ البَلاغَةِ يُلَقَّبُ (اللَّفَّ) وأصْلُهُ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا، لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً قَبْلُ، إيمانُها بَعْدُ. ولا نَفْسًا لَمْ تَكْسِبْ خَيْرًا قَبْلُ، ما تَكْتَسِبُهُ مِنَ الخَيْرِ بَعْدُ، فَلَفَّ الكَلامَيْنِ فَجَعَلَهُما كَلامًا واحِدًا إيجازًا. وبِهَذا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ أنَّها لا تُخالِفُ مَذْهَبَ أهْلِ الحَقِّ. فَلا يَنْفَعُ بَعْدَ ظُهُورِ الآياتِ اكْتِسابُ الخَيْرِ ولَوْ نَفَعَ الإيمانُ المُتَقَدِّمُ مِنَ الخُلُودِ. فَهي بِالرَّدِّ عَلى المُعْتَزِلَةِ أوْلى مِن أنْ تَدُلَّ لَهم. وقالَ ابْنُ الحاجِبِ في "أمالِيهِ": الإيمانُ قَبْلَ مَجِيءِ الآيَةِ نافِعٌ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ صالِحٌ غَيْرُهُ، ومَعْنى الآيَةِ: لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها ولا كَسْبُها العَمَلَ الصّالِحَ، لَمْ يَكُنِ الإيمانُ قَبْلَ الآيَةِ، أوْ لَمْ يَكُنِ العَمَلُ مَعَ الإيمانِ قَبْلَها. فاخْتُصِرَ لِلْعِلْمِ. ونَقَلَ الطَّيِّبِيُّ كَلامَ الأئِمَّةِ في ذَلِكَ. ثُمَّ قالَ: المُعْتَمَدُ ما قالَ ابْنُ المُنَيِّرِ وابْنُ الحاجِبِ. وبَسْطُهُ: (p-٢٥٨٣)أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا خاطَبَ المُعانِدِينَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهَذا كِتابٌ أنْـزَلْناهُ مُبارَكٌ فاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام: ١٥٥] الآيَةَ. عَلَّلَ الإنْزالَ بِقَوْلِهِ: أنْ تَقُولُوا إنَّما أُنْزِلَ الكِتابُ إلَخْ. إزالَةً لِلْعُذْرِ وإلْزامًا لِلْحُجَّةِ. وعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: فَقَدْ جاءَكم بَيِّنَةٌ إلَخْ، تَبْكِيتًا لَهم وتَقْرِيرًا لِما سَبَقَ مِمَّنْ طَلَبَ الِاتِّباعَ. ثُمَّ قالَ: ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ﴾ [الأنعام: ١٥٧] الآيَةَ. أيْ: أنَّهُ أنْزَلَ هَذا الكِتابَ المُنِيرَ كاشِفًا لِكُلِّ رَيْبٍ وهادِيًا إلى الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ ورَحْمَةً مِنَ اللَّهِ لِلْخَلْقِ، لِيَجْعَلُوهُ زادًا لِمَعادِهِمْ فِيما يُقَدِّمُونَهُ مِنَ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ. فَجَعَلُوا شُكْرَ النِّعْمَةِ أنْ كَذَّبُوا بِها ومَنَعُوا مِنَ الِانْتِفاعِ بِها. ثُمَّ قالَ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ الآيَةَ.. أيْ: ما يَنْتَظِرُ هَؤُلاءِ المُكَذِّبُونَ إلّا أنْ يَأْتِيَهم عَذابُ الدُّنْيا بِنُزُولِ المَلائِكَةِ بِالعِقابِ الَّذِي يَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهم. كَما جَرى لِمَن مَضى مِنَ الأُمَمِ قَبْلَهم. أوْ يَأْتِيهِمْ عَذابُ الآخِرَةِ بِوُجُودِ بَعْضِ قَوارِعِها، فَحِينَئِذٍ تَفُوتُ تِلْكَ الفُرْصَةُ السّابِقَةُ فَلا يَنْفَعُهم شَيْءٌ مِمّا كانَ يَنْفَعُهم مِن قَبْلُ، مِنَ الإيمانِ، وكَذا العَمَلُ الصّالِحُ مَعَ الإيمانِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها ولا كَسْبُها العَمَلَ الصّالِحَ في إيمانِها حِينَئِذٍ؛ إذْ لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْرًا مِن قَبْلُ. فَفي الآيَةِ لَفٌّ. لَكِنْ حُذِفَتْ إحْدى القَرِينَتَيْنِ بِإعانَةِ النَّشْرِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ ويَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهم إلَيْهِ جَمِيعًا﴾ [النساء: ١٧٢] قالَ: فَهَذا الَّذِي عَناهُ ابْنُ المُنَيِّرِ بِقَوْلِهِ: إنَّ هَذا الكَلامَ في البَلاغَةِ يُقالُ لَهُ (اللَّفُّ) والمَعْنى يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا، لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً مِن قَبْلِ ذَلِكَ، إيمانُها مِن بَعْدِ ذَلِكَ، (p-٢٥٨٤)ولا يَنْفَعُ نَفْسًا كانَتْ مُؤْمِنَةً، لَكِنْ لَمْ تَعْمَلْ في إيمانِها عَمَلًا صالِحًا قَبْلَ ذَلِكَ، ما تَعْمَلُهُ مِنَ العَمَلِ الصّالِحِ بَعْدَ ذَلِكَ. قالَ: وبِهَذا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ مَذْهَبُ أهْلِ السُّنَّةِ. فَلا يَنْفَعُ بَعْدَ ظُهُورِ الآيَةِ اكْتِسابُ الخَيْرِ، أيْ: لِإغْلاقِ بابِ التَّوْبَةِ ورَفْعِ الصُّحُفِ والحَفَظَةِ، وإنْ كانَ ما سَبَقَ قَبْلَ ظُهُورِ الآيَةِ مِنَ الإيمانِ يَنْفَعُ صاحِبَهُ في الجُمْلَةِ. ثُمَّ قالَ الطِّيبِيُّ: وقَدْ ظَفِرْتُ، بِفَضْلِ اللَّهِ بَعْدَ هَذا التَّقْرِيرِ، عَلى آيَةٍ أُخْرى تُشْبِهُ هَذِهِ الآيَةَ وتُناسِبُ هَذا التَّقْرِيرَ مَعْنًى ولَفْظًا، مِن غَيْرِ إفْراطٍ ولا تَفْرِيطٍ. وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ جِئْناهم بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدًى ورَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ٥٢] ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالحَقِّ فَهَلْ لَنا مِن شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ [الأعراف: ٥٣] فَإنَّهُ يَظْهَرُ مِنهُ أنَّ الإيمانَ المُجَرَّدَ قَبْلَ كَشْفِ قَوارِعِ السّاعَةِ نافِعٌ، وأنَّ الإيمانَ المُقارَنَ بِالعَمَلِ الصّالِحِ أنْفَعُ. وأمّا بَعْدَ حُصُولِها أنْفَعُ. وأمّا بَعْدُ حُصُولِها فَلا يَنْفَعُ شَيْءٌ أصْلًا. واللَّهُ أعْلَمُ. انْتَهى مُلَخَّصًا. الثّالِثَةُ: قالَ في "الوَجِيزِ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ أيْ: لِفَصْلِ القَضاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ. وإتْيانُهُ نُؤْمِنُ بِهِ ولا نَعْرِفُ كَيْفَهُ. انْتَهى. وفِي حَواشِي "جامِعِ البَيانِ": كَيْفَ لا يُؤْمَنُ بِإتْيانِهِ ومَجِيئِهِ تَعالى يَوْمَ القِيامَةِ، وقَدْ جاءَ في القُرْآنِ في عِدَّةِ مَواضِعَ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ﴾ [البقرة: ٢١٠] ﴿وجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: ٢٢] ﴿إلا أنْ تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أوْ يَأْتِيَ أمْرُ رَبِّكَ﴾ [النحل: ٣٣] وأيُّ أمْرٍ أصْرَحُ مِنهُ في القُرْآنِ؟ (p-٢٥٨٥)ورَوى الطَّبَرِيُّ في "تَفْسِيرِهِ" عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَرْفُوعًا: «إنَّ في الغَمامِ طاقاتٍ يَأْتِي اللَّهُ فِيها، مَحْفُوفًا». وذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والمَلائِكَةُ وقُضِيَ الأمْرُ﴾ [البقرة: ٢١٠] قالَ عِكْرِمَةُ: والمَلائِكَةُ حَوْلَهُ، فَهَذا مِن صِفاتِ اللَّهِ تَعالى. يَجِبُ عَلَيْنا الإيمانُ بِظاهِرِها ونُؤْمِنُ بِها كَما جاءَتْ وإنْ لَمْ نَعْرِفْ كَيْفِيَّتَها. وعَدَمُ عِلْمِنا بِكَيْفِيَّتِها، بِمَنزِلَةِ عَدَمِ عِلْمِنا بِكَيْفِيَّةِ ذاتِهِ. فَلا نُكَذِّبُ بِما عَلِمْناهُ لِعَدَمِ عِلْمِنا بِما لَمْ نَعْلَمْهُ. وهَذا هو مَذْهَبُ سَلَفِ هَذِهِ الأُمَّةِ وأعْلامِ أهْلِ السُّنَّةِ. انْتَهى. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلِ انْتَظِرُوا﴾ أيْ: قُلْ لِهَؤُلاءِ الكافِرِينَ، بَعْدَ بَيانِ حَقِيقَةِ الحالِ عَلى وجْهِ التَّحْدِيدِ: انْتَظِرُوا ما تَنْتَظِرُونَهُ مِن إتْيانِ أحَدِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ لِتَرَوْا أيَّ شَيْءٍ تَنْتَظِرُونَ. ﴿إنّا مُنْتَظِرُونَ﴾ أيْ: لِذَلِكَ، لِنُشاهِدَ ما يَحِلُّ بِكم مِن سُوءِ العاقِبَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب