الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[١٤٩] ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾
﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾ البَيِّنَةُ الواضِحَةُ الَّتِي بَلَغَتْ غايَةَ المَتانَةِ والقُوَّةِ عَلى الإثْباتِ. ومِنهُ: (أيْمانٌ بالِغَةٌ) أيْ: مُؤَكَّدَةٌ. أوْ (البالِغَةُ) الَّتِي بَلَغَ بِها صاحِبُها صِحَّةَ دَعْواهُ فَهي (كَعِيشَةٍ راضِيَةٍ) ﴿فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ أيْ: ولَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ. بَلْ شاءَ هِدايَةَ بَعْضٍ صَرَفُوا اخْتِيارَهم إلى سُلُوكِ طَرِيقِ الحَقِّ. وضَلالٍ آخَرِينَ صَرَفُوا كَسْبَهم إلى خِلافِ ذَلِكَ، مِن غَيْرِ صارِفٍ يَلْوِيهِمْ ولا عاطِفٍ يُثْنِيهِمْ، فَوَقَعَ ذَلِكَ عَلى الوَجْهِ الَّذِي شاءَهُ.
قالَ الإمامُ أبُو مَنصُورٍ الماتُرِيدِيُّ في "تَأْوِيلاتِهِ": قِيلَ: الآيَةُ في مُشْرِكِي العَرَبِ. قالُوا ذَلِكَ حِينَ لَزِمَتْهُمُ المُناقَضَةُ وانْقَطَعَ حِجاجُهم في تَحْرِيمِ ما حَرَّمُوا مِنَ الأشْياءِ. وأضافُوا (p-٢٥٤٢)ذَلِكَ إلى اللَّهِ، وهو صِلَةُ قَوْلِهِ: ﴿ثَمانِيَةَ أزْواجٍ﴾ [الأنعام: ١٤٣] - إلى قَوْلِهِ -: ﴿أمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إذْ وصّاكُمُ اللَّهُ بِهَذا﴾ [الأنعام: ١٤٤] فَلَمّا لَزِمَتْهُمُ المُناقَضَةُ وانْقَطَعَ حِجاجُهم فَزِعُوا إلى هَذا القَوْلِ: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا. انْتَهى.
والقَصْدُ: الِاعْتِذارُ عَنْ كُلِّ ما يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنَ الإشْراكِ وتَحْرِيمِ الحَلالِ. أيْ: ولَكِنَّهُ لَمْ يَشَأِ التَّرْكَ وشاءَ الفِعْلَ، فَفِعْلُنا طَوْعُ مَشِيئَتِهِ، وهو لا يَشاءُ إلّا الحَقَّ؛ لِأنَّهُ قادِرٌ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا يَرْضاهُ لَمَنَعَنا مِنهُ. وهو لَمْ يَمْنَعْنا مِنهُ فَهو حَقٌّ. وفي حِكايَةِ هَذِهِ المُناظَرَةِ والمُجادَلَةِ بَيانٌ لِنَوْعٍ مِن كُفْرِهِمْ شَنِيعٍ جِدًّا..!
تَنْبِيهٌ:
هَذِهِ الآيَةُ تَكَرَّرَ نَظِيرُها في التَّنْزِيلِ الكَرِيمِ في عِدَّةِ سُوَرٍ، وهي مِنَ الآياتِ الجَدِيرَةِ بِالتَّدَبُّرِ لِتَمْحِيصِ الحَقِّ في المُرادِ مِنها.
فَقَدْ زَعَمَ المُعْتَزِلَةُ أنَّ فِيها دَلالَةً واضِحَةً لِمَذْهَبِهِمْ مِن أنَّ اللَّهَ لا يَشاءُ المَعاصِي والكُفْرَ، كَما تَبَجَّحَ بِذَلِكَ مِنهُمُ الطَّبَرْسِيُّ الشِّيعِيُّ في "تَفْسِيرِهِ" وقالَ: إنَّ فِيها تَكْذِيبًا ظاهِرًا لِمَن أضافَ مَشِيئَةَ ذَلِكَ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ؛ وكَذا الزَّمَخْشَرِيُّ في "تَفْسِيرِهِ".
(p-٢٥٤٣)ومَعْلُومٌ أنَّ عَقِيدَةَ الفِرْقَةِ النّاجِيَةِ، الإيمانُ بِأنَّ: ما شاءَ اللَّهُ كانَ، وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وأنَّهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ مِن حَرَكَةٍ ولا سُكُونٍ إلّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ، لا يَكُونُ في مُلْكِهِ إلّا ما يُرِيدُ، وهو خالِقٌ لِأفْعالِ العِبادِ.!
وقَدْ خالَفَ في ذَلِكَ عامَّةُ القَدَرِيَّةِ - الَّذِينَ سَمّاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةَ - فَقالُوا: لا إرادَةَ إلّا بِمَعْنى المَشِيئَةِ، وهو لَمْ يُرِدْ إلّا ما أمَرَ بِهِ، ولَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مِن أفْعالِ العِبادِ. فَعِنْدَهم أكْثَرُ ما يَقَعُ مِن أفْعالِ العِبادِ عَلى خِلافِ إرادَتِهِ تَعالى. ولَمّا كانَ قَوْلُهم هَذا في غايَةِ الشَّناعَةِ. تَبَرَّأ مِنهُمُ الصَّحابَةُ. وأصْلُ بِدْعَتِهِمْ - كَما قالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ - كانَتْ مِن عَجْزِ عُقُولِهِمْ عَنِ الإيمانِ بِقَدَرِ اللَّهِ والإيمانِ بِأمْرِهِ ونَهْيِهِ. وسَنُبَيِّنُ تَحْقِيقَ ذَلِكَ بَعْدَ أنْ نُورِدَ شُبْهَتَهم في هَذِهِ الآيَةِ ونَدْمَغَها - بِعَوْنِهِ تَعالى - بِعِدَّةِ وُجُوهٍ فَنَقُولُ:
قالُوا: إنَّ اللَّهَ تَعالى حَكى عَنِ المُشْرِكِينَ أنَّهم قالُوا: أشْرَكْنا بِإرادَةِ اللَّهِ تَعالى. ولَوْ أرادَ عَدَمَ إشْراكِنا لَما أشْرَكْنا، ولَما صَدَرَ عَنّا تَحْرِيمُ المُحَلَّلاتِ فَقَدْ أسْنَدُوا كُفْرَهم وعِصْيانَهم إلى إرادَتِهِ تَعالى كَما تَزْعُمُونَ أنْتُمْ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى رَدَّ عَلَيْهِمْ مَقالَتَهم وبَيَّنَ بُطْلانَها وذَمَّهم عَلَيْها وأوْعَدَهم عَلَيْها وعِيدًا شَدِيدًا. فَلَوْ كانَ يَجُوزُ إضافَةُ المَشِيئَةِ إلى اللَّهِ تَعالى في ذَلِكَ، عَلى ما تُضِيفُونَ أنْتُمْ، لَمْ يَكُنْ يَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ويَتَوَعَّدُهُمْ؟
قُلْنا: إنَّ المَشِيئَةَ في الآيَةِ تَتَخَرَّجُ عَلى وُجُوهٍ:
أحَدُها: ما قالَ الحَسَنُ والأصَمُّ - إنَّ المَشِيئَةَ هَهُنا الرِّضا - فَمُرادُهُمْ: أنَّ اللَّهَ رَضِيَ بِفِعْلِنا وصَنِيعِنا - حَيْثُ فَعَلَ آباؤُنا ما فَعَلْنا - فَلَمْ يَحُلِ اللَّهُ بَيْنَهم وبَيْنَ ذَلِكَ، ولا أخَذَ عَلى أيْدِيهِمْ، ولا مَنَعَهم عَنْ ذَلِكَ؛ فَلَوْ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ عَنْهم لَكانَ يَمْنَعُهم عَنْهُ!
قالَ أبُو مَنصُورٍ: وإنَّما اسْتَدَلُّوا بِالرِّضا مِنَ اللَّهِ والإذْنِ فِيما كانُوا فِيهِ، أنَّهم كانُوا يُخَوَّفُونَ بِالهَلاكِ والعَذابِ عَلى صَنِيعِهِمْ، ثُمَّ رَأوْا آباءَهم ماتُوا عَلى ذَلِكَ ولَمْ يَأْتِهِمُ العَذابُ، فاسْتَدَلُّوا بِتَأْخِيرِ نُزُولِ العَذابِ عَلَيْهِمْ عَلى أنَّ اللَّهَ رَضِيَ بِذَلِكَ.
(p-٢٥٤٤)وبِالجُمْلَةِ، أرادُوا بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ. أنَّهم عَلى الحَقِّ المَشْرُوعِ المَرْضِيِّ عِنْدَ اللَّهِ. ولَمّا كانَتْ حُجَّتُهم داحِضَةً باطِلَةً - لِأنَّها لَوْ كانَتْ صَحِيحَةً لَما أذاقَهُمُ اللَّهُ بَأْسَهُ ودَمَّرَ عَلَيْهِمْ وأدالَ عَلَيْهِمْ رُسُلَهُ الكِرامَ - قالَ تَعالى: ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا﴾ [الأنعام: ١٤٨] أيْ: بِأنَّ اللَّهَ راضٍ عَلَيْكم فِيما أنْتُمْ فِيهِ! وهَذا مِنَ التَّهَكُّمِ والشَّهادَةِ بِأنَّ مِثْلَ قَوْلِهِمْ مُحالٌ أنْ يَكُونَ لَهُ حُجَّةٌ.
وفِي "الوَجِيزِ": الحاصِلُ أنَّ المُشْرِكِينَ اعْتَقَدُوا عَدَمَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ المَأْمُورِ المَرْضِيِّ والمَشِيئَةِ، كَما اعْتَقَدَتِ المُعْتَزِلَةُ، فاحْتَجُّوا عَلى حَقِّيَّةِ الإشْراكِ. ويُنادِي عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ: كَذَلِكَ كَذَّبَ فَإنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى لَقالَ (كَذَلِكَ كَذَبَ) بِالتَّخْفِيفِ لا التَّشْدِيدِ. وهَذِهِ الآيَةُ - عِنْدَ مَن لَهُ أُذُنٌ واعِيَةٌ - تَصِيحُ عَلى المُعْتَزِلَةِ بِالوَيْلِ والثُّبُورِ، لَكِنْ في آذانِهِمْ وقْرٌ، ومَن لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ. انْتَهى.
الوَجْهُ الثّانِي: إنَّ المَشِيئَةَ في الآيَةِ بِمَعْنى الأمْرِ والدُّعاءِ إلى ذَلِكَ. أيْ: يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ أمَرَهم بِذَلِكَ ودَعاهم إلَيْهِ، كَما أخْبَرَ عَنْهم في سُورَةِ الأعْرافِ بِقَوْلِهِ: ﴿وإذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وجَدْنا عَلَيْها آباءَنا واللَّهُ أمَرَنا بِها﴾ [الأعراف: ٢٨] فَرَدَّ تَعالى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ﴾ [الأعراف: ٢٨]
الوَجْهُ الثّالِثُ: إنَّ قَوْلَهم ذَلِكَ كانَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ والسُّخْرِيَةِ دافِعًا لِدَعْوَتِهِ ﷺ، وتَعَلُّلًا لِعَدَمِ إجابَتِهِ وانْقِيادِهِ، لا تَفْوِيضًا لِلْكائِناتِ إلى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى. فَما صَدَرَ عَنْهم كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِها باطِلٌ. ولِذَلِكَ ذَمَّهُمُ اللَّهُ بِالتَّكْذِيبِ لِأنَّهم قَصَدُوا بِهِ تَكْذِيبَ النَّبِيِّ ﷺ في وُجُوبِ اتِّباعِهِ والمُتابَعَةِ، فَقالَ: كَذَلِكَ كَذَّبَ بِالتَّشْدِيدِ، ولَمْ يَذُمَّهم بِالكَذِبِ في قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، وإلّا لَقالَ (كَذَلِكَ كَذَبَ) بِالتَّخْفِيفِ، إشارَةً إلى أنَّ ذَلِكَ الكَلامَ في نَفْسِهِ حَقٌّ وصِدْقٌ.
وقالَ آخَرُ: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ فَأشارَ إلى صِدْقِ مَقالَتِهِمْ وفَسادِ غَرَضِهِمْ. فالعِتابُ الَّذِي لَحِقَهم والوَعِيدُ الَّذِي أوْعَدَهُمْ، إنَّما كانَ لِاسْتِهْزائِهِمْ.
(p-٢٥٤٥)كَما ذُكِرَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَقُولُ الإنْسانُ أإذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا﴾ [مريم: ٦٦] وهي كَلِمَةُ حَقٍّ. لَكِنْ قالَها اسْتِهْزاءً فَلَحِقَهُ الذَّمُّ.
وهَذا الوَجْهُ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ العَضُدُ في "المَواقِفِ" وقَرَّرَهُ أيْضًا أبُو مَنصُورٍ في "تَأْوِيلاتِهِ".
قالَ الحَسَنُ بْنُ الفُضَيْلٍ: لَوْ قالُوا هَذِهِ المَقالَةَ تَعْظِيمًا لِلَّهِ وإجْلالًا لَهُ ومَعْرِفَةً بِحَقِّهِ وبِما يَقُولُونَ، لَما عابَهم بِذَلِكَ. ولَكِنَّهم قالُوا هَذِهِ المَقالَةَ تَكْذِيبًا وجَدَلًا. مِن غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِاللَّهِ وبِما يَقُولُونَ.
الوَجْهُ الرّابِعُ: ما يُسْتَفادُ مِن قَوْلِ الإمامِ: إنَّ في كَلامِ المُشْرِكِينَ مُقَدِّمَتَيْنِ:
إحْداهُما: أنَّ الكُفْرَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى.
والثّانِيَةُ: أنَّهُ يَلْزَمُ مِنهُ انْدِفاعُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ ﷺ. وما ورَدَ مِنَ الذَّمِّ والتَّوْبِيخِ إنَّما هو عَلى الثّانِيَةِ، إذِ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ، فَلَهُ أنْ يَشاءَ مِنَ الكافِرِ الكُفْرَ ويَأْمُرَهُ بِالإيمانِ ويُعَذِّبَهُ عَلى خِلافِهِ ويَبْعَثَ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ دُعاةً إلى دارِ السَّلامِ، وإنْ كانَ لا يَهْدِي إلّا مَن يَشاءُ.
الوَجْهُ الخامِسُ: إنَّ قَوْلَهم ذَلِكَ كانَ عَلى سَبِيلِ العِنادِ والعُتُوِّ.
قالَ البِقاعِيُّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [الأنعام: ١٤٨] أيْ: بِما أوْقَعُوا مِن نَحْوِ هَذِهِ المُجادَلَةِ في قَوْلِهِمْ: إذا كانَ الكُلُّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ كانَ التَّكْلِيفُ عَبَثًا، فَكانَتْ دَعْوى الأنْبِياءِ باطِلَةً. وهَذا القَوْلُ مِنَ المُشْرِكِينَ عِنادٌ بَعْدَ ثُبُوتِ الرِّسالاتِ بِالمُعْجِزاتِ وإخْبارِ الرُّسُلِ بِأنَّهُ يَشاءُ الشَّيْءَ ويُعاقِبُ عَلَيْهِ لِأنَّ مُلْكَهُ تامٌّ، لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ.
وقالَ الإمامُ القاشانِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ، في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [الأنعام: ١٤٨] أيْ: كَذَّبَ المُنْكِرُونَ الرُّسُلَ مِن قَبْلِهِمْ بِتَعْلِيقِ كُفْرِهِمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، عِنادًا وعُتُوًّا، فَعُذِّبُوا بِكُفْرِهِمْ.
ثُمَّ قالَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا﴾ [الأنعام: ١٤٨] أيْ: إنْ كانَ لَكم (p-٢٥٤٦)عِلْمٌ بِذَلِكَ وحُجَّةٌ، فَبَيِّنُوا. وإنَّما قالَ ذَلِكَ، إشارَةً إلى قَوْلِهِمْ: ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا﴾ [الأنعام: ١٤٨] لِأنَّهم لَوْ قالُوا ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ لَعَلِمُوا أنَّ إيمانَ المُوَحِّدِينَ وكُلَّ شَيْءٍ لا يَقَعُ إلّا بِإرادَةِ اللَّهِ. فَلَمْ يُعادُوهم ولَمْ يُنْكِرُوهم بَلْ والَوْهُمْ، ولَمْ يَبْقَ بَيْنَهم وبَيْنَ المُؤْمِنِينَ خِلافٌ. ولَعَمْرِي إنَّهم لَوْ قالُوا ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ، لَمّا كانُوا مُشْرِكِينَ بَلْ كانُوا مُوَحِّدِينَ، ولَكِنَّهُمُ اتَّبَعُوا الظَّنَّ في ذَلِكَ، وبَنَوْا عَلى التَّقْدِيرِ والتَّخْمِينِ لِغَرَضِ التَّكْذِيبِ والعِنادِ، وعَلى ما سَمِعُوا مِنَ الرُّسُلِ إلْزامًا لَهم وإثْباتًا لِعَدَمِ امْتِناعِهِمْ عَنِ الرُّسُلِ؛ لِأنَّهم مَحْجُوبُونَ في مَقامِ النَّفْسِ. وأنّى لَهُمُ اليَقِينُ؟ ومِن أيْنَ لَهُمُ الِاطِّلاعُ عَلى مَشِيئَةِ اللَّهِ؟ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾ أيْ: إنْ كانَ ظَنُّكم صِدْقًا في تَعْلِيقِ شِرْكِكم بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، فَلَيْسَ لَكم حُجَّةٌ عَلى المُؤْمِنِينَ وعَلى غَيْرِكم مِن أهْلِ دِينٍ، لِكَوْنِ كُلِّ دِينٍ حِينَئِذٍ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، فَيَجِبُ أنْ تُوافِقُوهم وتُصَدِّقُوهُمْ، بَلْ لِلَّهِ الحُجَّةُ عَلَيْكم في وُجُوبِ تَصْدِيقِهِمْ وإقْرارِكم بِأنَّكم أشْرَكْتُمْ، بِمَن لا يَقَعُ أمْرٌ إلّا بِإرادَتِهِ، ما لا أثَرَ لِإرادَتِهِ أصْلًا. فَأنْتُمْ أشْقِياءُ في الأزَلِ مُسْتَحِقُّونَ لِلْبُعْدِ والعِقابِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ أيْ: بَلى، صَدَقْتُمْ. ولَكِنْ كَما شاءَ كُفْرَكم لَوْ شاءَ لِهُداكم كُلَّكُمْ، فَبِأيِّ شَيْءٍ عَلِمْتُمْ أنَّهُ لَمْ يَشَأْ هِدايَتَكم حَتّى أصْرَرْتُمْ؟ وهَذا تَهْيِيجٌ لِمَن عَسى أنْ يَكُونَ لَهُ اسْتِعْدادٌ مِنهم فَيَقْمَعَ ويَهْتَدِيَ فَيَرْجِعَ عَنِ الشِّرْكِ ويُؤْمِنَ. انْتَهى.
الوَجْهُ السّادِسُ: ما في "لُبابِ التَّأْوِيلِ" مِن أنَّهُ قِيلَ في مَعْنى الآيَةِ: أنَّهم كانُوا يَقُولُونَ الحَقَّ بِهَذِهِ الكَلِمَةِ - وهو قَوْلُهُمْ: ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا﴾ [الأنعام: ١٤٨] - إلّا أنَّهم كانُوا يَعُدُّونَهُ عُذْرًا لِأنْفُسِهِمْ، ويَجْعَلُونَهُ حُجَّةً لَهم في تَرْكِ الإيمانِ، والرَّدُّ عَلَيْهِمْ في ذَلِكَ: أنَّ أمْرَ اللَّهِ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَشِيئَتِهِ وإرادَتِهِ؛ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الكائِناتِ غَيْرُ آمِرٍ بِجَمِيعِ ما يُرِيدُ، فَعَلى العَبْدِ أنْ يَتْبِعَ أمْرَهُ ولَيْسَ لَهُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِمَشِيئَتِهِ، فَإنَّ مَشِيئَتَهُ لا تَكُونُ عُذْرًا لِأحَدٍ عَلَيْهِ في فِعْلِهِ، فَهو تَعالى يَشاءُ الكُفْرَ مِنَ الكافِرِ ولا يَرْضى بِهِ ولا يَأْمُرُ بِهِ، ومَعَ هَذا فَيَبْعَثُ الرُّسُلَ إلى العَبْدِ ويَأْمُرُهُ بِالإيمانِ. ووُرُودُ الأمْرِ عَلى خِلافِ الإرادَةِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ. فالحاصِلُ: أنَّهُ (p-٢٥٤٧)تَعالى حَكى عَنِ الكُفّارِ أنَّهم يَتَمَسَّكُونَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى في شِرْكِهِمْ وكُفْرِهِمْ، فَأخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّ هَذا التَّمَسُّكَ فاسِدٌ باطِلٌ؛ فَإنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن ثُبُوتِ المَشِيئَةِ لِلَّهِ تَعالى في كُلِّ الأُمُورِ دَفْعُ دَعْوَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. انْتَهى.
الوَجْهُ السّابِعُ: ما قَرَّرَهُ النّاصِرُ في "الِانْتِصافِ": إنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ إنَّما كانَ لِاعْتِقادِهِمْ أنَّهم مَسْلُوبُونَ اخْتِيارَهم وقُدْرَتَهُمْ، وإنَّ إشْراكَهم إنَّما صَدَرَ مِنهم عَلى وجْهِ الِاضْطِرارِ، وزَعَمُوا أنَّهم يُقِيمُونَ الحُجَّةَ عَلى اللَّهِ ورُسُلِهِ بِذَلِكَ. فَرَدَّ اللَّهُ قَوْلَهم وكَذِبَهم في دَعْواهم - عَدَمَ الِاخْتِيارِ لِأنْفُسِهِمْ - وشَبَّهَهم بِمَنِ اغْتَرَّ قَبْلَهم بِهَذا الخَيالِ فَكَذَّبَ الرُّسُلَ. وأشْرَكَ بِاللَّهِ، واعْتَمَدَ عَلى أنَّهُ إنَّما يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، ورامَ إفْحامَ الرُّسُلِ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّهم لا حُجَّةَ لَهم في ذَلِكَ وأنَّ الحُجَّةَ البالِغَةَ لَهُ لا لَهُمْ، بِقَوْلِهِ: فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ. ثُمَّ أوْضَحَ تَعالى أنَّ كُلَّ واقِعٍ بِمَشِيئَتِهِ، وإنَّهُ لَمْ يَشَأْ مِنهم إلّا ما صَدَرَ عَنْهم. وأنَّهُ لَوْ شاءَ مِنهُمُ الهِدايَةَ لاهْتَدَوْا أجْمَعُونَ بِقَوْلِهِ: فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ: والمَقْصُودُ مِن ذَلِكَ: أنْ يَتَمَحَّضَ وجْهُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، ويَتَخَلَّصَ عَقِيدَةُ نُفُوذِ المَشِيئَةِ، وعُمُومُ تَعَلُّقِها بِكُلِّ كائِنٍ عَنِ الرَّدِّ؛ ويَنْصَرِفَ الرَّدُّ إلى دَعْواهم بِسَلْبِ الِاخْتِيارِ لِأنْفُسِهِمْ، وإلى إقامَتِهِمُ الحُجَّةَ بِذَلِكَ خاصَّةً. وإذا تَدَبَّرْتَ هَذِهِ وجَدْتَها كافِيَةً في الرَّدِّ عَلى مَن زَعَمَ مِن أهْلِ القِبْلَةِ أنَّ العَبْدَ لا اخْتِيارَ لَهُ ولا قُدْرَةَ البَتَّةَ. بَلْ هو مَجْبُورٌ عَلى أفْعالِهِ مَقْهُورٌ عَلَيْها. وهُمُ الفِرْقَةُ المَعْرُوفُونَ بِ (المُجْبِرَةِ). والزَّمَخْشَرِيُّ يُغالِطُ في الحَقائِقِ فَيُسَمِّي أهْلَ السُّنَّةِ مُجْبِرَةً وإنْ أثْبَتُوا لِلْعَبْدِ اخْتِيارًا وقُدْرَةً؛ لِأنَّهم يَسْلُبُونَ تَأْثِيرَ قُدْرَةِ العَبْدِ ويَجْعَلُونَها مُقارِنَةً لِأفْعالِهِ الِاخْتِيارِيَّةِ مُمَيِّزَةً بَيْنَها وبَيْنَ أفْعالِهِ القَسْرِيَّةِ. فَمِن هَذِهِ الجِهَةِ سَوّى بَيْنَهم وبَيْنَ المُجْبِرَةِ، ويَجْعَلُهُ لَقَبًا عامًّا لِأهْلِ السُّنَّةِ. وبِإجْماعِ الرَّدِّ عَلى المُجْبِرَةِ - الَّذِينَ مَيَّزْناهم عَنْ أهْلِ السُّنَّةِ - في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أشْرَكُوا﴾ [الأنعام: ١٤٨] - إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾ وتَتِمَّةُ الآيَةِ رَدٌّ صُراحٌ عَلى (طائِفَةِ الِاعْتِزالِ) القائِلِينَ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى شاءَ الهِدايَةَ مِنهم أجْمَعِينَ. فَلَمْ تَقَعْ مِن أكْثَرِهِمْ! ووَجْهُ الرَّدِّ: أنَّ (لَوْ) إذا دَخَلَتْ عَلى فِعْلٍ (p-٢٥٤٨)مُثْبَتٍ نَفَتْهُ؛ فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا قالَ: فَلَوْ شاءَ لَمْ يَكُنِ الواقِعُ أنَّهُ شاءَ هِدايَتَهم. ولَوْ شاءَها لَوَقَعَتْ. فَهَذا تَصْرِيحٌ بِبُطْلانِ زَعْمِهِمْ ومَحَلِّ عَقْدِهِمْ. فَإذا ثَبَتَ اشْتِمالُ الآيَةِ عَلى رَدِّ عَقِيدَةِ الطّائِفَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ - المُجْبِرَةِ في أوَّلِها والمُعْتَزِلَةِ في آخِرِها - فاعْلَمْ أنَّها جامِعَةٌ لِعَقِيدَةِ السُّنَّةِ مُنْطَبِقَةٌ عَلَيْها؛ فَإنَّ أوَّلَها - كَما بَيَّنّا - يُثْبِتُ لِلْعَبْدِ اخْتِيارًا وقُدْرَةً عَلى وجْهٍ يَقْطَعُ حَجَّتَهُ وعُذْرَهُ في المُخالَفَةِ والعِصْيانِ، وآخِرُها يُثْبِتُ نُفُوذَ اللَّهِ في العَبْدِ، وأنَّ جَمِيعَ أفْعالِهِ عَلى وفْقِ المَشِيئَةِ الإلَهِيَّةِ، خَيْرًا أوْ غَيْرَهُ. وذَلِكَ عَيْنُ عَقِيدَتَهُمْ؛ فَإنَّهم - كَما يُثْبِتُونَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةً وقُدْرَةً - يَسْلُبُونَ تَأْثِيرَها، ويَعْتَقِدُونَ أنَّ ثُبُوتَهُما قاطِعٌ لِحُجَّتِهِ، مُلْزِمٌ لَهُ بِالطّاعَةِ عَلى وفْقِ اخْتِيارِهِ. ويُثْبِتُونَ نُفُوذَ مَشِيئَةِ اللَّهِ أيْضًا وقُدْرَتِهِ في أفْعالِ عِبادِهِ. فَهم - كَما رَأيْتَ- تَبَعٌ لِلْكِتابِ العَزِيزِ: يُثْبِتُونَ ما أثْبَتَ، ويَنْفُونَ ما نَفى، مُؤَيَّدُونَ بِالعَقْلِ والنَّقْلِ. واللَّهُ المُوَفِّقُ. انْتَهى.
وقَدْ أخْرَجَ الحاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ ناسًا يَقُولُونَ: لَيْسَ الشَّرُّ بِقَدَرٍ. فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بَيْنَنا وبَيْنَ أهْلِ القَدَرِ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أشْرَكُوا﴾ [الأنعام: ١٤٨] - إلى قَوْلِهِ: ﴿فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ .
وبِتَحْقِيقِ هَذِهِ الوُجُوهِ يَسْقُطُ قَوْلُ الطَّبَرْسِيِّ المُعْتَزِلِيِّ: لَوْ كانَ الأمْرُ عَلى ما قالَهُ أهْلُ الجَبْرِ - مِن أنَّ اللَّهَ تَعالى شاءَ مِنهُمُ الكُفْرَ - لَكانَتِ الحُجَّةُ لِلْكُفّارِ عَلى اللَّهِ، مِن حَيْثُ فَعَلُوا ما شاءَ اللَّهُ، ولَكانُوا بِذَلِكَ مُطِيعِينَ لَهُ؛ لِأنَّ الطّاعَةَ هي امْتِثالُ الأمْرِ المُرادُ، ولا تَكُونُ الحُجَّةُ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ عَلى قَوْلِهِمْ، مِن حَيْثُ إنَّهُ خَلَقَ فِيهِمُ الكُفْرَ وأرادَ مِنهُمُ الكُفْرَ. فَأيُّ حُجَّةٍ لَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ ذَلِكَ؟ انْتَهى.
وكَذا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: ما حُكِيَ عَنِ المُشْرِكِينَ كَمَذْهَبِ المُجْبِرَةِ بِعَيْنِهِ. ولِذا قالَ النِّحْرِيرُ: نَعَمْ! هو كَمَذْهَبِهِمْ في كَوْنِ كُلِّ كائِنٍ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ. لَكِنَّ الكَفَرَةَ يَحْتَجُّونَ بِذَلِكَ عَلى حَقِّيَّةِ (p-٢٥٤٩)الإشْراكِ وتَحْرِيمِ الحَلالِ وسائِرِ ما يَرْتَكِبُونَ مِنَ القَبائِحِ. وكَوْنُها لَيْسَتْ بِمَعْصِيَةٍ لِكَوْنِها مُوافِقَةً لِلْمَشِيئَةِ الَّتِي تُساوِي مَعْنى الأمْرِ، عَلى ما هو مَذْهَبُ القَدَرِيَّةِ: مِن عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ المَأْمُورِ والمُرادِ، وأنَّ كُلَّ ما هو مُرادٌ لِلَّهِ فَهو لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ مَنهِيٍّ عَنْها. والمُجْبِرَةُ - اعْتَقَدُوا أنَّ الكُلَّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ - لَكِنَّهم يَعْتَقِدُونَ أنَّ الشِّرْكَ وجَمِيعَ القَبائِحِ مَعْصِيَةٌ ومُخالَفَةٌ لِلْأمْرِ يُلْحِقُها العَذابَ بِحُكْمِ الوَعِيدِ، ويَعْفُو عَنْ بَعْضِها بِحُكْمِ الوَعْدِ. فَهم - في ذَلِكَ - يُصَدِّقُونَ اللَّهَ فِيما دَلَّ عَلَيْهِ العَقْلُ والشَّرْعُ مِنَ امْتِناعِ أنْ يَكُونَ أكْثَرُ ما يَجْرِي في مُلْكِهِ عَلى خِلافِ ما يَشاءُ. والكَفَرَةُ يُكَذِّبُونَهُ في لُحُوقِ الوَعِيدِ عَلى ما هو بِمَشِيئَتِهِ تَعالى. انْتَهى.
فَصْلٌ
قالَ الإمامُ شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ القَيِّمِ الدِّمَشْقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتابِهِ: "طَرِيقُ الهِجْرَتَيْنِ" بَعْدَ أنْ أطالَ في سَرْدِ أحادِيثِ القَدَرِ وآثارِهِ، ما نَصُّهُ:
فالجَوابُ أنَّ هَهُنا مَقامَيْنِ: مَقامُ إيمانٍ وهُدًى ونَجاةٍ، ومَقامُ ضَلالٍ ورَدًى وهَلاكٍ، زَلَّتْ فِيهِ أقْدامٌ فَهَوَتْ بِأصْحابِها إلى دارِ الشَّقاءِ.
فَأمّا مَقامُ الإيمانِ والهُدى والنَّجاةِ، فَمَقامُ إثْباتِ القَدَرِ والإيمانِ بِهِ، وإسْنادِ جَمِيعِ الكائِناتِ إلى مَشِيئَةِ رَبِّها وبارِئِها وفاطِرِها، وأنَّ ما شاءَ كانَ وإنْ لَمْ يَشَأِ النّاسُ. وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وإنْ شاءَ النّاسُ. وهَذِهِ الآثارُ - الَّتِي كُلُّها تُحَقِّقُ هَذا المَقامَ - تُبَيِّنَ أنَّ مَن لَمْ يُؤْمِن بِالقَدَرِ فَقَدِ انْسَلَخَ مِنَ التَّوْحِيدِ، ولَبِسَ جِلْبابَ الشِّرْكِ، بَلْ لَمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ ولَمْ يَعْرِفْهُ. وهَذا في كُلِّ كِتابٍ أنْزَلَهُ اللَّهُ عَلى رُسُلِهِ.
وأمّا المَقامُ الثّانِي وهو مَقامُ الضَّلالِ والرَّدى والهَلاكِ فَهو الِاحْتِجاجُ بِهِ عَلى اللَّهِ، وحَمْلُ العَبْدِ ذَنْبَهُ عَلى رَبِّهِ، وتَنْزِيهُ نَفْسِهِ الجاهِلَةِ الظّالِمَةِ الأمّارَةِ بِالسُّوءِ، حَتّى يَقُولَ قائِلُ هَؤُلاءِ:
؎ألْقاهُ في اليَمِّ مَكْتُوفًا وقالَ لَهُ: إيّاكَ! إيّاكَ! أنْ تَبْتَلَّ بِالماءِ
(p-٢٥٥٠)ويَقُولُ قائِلُهُمْ:
؎دَعانِي وسَدَّ البابَ دُونِي. فَهَلْ إلى ∗∗∗ دُخُولِي سَبِيلٌ؟ بَيِّنُوا لِي قِصَّتِي
ثُمَّ ساقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قِصَصًا غَرِيبَةً في ذَلِكَ، ثُمَّ قالَ:
وسَمِعْتُهُ - يَعْنِي شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - يَقُولُ:
القَدَرِيَّةُ المَذْمُومُونَ في السُّنَّةِ وعَلى لِسانِ السَّلَفِ هم هَؤُلاءِ الفِرَقُ الثَّلاثَةُ: نُفاةُ القَدَرِ وهم (القَدَرِيَّةُ المَجُوسِيَّةُ). والمُعارِضُونَ بِهِ لِلشَّرِيعَةِ الَّذِينَ قالُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا وهُمُ (القَدَرِيَّةُ المُشْرِكِيَّةُ). والمُخاصِمُونَ بِهِ لِلرَّبِّ سُبْحانَهُ وتَعالى وهم أعْداءُ اللَّهِ وخُصُومُهُ وهم (القَدَرِيَّةُ الإبْلِيسِيَّةُ) وشَيْخُهم إبْلِيسُ. وهو أوَّلُ مَنِ احْتَجَّ عَلى اللَّهِ بِالقَدَرِ فَقالَ: فَبِما أغْوَيْتَنِي. ولَمْ يَعْتَرِفْ بِالذَّنْبِ ويَبُؤْ بِهِ كَما اعْتَرَفَ بِهِ آدَمُ. فَمَن أقَرَّ بِالذَّنْبِ وباءَ بِهِ ونَزَّهَ رَبَّهُ فَقَدْ أشْبَهَ أباهُ آدَمَ، ومَن أشْبَهَ أباهُ فَما ظَلَمَ. ومَن بَرَّأ نَفْسَهُ واحْتَجَّ عَلى رَبِّهِ بِالقَدَرِ فَقَدْ أشْبَهَ إبْلِيسَ. ولا رَيْبَ أنَّ هَؤُلاءِ القَدَرِيَّةَ الإبْلِيسِيَّةَ والمُشْرِكِيَّةَ شَرٌّ مِنَ القَدَرِيَّةِ النُّفاةِ؛ لِأنَّ النُّفاةَ إنَّما نَفَوْهُ تَنْزِيهًا لِلرَّبِّ وتَعْظِيمًا لَهُ أنْ يُقَدِّرَ الذَّنْبَ ثُمَّ يَلُومُ عَلَيْهِ ويُعاقِبُ. ونَزَّهُوهُ أنْ يُعاقِبَ العَبْدَ عَلى ما لا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ البَتَّةَ. بَلْ هو بِمَنزِلَةِ طُولِهِ وقِصَرِهِ وسَوادِهِ وبَياضِهِ. ونَحْوِ ذَلِكَ. كَما يُحْكى عَنْ بَعْضِ الجَبْرِيَّةِ إنَّهُ حَضَرَ مَجْلِسَ بَعْضِ الوُلاةِ. فَأتى بِطَرّارٍ (وهُوَ الَّذِي يَقْطَعُ الهَمايِينَ أوِ الأكْمامَ ويَسْتَلُّ ما فِيها). أحْوَلَ. فَقالَ لَهُ الوالِي: ما تَرى فِيهِ؟ فَقالَ: اضْرِبْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ - يَعْنِي سَوْطًا - فَقالَ لَهُ بَعْضُ الحاضِرِينَ - مِمَّنْ يَنْفِي الجَبْرَ - بَلْ يَنْبَغِي أنْ يُضْرَبَ ثَلاثِينَ سَوْطًا: خَمْسَةَ عَشَرَ لِطُرِّهِ ومِثْلَها لِحَوَلِهِ. فَقالَ الجَبْرِيُّ: كَيْفَ يُضْرَبُ عَلى الحَوَلِ ولا صُنْعَ لَهُ فِيهِ؟ فَقالَ: كَما يُضْرَبُ عَلى الطُّرِّ ولا صُنْعَ لَهُ فِيهِ عِنْدَكَ.. فَبُهِتَ الجَبْرِيُّ.
(p-٢٥٥١)وأمّا (القَدَرِيَّةُ الإبْلِيسِيَّةُ والمُشْرِكِيَّةُ) فَكَثِيرٌ مِنهم مُنْسَلِخٌ عَنِ الشَّرْعِ، عَدُوٌّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ، لا يُقِرُّ بِأمْرٍ ولا نَهْيٍ، وتِلْكَ وِراثَةٌ عَنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ قالَ اللَّهُ فِيهِمْ: سَيَقُولُ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن شَيْءٍ، وقالَ تَعالى: ﴿وقالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَحْنُ ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلى الرُّسُلِ إلا البَلاغُ المُبِينُ﴾ [النحل: ٣٥] وقالَ تَعالى: ﴿وقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمَنُ ما عَبَدْناهم ما لَهم بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ إنْ هم إلا يَخْرُصُونَ﴾ [الزخرف: ٢٠] وقالَ: ﴿وإذا قِيلَ لَهم أنْفِقُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أنُطْعِمُ مَن لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أطْعَمَهُ إنْ أنْتُمْ إلا في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [يس: ٤٧] فَهَذِهِ أرْبَعَةُ مَواضِعَ في القُرْآنِ بَيَّنَ سُبْحانَهُ فِيها أنَّ الِاحْتِجاجَ بِالقَدَرِ مِن فِعْلِ المُشْرِكِينَ المُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ.
وقَدْ افْتَرَقَ النّاسُ في الكَلامِ عَلى هَذِهِ الآياتِ أرْبَعَ فِرَقٍ:
الفِرْقَةُ الأُولى: جَعَلَتْ هَذِهِ الحُجَّةَ حُجَّةً صَحِيحَةً، وأنَّ لِلْمُحْتَجِّ بِها الحُجَّةُ عَلى اللَّهِ. ثُمَّ افْتَرَقَ هَؤُلاءِ فِرْقَتَيْنِ: (فِرْقَةٌ) كَذَّبَتْ بِالأمْرِ والوَعْدِ والوَعِيدِ، وزَعَمَتْ أنَّ الأمْرَ والنَّهْيَ والوَعْدَ والوَعِيدَ، بَعْدَ هَذا، يَكُونُ ظُلْمًا، واللَّهُ لا يَظْلِمُ مِن خَلْقِهِ أحَدًا! و(فِرْقَةٌ) صَدَّقَتْ بِالأمْرِ والنَّهْيِ والوَعْدِ والوَعِيدِ وقالَتْ: لَيْسَ ذَلِكَ بِظُلْمٍ. واللَّهُ يَتَصَرَّفُ في مُلْكِهِ كَيْفَ يَشاءُ ويُعَذِّبُ العَبْدَ عَلى ما لا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، بَلْ يُعَذِّبُهُ عَلى فِعْلِهِ هو سُبْحانَهُ لا عَلى فِعْلِ عَبْدِهِ. إذِ العَبْدُ فِعْلٌ لَهُ، والمُلْكُ مُلْكُهُ ولا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وهم يُسْألُونَ. فَإنَّ هَؤُلاءِ الكُفّارَ إنَّما قالُوا (p-٢٥٥٢)هَذِهِ المَقالَةَ - الَّتِي حَكاها اللَّهُ عَنْهم - اسْتِهْزاءً مِنهُمْ، ولَوْ قالُوا - اعْتِقادًا لِلْقَضاءِ والقَدَرِ، وإسْنادًا لِجَمِيعِ الكائِناتِ إلى مَشِيئَتِهِ وقُدْرَتِهِ - لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ. ومَضْمُونُ قَوْلِ هَذِهِ الفِرْقَةِ إنَّ هَذِهِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ إذا قالُوها عَلى وجْهِ الِاعْتِقادِ - لا عَلى جِهَةِ الِاسْتِهْزاءِ - فَيَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَلى اللَّهِ الحُجَّةُ، وكَفى بِهَذا القَوْلِ فَسادًا وبُطْلانًا.
الفِرْقَةُ الثّانِيَةُ: جَعَلَتْ هَذِهِ الآياتِ حُجَّةً لَها في إبْطالِ القَضاءِ والقَدَرِ والمَشِيئَةِ العامَّةِ؛ إذْ لَوْ صَحَّتِ المَشِيئَةُ العامَّةُ - وكانَ اللَّهُ قَدْ شاءَ مِنهُمُ الشِّرْكَ والكُفْرَ وعِبادَةَ الأوْثانِ - لَكانُوا قَدْ قالُوا الحَقَّ، وكانَ اللَّهُ يُصَدِّقُهم عَلَيْهِ ولَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ. فَحَيْثُ وصَفَهُ بِالخَرْصِ - الَّذِي هو الكَذِبُ - ونَفى عَنْهُمُ العِلْمَ، دَلَّ عَلى أنَّ هَذا الَّذِي قالُوهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وأنَّهم كاذِبُونَ فِيهِ؛ إذْ لَوْ كانَ عِلْمًا لَكانُوا صادِقِينَ في الإخْبارِ بِهِ، ولَمْ يَقُلْ لَهُمْ: هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ.
وجَعَلَتْ هَذِهِ الفُرْقَةُ هَذِهِ الآياتِ حُجَّةً لَها عَلى التَّكْذِيبِ بِالقَضاءِ والقَدَرِ، وزَعَمَتْ بِها أنْ يَكُونَ في مُلْكِهِ ما لا يَشاءُ، ويَشاءُ ما لا يَكُونُ، وإنَّهُ لا قُدْرَةَ لَهُ عَلى أفْعالِ عِبادِهِ مِنَ الإنْسِ والجِنِّ والمَلائِكَةِ، ولا عَلى أفْعالِ الحَيَواناتِ. وإنَّهُ لا يَقْدِرُ أنْ يُضِلَّ أحَدًا، ولا يَهْدِيَهُ، ولا يُوافِقَهُ أكْثَرَ مِمّا فَعَلَ بِهِ، ولا يَعْصِمُهُ مِنَ الذُّنُوبِ والكُفْرِ، ولا يُلْهِمُهُ رُشْدَهُ، ولا يَجْعَلُ في قَلْبِهِ الإيمانَ، ولا هو الَّذِي جَعَلَ المُصَلِّيَ مُصَلِّيًا والبَرَّ بَرًّا والفاجِرَ فاجِرًا والمُؤْمِنَ مُؤْمِنًا والكافِرَ كافِرًا. بَلْ هم جَعَلُوا أنْفُسَهم كَذَلِكَ.
فَهَذِهِ الفِرْقَةُ شارَكَتِ الفِرْقَةَ الَّتِي قَبْلَها في إلْقاءِ الحَرْبِ والعَداوَةِ بَيْنَ الشَّرْعِ والقَدَرِ. فالأُولى تَحَيَّزَتْ إلى القَدَرِ وحارَبَتِ الشَّرْعَ. والثّانِيَةُ تَحَيَّزَتْ إلى الشَّرْعِ، وكَذَّبَتِ القَدَرَ. والطّائِفَتانِ ضالَّتانِ، وإحْداهُما أضَلُّ مِنَ الأُخْرى.
و(الفِرْقَةُ الثّالِثَةُ): آمَنَتْ بِالقَضاءِ والقَدَرِ وأقَرَّتْ بِالأمْرِ والنَّهْيِ. ونَزَّلُوا كُلَّ واحِدٍ مَنزِلَهُ: فالقَضاءُ والقَدَرُ يُؤْمَنُ بِهِ ولا يُحْتَجُّ بِهِ، والأمْرُ والنَّهْيُ يُمْتَثَلُ ويُطاعُ. فالإيمانُ بِالقَضاءِ والقَدَرِ - عِنْدَهم - مِن تَمامِ التَّوْحِيدِ وشَهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. والقِيامُ بِالأمْرِ (p-٢٥٥٣)والنَّهْيِ مُوجَبُ شَهادَةِ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وقالُوا: مَن لَمْ يُقِرَّ بِالقَضاءِ والقَدَرِ، ويَقُمْ بِالأمْرِ والنَّهْيِ فَقَدْ كَذَّبَ بِالشَّهادَتَيْنِ وإنْ نَطَقَ بِهِما بِلِسانِهِ. ثُمَّ افْتَرَقُوا في وجْهِ هَذِهِ الآياتِ فِرْقَتَيْنِ: (فِرْقَةٌ) قالَتْ: إنَّما أُنْكِرَ عَلَيْهِمُ اسْتِدْلالُهم بِالمَشِيئَةِ العامَّةِ والقَضاءِ والقَدَرِ عَلى رِضاهُ ومَحَبَّتِهِ لِذَلِكَ. فَجَعَلُوا مَشِيئَتَهُ لَهُ وتَقْدِيرَهُ لَهُ، دَلِيلًا عَلى رِضاهُ بِهِ ومَحَبَّتِهِ لَهُ؛ إذْ لَوْ كَرِهَهُ وأبْغَضَهُ لَحالَ بَيْنَهُ وبَيْنَهم. فَإنَّ الحَكِيمَ إذا كانَ قادِرًا عَلى دَفْعِ ما يَكْرَهُهُ ويَبْغَضُهُ. دَفَعَهُ ومَنَعَ مِن وُقُوعِهِ. وإذا لَمْ يَمْنَعْ مِن وُقُوعِهِ، لَزِمَ إمّا عَدَمُ قُدْرَتِهِ وإمّا عَدَمُ حِكْمَتِهِ. وكِلاهُما مُمْتَنِعٌ في حَقِّ اللَّهِ. فَعُلِمَ مَحَبَّتُهُ لِما نَحْنُ عَلَيْهِ مِن عِبادَةِ غَيْرِهِ ومِنَ الشِّرْكِ بِهِ.
وقَدْ وافَقَ هَؤُلاءِ مَن قالَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ ويَرْضى بِها. ولَكِنْ خالَفَهم في أنَّهُ نَهى عَنْها وأمَرَ بِأضْدادِها ويُعاقِبُ عَلَيْها، فَوافَقَهم في نِصْفِ قَوْلِهِمْ وخالَفَهم في الشَّطْرِ الآخَرِ.
وهَذِهِ الآياتُ مِن أكْبَرِ الحُجَجِ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ الطّائِفَتَيْنِ، وإنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعالى وقَضاءَهُ وقَدَرَهُ لا تَسْتَلْزِمُ مَحَبَّتَهُ ورِضاهُ لِكُلِّ ما شاءَهُ وقَدَّرَهُ.
وهَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ - لَمّا اسْتَدَلُّوا بِمَشِيئَتِهِ عَلى مَحَبَّتِهِ ورِضاهُ - كَذَّبَهم وأنْكَرَ عَلَيْهِمْ، وأخْبَرَ أنَّهُ لا عِلْمَ لَهم بِذَلِكَ، وأنَّهم خارِصُونَ مُفْتَرُونَ. فَإنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِلشَّيْءِ ورِضاهُ بِهِ، إنَّما يُعْلَمُ بِأمْرِهِ بِهِ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ، لا بِمُجَرَّدِ خَلْقِهِ. فَإنَّهُ خَلَقَ إبْلِيسَ وجُنُودَهُ - وهم أعْداؤُهُ - وهو سُبْحانُهُ يُبْغِضُهم ويَلْعَنُهم وهم خَلْقُهُ. فَهَكَذا في الأفْعالِ. خَلْقَ خَيْرَها وشَرَّها وهو يُحِبُّ خَيْرَها ويَأْمُرُ بِهِ ويُثِيبُ عَلَيْهِ. ويَبْغَضُ شَرَّها ويَنْهى عَنْهُ ويُعاقِبُ عَلَيْهِ. وكِلاهُما خَلْقُهُ. ولِلَّهِ الحِكْمَةُ البالِغَةُ التّامَّةُ في خَلْقِهِ ما يَبْغَضُهُ ويَكْرَهُهُ، مِنَ الذَّواتِ والصِّفاتِ والأفْعالِ، كُلٌّ صادِرٌ عَنْ حِكْمَتِهِ وعِلْمِهِ، كَما هو صادِرٌ عَنْ قُدْرَتِهِ ومَشِيئَتِهِ.
وقالَتِ الفِرْقَةُ الثّانِيَةُ: إنَّما أنْكَرَ عَلَيْهِمْ مُعارَضَةَ الشَّرْعِ بِالقَدَرِ، ودَفْعَ الأمْرِ بِالمَشِيئَةِ. فَلَمّا قامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّةُ اللَّهِ ولَزِمَهم أمْرُهُ ونَهْيُهُ دَفَعُوهُ بِقَضائِهِ وقَدَرِهِ. فَجَعَلُوا القَضاءَ والقَدَرَ (p-٢٥٥٤)إبْطالًا لِدَعْوَةِ الرُّسُلِ، ودَفْعًا لِما جاءُوا بِهِ. وشارَكَهم في ذَلِكَ إخْوانُهم وذُرِّيَّتُهُمُ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِالقَضاءِ والقَدَرِ عَلى المَعاصِي والذُّنُوبِ في نِصْفِ أقَوْلِهِمْ، وخالَفُوهم في النِّصْفِ الآخَرِ وهو إقْرارُهم بِالأمْرِ والنَّهْيِ.
فانْظُرْ كَيْفَ انْقَسَمَتْ هَذِهِ المَوارِيثُ عَلى هَذِهِ السِّهامِ، ووَرِثَ كُلُّ قَوْمٍ أئِمَّتَهم وأسْلافَهُمْ، إمّا في جَمِيعِ تَرِكَتِهِمْ، وإمّا في كَثِيرٍ مِنها، وإمّا في جُزْءٍ مِنها. وهَدى اللَّهُ بِفَضْلِهِ ورَثَةَ أنْبِيائِهِ ورُسُلِهِ لِمِيراثِ نَبِيِّهِمْ وأصْحابِهِ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِبَعْضِ الكِتابِ ويَكْفُرُوا بِبَعْضٍ، بَلْ آمَنُوا بِقَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ ومَشِيئَتِهِ العامَّةِ النّافِذَةِ، وأنَّهُ ما شاءَ اللَّهُ كانَ وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وأنَّهُ مُقَلِّبُ القُلُوبِ ومُصَرِّفُها كَيْفَ أرادَ، وأنَّهُ هو الَّذِي جَعَلَ المُؤْمِنَ مُؤْمِنًا والمُصَلِّيَ مُصَلِّيًا والمُتَّقِيَ مُتَّقِيًا، وجَعَلَ أئِمَّةَ الهُدى يَهْدُونَ بِأمْرِهِ، وأئِمَّةَ الضَّلالَةِ يَدْعُونَ إلى النّارِ، وأنَّهُ ألْهَمَ كُلَّ نَفْسٍ فُجُورَها وتَقْواها، وأنَّهُ يَهْدِي مَن يَشاءُ بِعَدْلِهِ وحِكْمَتِهِ، وأنَّهُ هو الَّذِي وفَّقَ أهْلَ الطّاعَةِ لِطاعَتِهِ فَأطاعُوهُ ولَوْ شاءَ لَخَذَلَهم فَعَصَوْهُ، وأنَّهُ حالَ بَيْنَ الكُفّارِ وقُلُوبِهِمْ - فَإنَّهُ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ - فَكَفَرُوا بِهِ. ولَوْ شاءَ لَوَفَّقَهم فَآمَنُوا بِهِ وأطاعُوهُ، وأنَّهُ مَن يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأنَّهُ لَوْ شاءَ ما اقْتَتَلُوا ولَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ولَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهم وما يَفْتَرُونَ.
و(القَضاءُ والقَدَرُ) عِنْدَهم أرْبَعُ مَراتِبَ جاءَ بِها نَبِيُّهم وأخْبَرَ بِها عَنْ رَبِّهِ تَعالى:
الأُولى: عِلْمُهُ السّابِقُ بِما هم عامِلُوهُ قَبْلَ إيجادِهِمْ.
الثّانِيَةُ: كِتابَةُ ذَلِكَ في الذِّكْرِ عِنْدَهُ قَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ.
الثّالِثَةُ: مَشِيئَتُهُ المُتَناوِلَةُ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، فَلا خُرُوجَ لِكائِنٍ عَنْ مَشِيئَتِهِ، كَما لا خُرُوجَ لَهُ عَنْ عِلْمِهِ.
الرّابِعَةُ: خَلْقُهُ لَهُ وإيجادُهُ وتَكْوِينُهُ، فَإنَّهُ لا خالِقَ إلّا اللَّهُ، واللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. (p-٢٥٥٥)فالخالِقُ - عِنْدَهم - واحِدٌ وما سِواهُ فَمَخْلُوقٌ. ولا واسِطَةَ - عِنْدَهم - بَيْنَ الخالِقِ والمَخْلُوقِ. ويُؤْمِنُونَ - مَعَ ذَلِكَ - بِحِكْمَتِهِ، وأنَّهُ حَكِيمٌ في كُلِّ ما فَعَلَهُ وخَلَقَهُ. وأنَّ مَصْدَرَ ذَلِكَ جَمِيعِهِ عَنْ حِكْمَةٍ تامَّةٍ هي الَّتِي اقْتَضَتْ صُدُورَ ذَلِكَ وخَلْقَهُ. وأنَّ حِكْمَتَهُ حِكْمَةُ حَقٍّ عائِدَةٌ إلَيْهِ قائِمَةٌ بِهِ كَسائِرِ صِفاتِهِ، ولَيْسَتْ عِبارَةً عَنْ مُطابَقَةِ عِلْمِهِ لِمَعْلُومِهِ وقُدْرَتِهِ لِمَقْدُورِهِ - كَما تَقُولُهُ نُفاةُ الحِكْمَةِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِلَفْظِها دُونَ حَقِيقَتِها - بَلْ هي أمْرٌ وراءَ ذَلِكَ، هي الغايَةُ المَحْبُوبَةُ لَهُ المَطْلُوبَةُ الَّتِي هي مُتَعَلِّقُ مَحَبَّتِهِ وحَمْدِهِ ولِأجْلِها خَلَقَ فَسَوّى وقَدَّرَ فَهَدى، وأماتَ وأحْيا، وأشْقى وأضَلَّ وهَدى، ومَنَعَ وأعْطى. وهَذِهِ الحِكْمَةُ هي الغايَةُ والفِعْلُ وسِيلَةٌ إلَيْها، فَإثْباتُ الفِعْلِ مَعَ نَفْيِها إثْباتٌ لِلْوَسائِلِ ونَفْيٌ لِلْغاياتِ، وهو مُحالٌ، إذْ نَفْيُ الغايَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ الوَسِيلَةِ. فَنَفْيُ الوَسِيلَةِ - وهي الفِعْلُ - لازِمٌ لِنَفْيِ الغايَةِ وهي الحِكْمَةُ. ونَفْيُ قِيامِ الفِعْلِ والحِكْمَةِ بِهِ نَفْيٌ لَهُما في الحَقِيقَةِ؛ إذْ فِعْلٌ لا يَقُومُ بِفاعِلِهِ، وحِكْمَةٌ لا تَقُومُ بِالحَكِيمِ - شَيْءٌ لا يُعْقَلُ. وذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ إنْكارَ رُبُوبِيَّتِهِ وإلَهِيَّتَهُ. وهَذا لازِمٌ لِمَن نَفى ذَلِكَ ولا مَحِيدَ لَهُ عَنْهُ، وإنْ أبى التِزامَهُ. وأمّا مَن أثْبَتَ حِكْمَتَهُ وأفْعالَهُ عَلى الوَجْهِ المُطابِقِ لِلْعَقْلِ والفِطْرَةِ وما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، لَمْ يَلْزَمْ مِن قَوْلِهِ مَحْذُورٌ البَتَّةَ، بَلْ قَوْلُهُ حَقٌّ، ولازِمُ الحَقِّ حَقٌّ، كائِنًا ما كانَ. والمَقْصُودُ: أنَّ ورَثَةَ الرُّسُلِ وخُلَفاءَهم - لِكَمالِ مِيراثِهِمْ لِنَبِيِّهِمْ - آمَنُوا بِالقَضاءِ والقَدَرِ والحِكَمِ والغاياتِ المَحْدُودَةِ في أفْعالِ الرَّبِّ وأوامِرِهِ، وقامُوا - مَعَ ذَلِكَ بِالأمْرِ والنَّهْيِ، وصَدَّقُوا بِالوَعْدِ: فَآمَنُوا بِالخَلْقِ الَّذِي مِن تَمامِ الإيمانِ بِهِ إثْباتُ القَدَرِ والحِكْمَةِ. وبِالأمْرِ الَّذِي مِن تَمامِ الإيمانِ بِهِ الإيمانُ بِالوَعْدِ والوَعِيدِ وحَشْرِ الأجْسادِ والثَّوابِ والعِقابِ؛ فَصَدَّقُوا بِالخَلْقِ والأمْرِ ولَمْ يَنْفُوهُما بِنَفْيِ لَوازِمِهِما - كَما فَعَلَتِ القَدَرِيَّةُ المَجُوسِيَّةُ والقَدَرِيَّةُ المُعارِضَةُ لِلْأمْرِ بِالقَدَرِ - وكانُوا أسْعَدَ النّاسِ بِالخَلْقِ وأقْرَبَهم عُصْبَةً في هَذا المِيراثِ النَّبَوِيِّ، و: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ.
واعْلَمْ أنَّ الإيمانَ بِحَقِيقَةِ القَدَرِ والشَّرْعِ والحِكْمَةِ، لا يَجْتَمِعُ إلّا في قُلُوبِ خَواصِّ الخَلْقِ (p-٢٥٥٦)ولُبِّ العالِمِ، ولَيْسَ الشَّأْنُ في الإيمانِ بِألْفاظِ هَذِهِ المُسَمَّياتِ وجَحْدِ حَقائِقَها كَما يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِن طَوائِفِ الضُّلّالِ؛ فَإنَّ القَدَرِيَّةَ تُؤْمِنُ بِلَفْظِ (القَدَرِ)، ومِنهم مَن يَرُدُّهُ إلى العِلْمِ، ومِنهم مَن يَرُدُّهُ إلى الأمْرِ الدِّينِيِّ ويَجْعَلُ قَضاءَهُ وقَدَرَهُ هو نَفْسُ أمْرِهِ ونَهْيِهِ ونَفْسُ مَشِيئَةِ اللَّهِ لِأفْعالِ عِبادِهِ بِأمْرِهِ لَهم بِها، وهَذا حَقِيقَةُ إنْكارِ القَضاءِ والقَدَرِ. وكَذَلِكَ (الحِكْمَةُ) فَإنَّ الجَبْرِيَّةَ تُؤْمِنُ بِلَفْظِها ويَجْحَدُونَ حَقِيقَتَها، فَإنَّهم يَجْعَلُونَها مُطابَقَةَ عِلْمِهِ تَعالى لِمَعْلُومِهِ تَعالى وإرادَتِهِ لِمُرادِهِ تَعالى، فَهي - عِنْدَهم - وُقُوعُ الكائِناتِ عَلى وفْقِ عِلْمِهِ وإرادَتِهِ. والقَدَرِيَّةُ النُّفاةُ لا يَرْضَوْنَ بِهَذا، بَلْ يَرْتَفِعُونَ عَنْهُ طَبَقَةً، ويُثْبِتُونَ حِكْمَةً زائِدَةً عَلى ذَلِكَ، لَكِنَّهم يَنْفُونَ قِيامَها بِالفاعِلِ الحَكِيمِ، ويَجْعَلُونَها مَخْلُوقًا مِن مَخْلُوقاتِهِ، كَما قالُوا في كَلامِهِ وإرادَتِهِ. فَهَؤُلاءِ كُلُّهم أقَرُّوا بِلَفْظِ (الحِكْمَةِ) وجَحَدُوا مَعْناها وحَقِيقَتَها. وكَذَلِكَ (الأمْرُ) و(الشَّرْعُ) فَإنَّ مَن أنْكَرَ كَلامَ اللَّهِ وقالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ ولا يَتَكَلَّمُ، ولا قالَ ولا يَقُولُ، ولا يُحِبُّ شَيْئًا ولا يُبْغِضُ شَيْئًا، وجَمِيعُ الكائِناتِ مَحْبُوبَةٌ لَهُ، وما لَمْ يَكُنْ فَهو مَكْرُوهٌ لَهُ، ولا يُحِبُّ ولا يَرْضى ولا يَغْضَبُ ولا فَرْقَ في نَفْسِ الأمْرِ بَيْنَ الصِّدْقِ والكَذِبِ والفُجُورِ والسُّجُودِ لِلْأصْنامِ والشَّمْسِ والقَمَرِ. ولا رَيْبَ أنَّ هَذا يَرْفَعُ الشَّرائِعَ والأمْرَ والنَّهْيَ بِالكُلِّيَّةِ. ولَوْلا تَناقُضُ القائِلِينَ بِهِ لَكانُوا مُنْسَلِخِينَ مِن دِينِ الرُّسُلِ، ولَكِنْ مَشى الحالُ بَعْضَ الشَّيْءِ بِتَناقُضِهِمْ، وهو خَيْرٌ لَهم مِن طَرْدِ أُصُولِهِمْ والقَوْلِ بِمُوجِبِها.
والمَقْصُودُ: أنَّهُ لَمْ يُؤْمِن بِالقَضاءِ والقَدَرِ والحِكْمَةِ والأمْرِ والنَّهْيِ والوَعْدِ والوَعِيدِ، حَقِيقَةَ الإيمانِ، إلّا أتْباعُ الرُّسُلِ ووَرَثَتُهم.
والقَضاءُ والقَدَرُ مَنشَؤُهُ عَنْ عِلْمِ الرَّبِّ وقُدْرَتِهِ. ولِهَذا قالَ الإمامُ أحْمَدُ: القَدَرُ قُدْرَةُ اللَّهِ. واسْتَحْسَنَ ابْنُ عَقِيلٍ هَذا الكَلامَ مِن أحْمَدَ غايَةَ الِاسْتِحْسانِ وقالَ: إنَّهُ شَفى بِهَذِهِ الكَلِمَةِ وأفْصَحَ بِها عَنْ حَقِيقَةِ القَدَرِ.
ولِهَذا، كانَ المُنْكِرُونَ لِلْقَدَرِ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ كَذَّبَتْ بِالعِلْمِ السّابِقِ ونَفَتْهُ، وهم غَلّاتُهُمُ (p-٢٥٥٧)الَّذِينَ كَفَّرَهُمُ السَّلَفُ والأئِمَّةُ وتَبَرَّأ مِنهُمُ الصَّحابَةُ. وفِرْقَةٌ جَحَدَتْ كَمالَ القُدْرَةِ، وأنْكَرَتْ أنْ تَكُونَ أفْعالُ العِبادِ مَقْدُورَةً لِلَّهِ تَعالى، وصَرَّحَتْ بِأنَّ اللَّهَ لا يَقْدِرُ عَلَيْها. فَأنْكَرَ هَؤُلاءِ قُدْرَةَ الرَّبِّ، وأنْكَرَتِ الأُخْرى كَمالَ عِلْمِهِ. وقابَلَهُمُ الجَبْرِيَّةُ: فَجاءَتْ عَلى إثْباتِ القُدْرَةِ والعِلْمِ، وأنْكَرَتِ الحِكْمَةَ والرَّحْمَةَ.
ولِهَذا، كانَ مَصْدَرُ الخَلْقِ والأمْرِ والقَضاءِ والشَّرْعِ عَنْ عِلْمِ الرَّبِّ وعِزَّتِهِ وحَكَمْتِهِ. ولِهَذا يَقْرِنُ تَعالى بَيْنَ الِاسْمَيْنِ والصِّفَتَيْنِ مِن هَذِهِ الثَّلاثَةِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ: ﴿وإنَّكَ لَتُلَقّى القُرْآنَ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ [النمل: ٦] وقالَ: ﴿تَنْـزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ [غافر: ٢] وقالَ: ﴿حم﴾ [الجاثية: ١] ﴿تَنْـزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ [الجاثية: ٢] وقالَ في (حم فُصِّلَتْ، بَعْدَ ذِكْرِ تَخْلِيقِ العالَمِ): ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ، وذَكَرَ نَظِيرَ هَذا في (الأنْعامِ) فَقالَ: ﴿فالِقُ الإصْباحِ وجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا والشَّمْسَ والقَمَرَ حُسْبانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ [الأنعام: ٩٦] فارْتِباطُ الخَلْقِ بِقُدْرَتِهِ التّامَّةِ يَقْتَضِي أنْ لا يَخْرُجَ مَوْجُودٌ عَنْ قُدْرَتِهِ. وارْتِباطُهُ بِعِلْمِهِ التّامِّ يَقْتَضِي إحاطَتَهُ بِهِ وتَقَدُّمَهُ عَلَيْهِ. وارْتِباطُهُ بِحِكْمَتِهِ يَقْتَضِي وُقُوعَهُ عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ وأحْسَنِها، واشْتِمالَهُ عَلى الغايَةِ المَحْمُودَةِ المَطْلُوبَةِ لِلرَّبِّ سُبْحانَهُ. وكَذَلِكَ أمْرُهُ بِعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ وعِزَّتِهِ، فَهو عَلِيمٌ بِخَلْقِهِ وأمْرِهِ، حَكِيمٌ في خَلْقِهِ وأمْرِهِ. ولِهَذا كانَ (الحَكِيمُ) مِن أسْمائِهِ الحُسْنى. فالحِكْمَةُ مِن صِفاتِهِ العُلى، والشَّرِيعَةُ الصّادِرَةُ عَنْ أمْرِهِ مَبْناها عَلى الحِكْمَةِ، والرَّسُولُ (p-٢٥٥٨)المَبْعُوثُ بِها مَبْعُوثٌ بِها مَبْعُوثٌ بِالكِتابِ والحِكْمَةِ. والحِكْمَةُ هي سُنَّةُ الرَّسُولِ، وهي تَتَضَمَّنُ العِلْمَ بِالحَقِّ والعَمَلَ بِهِ والخَبَرِ عَنْهُ والأمْرَ بِهِ. فَكُلُّ هَذا يُسَمّى حِكْمَةً. وفي الأثَرِ: الحِكْمَةُ ضالَّةُ المُؤْمِنِ. وفي الحَدِيثِ: ««إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً»» . فَكَما لا يَخْرُجُ مَقْدُورٌ عَنْ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ ومَشِيئَتِهِ، فَهَكَذا لا يَخْرُجُ عَنْ حِكْمَتِهِ وحَمْدِهِ. وهو مَحْمُودٌ عَلى جَمِيعِ ما في الكَوْنِ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ حَمْدًا اسْتَحَقَّهُ لِذاتِهِ، وصَدَرَ عَنْهُ خَلْقُهُ وأمْرُهُ. فَمَصْدَرُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَنِ الحِكْمَةِ فَإنْكارُ الحِكْمَةِ إنْكارٌ لِحَمْدِهِ في الحَقِيقَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ. انْتَهى.
وقالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، في خِلالِ بَعْضِ فَتاوِيهِ، في حَقِيقَةِ الِاحْتِجاجِ بِالقَضاءِ والقَدَرِ، ما نَصُّهُ:
وإنَّ هَؤُلاءِ القَدَرِيَّةَ الجَبْرِيَّةَ الجَهْمِيَّةَ أهْلَ الفَناءِ في تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ. حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ مِن جِنْسِ قَوْلِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ قالُوا: ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا﴾ [الأنعام: ١٤٨] الآيَةَ. فَإنَّ هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ لَمّا أنْكَرُوا ما بُعِثَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الأمْرِ والنَّهْيِ، وأنْكَرُوا التَّوْحِيدَ - الَّذِي هو عِبادَةُ اللَّهِ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ - وهم يُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وأنَّ اللَّهَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، ما بَقِيَ عِنْدَهم مِن فَرْقٍ، مِن جِهَةِ اللَّهِ تَعالى، بَيْنَ مَأْمُورٍ ومَحْظُورٍ فَقالُوا: ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٤٨] وهَذا حَقٌّ؛ فَإنَّ اللَّهَ لَوْ شاءَ أنْ لا يَكُونَ هَذا لَمْ يَكُنْ. ولَكِنْ أيُّ فائِدَةٍ لَهم في هَذا؟ غايَتُهُ أنَّ هَذا الشِّرْكَ والتَّحْرِيمَ بِقَدَرٍ، ولا يَلْزَمُ إذا كانَ مُقَدَّرًا أنْ يَكُونَ (p-٢٥٥٩)مَحْبُوبًا مَرْضِيًّا لِلَّهِ. ولا عِلْمَ عِنْدِهِمْ بِأنَّ اللَّهَ أمَرَ بِهِ ولا أحَبَّهُ ولا رَضِيَهُ، بَلْ لَيْسُوا في ذَلِكَ إلّا عَلى ظَنٍّ وخَرْصٍ. انْتَهى.
وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ في حَقِيقَةِ العَقِيدَةِ:
ثَبَتَ بِالبُرْهانِ أنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعالى مُتَصَرِّفَةٌ في المُمْكِناتِ عَنْ إرادَةٍ واخْتِيارٍ. وأنَّ الإرادَةَ لا تَخْرُجُ عَمّا يَنْكَشِفُ بِالعِلْمِ مِن مَواقِعِ الحِكْمَةِ، ووُجُوهِ النِّظامِ. وأنَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وإلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ. ومِنَ المُمْكِناتِ الَّتِي اقْتَضَتْها الحِكْمَةُ والنِّظامُ وُجُودُ مَخْلُوقٍ ذِي قُدْرَةٍ وإرادَةٍ وعِلْمٍ، يَعْمَلُ بِقُدْرَتِهِ ما تَنْبَعِثُ إلَيْهِ إرادَتُهُ بِمُقْتَضى عِلْمِهِ بِوُجُوهِ المَصْلَحَةِ والمَنفَعَةِ لِنَفْسِهِ، وهو الإنْسانُ. وهَذا - عِنْدَ البَعْضِ - هو مَعْنى كَوْنِهِ خَلِيفَةَ اللَّهِ في الأرْضِ يُعَمِّرُها ويُظْهِرُ حِكْمَةَ اللَّهِ وبَدائِعَ أسْرارِهِ فِيها، ويُقِيمُ سُنَنَهُ الحَكِيمَةَ حَتّى يُعْرَفَ كَمالُهُ بِمَعْرِفَةِ كَمالِ صُنْعِهِ. ولا يَزالُ الإنْسانُ يُظْهِرُ الآياتِ مِن هَذِهِ المُكَوِّناتِ آنًا بَعْدَ آنٍ، ولا يَعْلَمُ مَبْلَغَهُ مِن ذَلِكَ إلّا اللَّهُ تَعالى. والمَشْهُورُ أنَّ الخِلافَةَ خاصَّةٌ بِأفْرادٍ مِنَ الإنْسانِ وهُمُ الأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. ولا يَسْتَلْزِمُ واحِدٌ مِنَ القَوْلَيْنِ أنَّ اللَّهَ تَعالى اسْتَخْلَفَهم لِحاجَةٍ بِهِ إلى ذَلِكَ. حاشاهُ.
قالَ البَيْضاوِيُّ في "بَيانِ أنَّ كُلَّ نَبِيٍّ خَلِيفَةٌ": اسْتَخْلَفَهم في عِمارَةِ الأرْضِ، وسِياسَةِ النّاسِ، وتَكْمِيلِ نُفُوسِهِمْ، وتَنْفِيذِ أمْرِهِ فِيهِمْ - لا لِحاجَةٍ بِهِ تَعالى إلى مَن يَنُوبُهُ - بَلْ لِقُصُورِ المُسْتَخْلَفِ عَلَيْهِ مِن قَبُولِ فَيْضِهِ وتَلَقِّي أمْرِهِ بِغَيْرِ وسَطٍ. ولِذَلِكَ لَمْ يَسْتَنْبِئْ مَلَكًا كَما قالَ: ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا. انْتَهى. وكَذَلِكَ إذا قُلْنا: إنَّ كُلَّ النَّوْعِ خَلِيفَةٌ في العَوالِمِ الأرْضِيَّةِ.
فَعُلِمَ مِن كُلٍّ مِنَ القَوْلَيْنِ؛ أنَّ في الإنْسانِ مَعْنًى لَيْسَ في غَيْرِهِ. فَإذا كانَتْ خِلْقَةُ المَلَكِ لا تُساعِدُ عَلى إرْشادِ النّاسِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ مِن جِنْسِهِمْ ولا يُمْكِنُ لِكُلِّ واحِدٍ التَّلَقِّي مِنهُ، فَكَذَلِكَ لا تُساعِدُ خِلْقَتُهُ. ولَيْسَ مِن وظِيفَتِها، إظْهارُ خَواصِّ الأجْسامِ وقُواها ووُجُوهِ الِانْتِفاعِ (p-٢٥٦٠)بِها. ولَوْ كانَ إيجادُ مَخْلُوقٍ - عَلى ما ذَكَرْنا في خَلْقِ الإنْسانِ - غَيْرَ مُمْكِنٍ لَما وُجِدَ. ولا يُنْكِرُ كَوْنَهُ عَلى ما ذَكَرْنا إلّا مَن يُنْكِرُ الحِسَّ والوِجْدانَ، وهُما أصْلُ كُلِّ بُرْهانٍ. ومِثْلُ هَذا لا يُخاطَبُ ولا يُطْلَبُ مِنهُ التَّصْدِيقُ بِشَيْءٍ ما.
إذَنْ، مَعَنا قَضِيَّتانِ قَطْعِيَّتا الثُّبُوتِ:
إحْداهُما: كَوْنُ الإنْسانِ يَعْمَلُ بِقُدْرَةٍ وإرادَةٍ يَبْعَثُها عِلْمُهُ عَلى الفِعْلِ أوِ التَّرْكِ والكَفِّ، وهي بَدِيهِيَّةٌ.
و(الثّانِيَةُ): هي أنَّ اللَّهَ هو الخالِقُ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وهي نَظَرِيَّةٌ ويَتَوَلَّدُ مِن هاتَيْنِ القَضِيَّتَيْنِ القَطْعِيَّتَيْنِ مَسْألَتانِ نَظَرِيَّتانِ:
الأُولى: ما الفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى وإرادَتِهِ وقُدْرَتِهِ، وبَيْنَ عِلْمِ الإنْسانِ وإرادَتِهِ وقُدْرَتِهِ؟ والجَوابُ مِن وُجُوهٍ:
إحْداها: أنَّ صِفاتِ اللَّهِ قَدِيمَةٌ بِقِدَمِهِ فَهي ثابِتَةٌ لَهُ لِذاتِهِ. وصِفاتُ الإنْسانِ حادِثَةٌ بِحُدُوثِهِ وهي مَوْهُوبَةٌ لَهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى كَذاتِهِ.
ثانِيها: إنَّ عِلْمَ اللَّهِ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِهِ إلّا بِما شاءَ. وأمّا الإنْسانُ فَما أُوتِيَ: مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا ! وإرادَةُ اللَّهِ تَعالى لا تَتَغَيَّرُ ولا تَقْبَلُ الفَسْخَ لِأنَّها عَنْ عِلْمٍ تامٍّ. بِخِلافِ إرادَةِ الإنْسانِ فَإنَّها تَتَرَدَّدُ لِتَرَدُّدِهِ في العِلْمِ بِالشَّيْءِ. وتَفْسَخُ لِظُهُورِ الخَطَأِ في العِلْمِ الَّذِي بُنِيَتْ عَلَيْهِ. وتَتَجَدَّدُ لِتَجَدُّدِ عِلْمٍ لِمَن لَمْ يَكُنْ لَهُ مِن قَبْلُ. وقُدْرَةُ اللَّهِ تَعالى مُتَصَرِّفَةٌ في كُلِّ مُمْكِنٍ. فَيَفْعَلُ كُلَّ ما يَعْلَمُ أنَّ فِيهِ الحِكْمَةَ. وقُدْرَةُ الإنْسانِ لا تَصَرُّفَ لَها ولا كَسْبَ إلّا في أقَلِّ القَلِيلِ مِنَ المُمْكِناتِ. (p-٢٥٦١)فَكَمْ مِن أمْرٍ يَعْلَمُ أنَّ فِيهِ مَصْلَحَتَهُ ومَنفَعَةً لَهُ وهو لا يَقْدِرُ عَلى القِيامِ بِهِ.
ثالِثُها: أنَّ صِفاتِ الإنْسانِ عُرْضَةٌ لِلضَّعْفِ والزَّوالِ، وصِفاتِ اللَّهِ تَعالى أبَدِيَّةٌ كَما أنَّها أزَلِيَّةٌ. وبِالجُمْلَةِ: إنَّ المُشارَكَةَ بَيْنَ صِفاتِ اللَّهِ تَعالى وصِفاتِ عِبادِهِ إنَّما هي في الِاسْمِ، لا في الجِنْسِ كَما زَعَمَ بَعْضُهُمْ، فَبَطَلَ زَعْمُ مَن قالَ: إنَّ إثْباتَ كَوْنِ الأفْعالِ الَّتِي تَصْدُرُ مِنَ الإنْسانِ هي بِقُدْرَتِهِ وإرادَتِهِ - يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعالى: ﴿سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: ١٨٠]
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: وهي عَضَلَةُ العَقْدِ ومِحَكُّ المُنْتَقِدِ - أنَّ القَضاءَ عِبارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى أوْ إرادَتِهِ في الأزَلِ؛ بِأنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ عَلى الوَجْهِ المَخْصُوصِ مِنَ الوُجُوهِ المُمْكِنَةِ، والقَدَرَ وُقُوعُ الأشْياءِ فِيما لا يَزالُ عَلى وفْقِ ما سَبَقَ في الأزَلِ.
ومِنَ الأشْياءِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِها القَضاءُ والقَدَرُ أفْعالُ العِبادِ الِاخْتِيارِيَّةُ. فَإذا كانَ قَدْ سَبَقَ القَضاءُ المُبْرَمُ - بِأنَّ زَيْدًا يَعِيشُ كافِرًا ويَمُوتُ كافِرًا - فَما مَعْنى مُطالَبَتِهِ بِالإيمانِ وهو لَيْسَ في طاقَتِهِ؟ ولا يُمْكِنُ في الواقِعِ ونَفْسِ الأمْرِ أنْ يَصْدُرَ مِنهُ؛ لِأنَّهُ في الحَقِيقَةِ مَجْبُورٌ عَلى الكُفْرِ في صُورَةِ مُخْتارٍ لَهُ؟ كَما قالَ بَعْضُهم.
والجَوابُ عَنْ هَذا: أنَّ تَعَلُّقَ العِلْمِ والإرادَةِ بِأنَّ فُلانًا يَفْعَلُ كَذا، لا يُنافِي أنْ يَفْعَلَهُ بِاخْتِيارٍ، إلّا إذا تَعَلَّقَ العِلْمُ بِأنْ يَفْعَلَهُ مُضْطَرًّا كَحَرَكَةِ المُرْتَعِشِ مَثَلًا. ولَكِنَّ أفْعالَ العِبادِ الِاخْتِيارِيَّةَ قَدْ سَبَقَ في القَضاءِ بِأنَّها تَقَعُ اخْتِيارِيَّةً، أيْ: بِإرادَةِ فاعِلِيها لا رَغْمًا عَنْهم. وبِهَذا صَحَّ التَّكْلِيفُ ولَمْ يَكُنِ التَّشْرِيعُ عَبَثًا ولا لَغْوًا.
وثُمَّ وجْهٌ آخَرُ في الجَوابِ، وهُوَ: لَوْ كانَ سَبْقُ العِلْمِ أوِ الإرادَةِ بِأنَّ فاعِلًا يَفْعَلُ كَذا، يَسْتَلْزِمُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الفاعِلُ مَجْبُورًا عَلى فِعْلِهِ، لَكانَ الواجِبُ، تَعالى وتَقَدَّسَ، مَجْبُورًا عَلى (p-٢٥٦٢)أفْعالِهِ كُلِّها؛ لِأنَّ العِلْمَ الأزَلِيَّ قَدْ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ، وكُلُّ ما تَعَلَّقَ بِهِ العِلْمُ الصَّحِيحُ لا بُدَّ مِن وُقُوعِهِ.
فَتَبَيَّنَ - بِهَذا - أنَّ الجَبْرِيَّةَ ومَن تَلا تَلُوهم قَدْ غَفَلُوا عَنْ مَعْنى الِاخْتِيارِ، واشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمُ الأنْظارُ، فَكابَرُوا الحِسَّ والوِجْدانَ، ودابَرُوا الدَّلِيلَ والبُرْهانَ، وعَطَّلُوا الشَّرائِعَ والأدْيانَ، وتَوَهَّمُوا أنَّهم يُعَظِّمُونَ اللَّهَ ولَكِنَّهم ما قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، ولا فَقِهُوا سِرَّ نَهْيِهِ وأمْرِهِ، حَيْثُ جَرَّؤُا الجُهّالَ عَلى التَّنَصُّلِ مِن تَبِعَةِ الذُّنُوبِ والأوْزارِ، وادِّعاءِ البَراءَةِ لِأنْفُسِهِمْ والإحالَةِ بِاللَّوْمِ عَلى القَضاءِ والقَدَرِ، وذَلِكَ تَنْزِيهٌ لِأنْفُسِهِمْ مِن دُونِ اللَّهِ ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ. بَلْ ذَلِكَ إغْراءٌ لِلْإنْسانِ بِالِانْغِماسِ في الفُسُوقِ والعِصْيانِ. فَيا عَجَبًا لَهم كَيْفَ جَعَلُوا أعْظَمَ الزَّواجِرِ مِنَ الإغْراءِ، وهو الِاعْتِقادُ بِإحاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِالأشْياءِ! ألَيْسَ مِن شَأْنِ مَن لَمْ يُفْسِدِ الجَبْرُ فِطْرَتَهُ، ويُظْلِمِ الجَهْلُ بَصِيرَتَهُ، أنْ يَكُونَ أعْظَمُ مُهَذِّبٍ لِنَفْسِهِ، ومُؤَدِّبٍ لِعَقْلِهِ وحِسِّهِ، اعْتِقادَهُ بِأنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يُسِرُّ ويُعْلِنُ، ويُظْهِرُ ويُبْطِنُ، وأنَّهُ ناظِرٌ إلَيْهِ ومُطَّلِعٌ عَلَيْهِ؟ بَلى! إنَّ الإحْسانَ هو أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ، وأمّا الَّذِينَ ضَلُّوا السَّبِيلَ، (p-٢٥٦٣)واتَّبَعُوا فاسِدَ التَّأْوِيلِ، فَيَقُولُونَ كَما قالَ مَن قَبْلَهم وقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنا ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا﴾ [الأنعام: ١٤٨] الآيَةَ. فانْظُرْ كَيْفَ رَماهُمُ العَلِيمُ الحَكِيمُ بِالجَهْلِ، وجَعَلَ احْتِجاجَهم بِالقَدَرِ مِن أسْبابِ وُقُوعِ البَأْسِ والبَلاءِ بِهِمْ.
وفِي هَذا القَدْرِ كِفايَةٌ لِمَن لَمْ يَنْطَمِسْ نُورُ الفِطْرَةِ مِن قَبْلِهِ، واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
{"ayah":"قُلۡ فَلِلَّهِ ٱلۡحُجَّةُ ٱلۡبَـٰلِغَةُۖ فَلَوۡ شَاۤءَ لَهَدَىٰكُمۡ أَجۡمَعِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











