الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١٢١] ﴿ولا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ وإنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكم وإنْ أطَعْتُمُوهم إنَّكم لَمُشْرِكُونَ﴾ ﴿ولا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ أيْ: عِنْدَ ذَبْحِهِ. أيْ: بِأنْ ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِهِ، يَعْنِي: ذُبِحَ لِغَيْرِهِ تَعالى: ﴿وإنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ والفِسْقُ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، كَما في الآيَةِ الآتِيَةِ آخِرَ السُّورَةِ. قالَ المَهايِمِيُّ: ﴿وإنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ أيْ: خُرُوجٌ عَنِ الحُسْنِ إلى القُبْحِ، بِتَناوُلِ ما تَنَجَّسَ بِالمَوْتِ بِلا مانِعٍ عَنْ تَأْثِيرِهِ ﴿وإنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ﴾ أيْ: يُوَسْوِسُونَ ﴿إلى أوْلِيائِهِمْ﴾ أيْ: مِنَ الكُفّارِ ﴿لِيُجادِلُوكُمْ﴾ أيْ: في تَحْلِيلِ المَيْتَةِ ﴿وإنْ أطَعْتُمُوهُمْ﴾ أيْ: في تَحْلِيلِ ما حَرَّمَ اللَّهُ، أوْ تَحْرِيمِ ما أحَلَّ ﴿إنَّكم لَمُشْرِكُونَ﴾ أيْ: لَهم مَعَ اللَّهِ، فِيما يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ التَّحْلِيلِ والتَّحْرِيمِ. تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ: رُوِيَ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآياتِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: «أتى ناسٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! إنّا نَأْكُلُ ما نَقْتُلُ، ولا نَأْكُلُ ما يَقْتُلُ اللَّهُ تَعالى، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام: ١١٨] إلى قَوْلِهِ: ﴿وإنْ أطَعْتُمُوهم إنَّكم لَمُشْرِكُونَ﴾» . أخْرَجَهُ أصْحابُ السُّنَنِ. وفِي رِوايَةٍ لِأبِي داوُدَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ﴾ (p-٢٤٨٣)قالَ: يَقُولُونَ: ما ذَبَحَ اللَّهُ - فَلا تَأْكُلُوا، وما ذَبَحْتُمْ أنْتُمْ فَكُلُوا؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١١٨] ﴿ولا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ فَنُسِخَ، واسْتَثْنى مِن ذَلِكَ فَقالَ: ﴿وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكم وطَعامُكم حِلٌّ لَهُمْ﴾ [المائدة: ٥] وعِنْدَ النَّسائِيِّ قالَ: خاصَمَهُمُ المُشْرِكُونَ، فَقالُوا: ما ذَبَحَ اللَّهُ لا تَأْكُلُونَهُ، وما ذَبَحْتُمْ أنْتُمْ أكَلْتُمُوهُ؟ - كَذا في تَيْسِيرِ الوُصُولِ. الثّانِي: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ فَقِيلَ: بِاسْمِ اللَّهِ، بِهَذا اللَّفْظِ الكَرِيمِ. وقِيلَ بِكُلِّ قَوْلٍ فِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُ كالرَّحْمَنِ، وسائِرِ أسْمائِهِ الحُسْنى، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ [الإسراء: ١١٠] ولِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ الأسْماءُ الحُسْنى فادْعُوهُ بِها﴾ [الأعراف: ١٨٠] الثّالِثُ: ما قَدَّمْناهُ مِن حَمْلِ الآيَةِ عَلى ما ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعالى هو الأظْهَرُ في تَأْوِيلِها، لِقَوْلِهِ تَعالى بَعْدُ: أوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ومُراعاةُ النَّظائِرِ في القُرْآنِ أوْلى ما يُلْتَمَسُ بِهِ المُرادُ. وقَدْ رَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عَطاءٍ قالَ: نَزَلَتْ في ذَبائِحَ كانَتْ تَذْبَحُها قُرَيْشٌ عَلى الأوْثانِ، (p-٢٤٨٤)وذَبائِحِ المَجُوسِ. وقَدْ حاوَلَ بَعْضُهم أنْ يُقَوِّيَهُ فَجَعَلَ الواوَ في قَوْلِهِ: ﴿وإنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ حالِيَّةً، لِقُبْحِ عَطْفِ الخَبَرِ عَلى الإنْشاءِ. قالَ: والمَعْنى: لا تَأْكُلُوهُ حالَ كَوْنِهِ فِسْقًا. والفِسْقُ مُجْمَلٌ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: ﴿أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [النحل: ١١٥] فَيَكُونُ النَّهْيُ مَخْصُوصًا بِما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَيَبْقى ما عَداهُ حَلالًا، إمّا بِالمَفْهُومِ، أوْ بِعُمُومِ دَلِيلِ الحِلِّ، أوْ بِحُكْمِ الأصْلِ. واعْتُرِضَ عَلى هَذا الحَمْلُ بِأنَّهُ يَقْتَضِي أنْ لا يَتَناوَلَ النَّهْيُ أكْلَ المَيْتَةِ، مَعَ أنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ، وبِأنَّ التَّأْكِيدَ بِ (إنَّ) و(اللّامِ) يَنْفِي كَوْنَ الجُمْلَةِ حالِيَّةً؛ لِأنَّهُ إنَّما يَحْسُنُ فِيما قُصِدَ الإعْلامُ بِتَحَقُّقِهِ البَتَّةَ، والرَّدُّ عَلى مُنْكَرٍ تَحْقِيقًا أوْ تَقْدِيرًا (عَلى ما بُيِّنَ في المَعانِي)، والحالُ الواقِعُ في الأمْرِ والنَّهْيِ مَبْناهُ عَلى التَّقْدِيرِ، كَأنَّهُ قِيلَ: لا تَأْكُلُوا مِنهُ إنْ كانَ فِسْقًا، فَلا يَحْسُنُ: (وإنَّهُ لَفِسْقٌ) بَلْ (وهُوَ فِسْقٌ) وأُجِيبَ عَنِ الأوَّلِ بِأنَّهُ دَخَلَ بِقَوْلِهِ: وإنَّهُ لَفِسْقٌ: ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وبِقَوْلِهِ: وإنَّ الشَّياطِينَ ... إلَخْ المَيْتَةُ، فَيَتَحَقَّقُ أنَّ هَذا النَّهْيَ مَخْصُوصٌ بِما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ، أوْ ماتَ حَتْفَ أنْفِهِ. وعَنِ الثّانِي بِأنَّهُ لَمّا كانَ المُرادُ بِالفِسْقِ هَهُنا الإهْلالَ لِغَيْرِ اللَّهِ، كانَ التَّأْكِيدُ مُناسِبًا، كَأنَّهُ قِيلَ: لا تَأْكُلُوا مِنهُ إذا كانَ هَذا النَّوْعُ مِنَ الفِسْقِ الَّذِي الحَكَمُ بِهِ مُتَحَقِّقٌ، والمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَهُ. كَذا في "العِنايَةِ". ومِمّا يُقَوِّيهِ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ عَلى أنَّ المُرادَ بِهِ الخُرُوجُ عَنْ طاعَةِ اللَّهِ تَعالى، وهو وجْهٌ ثانٍ فِيهِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّكم لَمُشْرِكُونَ﴾ فَإنَّ مَن أكَلَ المَيْتَةَ، أوْ ما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ فِسْقٌ، ومَعَ الِاسْتِحْلالِ يَكْفُرُ، بِخِلافِ ما ذَبَحَهُ المُسْلِمُ ولَمْ يُسَمِّ عَلَيْهِ، فَإنَّ آكِلَهُ لا يَفْسُقُ ولا يَكْفُرُ إجْماعًا - أشارَ لَهُ الرّازِيُّ - وحِينَئِذٍ فَلا دَلالَةَ في الآيَةِ عَلى تَحْرِيمِ ذَبِيحَةِ المُسْلِمِ الَّتِي تُرِكَتِ التَّسْمِيَةُ عَلَيْها عَمْدًا أوْ سَهْوًا. وقَدْ رَوى أبُو داوُدَ في "مَراسِيلِهِ" عَنِ الصَّلْتِ السُّدُوسِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««ذَبِيحَةُ المُسْلِمِ حَلالٌ، ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ أوْ لَمْ يَذْكُرْهُ، إنَّهُ إنْ ذَكَرَ لَمْ يَذْكُرْ إلّا اسْمَ اللَّهِ»» . قالَ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَذا مُرْسَلٌ يُعَضَّدُ بِما رَواهُ اَلدّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: «إذا ذَبَحَ المُسْلِمُ ولَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَلْيَأْكُلْ، فَإنَّ المُسْلِمَ فِيهِ اسْمٌ مِن أسْماءِ اللَّهِ تَعالى» . (p-٢٤٨٥)واحْتَجَّ البَيْهَقِيُّ أيْضًا بِحَدِيثِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أنَّ قَوْمًا قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: إنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنا بِاللَّحْمِ لا نَدْرِي أذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أمْ لا، فَقالَ: سَمُّوا عَلَيْهِ أنْتُمْ وكُلُوهُ. قالَتْ: وكانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ -» رَواهُ البُخارِيُّ والنَّسائِيُّ - قالَ: فَلَوْ كانَ وُجُودُ التَّسْمِيَةِ شَرْطًا لَمْ يُرَخِّصْ لَهم إلّا مَعَ تَحَقُّقِها. وكَذا قالَ الخَطابِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ التَّسْمِيَةَ غَيْرُ شَرْطٍ عَلى الذَّبِيحَةِ، لِأنَّها لَوْ كانَتْ شَرْطًا لَمْ تُسْتَبَحِ الذَّبِيحَةُ بِالأمْرِ المَشْكُوكِ فِيهِ، كَما لَوْ عَرَضَ الشَّكُّ في نَفْسِ الذَّبِيحَةِ، فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ وقَعَتِ الذَّكاةُ المُعْتَبَرَةُ أمْ لا؟ وهَذا هو المُتَبادِرُ مِن سِياقِ الحَدِيثِ، حَيْثُ وقَعَ الجَوابُ فِيهِ: (سَمُّوا أنْتُمْ)، كَأنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: لا تَهْتَمُّوا بِذَلِكَ، بَلِ الَّذِي يَهُمُّكم أنْتُمْ أنْ تَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وتَأْكُلُوا. وهَذا مِنَ الأُسْلُوبِ الحَكِيمِ. ومِمّا يَدُلُّ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٥] فَأباحَ الأكْلَ مِن ذَبائِحِهِمْ، مَعَ وُجُودِ الشَّكِّ في أنَّهم سَمَّوْا أمْ لا. هَذا، وقَدْ تَمَسَّكَ بِظاهِرِ الآيَةِ قَوْمٌ فَذَهَبُوا إلى أنَّ الذَّبِيحَةَ لا تَحِلُّ إذا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْها، وإنْ كانَ الذّابِحُ مُسْلِمًا، عَمْدًا تُرِكَتِ التَّسْمِيَةُ أوْ نِسْيانًا. واحْتَجُّوا أيْضًا بِقَوْلِهِ تَعالى في آيَةِ الصَّيْدِ: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكم واذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٤] وبِالأحادِيثِ الوارِدَةِ في الأمْرِ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبِيحَةِ والصَّيْدِ، (p-٢٤٨٦)كَحَدِيثَيْ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ وأبِي ثَعْلَبَةَ: ««إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ، وذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ»»، وهُما في الصَّحِيحَيْنِ. (p-٢٤٨٧)وحَدِيثِ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: ««ما أنْهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلُوهُ»» - في الصَّحِيحَيْنِ أيْضًا -. وحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ لِلْجِنِّ: «لَكم كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ»» . رَواهُ مُسْلِمٌ. (p-٢٤٨٨)وحَدِيثُ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيانَ البَجَلِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««مَن ذَبَحَ قَبْلَ أنْ يُصَلِّيَ، فَلْيَذْبَحْ مَكانَها أُخْرى، ومَن لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ حَتّى صَلَّيْنا، فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ»» - أخْرَجاهُ. قالُوا: فَفي هَذِهِ الأحادِيثِ إيقافُ الإذْنِ في الأكْلِ عَلى التَّسْمِيَةِ، والمُعَلَّقُ بِالوَصْفِ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفائِهِ، عِنْدَ مَن يَقُولُ بِالمَفْهُومِ. والشَّرْطُ أقْوى مِنَ الوَصْفِ. واحْتَجُّوا أيْضًا بِحَدِيثِ عائِشَةَ المُتَقَدِّمِ «سَمُّوا عَلَيْهِ أنْتُمْ وكُلُوا» . قالُوا: إنَّ القَوْمَ فَهِمُوا أنَّ التَّسْمِيَةَ لا بُدَّ مِنها، وخَشُوا أنْ لا تَكُونَ وُجِدَتْ مِن أُولَئِكَ، لِحَداثَةِ إسْلامِهِمْ، فَأمَرَهم بِالِاحْتِياطِ بِالتَّسْمِيَةِ عَنِ الأكْلِ، لِتَكُونَ كالعِوَضِ عَنِ المَتْرُوكَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ، إنْ لَمْ تَكُنْ وُجِدَتْ. أيْ: فَتَسْمِيَتُكُمُ الآنَ تَسْتَبِيحُونَ بِها كُلَّ ما لَمْ تَعْلَمُوا أذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ (p-٢٤٨٩)أمْ لا، إذا كانَ الذّابِحُ مِمَّنْ تَصِحُّ ذَبِيحَتُهُ إذا سَمّى. قالُوا: ويُسْتَفادُ مِنهُ أنَّ كُلَّ ما يُوجَدُ في أسْواقِ المُسْلِمِينَ مَحْمُولٌ عَلى الصِّحَّةِ، وكَذا ما ذَبَحَهُ أعْرابُ المُسْلِمِينَ؛ لِأنَّ الغالِبَ أنَّهم عَرَفُوا التَّسْمِيَةَ. انْتَهى. وأجابَ مَن حَمَلَ الآيَةَ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ؛ بِأنَّ الأمْرَ في حَدِيثِ عَدِيِّ وأبِي ثَعْلَبَةَ مَحْمُولٌ عَلى التَّنْزِيهِ، مِن أجْلِ أنَّهُما كانا يَصِيدانِ عَلى مَذْهَبِ الجاهِلِيَّةِ، فَعَلَّمَهُما النَّبِيُّ ﷺ أمْرَ الصَّيْدِ والذَّبْحِ، فَرْضَهُ ومَندُوبَهُ؛ لِئَلّا يُوافِقا شُبْهَةً في ذَلِكَ، ولِيَأْخُذا بِأكْمَلِ الأُمُورِ. وأمّا الَّذِينَ سَألُوا عَنْ تِلْكَ الذَّبائِحِ، فَإنَّهم سَألُوا عَنْ أمْرٍ قَدْ وقَعَ لِغَيْرِهِمْ، فَعَرَّفَهم بِأصْلِ الحِلِّ فِيهِ. وقالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ التَّسْمِيَةُ هُنا عِنْدَ الأكْلِ، وبِذَلِكَ جَزَمَ النَّوَوِيُّ. وأمّا التَّسْمِيَةُ عَلى ذَبْحٍ تَوَلّاهُ غَيْرُهُمْ، فَلا تُكَلَّفُ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وإنَّما يُحْمَلُ عَلى غَيْرِ الصِّحَّةِ إذا تَبَيَّنَ خِلافُها. وقالَ المُهَلَّبُ: هَذا الحَدِيثُ أصْلٌ في أنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا. فَلَمّا نابَتْ تَسْمِيَتُهم عَنِ التَّسْمِيَةِ عَلى الذَّبْحِ، دَلَّ عَلى أنَّها سُنَّةٌ؛ لِأنَّ السُّنَّةَ لا تَنُوبُ عَنْ فَرْضٍ. انْتَهى. وذَهَبَ بَعْضُ مَنِ اشْتَرَطَ التَّسْمِيَةَ في الحِلِّ إلى جَوازِ أكْلِ ما تُرِكَتْ عَلَيْهِ سَهْوًا لا عَمْدًا. واحْتَجَّ بِما رَواهُ البَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَرْفُوعًا: ««المُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، إنْ نَسِيَ أنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ، فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ولِيَأْكُلْهُ»» . قالَ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: ورَفْعُهُ خَطَأٌ والصَّوابُ وقْفُهُ عَلى ابْنِ عَبّاسٍ، مِن قَوْلِهِ نَصَّ عَلَيْهِ البَيْهَقِيُّ. واحْتَجَّ أيْضًا بِالحَدِيثِ المَرْوِيِّ مِن طُرُقٍ عِنْدَ ابْنِ ماجَهْ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وأبِي هُرَيْرَةَ وأبِي ذَرٍّ وعُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (p-٢٤٩٠)عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ««إنَّ اللَّهَ وضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأ والنِّسْيانَ وما اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»» . ورَواهُ الطَّبَرانِيُّ عَنْ ثَوْبانَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: ««رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ...»» . الحَدِيثَ. ورَوى ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ! أرَأيْتَ الرَّجُلَ مِنّا يَذْبَحُ ويَنْسى أنْ يُسَمِّيَ! فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اسْمُ اللَّهِ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ»» . قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وإسْنادُهُ ضَعِيفٌ. وقَدْ عَلِمْتَ الأظْهَرَ في تَأْوِيلِ الآيَةِ أوَّلًا. واللَّهُ أعْلَمُ. الرّابِعُ: قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في هَذِهِ الآيَةِ: هَلْ نُسِخَ مَن حَكَمَها شَيْءٌ أمْ لا؟ فَقالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُنْسَخْ مِنها شَيْءٌ، وهي مُحْكَمَةٌ فِيما عُنِيَتْ بِهِ. وعَلى هَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ وعامَّةِ أهْلِ العِلْمِ. ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ وعِكْرِمَةَ أنَّهُ تَعالى نَسَخَ مِن هَذِهِ الآيَةِ واسْتَثْنى قَوْلَهُ: ﴿وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٥] ورَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مَكْحُولٍ أيْضًا أنَّهُ تَعالى نَسَخَها بِذَلِكَ وأحَلَّ طَعامَ أهْلِ الكِتابِ. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: والصَّوابُ أنَّهُ لا تَعارُضَ بَيْنَ حِلِّ طَعامِ أهْلِ الكِتابِ، وبَيْنَ تَحْرِيمِ ما لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَذا الَّذِي قالَهُ صَحِيحٌ. ومَن أطْلَقَ مِنَ السَّلَفِ النَّسْخَ هَهُنا، فَإنَّما أرادَ التَّخْصِيصَ. انْتَهى. وقَدْ قَدَّمْنا في المُقَدِّمَةِ أنَّهُ عُلِمَ مِنَ اسْتِقْراءِ كَلامِ الصَّحابَةِ والتّابِعِيِنَ أنَّهم كانُوا يَسْتَعْلِمُونَ النَّسْخَ بِإزاءِ المَعْنى اللُّغَوِيِّ، الَّذِي هو إزالَةُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، لا بِإزاءِ مُصْطَلَحِ الأُصُولِيِّينَ. فَمَعْنى النَّسْخِ عِنْدَهم إزالَةُ بَعْضِ الأوْصافِ مِنَ الآيَةِ بِآيَةٍ أُخْرى. إمّا بِانْتِهاءِ مُدَّةِ العَمَلِ، أوْ بِصَرْفِ الكَلامِ عَنِ المَعْنى المُتَبادِرِ إلى غَيْرِهِ، أوْ بَيانِ كَوْنِ قَيْدٍ مِنَ القُيُودِ اتِّفاقِيًّا، أوْ تَخْصِيصِ عامٍّ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا أسْلَفْنا، فَتَذَكَّرْ! (p-٢٤٩١)الخامِسُ: قالَ الزَّجّاجُ: في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ أطَعْتُمُوهم إنَّكم لَمُشْرِكُونَ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّ كُلَّ مَن أحَلَّ شَيْئًا مِمّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعالى، أوْ حَرَّمَ شَيْئًا مِمّا أحَلَّ اللَّهُ تَعالى، فَهو مُشْرِكٌ. وإنَّما سُمِّيَ مُشْرِكًا لِأنَّهُ أثْبَتَ حاكِمًا سِوى اللَّهِ تَعالى. وهَذا هو الشِّرْكُ. انْتَهى. وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ﴿إنَّكم لَمُشْرِكُونَ﴾ أيْ: حَيْثُ عَدَلْتُمْ عَنْ أمْرِ اللَّهِ لَكم وشَرْعِهِ إلى قَوْلِ غَيْرِهِ، فَقَدَّمْتُمْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَهَذا هو الشِّرْكُ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١] الآيَةَ. وقَدْ رَوى التِّرْمِذِيُّ في تَفْسِيرِها «عَنْ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ أنَّهُ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ! ما عَبَدُوهم. قالَ: إنَّهم أحَلُّوا لَهُمُ الحَرامَ، وحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الحَلالَ فاتَّبَعُوهم. فَذاكَ عِبادَتُهم إيّاهم». انْتَهى. السّادِسُ: قالَ الكَعْبِيُّ: الآيَةُ حُجَّةٌ عَلى أنَّ (الإيمانَ) اسْمٌ لِجَمِيعِ الطّاعاتِ، وإنْ كانَ مَعْناهُ في اللُّغَةِ التَّصْدِيقَ، كَما جَعَلَ تَعالى (الشِّرْكَ) اسْمًا لِكُلِّ ما كانَ مُخالِفًا لِلَّهِ تَعالى، وإنْ كانَ في اللُّغَةِ مُخْتَصًّا بِمَن يَعْتَقِدُ أنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا، بِدَلِيلِ أنَّهُ تَعالى سَمّى طاعَةَ المُؤْمِنِينَ لِلْمُشْرِكِينَ، في إباحَةِ المَيْتَةِ، شِرْكًا. (p-٢٤٩٢)وتَعَقَّبَهُ الرّازِيُّ؛ بِأنَّهُ لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الشِّرْكِ هَهُنا اعْتِقادَ أنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا في الحُكْمِ والتَّكْلِيفِ؟ وبِهَذا التَّقْدِيرِ يَرْجِعُ مَعْنى هَذا الشِّرْكِ إلى الِاعْتِقادِ فَقَطْ. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب