القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[١١٧] ﴿إنَّ رَبَّكَ هو أعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وهو أعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾
﴿إنَّ رَبَّكَ هو أعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وهو أعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾ تَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِ الشَّرْطِيَّةِ، وما بَعْدَها. وتَأْكِيدٌ لِما يُفِيدُهُ مِنَ التَّحْذِيرِ. أيْ: هو أعْلَمُ بِالفَرِيقَيْنِ، فاحْذَرْ أنْ تَكُونَ مِنَ الأوَّلِينَ. أفادَهُ أبُو السُّعُودِ.
تَنْبِيهٌ:
قالَ الرّازِيُّ: تَمَسَّكَ نُفاةُ القِياسِ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقالُوا: رَأيْنا أنَّ اللَّهَ تَعالى بالَغَ في ذَمِّ الكُفّارِ في كَثِيرٍ مِن آياتِ القُرْآنِ، بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مُتَّبِعِينَ لِلظَّنِّ. والشَّيْءُ الَّذِي يَجْعَلُهُ اللَّهُ تَعالى مُوجِبًا لِذَمِّ الكُفّارِ، لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ في المَعْنى في أقْصى مَراتِبِ الذَّمِّ. والعِلْمُ بِالقِياسِ يُوجِبُ اتِّباعَ الظَّنِّ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ مَذْمُومًا مُحَرَّمًا. لا يُقالُ: لَمّا ورَدَ الدَّلِيلُ القاطِعُ بِكَوْنِهِ حُجَّةً، كانَ العَمَلُ لَهُ عَمَلًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ، لا بِدَلِيلٍ مَظْنُونٍ. لِأنّا نَقُولُ: هَذا مَدْفُوعٌ مِن وُجُوهٍ:
(p-٢٤٧٨)الأوَّلُ: أنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ القاطِعَ إمّا أنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا، وإمّا أنْ يَكُونَ سَمْعِيًّا، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّ العَقْلَ لا مَجالَ لَهُ في أنَّ العَمَلَ بِالقِياسِ جائِزٌ أوْ غَيْرُ جائِزٍ، لا سِيَّما عِنْدَ مَن يُنْكِرُ تَحْسِينَ العَقْلِ وتَقْبِيحَهُ. والثّانِي أيْضًا باطِلٌ؛ لِأنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ إنَّما يَكُونُ قاطِعًا لَوْ كانَ مُتَوَتِّرًا، أوْ كانَتْ ألْفاظُهُ غَيْرَ مُحْتَمِلَةٍ لِوَجْهٍ آخَرَ، سِوى هَذا المَعْنى الواحِدِ. ولَوْ حَصَلَ مِثْلُ هَذا الدَّلِيلِ لَعَلِمَ النّاسُ بِالضَّرُورَةِ كَوْنَ القِياسِ حُجَّةً، ولارْتَفَعَ الخِلافُ فِيهِ بَيْنَ الأُمَّةِ. فَحَيْثُ لَمْ يُوجَدُ ذَلِكَ. عَلِمْنا أنَّ الدَّلِيلَ القاطِعَ عَلى صِحَّةِ القِياسِ مَفْقُودٌ.
الثّانِي: هَبْ أنَّهُ وُجِدَ الدَّلِيلُ القاطِعُ عَلى أنَّ القِياسَ حُجَّةٌ، إلّا أنَّ مَعَ ذَلِكَ لا يَتِمُّ العَمَلُ بِالقِياسِ إلّا مَعَ اتِّباعِ الظَّنِّ. وبَيانُهُ أنَّ التَّمَسُّكَ بِالقِياسِ مَبْنِيٌّ عَلى مَقامَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ الحُكْمَ في مَحَلِّ الوِفاقِ مُعَلَّلٌ بِكَذا. والثّانِي: أنَّ ذَلِكَ المَعْنى حاصِلٌ في مَحَلِّ الخِلافِ. فَهَذانِ المَقامانِ، إنْ كانا مَعْلُومَيْنِ عَلى سَبِيلِ القَطْعِ واليَقِينِ، فَهَذا مِمّا لا خِلافَ فِيهِ بَيْنَ العُقَلاءِ في صِحَّتِهِ. وإنْ كانَ مَجْمُوعُهُما، أوْ كانَ أحَدُهُما ظَنِّيًّا، فَحِينَئِذٍ لا يَتِمُّ العِلْمُ بِهَذا القِياسِ إلّا بِمُتابَعَةِ الظَّنِّ، وحِينَئِذٍ يَنْدَرِجُ تَحْتَ النَّصِّ الدّالِّ عَلى أنَّ مُتابَعَةَ الظَّنِّ مَذْمُومَةٌ. والجَوابُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: الظَّنُّ عِبارَةٌ عَنِ الِاعْتِقادِ الرّاجِحِ إذا لَمْ يَسْتَنِدْ إلى أمارَةٍ، وهو مِثْلُ اعْتِقادِ الكُفّارِ. أمّا إذا كانَ الِاعْتِقادُ الرّاجِحُ مُسْتَنِدًا إلى أمارَةٍ، فَهَذا الِاعْتِقادُ لا يُسَمّى ظَنًّا، وبِهَذا الطَّرِيقِ سَقَطَ هَذا الِاسْتِدْلالُ. انْتَهى.
{"ayah":"إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ مَن یَضِلُّ عَن سَبِیلِهِۦۖ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِینَ"}