الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ تَعالى هَذِهِ البَراهِينَ، مِن دَلائِلِ العالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ، عَلى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وباهِرِ حِكْمَتِهِ، ووافِرِ نِعْمَتِهِ، واسْتِحْقاقِهِ لِلْأُلُوهِيَّةِ وحْدَهُ - عَقَّبَها بِتَوْبِيخِ مَن أشْرَكَ بِهِ والرَّدِّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: (p-٢٤٤١)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١٠٠] ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الجِنَّ وخَلَقَهم وخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يَصِفُونَ﴾ ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الجِنَّ﴾ أيْ: جَعَلُوهم شُرَكاءَ لَهُ في العِبادَةِ. فَإنْ قِيلَ: فَكَيْفَ عُبِدَتِ الجِنُّ مَعَ أنَّهم إنَّما كانُوا يَعْبُدُونَ الأصْنامَ؟ فالجَوابُ: أنَّهم ما عَبَدُوها إلّا عَنْ طاعَةِ الجِنِّ، وأمَرَهم بِذَلِكَ. كَقَوْلِهِ: ﴿إنْ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلا إناثًا وإنْ يَدْعُونَ إلا شَيْطانًا مَرِيدًا﴾ [النساء: ١١٧] ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ وقالَ لأتَّخِذَنَّ مِن عِبادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء: ١١٨] ﴿ولأُضِلَّنَّهم ولأُمَنِّيَنَّهم ولآمُرَنَّهم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأنْعامِ ولآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ومَن يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ ولِيًّا مِن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرانًا مُبِينًا﴾ [النساء: ١١٩] وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أفَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أوْلِياءَ مِن دُونِي﴾ [الكهف: ٥٠] الآيَةَ.. وقالَ إبْراهِيمُ لِأبِيهِ: ﴿يا أبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ [مريم: ٤٤] وكَقَوْلِهِ: ﴿ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكم يا بَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إنَّهُ لَكم عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [يس: ٦٠] ﴿وأنِ اعْبُدُونِي هَذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [يس: ٦١] وتَقُولُ المَلائِكَةُ يَوْمَ القِيامَةِ: ﴿سُبْحانَكَ أنْتَ ولِيُّنا مِن دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ أكْثَرُهم بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ [سبإ: ٤١] (p-٢٤٤٢)وخَلَقَهم حالٌ مِن فاعِلِ: جَعَلُوا، مُؤَكِّدَةٌ لِما في جَعْلِهِمْ ذَلِكَ مِن كَمالِ القَباحَةِ والبُطْلانِ، بِاعْتِبارِ عِلْمِهِمْ بِمَضْمُونِها. أيْ: وقَدْ عَلِمُوا أنَّ اللَّهَ خالِقُهم دُونَ الجِنِّ: (ولَيْسَ مَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ) وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلشُّرَكاءِ. أيْ: والحالُ أنَّهُ تَعالى خَلَقَ الجِنَّ، فَكَيْفَ يَجْعَلُونَ مَخْلُوقَهُ شَرِيكًا لَهُ؟ كَقَوْلِ إبْراهِيمَ: ﴿قالَ أتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ﴾ [الصافات: ٩٥] ﴿واللَّهُ خَلَقَكم وما تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: ٩٦] أيْ: وإذا كانَ هو المُسْتَقِلَّ بِالخالِقِيَّةِ، وجَبَ أنْ يُفْرَدَ بِالعِبادَةِ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ. تَنْبِيهٌ: ما ذَكَرْناهُ مِن مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الجِنَّ﴾ أنَّهم أطاعُوا الجِنَّ في عِبادَةِ الأوْثانِ، هو ما قَرَّرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وأيَّدَهُ بِالنَّظائِرِ المُتَقَدِّمَةِ، ونُقِلَ عَنِ الحَسَنِ، فَتَكُونُ الكِنايَةُ لِمُشْرِكِي العَرَبِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالجِنِّ المَلائِكَةُ، فَإنَّهم عَبَدُوهم وقالُوا عَنْهم بَناتُ اللَّهِ. وكِلا الأمْرَيْنِ مُوجِبٌ لِلشَّرِيكِ. أمّا الأوَّلُ فَظاهِرٌ. وأمّا الثّانِي فَلِأنَّ الوَلَدَ كُفْءُ الوالِدِ، فَيُشارِكُهُ في صِفاتِ الأُلُوهِيَّةِ. وتَسْمِيَةُ المَلائِكَةِ (جِنًّا) حَقِيقَةٌ، لِشُمُولِ لَفْظِ الجِنِّ لَهم. وقِيلَ: اسْتِعارَةٌ. أيْ: عَبَدُوا ما هو كالجِنِّ، فَيَكُونُ مَخْلُوقًا مُسْتَتِرًا عَنِ الأعْيُنِ. وذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ - مِنهُمُ الكَلْبِيُّ - إلى أنَّها نَزَلَتْ في الثَّنَوِيَّةِ القائِلِينَ بِأنَّ لِلْعالَمِ إلَهَيْنِ: أحَدُهُما خالِقُ الخَيْرِ وكُلِّ نافِعٍ. وثانِيهِما خالِقُ الشَّرِّ وكُلِّ ضارٍّ. ونَقَلَهُ ابْنُ الجَوْزِيِّ عَنِ ابْنِ السّائِبِ. وحَكاهُ الفَخْرُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأنَّهُ قالَ: نَزَلَتْ في الزَّنادِقَةِ الَّذِينَ قالُوا: إنَّ اللَّهَ وإبْلِيسَ أخَوانِ. فاللَّهُ تَعالى خالِقُ النّاسِ والدَّوابِّ والأنْعامِ والخَيْراتِ؛ وإبْلِيسُ خالِقُ السِّباعِ والحَيّاتِ والعَقارِبِ والشُّرُورِ. قالَ الرّازِيُّ: وقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ المَذْكُورِ أحْسَنُ الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ، وذَلِكَ؛ (p-٢٤٤٣)لِأنَّ بِهَذا الوَجْهِ يَحْصُلُ لِهَذِهِ الآيَةِ مَزِيدُ فائِدَةٍ مُغايِرَةٍ لِما سَبَقَ ذِكْرُهُ في هَذِهِ الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ. وقَوّى ابْنُ عَبّاسٍ قَوْلَهُ المَذْكُورَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا﴾ [الصافات: ١٥٨] وإنَّما وُصِفَ بِكَوْنِهِ مِنَ الجِنِّ؛ لِأنَّ لَفْظَ الجِنِّ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْتِتارِ، والمَلائِكَةُ والرُّوحانِيُّونَ مُسْتَتِرَةٌ مِنَ العُيُونِ، فَلِذَلِكَ أطْلَقَ لَفْظَ الجِنِّ عَلَيْها. قالَ الفَخْرُ: هَذا مَذْهَبُ المَجُوسِ. وإنَّما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هَذا قَوْلُ الزَّنادِقَةِ؛ لِأنَّ المَجُوسَ يُلَقَّبُونَ بِالزَّنادِقَةِ؛ لِأنَّ الكِتابَ الَّذِي زَعَمَ زَرادُشْتُ أنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ مُسَمًّى بِ (الزِّنْدِ)، والمَنسُوبُ إلَيْهِ يُسَمّى (زِنْدِيٌّ)، ثُمَّ عُرِّبَ فَقِيلَ: (زِنْدِيقٌ)، ثُمَّ جُمِعَ فَقِيلَ: (زَنادِقَةٌ). واعْلَمْ أنَّ المَجُوسَ قالُوا: كُلُّ ما في هَذا العالَمِ مِنَ الخَيْراتِ فَهو مِن (يَزْدانَ)، وجَمِيعُ ما فِيهِ مِنَ الشُّرُورِ فَهو مِن (أهْرَمَن) (وهُوَ المُسَمّى بِإبْلِيسَ في شَرْعِنا) ثُمَّ اخْتَلَفُوا؛ فالأكْثَرُونَ مِنهم عَلى أنَّ (أهْرَمَن) مُحْدَثٌ، ولَهم في كَيْفِيَّةِ حُدُوثِهِ أقْوالٌ عَجِيبَةٌ. والأقَلُّونَ مِنهم قالُوا: إنَّهُ قَدِيمٌ أزَلِيٌّ. وعَلى القَوْلَيْنِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ شَرِيكُ اللَّهِ في تَدْبِيرِ هَذا العالَمِ، فَخَيْراتُ هَذا العالَمِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وشُرُورُهُ مِن إبْلِيسَ. فَهَذا شَرْحُ ما قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. وإنَّما جُمِعَ حِينَئِذٍ في الآيَةِ، لِكَوْنِهِ مَعَ أتْباعِهِ كَأنَّهم مَعْبُودُونَ. ثُمَّ قالَ الرّازِيُّ: وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وخَلَقَهُمْ﴾ إشارَةٌ إلى الدَّلِيلِ القاطِعِ عَلى فَسادِ كَوْنِ إبْلِيسَ شَرِيكًا، وتَقْرِيرُهُ أنّا نَقَلْنا عَنِ المَجُوسِ أنَّ الأكْثَرِينَ مِنهم مُعْتَرِفُونَ بِأنَّ إبْلِيسَ لَيْسَ بِقَدِيمٍ، بَلْ هو مُحْدَثٌ. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ فَلَهُ خالِقٌ ومُوجِدٌ، وما ذَلِكَ إلّا اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى. فَهَؤُلاءِ المَجُوسُ يَلْزَمُهُمُ القَطْعُ بِأنَّ خالِقَ إبْلِيسَ هو اللَّهُ تَعالى. ولَمّا كانَ إبْلِيسُ أصْلًا لِجَمِيعِ الشُّرُورِ والآفاتِ والمَفاسِدِ والقَبائِحِ، والمَجُوسُ سَلَّمُوا أنَّ خالِقَهُ هو اللَّهُ تَعالى، فَحِينَئِذٍ قَدْ سَلَّمُوا أنَّ إلَهَ العالَمِ هو الخالِقُ لِما هو أصْلُ الشُّرُورِ والقَبائِحِ والمَفاسِدِ. وإذا كانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ عَلَيْهِمْ أنْ يَقُولُوا: لا بُدَّ مِن إلَهَيْنِ، فَسَقَطَ قَوْلُهم. انْتَهى مُلَخَّصًا. (p-٢٤٤٤)وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وخَرَقُوا لَهُ﴾ أيِ: اخْتَلَقُوا وافْتَرَوْا لَهُ: ﴿بَنِينَ﴾ كَقَوْلِ أهْلِ الكِتابَيْنِ في المَسِيحِ وعُزَيْرٍ: وبَناتٍ كَقَوْلِ بَعْضِ العَرَبِ في المَلائِكَةِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقالُ: خَلَقَ الإفْكَ وخَرَقَهُ واخْتَلَقَهُ بِمَعْنًى. وسُئِلَ الحَسَنُ عَنْهُ فَقالَ: كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ كانَتِ العَرَبُ تَقُولُها. كانَ الرَّجُلُ إذا كَذَبَ كِذْبَةً في نادِي القَوْمِ يَقُولُ لَهُ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَقَها واللَّهِ! ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن (خَرَقَ الثَّوْبَ) إذا شَقَّهُ: أيِ: اشْتَقُّوا لَهُ بَنِينَ وبَناتٍ. وقُرِئَ: "وخَرَّقُوا" بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّكْثِيرِ لِقَوْلِهِ (بَنِينَ وبَناتٍ). ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أيْ: مِن غَيْرِ أنْ يَعْلَمُوا حَقِيقَةَ ما قالُوهُ مِن خَطَأٍ أوْ صَوابٍ، ولَكِنْ رَمْيًا بِقَوْلٍ عَنْ عَمًى وجَهالَةٍ، مِن غَيْرِ فِكْرٍ ورَوِيَّةٍ، أوْ بِغَيْرِ عِلْمٍ بِمَرْتَبَةِ ما قالُوا، وأنَّهُ مِنَ الشَّناعَةِ والبُطْلانِ بِحَيْثُ لا يُقادَرُ قَدْرُهُ. وفِيهِ ذَمٌّ لَهم بِأنَّهم يَقُولُونَ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ والهَوى. وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ تَعالى إلّا ما جَزَمَ بِهِ، وقامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. ثُمَّ نَزَّهَ ذاتَهُ العَلِيَّةَ عَمّا نَسَبُوهُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يَصِفُونَ﴾ مِن أوْصافِ الحَوادِثِ الخَسِيسَةِ مِنَ المُشارَكَةِ والتَّوْلِيدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب