الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٥] ﴿ما قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ أوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإذْنِ اللَّهِ ولِيُخْزِيَ الفاسِقِينَ﴾ ﴿ما قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ﴾ أيْ: نَخْلَةٍ مِن نَخِيلِهِمْ إغاظَةً لَهم ﴿أوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإذْنِ اللَّهِ﴾ (p-٥٧٣٦)أيْ: أمْرِهِ ورِضاهُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِلْعَبَثِ والإضْرارِ، بَلْ لِتَأْيِيدِ قُوَّةِ الحَقِّ، وتَصَلُّبِ أهْلِهِ، وإرْهابِ المُبْطِلِينَ وإذْلالِهِمْ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ولِيُخْزِيَ الفاسِقِينَ﴾ أيْ: لِما فِيهِ مِن إهانَةِ العَدُوِّ، وإضْعافِهِ ونِكايَتِهِ. تَنْبِيهٌ: ذَكَرَ عُلَماءُ الأخْبارِ وأئِمَّةُ السِّيَرِ، أنَّ سَبَبَ الأمْرِ بِجَلاءِ بَنِي النَّضِيرِ هو نَقْضُهُمُ العَهْدَ. قالَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ: لَمّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ المَدِينَةَ، صارَ الكُفّارُ مَعَهُ ثَلاثَةَ أقْسامٍ: قِسْمٌ صالَحَهم ووادَعَهم عَلى أنْ لا يُحارِبُوهُ، ولا يُظاهِرُوا عَلَيْهِ، ولا يُوالُوا عَلَيْهِ عَدُوَّهُ، وهم عَلى كُفْرِهِمْ، آمِنُونَ عَلى دِمائِهِمْ وأمْوالِهِمْ. وقِسْمٌ حارَبُوهُ ونَصَبُوا لَهُ العَداوَةَ، وقِسْمٌ تارَكُوهُ فَلَمْ يُصالِحُوهُ ولَمْ يُحارِبُوهُ، بَلِ انْتَظَرُوا ما يَؤُولُ إلَيْهِ أمْرُهُ وأمْرُ أعْدائِهِ. ثُمَّ مِن هَؤُلاءِ مَن كانَ يُحِبُّ ظُهُورَهُ وانْتِصارَهُ في الباطِنِ. ومِنهم مَن كانَ يُحِبُّ ظُهُورَ عَدُوِّهِ عَلَيْهِ وانْتِصارِهِمْ. ومِنهم مَن دَخَلَ مَعَهُ في الظّاهِرِ، ومَعَ عَدُوِّهِ في الباطِنِ، لِيَأْمَنَ الفَرِيقَيْنِ، وهَؤُلاءِ هُمُ المُنافِقُونَ. فَعامَلَ كُلَّ طائِفَةٍ مِن هَذِهِ الطَّوائِفِ بِما أمَرَ بِهِ رَبُّهُ -تَبارَكَ وتَعالى- فَصالَحَ يَهُودَ المَدِينَةِ، وكَتَبَ بَيْنَهم كِتابَ أمْنٍ، وكانُوا ثَلاثَ طَوائِفَ حَوْلَ المَدِينَةِ: بَنِي قَيْنُقاعَ، وبَنِي النَّضِيرِ، وبَنِي قُرَيْظَةَ. فَكانَتْ بَنُو قَيْنُقاعَ أوَّلَ مَن نَقَضَ ما بَيْنَهم وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وحارَبُوا فِيما بَيْنَ بَدْرٍ وأُحُدٍ، وحاصَرَهم ﷺ، ثُمَّ أمَرَهم أنْ يَخْرُجُوا مِنَ المَدِينَةِ، ولا يُحارِبُوهُ بِها. ثُمَّ نَقَضَ العَهْدَ بَنُو النَّضِيرِ؛ وذَلِكَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ إلَيْهِمْ يَسْتَعِينُهم في دِيَةِ قَتِيلَيْنِ مِن بَنِي عامِرٍ، وجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى جَنْبِ جِدارٍ مِن بُيُوتِهِمْ، فَتَآمَرُوا عَلى قَتْلِهِ ﷺ، وأنْ يَعْلُوَ رَجُلٌ فَيُلْقِيَ صَخْرَةً عَلَيْهِ، فانْتُدِبَ لِذَلِكَ عَمْرُو بْنُ جِحاشِ بْنِ كَعْبٍ؛ أحَدِهِمْ، وصَعِدَ لِيُلْقِيَ عَلَيْهِ صَخْرَةً، ونَزَلَ الوَحْيُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِما أرادَ القَوْمُ «فَقامَ ورَجَعَ بِمَن مَعَهُ مِن أصْحابِهِ عَلى المَدِينَةِ، وأمَرَ بِالتَّهَيُّؤِ لِحَرْبِهِمْ» . ثُمَّ سارَ بِالنّاسِ حَتّى نَزَلَ بِهِمْ فَحاصَرَهم سِتَّ لَيالٍ، فَتَحَصَّنُوا مِنهُ في الحُصُونِ «فَأمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَطْعِ النَّخِيلِ وتَحْرِيقِها»، ثُمَّ قَذَفَ اللَّهُ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، (p-٥٧٣٧)وسَألُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أنْ يُجْلِيَهُمْ، ويَكُفَّ عَنْ دِمائِهِمْ، عَلى أنَّ لَهم ما حَمَلَتِ الإبِلُ مِن أمْوالِهِمْ إلّا الحَلْقَةَ، فَفَعَلَ. فاحْتَمَلُوا مِن أمْوالِهِمْ ما اسْتَقَلَّتْ بِهِ الإبِلُ، فَكانَ الرَّجُلُ مِنهم يَهْدِمُ بَيْتَهُ عَنْ نِجافِ بابِهِ، فَيَضَعُهُ عَلى ظَهْرِ بَعِيرِهِ، فَيَنْطَلِقُ بِهِ. فَخَرَجُوا إلى خَيْبَرَ، ومِنهم مَن سارَ إلى الشّامِ، وخَلَّوُا الأمْوالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكانَتْ لَهُ خاصَّةً يَضَعُها حَيْثُ شاءَ، فَقَسَّمَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى المُهاجِرِينَ الأوَّلِينَ دُونَ الأنْصارِ، إلّا أنَّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ وأبا دُجانَةَ ذَكَرا فَقْرًا، فَأعْطاهُما رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ولَمْ يُسْلِمْ مِن بَنِي النَّضِيرِ إلّا رَجُلانِ: يامِينُ بْنُ عُمَيْرَ بْنِ كَعْبٍ، وأبُو سَعْدِ بْنُ وهْبٍ، أسْلَما عَلى أمْوالِهِما فَأحْرَزاها». قالَ ابْنُ إسْحاقَ: وقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ يامِينَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ لِيامِينَ: «ألَمْ تَرَ ما لَقِيتُ مِنَ ابْنِ عَمِّكَ، وما هم بِهِ مِن شَأْنِي» ؟ فَجَعَلَ يامِينُ بْنُ عُمَيْرٍ لِرَجُلٍ جُعْلًا عَلى أنْ يَقْتُلَ عَمْرَو بْنَ جِحاشٍ، فَقَتَلَهُ فِيما يَزْعُمُونَ». ونَزَلَ في بَنِي النَّضِيرِ سُورَةُ الحَشْرِ بِأسْرِها، يَذْكُرُ فِيها ما أصابَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِن نِقْمَتِهِ، وما سَلَّطَ عَلَيْهِمْ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وما عَمِلَ بِهِ فِيهِمْ. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب