القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٧٥ - ٧٩] ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ﴾ ﴿وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٦] ﴿إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٧] ﴿فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ﴾ [الواقعة: ٧٨] ﴿لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٧٩]
﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ﴾ أيْ: مَنازِلِ الكَواكِبِ ومَرْكَزِها البَهِيجَةِ في السَّماءِ. أوْ بِمَساقِطِها ومَغارِبِها، وهي أوْقاتُ غَيْبَتِها عَنِ الحَواسِّ، أوْ بِمَساقِطِها وانْتِشارِها يَوْمَ القِيامَةِ. و" لا " في " لا أُقْسِمُ " إمّا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ وتَقْوِيَةِ الكَلامِ، وقَدْ عُهِدَتْ زِيادَتُها في كَلامِهِمْ، كَما أوْضَحَهُ في "فِقْهِ اللُّغَةِ" وإمّا لا أُقْسِمُ بِتَمامِها؛ صِيغَةً مِن صِيَغِ القَسَمِ، عَلى ما ارْتَضاهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ.
﴿وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٦] أيْ: لِما في القَسَمِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى عَظِيمِ القُدْرَةِ، وكَمالِ الحِكْمَةِ.
﴿إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٧] أيْ: لَهُ كَرَمٌ وشَرَفٌ وقَدْرٌ رَفِيعٌ لِاشْتِمالِهِ عَلى أُمَّهاتِ الحِكَمِ والأحْكامِ، وما تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ حاجاتُ الأنامِ عَلى الدَّوامِ.
﴿فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ﴾ [الواقعة: ٧٨] أيْ: مَحْفُوظٍ مَصُونٍ، لا يَتَغَيَّرُ ولا يَتَبَدَّلُ. أوْ مَحْفُوظٍ عَنْ تَرْدادِ الأيْدِي عَلَيْهِ، كَغَيْرِهِ مِنَ الكُتُبِ، بَلْ هو كالدُّرِّ المَصُونِ إلّا عَنْ أهْلِهِ، كَما قالَ: ﴿لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٧٩] اعْلَمْ أنَّ في الآيَةِ أقْوالًا عَدِيدَةً؛ مَرْجِعُها إلى أنَّ المَسَّ مَجازٌ أوْ حَقِيقَةٌ، وأنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ لِلْكِتابِ بِمَعْنى الوَحْيِ المُتَلَقّى، أوِ المُصْحَفِ، وأنَّ ﴿المُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٧٩] هُمُ المَلائِكَةُ، أوِ المُتَطَهِّرُونَ مِنَ الأحْداثِ والأخْباثِ؛ وذَلِكَ لِاتِّساعِ ألْفاظِهِما الكَرِيمَةِ، لِما ذُكِرَ بِطَرِيقِ الِاشْتِراكِ أوِ الحَقِيقَةِ والمَجازِ، وهاكَ مُلَخَّصُ ذَلِكَ ولُبابُهُ:
(p-٥٦٦٠)فَأمّا أكْثَرَ المُفَسِّرِينَ: فَعَلى أنَّهُ عَنى بِالآيَةِ المَلائِكَةَ. فَنَفْيُ مَسِّهِ كِنايَةٌ عَنْ لازِمِهِ، وهو نَفْيُ الِاطِّلاعِ عَلَيْهِ، وعَلى ما فِيهِ. والمُرادُ بِ (المُطَهَّرِينَ) حِينَئِذٍ إمّا جِنْسُ المَلائِكَةِ، أوْ مَن نَزَلَ بِهِ وهو رُوحُ القُدُسِ. وطَهارَتُهم نَقاءُ ذَواتِهِمْ عَنْ كُدُوراتِ الأجْسامِ، ودَنَسِ الهَيُولى، أوْ عَنِ المُخالَفَةِ والعِصْيانِ.
وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: زَعَمَتْ كُفّارُ قُرَيْشٍ أنَّ هَذا القُرْآنَ تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، فَأخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ: ﴿لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٧٩] كَما قالَ:
﴿وما تَنَـزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ﴾ [الشعراء: ٢١٠] ﴿وما يَنْبَغِي لَهم وما يَسْتَطِيعُونَ﴾ [الشعراء: ٢١١] ﴿إنَّهم عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ [الشعراء: ٢١٢] انْتَهى. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَذا القَوْلُ قَوْلٌ جَيِّدٌ.
وقالَ الفَرّاءُ: لا يَجِدُ طَعْمَهُ ولا نَفْعَهُ إلّا مَن آمَنَ بِهِ. ومِثْلُهُ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الفَضْلِ: لا يَقْرَؤُهُ إلّا المُوَحِّدُونَ.
فَنَفْيُ مَسِّهِ كِنايَةٌ عَنْ تَرْكِ تَقَبُّلِهِ، والِاهْتِداءِ بِهِ، والعِنايَةِ بِهِ؛ فَإنَّ مَسَّ الشَّيْءِ سَبَبُ حُبِّ المَلْمُوسِ، وأثَرُ الإقْبالِ عَلَيْهِ، ورائِدُ الِانْصِياعِ لَهُ، والطَّهارَةُ حِينَئِذٍ هي نَظافَةُ القَلْبِ مِن دَنَسِ الشِّرْكِ والنِّفاقِ، والمَلَكاتِ الرَّدِيئَةِ، والغَرائِزِ الفاسِدَةِ.
وقالَ آخَرُونَ: عَنِّي بِ: (المُطَّهَّرِينَ) المُتَطَهِّرُونَ مِنَ الجَنابَةِ والحَدَثِ، قالُوا: ولَفْظُ الآيَةِ خَبَرٌ، ومَعْناها النَّهْيُ، إشارَةً إلى أنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ طَبِيعَةٌ مِن طَبائِعِهِ، ولازِمٌ مِن لَوازِمِهِ، لِشَرَفِهِ وعِظَمِ شَأْنِهِ.
قالُوا: والمُرادُ بِ: (الكِتابِ) المُصْحَفُ، واحْتَجُّوا بِما رَواهُ الإمامُ مالِكٌ في "مُوَطَّئِهِ" عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أنَّ في الكِتابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: ««أنْ لا يَمَسَّ القُرْآنَ إلّا طاهِرٌ»» . وبِما رَوى اَلدّارَقُطْنِيُّ في قِصَّةِ إسْلامِ عُمَرَ، أنَّ أُخْتَهُ قالَتْ لَهُ قَبْلَ أنْ يُسْلِمَ: إنَّهُ رِجْسٌ و﴿لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٧٩] إلّا أنَّ فِيهِما مَقالًا (p-٥٦٦١)بَيَّنَهُ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في "تَلْخِيصِ الحَبِيرِ" وأشارَ لَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أيْضًا. ومَعَ ذَلِكَ فالدَّلالَةُ لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً، وقَدْ أوْضَحَ ذَلِكَ الشَّوْكانِيُّ في "نَيْلِ الأوْطارِ" وعِبارَتُهُ:
الطّاهِرُ يُطْلَقُ بِالِاشْتِراكِ عَلى المُؤْمِنِ، والطّاهِرُ مِنَ الحَدَثِ الأكْبَرِ والأصْغَرِ، ومَن لَيْسَ عَلى بَدَنِهِ نَجاسَةٌ. ويَدُلُّ لِإطْلاقِهِ عَلى الأوَّلِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨] وقَوْلُهُ ﷺ لِأبِي هُرَيْرَةَ: ««المُؤْمِنُ لا يَنْجُسُ»» . وعَلى الثّانِي: ﴿وإنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة: ٦] وعَلى الثّالِثِ قَوْلُهُ ﷺ في المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ: ««دَعْهُما فَإنِّي أدْخَلْتُهُما طاهِرَتَيْنِ»»، وعَلى الرّابِعِ: الإجْماعُ عَلى أنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ نَجاسَةٌ حِسِّيَّةٌ ولا حُكْمِيَّةٌ يُسَمّى طاهِرًا. وقَدْ ورَدَ إطْلاقُ ذَلِكَ في كَثِيرٍ. فَمَن أجازَ حَمْلَ المُشْتَرَكِ عَلى جَمِيعِ مَعانِيهِ، حَمَلَهُ عَلَيْهِ هُنا. والمَسْألَةُ مُدَوَّنَةٌ في الأُصُولِ، وفِيها مَذاهِبُ، والَّذِي يَتَرَجَّحُ أنَّ المُشْتَرَكَ مُجْمَلٌ فِيها، فَلا يَعْمَلُ بِهِ حَتّى يُبَيَّنَ. وقَدْ وقَعَ الإجْماعُ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَدَثًا أكْبَرَ أنْ يَمَسَّ المُصْحَفَ، وخالَفَ في ذَلِكَ داوُدُ، واسْتَدَلَّ المانِعُونَ لِلْجُنُبِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٧٩] وهو لا يَتِمُّ إلّا بَعْدَ جَعْلِ الضَّمِيرِ راجِعًا إلى القُرْآنِ، والظّاهِرُ رُجُوعُهُ إلى الكِتابِ، وهو اللَّوْحُ المَحْفُوظُ؛ لِأنَّهُ الأقْرَبُ. و﴿المُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٧٩] المَلائِكَةُ. ولَوْ سُلِّمَ عَدَمُ الظُّهُورِ، فَلا أقَلَّ مِنَ الِاحْتِمالِ، فَيَمْتَنِعُ العَمَلُ بِأحَدِ الأمْرَيْنِ، ويَتَوَجَّهُ الرُّجُوعُ إلى البَراءَةِ الأصْلِيَّةِ. ولَوْ سُلِّمَ رُجُوعُهُ إلى القُرْآنِ عَلى التَّعْيِينِ، لَكانَتْ دَلالَتُهُ عَلى المَطْلُوبِ، وهو مَنعُ الجُنُبِ مِن مَسِّهِ، غَيْرَ مُسَلَّمَةٍ؛ لِأنَّ المُطَهَّرَ مَن لَيْسَ بِنَجِسٍ، والمُؤْمِنُ لَيْسَ بِنَجِسٍ دائِمًا، لِحَدِيثِ: ««المُؤْمِنُ لا يَنْجُسُ»» وهو مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ فَلا يَصِحُّ حَمْلُ المُطَهَّرِ عَلى مَن لَيْسَ بِجُنُبٍ أوْ حائِضٍ أوْ مُحْدِثٍ أوْ مُتَنَجِّسٍ بِنَجاسَةٍ عَيْنِيَّةٍ، بَلْ تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلى مَن لَيْسَ بِمُشْرِكٍ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨] لِهَذا الحَدِيثِ، ولِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ السَّفَرِ بِالقُرْآنِ إلى أرْضِ العَدُوِّ. ولَوْ (p-٥٦٦٢)سُلِّمَ صِدْقُ اسْمِ (الطّاهِرِ) عَلى مَن لَيْسَ بِمُحْدِثٍ حَدَثًا أكْبَرَ أوْ أصْغَرَ، فَقَدْ عَرَفْتَ أنَّ الرّاجِحَ كَوْنُ المُشْتَرَكِ مُجْمَلًا في مَعانِيهِ، فَلا يُعَيَّنُ حَتّى يَبِينَ، وقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ هاهُنا أنَّ المُرادَ بِهِ غَيْرُهُ لِحَدِيثِ: ««المُؤْمِنُ لا يَنْجُسُ»»، ولَوْ سُلِّمَ عَدَمُ وُجُودِ دَلِيلٍ يَمْنَعُ مِن إرادَتِهِ، لَكانَ تَعْيِينُهُ لِمَحَلِّ النِّزاعِ تَرْجِيحًا بِلا مُرَجِّحٍ، وتَعْيِينُهُ لِجَمِيعِها اسْتِعْمالًا لِلْمُشْتَرَكِ في جَمِيعِ مَعانِيهِ، وفِيهِ الخِلافُ، ولَوْ سُلِّمَ رُجْحانُ القَوْلِ بِجَوازِ الِاسْتِعْمالِ في جَمِيعِ مَعانِيهِ، لَما صَحَّ، لِوُجُودِ المانِعِ، وهو حَدِيثُ: ««المُؤْمِنُ لا يَنْجُسُ»» . واسْتَدَلُّوا أيْضًا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ المُتَقَدِّمِ، وأُجِيبَ بِأنَّهُ غَيْرُ صالِحٍ لِلِاحْتِجاجِ؛ لِأنَّهُ مِن صَحِيفَةٍ غَيْرِ مَسْمُوعَةٍ، وفي رِجالِ إسْنادِهِ خِلافٌ شَدِيدٌ، ولَوْ سُلِّمَ صَلاحِيَتُهُ لِلِاحْتِجاجِ، لَعادَ البَحْثُ السّابِقُ في لَفْظِ طاهِرٍ، وقَدْ عَرَفْتَهُ.
قالَ السَّيِّدُ العَلّامَةُ مُحَمَّدُ بْنُ إبْراهِيمَ الوَزِيرُ: إنَّ إطْلاقَ اسْمِ النَّجِسِ عَلى المُؤْمِنِ الَّذِي لَيْسَ بِطاهِرٍ مِنَ الجَنابَةِ أوِ الحَيْضِ أوِ الحَدَثِ الأصْغَرِ، لا يَصِحُّ حَقِيقَةً ولا مَجازًا ولا لُغَةً. صَرَّحَ بِذَلِكَ في جَوابِ سُؤالٍ ورَدَّ عَلَيْهِ؛ فَإنْ ثَبَتَ هَذا فالمُؤْمِنُ طاهِرٌ دائِمًا، فَلا يَتَناوَلُهُ الحَدِيثُ، سَواءٌ كانَ جُنُبًا أوْ حائِضًا أوْ مُحْدِثًا، أوْ عَلى بَدَنِهِ نَجاسَةٌ. فَإنْ قُلْتَ: إذا تَمَّ ما تُرِيدُ مِن حَمْلِ الطّاهِرِ عَلى مَن لَيْسَ بِمُشْرِكٍ، فَما جَوابُكَ فِيما ثَبَتَ في المُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ ﷺ كَتَبَ إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: ««أسْلِمْ تَسْلَمْ، وأسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإنْ تَوَلَّيْتَ فَإنَّما عَلَيْكَ إثْمُ الأرِيسِيِّينَ. و﴿يا أهْلَ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ﴾ [آل عمران: ٦٤] إلى قَوْلِهِ: ﴿مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٦٤]»»، مَعَ كَوْنِهِمْ جامِعِينَ بَيْنَ نَجاسَتَيِ الشِّرْكِ والِاجْتِنابِ، ووُقُوعُ اللَّمْسِ مِنهم لَهُ مَعْلُومٌ؟
قُلْتُ: أجَعَلَهُ خاصَّةً بِمِثْلِ الآيَةِ والآيَتَيْنِ، فَإنَّهُ يَجُوزُ تَمْكِينُ المُشْرِكِ مِن مَسِّ ذَلِكَ المِقْدارِ لِمَصْلَحَةٍ، كَدُعائِهِ إلى الإسْلامِ. ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْ ذَلِكَ بِأنَّهُ قَدْ صارَ بِاخْتِلاطِهِ بِغَيْرِهِ (p-٥٦٦٣)لا يَحْرُمُ لَمْسُهُ، كَكُتُبِ التَّفْسِيرِ، فَلا تُخَصَّصُ بِهِ الآيَةُ والحَدِيثُ. إذا تَقَرَّرَ لَكَ هَذا عَرَفْتَ عَدَمَ انْتِهاضِ الدَّلِيلِ عَلى مَنعِ مَن عَدا المُشْرِكَ. وقَدْ عَرَفْتَ الخِلافَ في الجُنُبِ. وأمّا المُحْدِثُ حَدَثًا أصْغَرَ، فَذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ والشَّعْبِيُّ والضَّحّاكُ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ والمُؤَيَّدُ بِاللَّهِ والهادَوِيَّةُ وقاضِي القُضاةِ وداوُدُ أنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مَسُّ المُصْحَفِ، وقالَ القاسِمُ وأكْثَرُ الفُقَهاءِ والإمامُ يَحْيى: لا يَجُوزُ واسْتَدَلُّوا بِما سَلَفَ، وقَدْ سَلَفَ ما فِيهِ. انْتَهى كَلامُ الشَّوْكانِيِّ.
تَنْبِيهٌ في لُطْفِ دَلالَةِ هَذِهِ الآيَةِ وما تُشِيرُ إلَيْهِ مِنَ العِلْمِ المَكْنُونِ:
قالَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ في "أعْلامِ المُوَقِّعِينَ" في مَباحِثِ أمْثالِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، ما مِثالُهُ: الواجِبُ فِيما عَلَّقَ عَلَيْهِ الشّارِعُ الأحْكامَ مِنَ الألْفاظِ والمَعانِي أنْ لا يُتَجاوَزَ بِألْفاظِها ومَعانِيها، ولا يُقَصَّرَ بِها، ويُعْطى اللَّفْظُ حَقَّهُ، والمَعْنى، وقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعالى أهْلَ الِاسْتِنْباطِ في كِتابِهِ، وأخْبَرَ أنَّهم أهْلُ العِلْمِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الِاسْتِنْباطَ إنَّما هو اسْتِنْباطُ المَعانِي والعِلَلِ، ونِسْبَةُ بَعْضِها إلى بَعْضٍ، فَيُعْتَبَرُ ما يَصِحُّ مِنها بِصِحَّةِ مَثَلِهِ وشَبَهِهِ ونَظِيرِهِ، ويُلْغى ما لا يَصِحُّ، هَذا الَّذِي يَعْقِلُهُ النّاسُ مِنَ الِاسْتِنْباطِ.
قالَ الجَوْهَرِيُّ: الِاسْتِنْباطُ كالِاسْتِخْراجِ. ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ قَدْرٌ زائِدٌ عَلى مُجَرَّدِ فَهْمِ اللَّفْظِ؛ فَإنَّ ذَلِكَ لَيْسَ طَرِيقَةَ الِاسْتِنْباطِ؛ إذْ مَوْضُوعاتُ الألْفاظِ لا تُنالُ بِالِاسْتِنْباطِ، وإنَّما تُنالُ بِهِ العِلَلُ والمَعانِي والأشْباهُ والنَّظائِرُ، ومَقاصِدُ المُتَكَلِّمِ. واللَّهُ سُبْحانَهُ ذَمَّ مَن سَمِعَ ظاهِرًا مُجَرَّدًا فَأذاعَهُ وأفْشاهُ، وحَمِدَ مَنِ اسْتَنْبَطَ مِن أُولِي العِلْمِ حَقِيقَتَهُ ومَعْناهُ يُوَضِّحُهُ أنَّ الِاسْتِنْباطَ اسْتِخْراجُ الأمْرِ الَّذِي مِن شَأْنِهِ أنْ يَخْفى عَلى غَيْرِ مُسْتَنْبِطِهِ، ومِنهُ اسْتِنْباطُ الماءِ مِن أرْضِ البِئْرِ والعَيْنِ. ومِن هَذا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وقَدْ سُئِلَ: هَلْ خَصَّكم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِشَيْءٍ دُونَ النّاسِ؟ فَقالَ: لا، والَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وبَرَأ النَّسَمَةَ، إلّا فَهْمًا (p-٥٦٦٤)يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا في كِتابِهِ! ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا الفَهْمَ قَدْرٌ زائِدٌ عَلى مَعْرِفَةِ مَوْضُوعِ اللَّفْظِ وعُمُومِهِ أوْ خُصُوصِهِ، فَإنَّ هَذا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنِ سائِرِ مَن يَعْرِفُ لُغَةَ العَرَبِ، وإنَّما هَذا فَهْمُ لَوازِمِ المَعْنى ونَظائِرِهِ، ومُرادِ المُتَكَلِّمِ بِكَلامِهِ، ومَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلامِهِ، بِحَيْثُ لا يَدْخُلُ فِيها غَيْرُ المُرادِ ولا يَخْرُجُ مِنها شَيْءٌ مِنَ المُرادِ. وأنْتَ إذا تَأمَّلْتَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٧] ﴿فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ﴾ [الواقعة: ٧٨] ﴿لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٧٩] وجَدْتَ الآيَةَ مِن أظْهَرِ الأدِلَّةِ عَلى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وأنَّ القُرْآنَ جاءَ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وأنَّ الَّذِي جاءَ بِهِ رُوحٌ مُطَهَّرَةٌ، فَما لِلْأرْواحِ الخَبِيثَةِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ. ووَجَدْتَ الآيَةَ أُخْتَ قَوْلِهِ: ﴿وما تَنَـزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ﴾ [الشعراء: ٢١٠] ﴿وما يَنْبَغِي لَهم وما يَسْتَطِيعُونَ﴾ [الشعراء: ٢١١] ووَجَدْتَها دالَّةً بِأحْسَنِ الدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ لا يَمَسُّ المُصْحَفَ إلّا طاهِرٌ، ووَجَدْتَها دالَّةً أيْضًا بِألْطَفِ الدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ لا يَجِدُ حَلاوَتَهُ وطَعْمَهُ إلّا مَن آمَنَ بِهِ وعَمِلَ بِهِ، كَما فَهِمَهُ البُخارِيُّ مِنَ الآيَةِ، فَقالَ في صَحِيحِهِ في بابِ: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فاتْلُوها﴾ [آل عمران: ٩٣] ﴿لا يَمَسُّهُ﴾ [الواقعة: ٧٩] لا يَجِدُ طَعْمَهُ ونَفْعَهُ إلّا مَن آمَنَ بِالقُرْآنِ، ولا يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إلّا المُؤْمِنُ لِقَوْلِهِ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أسْفارًا﴾ [الجمعة: ٥] وتَجِدُ تَحْتَهُ أيْضًا لا يُنالُ مَعانِيهِ ويَفْهَمُهُ كَما يَنْبَغِي، إلّا القُلُوبُ الطّاهِرَةُ، وإنَّ القُلُوبَ النَّجِسَةَ مَمْنُوعَةٌ مِن فَهْمِهِ، مَصْرُوفَةٌ عَنْهُ، فَتَأمَّلْ هَذا السَّبَبَ القَرِيبَ، وعَقْدَ هَذِهِ الأُخُوَّةِ بَيْنَ هَذِهِ المَعانِي وبَيْنَ المَعْنى الظّاهِرِ مِنَ الآيَةِ، واسْتِنْباطَ هَذِهِ المَعانِي كُلِّها مِنَ الآيَةِ بِأحْسَنِ وجْهٍ وأبْيَنِهِ، فَهَذا مِنَ الفَهْمِ الَّذِي أشارَ إلَيْهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انْتَهى.
(p-٥٦٦٥)
{"ayahs_start":75,"ayahs":["۞ فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِمَوَ ٰقِعِ ٱلنُّجُومِ","وَإِنَّهُۥ لَقَسَمࣱ لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِیمٌ","إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانࣱ كَرِیمࣱ","فِی كِتَـٰبࣲ مَّكۡنُونࣲ","لَّا یَمَسُّهُۥۤ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ"],"ayah":"لَّا یَمَسُّهُۥۤ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ"}