القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٦٠ - ٧٨] ﴿هَلْ جَزاءُ الإحْسانِ إلا الإحْسانُ﴾ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٦١] ﴿ومِن دُونِهِما جَنَّتانِ﴾ [الرحمن: ٦٢] ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٦٣] ﴿مُدْهامَّتانِ﴾ [الرحمن: ٦٤] (p-٥٦٣٢)﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٦٥] ﴿فِيهِما عَيْنانِ نَضّاخَتانِ﴾ [الرحمن: ٦٦] ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٦٧] ﴿فِيهِما فاكِهَةٌ ونَخْلٌ ورُمّانٌ﴾ [الرحمن: ٦٨] ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٦٩] ﴿فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ﴾ [الرحمن: ٧٠] ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٧١] ﴿حُورٌ مَقْصُوراتٌ في الخِيامِ﴾ [الرحمن: ٧٢] ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٧٣] ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهم ولا جانٌّ﴾ [الرحمن: ٧٤] ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٧٥] ﴿مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ﴾ [الرحمن: ٧٦] ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٧٧] ﴿تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ والإكْرامِ﴾ [الرحمن: ٧٨]
﴿هَلْ جَزاءُ الإحْسانِ﴾ أيْ: في العَمَلِ ﴿إلا الإحْسانُ﴾ أيْ: في الثَّوابِ، وهو الجَنَّةُ، ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٦١] ﴿ومِن دُونِهِما﴾ [الرحمن: ٦٢] أيْ: دُونَ تِينِكَ الجَنَّتَيْنِ المُنَوَّهِ بِهِما ﴿جَنَّتانِ﴾ [الرحمن: ٦٢] أيْ: بُسْتانانِ آخَرانِ، إشارَةً إلى وفْرَةِ الجِنانِ واتِّصالِها وسِعَةِ امْتِدادِ الطَّرْفِ في مَناظِرِها.
﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٦٣] ﴿مُدْهامَّتانِ﴾ [الرحمن: ٦٤] أيْ: خَضْراوانِ مِنَ الرَّيِّ، (p-٥٦٣٣)تَضْرِبانِ إلى السَّوادِ مِن شِدَّةِ الخُضْرَةِ. أوْ مِن كَثْرَةِ أشْجارِها المُمْتَدَّةِ لا إلى نِهايَةٍ.
﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٦٥] ﴿فِيهِما عَيْنانِ نَضّاخَتانِ﴾ [الرحمن: ٦٦] أيْ: فَوّارَتانِ بِالماءِ.
﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٦٧] ﴿فِيهِما فاكِهَةٌ ونَخْلٌ ورُمّانٌ﴾ [الرحمن: ٦٨] وإنَّما أفْرَدَهُما بِالذِّكْرِ بَيانًا لِفَضْلِهِما، كَأنَّهُما لِما لَهُما مِنَ المَزِيَّةِ جِنْسانِ آخَرانِ.
﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٦٩] ﴿فِيهِنَّ خَيْراتٌ﴾ [الرحمن: ٧٠] جَمْعُ (خَيِّرَةٍ) بِالتَّشْدِيدِ، إلّا أنَّهُ خُفِّفَ. وقَدْ قُرِئَ عَلى الأصْلِ، أيْ: فاضِلاتُ الأخْلاقِ. وإيثارُ ضَمِيرِ المُؤَنَّثِ عَلى التَّثْنِيَةِ مُراعاةً لِلَّفْظِ المُسْنَدِ إلَيْهِ بَعْدَهُ ﴿حِسانٌ﴾ [الرحمن: ٧٠] أيْ: حِسانُ الوُجُوهِ.
﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٧١] ﴿حُورٌ مَقْصُوراتٌ في الخِيامِ﴾ [الرحمن: ٧٢] الحُورُ: جَمْعُ (حَوْراءَ)، وهي البَيْضاءُ النَّقِيَّةُ، ومَعْنى ﴿مَقْصُوراتٌ﴾ [الرحمن: ٧٢] قَصَرْنَ أنْفُسَهُنَّ عَلى مَنازِلِهِنَّ، لا يُهِمُّهُنَّ إلّا زِينَتُهُنَّ ولَهْوُهُنَّ. وفِيهِ المَعانِي المُتَقَدِّمَةُ أيْضًا. و﴿الخِيامِ﴾ [الرحمن: ٧٢] قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي بِها البُيُوتَ. وقَدْ يُسَمِّي العَرَبُ هَوادِجَ النِّساءِ خِيامًا، ثُمَّ أنْشَدَ لَهُ.
﴿فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهم ولا جانٌّ﴾ [الرحمن: ٥٦] يَعْنِي بِهِنَّ حُورَ الجَنَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ مِن دُونِ الأُولَيَيْنِ. أوْ تَكْرِيرٌ لِما سَبَقَ لِلتَّنْوِيهِ بِهَذا الوَصْفِ، وكَوْنُهُ في مُقَدِّمَةِ المُشْتَهَياتِ، وطَلِيعَةِ المَلَذّاتِ:
﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٧٥] ﴿مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ﴾ [الرحمن: ٧٦] أيْ: سُرُرٍ أوْ مَسانِدَ أوْ وسائِدَ ﴿خُضْرٍ وعَبْقَرِيٍّ﴾ [الرحمن: ٧٦] أيْ: طَنافِسَ وبُسُطٍ ﴿حِسانٍ﴾ [الرحمن: ٧٦] أيْ: جِيادٍ. والصِّفَةُ كاشِفَةٌ، ولِذا قالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: (العَبْقَرِيُّ) عِتاقُ الزَّرابِيِّ، أيْ: جِيادُها.
﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٧٧] أيْ: مِن إكْرامِهِ أهْلَ طاعَتِهِ مِنكُما هَذا الإكْرامَ، ﴿تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ والإكْرامِ﴾ [الرحمن: ٧٨] أيْ: ذِي العَظَمَةِ والكِبْرِياءِ، والتَّفَضُّلِ بِالآلاءِ، والِاسْمُ هُنا كِنايَةٌ عَنِ الذّاتِ العَلِيَّةِ، لِأنَّهُ كَثُرَ اقْتِرانُ الفِعْلِ المَذْكُورِ مَعَها، كَآيَةِ: ﴿تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ في السَّماءِ بُرُوجًا﴾ [الفرقان: ٦١] وآيَةِ: ﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ﴾ [الملك: ١] ونَحْوِهِما. وسِرُّ إيثارِ الِاسْمِ (p-٥٦٣٤)لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُ لا يُعْرَفُ مِنهُ تَعالى إلّا أسْماؤُهُ الحُسْنى، لِاسْتِحالَةِ اكْتِناهِ الذّاتِ المُقَدَّسَةِ. فَما عَرَفَ اللَّهَ إلّا اللَّهُ. هَذا هو التَّحْقِيقُ.
وقِيلَ: لَفْظُ (اسْمُ) مُقْحَمٌ، كَقَوْلِهِ:
؎إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُما
وذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إلى بَقاءِ الِاسْمِ عَلى حَقِيقَتِهِ. ورَدَّ مَنِ اسْتَدَلَّ بِأنَّ الِاسْمَ هو المُسَمّى بِما مِثالُهُ: لا حُجَّةَ فِيما احْتَجُّوا بِهِ. أمّا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ والإكْرامِ فَحَقٌّ. ومَعْنى " تَبارَكَ " تَفاعَلَ مِنَ البَرَكَةِ، والبَرَكَةُ واجِبَةٌ لِاسْمِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ الَّذِي هو كَلِمَةٌ مُؤَلَّفَةٌ مِن حُرُوفِ الهِجاءِ، ونَحْنُ نَتَبَرَّكُ بِالذِّكْرِ لَهُ وبِتَعْظِيمِهِ ونُجِلُّهُ ونُكْرِمُهُ، فَلَهُ التَّبارُكُ ولَهُ الإجْلالُ مِنّا ومِنَ اللَّهِ تَعالى، ولَهُ الإكْرامُ مِنَ اللَّهِ تَعالى ومِنّا، حِينَما كانَ مِن قِرْطاسٍ، أوْ في شَيْءٍ مَنقُوشٍ فِيهِ، أوْ مَذْكُورٍ بِالألْسِنَةِ. ومَن لَمْ يُجِلَّ اسْمَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ (p-٥٦٣٥)كَذَلِكَ ولا أكْرَمَهُ، فَهو كافِرٌ بِلا شَكٍّ؛ فالآيَةُ عَلى ظاهِرِها دُونَ تَأْوِيلٍ، فَبَطَلَ تَعَلُّقُهم بِها. انْتَهى كَلامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فائِدَةٌ:
فِيما قالَهُ الأئِمَّةُ في سِرِّ تَكْرِيرِ: " فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ " قالَ السُّيُوطِيُّ في (الإتْقانِ) في بَحْثِ التَّكْرِيرِ:
قَدْ يَكُونُ التَّكْرِيرُ غَيْرَ تَأْكِيدٍ صِناعَةً، وإنْ كانَ مُفِيدًا لِلتَّأْكِيدِ مَعْنًى، ومِنهُ ما وقَعَ فِيهِ الفَصْلُ بَيْنَ المُكَرَّرَيْنِ، فَإنَّ التَّأْكِيدَ لا يُفْصَلُ بَيْنَهُ وبَيْنَ مُؤَكِّدِهِ.
ثُمَّ قالَ: وجُعِلَ مِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: " فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ " فَإنَّهُما، وإنْ تَكَرَّرَتْ نَيِّفًا وثَلاثِينَ مَرَّةً، فَكُلُّ واحِدَةٍ تَتَعَلَّقُ بِما قَبْلَها، ولِذَلِكَ زادَتْ عَلى ثَلاثَةٍ، ولَوْ كانَ الجَمِيعُ عائِدًا إلى شَيْءٍ واحِدٍ لَما زادَ عَلى ثَلاثَةٍ، لِأنَّ التَّأْكِيدَ لا يَزِيدُ عَلَيْها، قالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلامِ وغَيْرُهُ، انْتَهى.
وفِي (عَرُوسِ الأفْراحِ): فَإنْ قُلْتَ: إذا كانَ المُرادُ بِكُلِّ ما قَبْلَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإطْنابٍ بَلْ هي ألْفاظٌ كُلٌّ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ ما أُرِيدَ بِهِ الآخَرُ؟
قُلْتُ: إذا قُلْنا: العِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، فَكُلُّ واحِدٍ أُرِيدَ بِهِ ما أُرِيدَ بِالآخَرِ، ولَكِنْ كُرِّرَ لِيَكُونَ نَصًّا فِيما يَلِيهِ، ظاهِرًا في غَيْرِهِ.
فَإنْ قُلْتَ: يَلْزَمُ التَّأْكِيدُ؟
قُلْتُ: والأمْرُ كَذَلِكَ، ولا يُرَدُّ عَلَيْهِ أنَّ التَّأْكِيدَ لا يُزادُ بِهِ عَنْ ثَلاثَةٍ؛ لِأنَّ ذاكَ في التَّأْكِيدِ الَّذِي هو تابِعٌ. أمّا ذِكْرُ الشَّيْءِ في مَقاماتٍ مُتَعَدِّدَةٍ أكْثَرَ مِن ثَلاثَةٍ، فَلا يَمْتَنِعُ. انْتَهى.
وقالَ العِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ في آخِرِ كِتابِهِ (الإشارَةُ إلى الإيجازِ) وأمّا قَوْلُهُ:
" فَبِأيِّ (p-٥٦٣٦)آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ " فَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُكَرَّرَةً عَلى جَمِيعِ أنْعُمِهِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِكُلِّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ ما وقَعَ بَيْنَها وبَيْنَ الَّتِي قَبْلَها مِن نِعْمَةٍ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالأُولى ما تَقَدَّمَها مِنَ النِّعَمِ، وبِالثّانِيَةِ ما تَقَدَّمَها، وبِالثّالِثَةِ ما تَقَدَّمَ عَلى الأُولى، والثّانِيَةُ والرّابِعَةُ ما تَقَدَّمَ عَلى الأُولى والثّانِيَةِ والثّالِثَةِ، وهَكَذا إلى آخِرِ السُّورَةِ.
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿سَنَفْرُغُ لَكم أيُّهَ الثَّقَلانِ﴾ [الرحمن: ٣١] نِعْمَةً، وقَوْلُهُ: ﴿يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ﴾ [الرحمن: ٤١] نِعْمَةٌ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِها المُجْرِمُونَ﴾ [الرحمن: ٤٣] وقَوْلُهُ: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِن نارٍ ونُحاسٌ﴾ [الرحمن: ٣٥] وقَوْلُهُ: ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَها وبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ [الرحمن: ٤٤] ؟
قُلْنا: هَذِهِ كُلُّها نِعَمٌ جِسامٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ هَدَّدَ العِبادَ بِها اسْتِصْلاحًا لَهُمْ، لِيَخْرُجُوا مِن حَيِّزِ الكُفْرِ والطُّغْيانِ والفُسُوقِ والعِصْيانِ إلى حَيِّزِ الطّاعَةِ والإيمانِ والِانْقِيادِ والإذْعانِ، فَإنَّ مَن حَذَّرَ مِن طَرِيقِ الرَّدى، وبَيَّنَ ما فِيها مِنَ الأذى، وحَثَّ عَلى طَرِيقِ السَّلامَةِ، المُوَصِّلَةِ إلى المَثُوبَةِ والكَرامَةِ، كانَ مُنْعِمًا غايَةَ الإنْعامِ، ومُحْسِنًا غايَةَ الإحْسانِ. ومِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿هَذا ما وعَدَ الرَّحْمَنُ﴾ [يس: ٥٢] وعَلى هَذا تَصْلُحُ فِيهِ مُناسَبَةُ الرَّبْطِ، بِذِكْرِ صِفَةِ الرَّحْمَةِ في ذَلِكَ المَقامِ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿كُلُّ مَن عَلَيْها فانٍ﴾ [الرحمن: ٢٦] فَإنَّهُ تَذْكِيرٌ بِالمَوْتِ والفَناءِ، لِلتَّرْغِيبِ في الإقْبالِ عَلى العَمَلِ لِدارِ البَقاءِ، وفي الإعْراضِ عَنْ دارِ الفَناءِ. انْتَهى.
وقالَ البَغَوِيُّ: كُرِّرَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أحَدٍ وثَلاثِينَ مَوْضِعًا تَقْرِيرًا لِلنِّعْمَةِ، وتَأْكِيدًا لِلتَّذْكِيرِ بِها، ثُمَّ عَدَّدَ عَلى الخَلْقِ آلاءَهُ، وفَصَلَ بَيْنَ كُلِّ نِعْمَتَيْنِ بِما نَبَّهَهم عَلَيْهِ، لِيُفْهِمَهُمُ النِّعَمَ ويُقَرِّرَهم بِها، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِمَن أحْسَنَ إلَيْهِ وتابَعَ إلَيْهِ بِالأيادِي، وهو يُنْكِرُها ويَكْفُرُها: ألَمْ تَكُنْ فَقِيرًا فَأغْنَيْتُكَ، أفَتُنْكِرُ هَذا؟ ألَمْ تَكُنْ عُرْيانًا فَكَسَوْتُكَ، أفَتُنْكِرُ هَذا؟ ألَمْ تَكُنْ خامِلًا فَعَزَزْتُكَ، أفَتُنْكِرُ هَذا؟ ومِثْلُ هَذا الكَلامِ شائِعٌ في كَلامِ العَرَبِ. انْتَهى.
(p-٥٦٣٧)وقالَ السَّيِّدُ مُرْتَضى في (الدُّرَرُ والغُرَرُ): التَّكْرارُ في سُورَةِ الرَّحْمَنِ، إنَّما حُسِّنَ لِلتَّقْرِيرِ بِالنِّعَمِ المُخْتَلِفَةِ المُعَدَّدَةِ، فَكُلَّما ذَكَرَ نِعْمَةً أنْعَمَ بِها، وبَّخَ عَلى التَّكْذِيبِ، كَما يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: ألَمْ أُحْسِنْ إلَيْكَ بِأنْ خَوَّلْتُكَ في الأمْوالِ؟ ألَمْ أُحْسِنْ إلَيْكَ بِأنْ فَعَلْتُ بِكَ كَذا وكَذا؟ فَيَحْسُنُ فِيهِ التَّكْرِيرُ، لِاخْتِلافِ ما يُقَرِّرُ بِهِ، وهو كَثِيرٌ في كَلامِ العَرَبِ وأشْعارِهِمْ، كَقَوْلِ مُهَلْهَلٍ يَرْثِي كُلَيْبًا:
؎عَلى أنْ لَيْسَ عَدْلًا مِن كُلَيْبٍ ∗∗∗ إذا ما ضِيمَ جِيرانُ المُجِيرِ
؎عَلى أنْ لَيْسَ عَدْلًا مِن كُلَيْبٍ ∗∗∗ إذا رَجَفَ العِضاهُ مِنَ الدَّبُورِ
؎عَلى أنْ لَيْسَ عَدْلًا مِن كُلَيْبٍ ∗∗∗ إذا خَرَجَتْ مُخَبَّأةُ الخُدُورِ
؎عَلى أنْ لَيْسَ عَدْلًا مِن كُلَيْبٍ ∗∗∗ إذا ما أُعْلِنَتْ نَجْوى الأُمُورِ
؎عَلى أنْ لَيْسَ عَدْلًا مِن كُلَيْبٍ ∗∗∗ إذا خِيفَ المَخُوفُ مِنَ الثُّغُورِ
؎عَلى أنْ لَيْسَ عَدْلًا مِن كُلَيْبٍ ∗∗∗ غَداةَ تَلاتِلِ الأمْرِ الكَبِيرِ
؎عَلى أنْ لَيْسَ عَدْلًا مِن كُلَيْبٍ ∗∗∗ إذا ما خارَ جارُ المُسْتَجِيرِ
ثُمَّ أنْشَدَ قَصائِدَ أُخْرى عَلى هَذا النَّمَطِ، هو مِن لَطائِفِ العَرَبِ، فاعْرِفْهُ.
وقالَ شَيْخُ الإسْلامِ في (مُتَشابِهِ القُرْآنِ): ذُكِرَتْ هَذِهِ الآيَةُ إحْدى وثَلاثِينَ مَرَّةً، ثَمانِيَةً مِنها ذُكِرَتْ عَقِبَ آياتٍ فِيها تِعْدادُ عَجائِبِ خَلْقِ اللَّهِ، وبَدائِعِ صُنْعِهِ، ومَبْدَأُ الخَلْقِ ومَعادُهُمْ، ثُمَّ سَبْعَةً مِنها عَقِبَ آياتٍ فِيها ذِكْرُ النّارِ وشَدائِدِها، بِعَدَدِ أبْوابِ جَهَنَّمَ، وحُسْنُ ذِكْرِ الآلاءِ عَقِبِها؛ لِأنَّ مِن جُمْلَةِ الآلاءِ: رَفْعُ البَلاءِ، وتَأْخِيرُ العِقابِ. وبَعْدَ هَذِهِ السَّبْعَةِ ثَمانِيَةٌ في وصْفِ الجَنَّتَيْنِ وأهْلِها، بِعَدَدِ أبْوابِ الجَنَّةِ، وثَمانِيَةٌ أُخْرى بَعْدَها في الجَنَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُما دُونَ الجَنَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُما دُونَ الجَنَّتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، أخْذًا مِن قَوْلِهِ: ﴿ومِن دُونِهِما جَنَّتانِ﴾ [الرحمن: ٦٢] فَمَنِ اعْتَقَدَ الثَّمانِيَةَ الأوْلى وعَمِلَ بِمُوجِبِها اسْتَحَقَّ هاتَيْنِ الثَّمانِيَّتَيْنِ مِنَ اللَّهِ، ووَقاهُ السَّبْعَةَ السّابِقَةَ. انْتَهى.
اللَّهُمَّ زِدْنا اطِّلاعًا عَلى لَطائِفِ قُرْآنِكَ الكَرِيمِ، وغَوْصًا عَلى لَآلِئِ فُرْقانِكَ العَظِيمِ.
{"ayahs_start":60,"ayahs":["هَلۡ جَزَاۤءُ ٱلۡإِحۡسَـٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَـٰنُ","فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ","وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ","فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ","مُدۡهَاۤمَّتَانِ","فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ","فِیهِمَا عَیۡنَانِ نَضَّاخَتَانِ","فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ","فِیهِمَا فَـٰكِهَةࣱ وَنَخۡلࣱ وَرُمَّانࣱ","فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ","فِیهِنَّ خَیۡرَ ٰتٌ حِسَانࣱ","فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ","حُورࣱ مَّقۡصُورَ ٰتࣱ فِی ٱلۡخِیَامِ","فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ","لَمۡ یَطۡمِثۡهُنَّ إِنسࣱ قَبۡلَهُمۡ وَلَا جَاۤنࣱّ","فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ","مُتَّكِـِٔینَ عَلَىٰ رَفۡرَفٍ خُضۡرࣲ وَعَبۡقَرِیٍّ حِسَانࣲ","فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ","تَبَـٰرَكَ ٱسۡمُ رَبِّكَ ذِی ٱلۡجَلَـٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ"],"ayah":"وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ"}