الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١٣ - ١٨] ﴿ولَقَدْ رَآهُ نَـزْلَةً أُخْرى﴾ ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى﴾ [النجم: ١٤] ﴿عِنْدَها جَنَّةُ المَأْوى﴾ [النجم: ١٥] ﴿إذْ يَغْشى السِّدْرَةَ ما يَغْشى﴾ [النجم: ١٦] ﴿ما زاغَ البَصَرُ وما طَغى﴾ [النجم: ١٧] ﴿لَقَدْ رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى﴾ [النجم: ١٨] ﴿ولَقَدْ رَآهُ نَـزْلَةً أُخْرى﴾ أيْ: مَرَّةً أُخْرى مِنَ النُّزُولِ، وتَأْكِيدُ الخَبَرِ عَنِ الرُّؤْيَةِ (p-٥٥٦٣)الثّانِيَةِ هَذِهِ، لِنَفْيِ الرِّيبَةِ والشَّكِّ عَنْها أيْضًا، وأنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيها التِباسٌ واشْتِباهٌ. ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى﴾ [النجم: ١٤] أيْ: مَوْضِعِ الِانْتِهاءِ. فَـ المُنْتَهى: اسْمُ مَكانٍ، أوْ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ. وقَدْ جاءَ في الصَّحِيحِ أنَّها ««شَجَرَةُ نَبْقٍ في السَّماءِ السّابِعَةِ، إلَيْها يَنْتَهِي ما يُعْرَجُ بِهِ مِن أمْرِ اللَّهِ مِنَ الأرْضِ، فَيُقْبَضُ مِنها، وما يَهْبِطُ بِهِ مِن فَوْقِها، فَيُقْبَضُ مِنها»» . قالَ القاضِي: ولَعَلَّها شُبِّهَتْ بِالسِّدْرَةِ، وهي شَجَرَةُ النَّبْقِ، لِأنَّهم يَجْتَمِعُونَ في ظِلِّها، يَعْنِي أنَّ شَجَرَ النَّبْقِ يَجْتَمِعُ النّاسُ في ظِلِّهِ، وهَذِهِ يَجْتَمِعُ عِنْدَها المَلائِكَةُ، فَشُبِّهَتْ بِها، وسُمِّيَتْ سِدْرَةً لِذَلِكَ. فَإطْلاقُها عَلَيْها بِطَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ، لَكِنْ ورَدَ في الحَدِيثِ ««أنَّ كُلَّ نَبْقَةٍ فِيها كَقُلَّةٍ مِن قِلالِ هَجَرَ»»، فَهي عَلى هَذا حَقِيقِيَّةٌ، وهو الأظْهَرُ، قالَهُ الشِّهابُ. ﴿عِنْدَها جَنَّةُ المَأْوى﴾ [النجم: ١٥] أيِ: الَّتِي يَأْوِي إلَيْها أرْواحُ المُقَرَّبِينَ. ﴿إذْ يَغْشى السِّدْرَةَ ما يَغْشى﴾ [النجم: ١٦] قالَ القاشانِيُّ: أيْ: مِن جَلالِ اللَّهِ وعَظَمَتِهِ. مَعْناهُ أنَّهُ رَأى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى حِينَما كانَتِ الأرْواحُ والمَلائِكَةُ تَغْشاها، وتَهْبِطُ عَلَيْها، وتَحُفُّ مِن حَوْلِها. ﴿ما زاغَ البَصَرُ﴾ [النجم: ١٧] أيْ: ما مالَ بَصَرُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَمّا رَآهُ. ﴿وما طَغى﴾ [النجم: ١٧] أيْ: ما تَجاوَزَ مَرْئِيَّةِ المَقْصُودِ لَهُ، بَلْ أثْبَتَ ما رَآهُ إثْباتًا مُسْتَيْقِنًا صَحِيحًا لا شُبْهَةَ فِيهِ. وفِيهِ وصْفٌ لِأدَبِهِ ﷺ وتَمَكُّنِهِ، إذْ لَمْ يَتَجاوَزْ ما أُمِرَ بِرُؤْيَتِهِ. ﴿لَقَدْ رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى﴾ [النجم: ١٨] يَعْنِي المَلَكَ الَّذِي عايَنَهُ وأخْبَرَهُ بِرِسالَتِهِ. وفِيهِ غايَةُ التَّفْخِيمِ لِمَقامِهِ، وأنَّهُ مِنَ الآياتِ الكُبَرِ. قالَ النّاصِرُ: ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ " الكُبْرى " صِفَةً لِآياتٍ، ويَكُونُ المَرْئِيُّ مَحْذُوفًا لِتَفْخِيمِ الأمْرِ وتَعْظِيمِهِ، كَأنَّهُ قالَ: لَقَدْ رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى أُمُورًا عِظامًا لا يُحِيطُ بِها الوَصْفُ. والحَذْفُ في مِثْلِ هَذا أبْلَغُ وأهْوَلُ. (p-٥٥٦٤)تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ:- قَدَّمْنا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاسْتَوى﴾ [النجم: ٦] ﴿وهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلى﴾ [النجم: ٧] ما قالَهُ المُفَسِّرُونَ مِنَ الأقْوالِ العَدِيدَةِ، ولا يَخْفى ما في بَعْضِها مِنَ التَّكَلُّفِ والتَّعَسُّفِ، كَتَوْجِيهِ ابْنِ جَرِيرٍ والرّازِيِّ ومَن وافَقَهُما، وبَعْضِ أقْوالٍ حَكاها القُرْطُبِيُّ. والأقْرَبُ في مَعْنى الآيَةِ ما ذَكَرَهُ الإمامُ ابْنُ كَثِيرٍ، كَما نَقَلْناهُ عَنْهُ، لِكَثْرَةِ الأحادِيثِ الوارِدَةِ فِيما يُفَسِّرُها بِذَلِكَ، ونَحْنُ نَقُولُ في تَأْيِيدِهِ: إنَّ القُرْآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، لِتَشابُهِ آياتِهِ الكَرِيمَةِ وتَماثُلِها. والآيَةُ هَذِهِ مُشابِهَةٌ لِما في سُورَةِ التَّكْوِيرِ تَمامَ المُشابَهَةِ، فَقَدْ قالَ تَعالى ثَمَّةَ: ﴿إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [التكوير: ١٩] ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ﴾ [التكوير: ٢٠] ﴿مُطاعٍ ثَمَّ أمِينٍ﴾ [التكوير: ٢١] ﴿وما صاحِبُكم بِمَجْنُونٍ﴾ [التكوير: ٢٢] ﴿ولَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ﴾ [التكوير: ٢٣] فَتَرى هَذِهِ الآياتِ مُشابِهَةً لِلْآياتِ هُنا، وإنْ كانَ فِيما هُنا زِيادَةُ رُؤْيَةٍ، وبَيانُ دُنُوٍّ واقْتِرابٍ لَمْ يُذْكَرْ في (التَّكْوِيرِ). وسِرُّ الزِّيادَةِ هو ارْتِقاءُ النَّبِيِّ ﷺ في مَعارِجِ الكَمالاتِ وقْتًا فَوَقْتًا، وسُورَةُ النَّجْمِ مِمّا نَزَلَ بَعْدَ التَّكْوِيرِ، كَما حَكاهُ في (الإتْقانِ) عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِ واحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، فَلِذَلِكَ كانَ في (النَّجْمِ) زِيادَةُ هَذا التَّكْرِيمِ والتَّفْضِيلِ. وحاصِلُ المَعْنى: أنَّ ما يَنْطِقُ بِهِ مِن هَذا القُرْآنِ لَيْسَ عَنْ هَواهُ، وإنَّما هو وحْيٌ عَلَّمَهُ إيّاهُ مَلَكٌ كَرِيمٌ، جَمُّ المَناقِبِ، لِأنَّهُ شَدِيدُ القُوى، ذُو مِرَّةٍ، رَفِيعُ المَكانَةِ بِالأُفُقِ الأعْلى. ثُمَّ لَمّا شاءَ تَعالى إنْزالَ وحْيِهِ عَلى نَبِيِّهِ تَنَزَّلَ مِنَ الأُفُقِ ودَنا إلَيْهِ، وكانَ في غايَةِ القُرْبِ مِنهُ، والتَّمَكُّنِ مِن رُؤْيَتِهِ، وتَلَقِّي الوَحْيِ عَنْهُ، وذَلِكَ كُلُّهُ حَقٌّ وصِدْقٌ لا مِرْيَةَ فِيهِ. وكَيْفَ يُمارِي مَن يَرى بِبَصَرِهِ ما يُصَدِّقُهُ فُؤادُهُ فِيهِ ولا يُكَذِّبُهُ، لا سِيَّما ولَمْ تَكُنْ رُؤْياهُ لَهُ مَرَّةً واحِدَةً، بَلْ رَآهُ نَزْلَةً ثانِيَةً، نَزَلَ إلَيْهِ بِالوَحْيِ في مَكانٍ مُعَيَّنٍ لا يُشْتَبَهُ عَلى رائِيهِ، وهو سِدْرَةُ المُنْتَهى. وبِالجُمْلَةِ، فَتَوافُقُ هَذِهِ الآياتِ لِآياتِ (التَّكْوِيرِ) مِن تَفْسِيرِ بَعْضِها بَعْضًا، أمْرٌ لا خَفاءَ بِهِ عِنْدَ المُتَدَبِّرِ، وكُلُّهُ رَدٌّ عَلى المُشْرِكِينَ المُفْتَرِينَ، وإقْسامٌ عَلى حَقِيقَةِ الوَحْيِ والتَّنْزِيلِ، وصِدْقُ ما يُخْبِرُ بِهِ، لا سِيَّما وهو صادِقٌ عِنْدَهم لا يُكَذِّبُونَهُ. فَما بَقِيَ بَعْدَ التَّعَنُّتِ (p-٥٥٦٥)والجَحْدِ إلّا انْتِظارُ سُنَّةِ اللَّهِ في أمْثالِهِمْ مِنَ الأُمَمِ الكافِرَةِ الجاحِدَةِ، كَما أشارَ لَهُ في آخِرِ السُّورَةِ. هَذا مُلَخَّصُ مَعْنى الآياتِ، وما عَداهُ فَتَوَسُّعٌ وحَمْلُ اللَّفْظِ عَلى ما تُجَوِّزُهُ مادَّتُهُ. وكُلُّ ما يَتَّسِعُ لَهُ اللَّفْظُ هو المُرادُ واللَّهُ المُوَفِّقُ. الثّانِي:- ما قَدَّمْناهُ مِن رُجُوعِ الضَّمائِرِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوى﴾ [النجم: ٥] إلَخْ إلى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، هو الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ عامَّةُ المُفَسِّرِينَ، وقَدْ أيَّدْناهُ بِما رَأيْتَ. قالَ الإمامُ ابْنُ تَيْمِيَةَ: الدُّنُوُّ والتَّدَلِّي في سُورَةِ النَّجْمِ هو دُنُوُّ جِبْرِيلَ وتَدَلِّيهِ -كَما قالَتْ عائِشَةُ وابْنُ مَسْعُودٍ- والسِّياقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ قالَ: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوى﴾ [النجم: ٥] وهو جِبْرِيلُ، ﴿ذُو مِرَّةٍ فاسْتَوى﴾ [النجم: ٦] ﴿وهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلى﴾ [النجم: ٧] ﴿ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى﴾ [النجم: ٨] فالضَّمائِرُ كُلُّها راجِعَةٌ إلى هَذا المُعَلِّمِ الشَّدِيدِ القُوى، وهو ذُو المِرَّةِ، أيِ: القُوَّةِ، وهو الَّذِي اسْتَوى بِالأُفُقِ الأعْلى، وهو الَّذِي دَنا فَتَدَلّى، فَكانَ مِن مُحَمَّدٍ ﷺ قَدْرَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنى، وهو الَّذِي رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى، رَآهُ عَلى صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً في الأرْضِ، ومَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى. انْتَهى. ورَوى البُخارِيُّ في هَذِهِ الآياتِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: ««رَأى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَناحٍ»» . ورَوى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّهُ ﷺ ««رَأى جِبْرِيلَ، ولَمْ يَرَهُ في صُورَتِهِ إلّا مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى، ومَرَّةً في جِيادٍ -مَكانٍ بِمَكَّةَ- لَهُ سِتُّمِائَةِ جَناحٍ، قَدْ سَدَّ الأُفُقَ»» . وأمّا ما وقَعَ في حَدِيثِ شَرِيكٍ في البُخارِيِّ مِن قَوْلِهِ: ««دَنا الجَبّارُ رَبُّ العِزَّةِ فَتَدَلّى، (p-٥٥٦٦)حَتّى كانَ مِنهُ قابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنى»»، فَإنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِن زِيادَةِ شَرِيكٍ، عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ الإمامُ مُسْلِمٌ وغَيْرُهُ، فَهو دُنُوٌّ وتَدُلُّ غَيْرُ ما في سُورَةِ النَّجْمِ، نُؤْمِنُ بِهِ ونُفَوِّضُ كَيْفِيَّتَهُ إلَيْهِ تَعالى، كَسائِرِ الصِّفاتِ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَدْ تَكَلَّمَ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ في رِوايَةِ شَرِيكٍ، فَإنْ صَحَّ فَهو مَحْمُولٌ عَلى وقْتٍ آخَرَ، وقِصَّةٍ أُخْرى، لا أنَّها تَفْسِيرٌ لِهَذِهِ الآيَةِ، فَإنْ كانَتْ ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ في الأرْضِ، لا لَيْلَةَ الإسْراءِ. ولِهَذا قالَ بَعْدَهُ: ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى، فَهَذِهِ هي لَيْلَةُ الإسْراءِ، والأُولى كانَتْ في الأرْضِ. انْتَهى. وقالَ الحافِظُ أبُو بَكْرٍ البَيْهَقِيُّ: وقَعَ في حَدِيثِ شَرِيكٍ في الإسْراءِ زِيادَةٌ عَلى مَذْهَبِ مَن زَعَمَ أنَّهُ ﷺ رَأى اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ. وقَوْلُ عائِشَةَ وابْنِ مَسْعُودٍ وأبِي هُرَيْرَةَ في حَمْلِهِمْ هَذِهِ الآياتِ عَلى رُؤْيَةِ جِبْرِيلَ، أصَحُّ. قالَ العِمادُ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَذا الَّذِي قالَهُ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في هَذِهِ المَسْألَةِ، هو الحَقُّ، «فَإنَّ أبا ذَرٍّ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ! رَأيْتَ رَبَّكَ؟ قالَ: «نُورٌ أنّى أراهُ»» . وفي رِوايَةٍ: «رَأيْتُ نُورًا» أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى﴾ [النجم: ٨] إنَّما هو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَما ثَبَتَ ذَلِكَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عائِشَةَ وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وكَذَلِكَ هو في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، ولا يُعْرَفُ لَهم (p-٥٥٦٧)مُخالِفٌ مِنَ الصَّحابَةِ في تَفْسِيرِ هَذا بِهَذا. انْتَهى. وقالَ شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ القَيِّمِ في (زادِ المَعادِ): اخْتَلَفَ الصَّحابَةُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: هَلْ رَأى رَبَّهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أمْ لا؟ فَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ رَأى رَبَّهُ، وصَحَّ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: رَآهُ بِفُؤادِهِ، وصَحَّ عَنْ عائِشَةَ وابْنِ مَسْعُودٍ إنْكارُ ذَلِكَ، وقالَ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ رَآهُ نَـزْلَةً أُخْرى﴾ ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى﴾ [النجم: ١٤] إنَّما هو جِبْرِيلُ. وصَحَّ عَنْ أبِي ذَرٍّ أنَّهُ سَألَهُ: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟ قالَ: ««نُورٌ أنّى أراهُ»» أيْ: حالَ بَيْنِي وبَيْنَ رُؤْيَتِهِ النُّورُ، كَما في لَفْظٍ آخَرَ: «رَأيْتُ نُورًا» . وقَدْ حَكى عُثْمانُ بْنُ سَعِيدٍ الدّارِمِيُّ اتِّفاقَ الصَّحابَةِ عَلى أنَّهُ لَمْ يَرَهُ. قالَ الإمامُ ابْنُ تَيْمِيَةَ: ولَيْسَ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ رَآهُ مُناقِضًا لِهَذا، ولا قَوْلُهُ رَآهُ بِفُؤادِهِ. وقَدْ صَحَّ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: ««رَأيْتُ رَبِّي تَبارَكَ وتَعالى»»، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ هَذا في الإسْراءِ، ولَكِنْ كانَ في المَدِينَةِ لَمّا احْتَبَسَ عَنْهم في صَلاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ أخْبَرَهم عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِ تَبارَكَ وتَعالى تِلْكَ اللَّيْلَةَ في مَنامِهِ. وعَلى هَذا بَنى الإمامُ أحْمَدُ وقالَ: نَعَمْ رَآهُ حَقًّا، فَإنَّ رُؤْيا الأنْبِياءِ حَقٌّ ولا بُدَّ. وأمّا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: رَآهُ بِفُؤادِهِ مَرَّتَيْنِ، فَإنْ كانَ اسْتِنادُهُ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ رَآهُ نَـزْلَةً أُخْرى﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿لَقَدْ رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى﴾ [النجم: ١٨] والظّاهِرُ أنَّهُ مُسْتَنَدُهُ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ ﷺ أنَّ هَذا المَرْئِيَّ جِبْرِيلُ، رَآهُ مَرَّتَيْنِ في صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْها. انْتَهى. وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أمّا الحَدِيثُ الَّذِي رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««رَأيْتُ رَبِّي عَزَّ وجَلَّ»» فَإنَّهُ حَدِيثٌ إسْنادُهُ عَلى شَرْطِ الصَّحِيحِ، لَكِنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِن حَدِيثِ المَنامِ، كَما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««أتانِي رَبِّي اللَّيْلَةَ في أحْسَنِ صُورَةٍ –(أحْسَبُهُ، يَعْنِي في النَّوْمِ)- فَقالَ: يا مُحَمَّدُ ! أتَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأعْلى؟ (p-٥٥٦٨)قالَ قُلْتُ: لا. فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفِي حَتّى وجَدْتُ بَرْدَها بَيْنَ ثَدْيَيَّ -أوْ قالَ نَحْرِي- فَعَلِمْتُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ. ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ! هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأعْلى؟ قالَ قُلْتُ: نَعَمْ! يَخْتَصِمُونَ في الكَفّاراتِ والدَّرَجاتِ. قالَ وما الكَفّاراتُ؟ قالَ: قُلْتُ: المُكْثُ في المَساجِدِ بَعْدَ الصَّلَواتِ، والمَشْيُ عَلى الأقْدامِ إلى الجَماعاتِ، وإبْلاغُ الوُضُوءِ في المَكارِهِ! مَن فَعَلَ ذَلِكَ عاشَ بِخَيْرٍ، وماتَ بِخَيْرٍ. وكانَ مِن خَطِيئَتِهِ كَيَوْمَ ولَدَتْهُ أُمُّهُ. وقالَ: قُلْ يا مُحَمَّدُ إذا صَلَّيْتَ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ فِعْلَ الخَيْراتِ، وتَرْكَ المُنْكَراتِ، وحُبَّ المَساكِينِ، وإذا أرَدْتَ بِعِبادِكَ فِتْنَةً، أنْ تَقْبِضَنِي إلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ»» . قالَ: ««والدَّرَجاتُ بَذْلُ الطَّعامِ، وإفْشاءُ السَّلامِ، والصَّلاةُ بِاللَّيْلِ والنّاسُ نِيامٌ»» . ثُمَّ قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى﴾ [النجم: ١٨] كَقَوْلِهِ: ﴿لِنُرِيَكَ مِن آياتِنا الكُبْرى﴾ [طه: ٢٣] أيِ: الدّالَّةِ عَلى قُدْرَتِنا وعَظَمَتِنا، وبِهاتَيْنِ الآيَتَيْنِ اسْتَدَلَّ مَن ذَهَبَ مِن أهْلِ السُّنَّةِ، أنَّ الرُّؤْيَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لَمْ تَقَعْ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿لَقَدْ رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى﴾ [النجم: ١٨] ولَوْ كانَ رَأى لَأخْبَرَ بِذَلِكَ، ولَقالَ ذَلِكَ لِلنّاسِ. انْتَهى. الثّالِثُ: ذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أُنْزِلَتْ لِإثْباتِ المِعْراجِ النَّبَوِيِّ، أعْنِي: عُرُوجَهُ ﷺ، وصُعُودَهُ وارْتِقاءَهُ إلى ما فَوْقَ السَّماواتِ السَّبْعِ، كَما ذَكَرَ في أحادِيثِ المِعْراجِ عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى فَوْقَ السَّماواتِ، ومُشاهَدَةِ جِبْرِيلَ عَلى صُورَتِهِ. قالَ القَلْيُوبِيُّ: لَمّا كانَ الإسْراءُ مُقَدَّمًا في الوُجُودِ عَلى المِعْراجِ، لِأنَّهُ كالوَسِيلَةِ والبُرْهانِ، إذْ يَلْزَمُ مِنَ التَّصْدِيقِ بِخَوارِقِ العادَةِ فِيهِ، التَّصْدِيقُ بِالمِعْراجِ وما فِيهِ. وكانَ ما في المِعْراجِ مِنَ الخَوارِقِ أعْظَمَ وأكْثَرَ، صَدَّرَهُ اللَّهُ تَعالى بِالقَسَمِ الدّالِّ عَلى تَأْكِيدِ ثُبُوتِهِ، والرَّدِّ عَلى مُنْكِرِيهِ والطّاعِنِينَ فِيهِ، واسْتَطْرَدَ مَعَ ذَلِكَ الرَّدَّ عَلى مَن نَسَبَ إلَيْهِ ﷺ ما لا يَجُوزُ عَلَيْهِ، فَقالَ: ﴿والنَّجْمِ﴾ [النجم: ١] إلَخِ. انْتَهى. (p-٥٥٦٩)ومِمّا قَدَّمْنا يَظْهَرُ أنَّ نُزُولَ السُّورَةِ لِتَأْيِيدِ الرِّسالَةِ النَّبَوِيَّةِ، وتَحْقِيقِ الوَحْيِ، بِأنَّهُ تَعْلِيمُ مَلَكٍ كَرِيمٍ، مَرْئِيٍّ لِلْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ رُؤْيَةً تَدْفَعُ كُلَّ لَبْسٍ، لا لِإثْباتِ المِعْراجِ. ثُمَّ مِنَ الغَرائِبِ أيْضًا هُنا، قَوْلُ بَعْضِهِمْ مُحاوِلًا سِرَّ إفْرادِ الإسْراءِ عَنِ المِعْراجِ، وذِكْرِ كُلٍّ في سُورَةٍ، ما مِثالُهُ: إنَّ الإسْراءَ أُنْزِلَ أوَّلًا وحْدَهُ، حَمْلًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلى تَسْلِيمِ ما وضَحَ صِدْقُهُ ﷺ فِيهِ، تَوَصُّلًا لِلتَّصْدِيقِ بِما وراءَهُ فَإنَّهُ ﷺ أرْشَدَ أنْ يُخْبِرَ المُشْرِكِينَ أوَّلًا بِالإسْراءِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى، لِأنَّ قُرَيْشًا تَعْرِفُهُ، فَيَسْألُونَهُ عَنْهُ فَيُخْبِرُهم بِما يَعْرِفُونَ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأنَّهُ ﷺ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَ المَقْدِسِ قَطُّ، فَتَقُومُ الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ. وكَذَلِكَ وقَعَ، كَما ذَكَرَ في الرِّواياتِ. وعَلى أثَرِ هَذا الإخْبارِ أُنْزِلَ بَيانُ الإسْراءِ، ثُمَّ أُلْهِمَ ﷺ أنْ يُخْبِرَهم بِالمِعْراجِ إلى مَلَكُوتِ السَّماواتِ، ورُؤْيَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وأنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهُ في سُورَةِ النَّجْمِ. انْتَهى. فَكُلُّ هَذا مِمّا لا سَنَدَ لَهُ، نَعَمْ! رَوى البَيْهَقِيُّ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ جَرِيرٍ في حَدِيثٍ مُطَوَّلٍ، أنَّهُ ﷺ أصْبَحَ بِمَكَّةَ يُخْبِرُهم بِالأعاجِيبِ: ««إنِّي أتَيْتُ البارِحَةَ بَيْتَ المَقْدِسِ، وعُرِجَ بِي إلى السَّماءِ ورَأيْتُ كَذا وكَذا»» إلّا أنْ يُقالَ: لَيْسَ هَذا مِن مَرْوِيّاتِ الصَّحِيحَيْنِ، ولا حُجَّةَ في الأخْبارِ إلّا مَرْوِيُّهُما. وبِالجُمْلَةِ، فالمُعَوَّلُ عَلَيْهِ هو أنَّ المِعْراجَ لَمْ يَرِدْ لَهُ ذِكْرٌ في القُرْآنِ مُطْلَقًا، وما ورَدَ في هَذِهِ السُّورَةِ وسُورَةِ التَّكْوِيرِ، فَلا عَلاقَةَ لَهُ بِالمِعْراجِ، وإنَّما هي رُؤْيَةُ النَّبِيِّ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِجِبْرِيلَ مِنَ الأرْضِ عَلى صُورَتِهِ الحَقِيقِيَّةِ كَما تَقَدَّمَ. وأمّا المِعْراجُ فَإنَّما كانَ رُؤْيا مَنامِيَّةً رُوحانِيَّةً؛ لِصَرِيحِ حَدِيثِ البُخارِيِّ في ذَلِكَ مِن طُرُقِهِ الَّتِي عَنْ أنَسٍ ومالِكِ بْنِ أبِي صَعْصَعَةَ. قالَ بَعْضُهم ولِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ في حَدِيثِ المِعْراجِ، بِحَسَبِ رِوايَةِ البُخارِيِّ الَّتِي هي مِن أصَحِّ الرِّواياتِ بِالإجْماعِ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ سارَ أوَّلًا إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، بَلِ المَذْكُورُ فِيهِ أنَّهُ سارَ مُباشَرَةً مِن مَكَّةَ إلى السَّماءِ الأُولى، وكَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أنَّ جِبْرِيلَ فارَقَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى بِصُورَتِهِ الحَقِيقِيَّةِ، بَلِ المَذْكُورُ أنَّهُ كانَ مُصاحِبًا لَهُ مِن أوَّلِ المِعْراجِ إلى آخِرِهِ عَلى صُورَةٍ واحِدَةٍ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ ما ذُكِرَ في القُرْآنِ مِمّا وقَعَ يَقَظَةً، هو غَيْرُ ما ذُكِرَ في الحَدِيثِ، مِمّا وقَعَ مَنامًا في وقْتٍ آخَرَ، (p-٥٥٧٠)وإلّا لَذُكِرا مَعًا في سِياقٍ واحِدٍ، إمّا في القُرْآنِ، وإمّا في أصَحِّ الأحادِيثِ، وهو الأمْرُ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ إلّا في بَعْضِ رِواياتٍ لا يُعَوَّلُ عَلَيْها، وهي مِن خَلْطِ بَعْضِ الرُّواةِ الحَوادِثَ بَعْضَها بِبَعْضٍ. انْتَهى واللَّهُ أعْلَمُ. ثُمَّ قالَ تَعالى مُنْكِرًا عَلى المُشْرِكِينَ عِبادَتَهُمُ الأوْثانَ، واتِّخاذَهم لَها البُيُوتَ، مُضاهاةً لِلْكَعْبَةِ الَّتِي بَناها خَلِيلُ الرَّحْمَنِ لِعِبادَتِهِ تَعالى وحْدَهُ، بِقَوْلِهِ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب