الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١٥ - ١٩] ﴿إنَّ المُتَّقِينَ في جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ ﴿آخِذِينَ ما آتاهم رَبُّهم إنَّهم كانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ [الذاريات: ١٦] ﴿كانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات: ١٧] ﴿وبِالأسْحارِ هم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: ١٨] ﴿وفِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ﴾ [الذاريات: ١٩] ﴿إنَّ المُتَّقِينَ﴾ أيِ: الَّذِينَ اتَّقَوُا اللَّهَ بِطاعَتِهِ واجْتِنابِ مَعاصِيهِ في الدُّنْيا، وبِتَجَنُّبِ (p-٥٥٢٦)القَوْلِ بِالخَرْصِ والتَّخْمِينِ في الأُمُورِ الِاعْتِقادِيَّةِ في ﴿جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ ﴿آخِذِينَ ما آتاهم رَبُّهُمْ﴾ [الذاريات: ١٦] قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أيْ: عامِلِينَ ما أمَرَهم بِهِ رَبُّهُمْ، مُؤَدِّينَ فَرائِضَهُ. وقالَ غَيْرُهُ: أيْ: قابِلِينَ لِما أعْطاهم مِنَ النَّعِيمِ الأُخْرَوِيِّ، راضِينَ بِهِ. وهَذا هو الوَجْهُ. ولِذا قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: والَّذِي فَسَّرَ بِهِ ابْنُ جَرِيرٍ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَبارَكَ وتَعالى ﴿آخِذِينَ﴾ [الذاريات: ١٦] حالٌ مِن قَوْلِهِ في جَنّاتٍ وعُيُونٍ فالمُتَّقُونَ حالَ كَوْنِهِمْ في الجَنّاتِ والعُيُونِ ﴿آخِذِينَ ما آتاهم رَبُّهُمْ﴾ [الذاريات: ١٦] أيْ: مِنَ النَّعِيمِ والسُّرُورِ والغِبْطَةِ. ثُمَّ أشارَ إلى سِرِّ اسْتِحْقاقِهِمْ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهم كانُوا قَبْلَ ذَلِكَ﴾ [الذاريات: ١٦] يَعْنِي: في الدُّنْيا ﴿مُحْسِنِينَ﴾ [الذاريات: ١٦] أيْ: قَدْ أحْسَنُوا أعْمالَهم لِغَلَبَةِ مَحَبَّةِ اللَّهِ عَلى قُلُوبِهِمْ بِظُهُورِ آثارِها في أفْعالِهِمْ وأقْوالِهِمْ، كَما بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿كانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات: ١٧] أيْ: كانُوا يَهْجَعُونَ هُجُوعًا قَلِيلًا؛ لِتَقْوى نُفُوسُهم عَلى عِبادَتِهِ تَعالى بِنَشاطٍ. رَوى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أنَسٍ في الآيَةِ: أنَّهم كانُوا يُصَلُّونَ ما بَيْنَ هاتَيْنِ الصَّلاتَيْنِ ما بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشاءِ. وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ: كانُوا لا يَنامُونَ حَتّى يُصَلُّوا العَتَمَةَ. وعَنْ مُطَرِّفٍ: قَلَّ لَيْلَةٌ أتَتْ عَلَيْهِمْ إلّا صَلَّوْا فِيها مِن أوَّلِها أوْ مِن وسَطِها. وعَنِ الحَسَنِ قالَ: لا يَنامُونَ مِنَ اللَّيْلِ إلّا أقَلَّهُ، كابَدُوا قِيامَ اللَّيْلِ. وقَرَأ الأحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ هَذِهِ الآيَةَ فَقالَ: لَسْتُ مِن أهْلِ هَذِهِ الآيَةِ. وعَنِ الضَّحّاكِ: أنَّ الوَقْفَ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كانُوا قَلِيلا﴾ [الذاريات: ١٧] أيْ: أنَّ المُحْسِنِينَ كانُوا قَلِيلًا، ثُمَّ ابْتُدِئَ فَقِيلَ: ﴿مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات: ١٧] و" ما " نافِيَةٌ أيْ: لا يَهْجَعُونَ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذا القَوْلُ فِيهِ بُعْدٌ وتَعَسُّفٌ. (p-٥٥٢٧)لَطِيفَةٌ: فِي هَذِهِ الجُمْلَةِ الكَرِيمَةِ مُبالَغاتٌ في وصْفِ هَؤُلاءِ بِقِلَّةِ النَّوْمِ وتَرْكِ الِاسْتِراحَةِ، وذَلِكَ ذِكْرُ القَلِيلِ. واللَّيْلُ الَّذِي هو وقْتُ النَّوْمِ، والهُجُوعُ الَّذِي هو الخَفِيفُ مِنَ النَّوْمِ، وزِيادَةُ (ما)؛ لِأنَّها تَدُلُّ عَلى القِلَّةِ. وبِالجُمْلَةِ فَفي الآيَةِ اسْتِحْبابُ قِيامِ اللَّيْلِ، وذَمُّ نَوْمِهِ كُلِّهِ، والأحادِيثُ عَلى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ. ﴿وبِالأسْحارِ هم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: ١٨] قالَ القاضِي: أيْ: أنَّهم مَعَ قِلَّةِ هُجُوعِهِمْ وكَثْرَةِ تَهَجُّدِهِمْ إذا أسْحَرُوا أخَذُوا في الِاسْتِغْفارِ، كَأنَّهم أسْلَفُوا في لَيْلِهِمُ الجَرائِمَ. قالَ الرّازِيُّ: في الآيَةِ إشارَةٌ إلى أنَّهم كانُوا يَتَهَجَّدُونَ ويَجْتَهِدُونَ، ثُمَّ يُرِيدُونَ أنْ يَكُونَ عَمَلُهم أكْثَرَ مِن ذَلِكَ وأخْلَصَ مِنهُ؛ فَيَسْتَغْفِرُونَ مِنَ التَّقْصِيرِ، وهَذا سِيرَةُ الكَرِيمِ: يَأْتِي بِأبْلَغِ وُجُوهِ الكَرَمِ ويَسْتَقِلُّهُ ويَعْتَذِرُ مِنَ التَّقْصِيرِ، واللَّئِيمُ يَأْتِي بِالقَلِيلِ ويَسْتَكْثِرُهُ ويَمُنُّ بِهِ. وفِيهِ وجْهٌ آخَرُ ألْطَفُ مِنهُ: وهو أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّهم يَهْجَعُونَ قَلِيلًا، والهُجُوعُ مُقْتَضى الطَّبْعِ، قالَ: ﴿يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: ١٨] أيْ: مِن ذَلِكَ القَدْرِ مِنَ النَّوْمِ القَلِيلِ. وفِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرى نُبَيِّنُها في جَوابِ سُؤالٍ: وهو أنَّهُ تَعالى مَدَحَهم بِقِلَّةِ الهُجُوعِ ولَمْ يَمْدَحْهم بِكَثْرَةِ السَّهَرِ، وما قالَ: كانُوا كَثِيرًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَسْهَرُونَ، فَما الحِكْمَةُ فِيهِ؟ مَعَ أنَّ السَّهَرَ هو الكُلْفَةُ والِاجْتِهادُ، لا الهُجُوعُ؟ نَقُولُ: إشارَةً إلى أنَّ نَوْمَهم عِبادَةٌ، حَيْثُ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِكَوْنِهِمْ هاجِعِينَ قَلِيلًا، وذَلِكَ الهُجُوعُ أوْرَثَهم الِاشْتِغالَ بِعِبادَةٍ أُخْرى، وهو الِاسْتِغْفارُ، في وُجُوهِ الأسْحارِ، ومَنَعَهم مِنَ الإعْجابِ بِأنْفُسِهِمْ والِاسْتِكْبارِ. ثُمَّ قالَ: والِاسْتِغْفارُ يَحْتَمِلُ طَلَبَ المَغْفِرَةِ بِالذِّكْرِ بِقَوْلِهِمْ: (رَبَّنا اغْفِرْ لَنا). وطَلَبَ المَغْفِرَةِ بِالفِعْلِ أيْ: بِالأسْحارِ، يَأْتُونَ بِفِعْلٍ آخَرَ طَلَبًا لِلْغُفْرانِ، وهو الصَّلاةُ. والأوَّلُ أظْهَرُ، والثّانِي عِنْدَ المُفَسِّرِينَ أشْهَرُ. انْتَهى. ويُؤَيِّدُ الثّانِي الإشارَةُ إلى الزَّكاةِ في الآيَةِ بَعْدَها، والزَّكاةُ قَرِينَةُ الصَّلاةِ في كَثِيرٍ مِنَ الآياتِ، وسِرُ التَّعْبِيرِ عَنِ الصَّلاةِ بِالِاسْتِغْفارِ الإشارَةُ إلى أنَّهُ رُكْنُها المُهِمُّ في التَّهَجُّدِ، بَلْ وفي غَيْرِهِ، (p-٥٥٢٨)فَيَكُونُ مِن إطْلاقِ الجُزْءِ عَلى الكُلِّ، وقَدْ ذَكَرَ في أذْكارِ الصَّلاةِ الِاسْتِغْفارَ في مَواضِعَ مِنها، كالرُّكُوعِ والسُّجُودِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وآخِرِ الصَّلاةِ، كَما أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ وأهْلُ السُّنَنِ- و««كانَ ﷺ يُطِيلُ الرُّكُوعَ والسُّجُودَ والتَّهَجُّدَ»» لِذَلِكَ. لَطِيفَةٌ: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في (أساسِ البَلاغَةِ): إنَّما سُمِّيَ (السَّحَرُ) اسْتِعارَةً؛ لِأنَّهُ وقْتُ إدْبارِ اللَّيْلِ وإقْبالِ النَّهارِ، فَهو مُتَنَفَّسُ الصُّبْحِ. انْتَهى. ﴿وفِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ﴾ [الذاريات: ١٩] أيِ: الفَقِيرُ المُتَعَفِّفُ الَّذِي يُظَنُّ غَنِيًّا، فَيُحْرَمُ الصَّدَقَةَ. قالَ قَتادَةُ: هَذانِ فَقِيرا أهْلِ الإسْلامِ: سائِلٌ يَسْألُ في كَفِّهِ، وفَقِيرٌ مُتَعَفِّفٌ، ولِكِلَيْهِما عَلَيْكَ حَقٌّ يا ابْنَ آدَمَ. وفِي (الصَّحِيحِ) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ««لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتانِ، والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتانِ، ولَكِنَّ المِسْكِينَ الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، ولا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ»» . ورَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««لِلسّائِلِ حَقٌّ وإنْ جاءَ عَلى فَرَسٍ»» . ورَواهُ أبُو داوُدَ وأسْنَدَهُ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ. ويَدْخُلُ في المَحْرُومِ كُلُّ مَن لا مالَ لَهُ، ومَن هَلَكَ مالُهُ بِآفَةٍ، ومَن حُرِمَ الرِّزْقَ واحْتاجَ، إلّا أنَّ أهَمَّ أفْرادِهِ المُتَعَفِّفُ؛ ولِذا عَوَّلَ عَلَيْهِ الأكْثَرُ. ورَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: في أمْوالِهِمْ حَقٌّ سِوى الزَّكاةِ يَصِلُونَ بِها رَحِمًا، أوْ يُقْرُونَ بِها ضَيْفًا، أوْ يَحْمِلُونَ بِها كَلًّا. (p-٥٥٢٩)ثُمَّ أشارَ تَعالى إلى أنَّهُ لا حاجَةَ إلى الخَرْصِ والتَّخْمِينِ في بابِ الِاعْتِقاداتِ؛ لِكَثْرَةِ الآياتِ الواضِحَةِ، بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب