الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٢٦] ﴿قالَ فَإنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الأرْضِ فَلا تَأْسَ عَلى القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ ﴿قالَ فَإنَّها﴾ أيِ: الأرْضَ المُقَدَّسَةَ ﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ أيْ: بِسَبَبِ أقْوالِهِمْ هَذِهِ (p-١٩٣٦)وأفْعالِهِمْ. لا يَدْخُلُونَها ولا يَمْلِكُونَها. مِمَّنْ قالَ هَذِهِ المَقالَةَ أوْ رَضِيَها أحَدٌ، فالتَّحْرِيمُ تَحْرِيمُ مَنعٍ لا تَحْرِيمُ تَعَبُّدٍ ﴿أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الأرْضِ﴾ أيْ: يَتَرَدَّدُونَ في البَرِّيَّةِ مُتَحَيِّرِينَ في الأرْضِ حَتّى يَهْلَكُوا كُلُّهُمْ، و(التِّيهُ) المَفازَةُ الَّتِي يَتِيهُ فِيها سالِكُها فَيَضِلُّ عَنْ وجْهِ مَقْصِدِهِ ﴿فَلا تَأْسَ﴾ أيْ: تَحْزَنْ ﴿عَلى القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ أيِ: الخارِجِينَ مِن قَيْدِ الطّاعاتِ. قالَ العَلّامَةُ البِقاعِيُّ: ثُمَّ بَعْدَ هَلاكِهِمْ أدْخَلَها بَنِيهِمُ الَّذِينَ وُلِدُوا في التِّيهِ. وفي هَذِهِ القِصَّةِ أوْضَحُ دَلِيلٍ عَلى نَقْضِهِمْ لِلْعُهُودِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلى طَلَبِ الوَفاءِ بِها، وافْتُتِحَتْ بِها، وصَرَّحَ بِأخْذِها عَلَيْهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [المائدة: ١٢] الآياتِ. وفي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِيما يَفْعَلُونَهُ مَعَهُ، وتَذْكِيرٌ لَهُ بِالنِّعْمَةِ عَلى قَوْمِهِ بِالتَّوْفِيقِ، وتَرْغِيبٌ لِمَن أطاعَ مِنهُمْ، وتَرْهِيبٌ لِمَن عَصى. وماتَ في تِلْكَ الأرْبَعِينَ، كُلُّ مَن قالَ ذَلِكَ القَوْلَ أوْ رَضِيَهُ حَتّى النُّقَباءُ العَشَرَةُ. وكانَ الغَمامُ يُظِلُّهم مِن حَرِّ الشَّمْسِ. ويَكُونُ لَهم عَمُودٌ مِن نُورٍ بِاللَّيْلِ يُضِيءُ عَلَيْهِمْ. وغَيْرُ هَذا مِنَ النِّعَمِ، لِأنَّ المَنعَ بِالتِّيهِ كانَ تَأْدِيبًا لَهم. لا غَضَبَ؛ إذْ أنَّهم تابُوا. ثُمَّ ساقَ البِقاعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَرْحَ هَذِهِ القِصَّةِ مِنَ التَّوْراةِ الَّتِي بَيْنَ أيْدِيهِمْ بِالحَرْقِ. ونَحْنُ نَأْتِي عَلى مُلَخَّصِها تَأثُّرًا لَهُ، فَنَقُولُ: جاءَ في سِفْرِ "العَدَدِ" في الفَصْلِ الثّالِثَ عَشَرَ: إنَّ شَعْبَ بَنِي إسْرائِيلَ لَمّا ارْتَحَلُوا مِن حَصِيرُوتَ ونَزَلُوا بِبَرِّيَّةِ فارانَ، كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسى بِأنْ يَبْعَثَ رِجالًا يَجُسُّونَ أرْضَ كَنْعانَ. مِن كُلِّ سِبْطٍ رَجُلًا واحِدًا، وكُلُّهم يَكُونُونَ مِن رُؤَساءِ بَنِي إسْرائِيلَ، فَأرْسَلَهم مُوسى وأمَرَهم أنْ يَنْظُرُوا إلى الأرْضِ. أجِيدَةٌ أمْ رَدِيئَةٌ؟ وإلى أهْلِها، أشَدِيدُونَ أمْ ضُعَفاءُ؟ قَلِيلُونَ أمْ كَثِيرُونَ؟ وأنْ يُوافُوهُ بِشَيْءٍ مِن ثَمَرِها. فَسارُوا واجْتَسُّوا الأرْضَ مِن بَرِّيَّةِ صِينَ إلى رَحُوبَ عِنْدَ مَدْخَلِ حَماةَ، ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ أرْبَعِينَ يَوْمًا. وكانَ مُوسى وقَوْمُهُ في بَرِّيَّةِ فارانَ في قادِيشَ، فَأرَوْهم ثَمَرَ الأرْضِ، وقَصُّوا عَلَيْهِمْ ما شاهَدُوهُ مِن جَوْدَةِ الأرْضِ، وأنَّها تُدِرُّ لَبَنًا وعَسَلًا. ومِن (p-١٩٣٧)شِدَّةِ أهْلِها وقُوَّتِهِمْ وتَحَصُّنِ مُدُنِهِمْ؛ فاضْطَرَبَ قَوْمُ مُوسى. فَأخَذَ كالِبٌ - أحَدُ النُّقَباءِ - يُسْكِتُهم عَنْ مُوسى ويَقُولُ: نَصْعَدُ ونَرِثُ الأرْضَ فَإنّا قادِرُونَ عَلَيْها. وخالَفَهُ بَقِيَّةُ النُّقَباءِ وقالُوا: لا نَقْدِرُ أنْ نَصْعَدَ إلَيْهِمْ لِأنَّهم أشَدُّ مِنّا. وهَوَّلُوا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ الأمْرَ وقالُوا: شاهَدْنا أُناسًا طِوالَ القاماتِ، سِيما بَنِي عَناقَ. فَصِرْنا في عُيُونِنا كالجَرادِ. وكَذَلِكَ كُنّا في عُيُونِهِمْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ ضَجَّ قَوْمُ مُوسى ورَفَعُوا أصْواتَهم وبَكَوْا وقالُوا: لَيْتَنا مُتْنا في أرْضِ مِصْرَ أوْ في هَذِهِ البَرِّيَّةِ. ولا تَكُونُ نِساؤُنا وأطْفالُنا غَنِيمَةً لِلْجَبابِرَةِ. وخَيْرٌ لَنا أنْ نَرْجِعَ إلى مِصْرَ. وقالُوا: لِنُقِمْ لَنا رَئِيسًا ونَرْجِعْ إلى مِصْرَ. فَلَمّا شاهَدَ مُوسى ذَلِكَ مِنهم وقَعَ هو وأخُوهُ هارُونُ عَلى وُجُوهِهِما أمامَ الإسْرائِيلِيِّينَ. ومَزَّقَ، مِنَ النُّقَباءِ، يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وكالِبٌ ثِيابَهُما. وكَلَّما بَنِي إسْرائِيلَ قائِلِينَ: إنَّ الأرْضَ الَّتِي مَرَرْنا فِيها جَيِّدَةٌ، وإذا كانَ رَبُّنا راضِيًا عَنّا فَإنَّهُ يُدْخِلُنا إيّاها. فَلا تَتَمَرَّدُوا ولا تَخافُوا أهْلَها فَسَيَكُونُونَ طُعْمَةً لَنا. إذِ الرَّبُّ مَعَنا. فَلَمّا سَمِعَ بَنُو إسْرائِيلَ كَلامَ يُوشَعَ وكالِبٍ قالُوا: لِيُرْجَما بِالحِجارَةِ، وكادَ حِينَئِذٍ أنْ يَحِيقَ بِبَنِي إسْرائِيلَ العَذابُ الإلَهِيُّ، لَوْلا تَضَرُّعُ مُوسى إلى رَبِّهِ بِأنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، كَيْلا يَكُونُوا أُحْدُوثَةً عِنْدَ أعْدائِهِمُ المِصْرِيِّينَ، فَعَفا تَعالى عَنْهم. وأعْلَمَ مُوسى؛ أنَّ قَوْمَهُ لَنْ يَرُوا الأرْضَ الَّتِي أقْسَمَ عَلَيْها لِآبائِهِمْ، وأنَّهم يَمُوتُونَ جَمِيعًا في التِّيهِ. إلّا كالِبًا. فَإنَّهُ لِحُسْنِ انْقِيادِهِ سَيَدْخُلُ الأرْضَ، وكَذَلِكَ يُوشَعُ، وأعْلَمَهُ تَعالى أيْضًا بِأنَّ أطْفالَ قَوْمِهِ الَّذِينَ سَيَهْلَكُونَ في التِّيهِ يَكُونُونَ رُعاةً فِيهِ أرْبَعِينَ سَنَةً بِعَدَدِ الأيّامِ الَّتِي تَجُسُّ النُّقَباءُ فِيها أرْضَ الكَنْعانِيِّينَ. كُلُّ يَوْمٍ وِزْرُهُ سَنَةٌ لِيَعْرِفُوا انْتِقامَهُ، عَزَّ سُلْطانُهُ ثُمَّ هَلَكَ النُّقَباءُ العَشَرَةُ، الَّذِينَ شَنَّعُوا لَدى قَوْمِهِمْ تِلْكَ الأرْضَ، بِضَرْبَةٍ عُجِّلَتْ لَهم. ثُمَّ هَمَّ قَوْمُ مُوسى بِالصُّعُودِ إلى الكَنْعانِيِّينَ لَمّا أخْبَرَهم مُوسى بِما أعْلَمُهُ تَعالى. فَنَهاهم مُوسى وقالَ لَهُمْ: لا فَوْزَ لَكُمُ الآنَ بِالنَّصْرِ الرَّبّانِيِّ، وإنْ فَعَلْتُمْ فَإنَّ العَدُوَّ يَهْزِمُكم وتَسْقُطُونَ تَحْتَ سَيْفِهِ. فَتَجَبَّرُوا وصَعِدُوا إلى رَأْسِ الجَبَلِ. فَنَزَلَ العَمالِقَةُ والكَنْعانِيُّونَ عَلَيْهِمْ وحَطَّمُوهُمْ، ثُمَّ بَعْدَ انْقِضاءِ الأرْبَعِينَ سَنَةً فُتِحَتِ الأرْضُ المُقَدَّسَةُ عَلى يَدِ يُوشَعَ، كَما شُرِحَ في "سِفْرِهِ"، واللَّهُ أعْلَمُ. (p-١٩٣٨)تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أرْبَعِينَ سَنَةً﴾ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ (يَتِيهُونَ). واحْتِمالُ كَوْنِهِ ظَرْفًا لِ (مُحَرَّمَةً) كَما ذَكَرَهُ غَيْرُ واحِدٍ - لا يَصِحُّ إلّا بِتَكَلُّفٍ؛ لِما شَرَحْناهُ مِن سِياقِ القِصَّةِ. الثّانِي: قالَ الحاكِمُ: دَلَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَأْسَ عَلى القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ عَلى أنَّ مَن لَحِقَهُ عَذابُ اللَّهِ لا يَجُوزُ أنْ يُحْزَنَ عَلَيْهِ لِأنَّ ذَلِكَ حُكْمُهُ، بَلْ يَحْمَدُ اللَّهَ إذا أهْلَكَ عَدُوًّا مِن أعْدائِهِ. الثّالِثُ: قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ هَهُنا أخْبارًا مَن وضْعِ بَنِي إسْرائِيلَ، في عَظَمَةِ خَلْقِ هَؤُلاءِ الجَبّارِينَ، وأنَّ مِنهم عُوجَ بْنَ عُنُقَ بِنْتِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. وأنَّ طُولَهُ ثَلاثَةُ آلافِ ذِراعٍ. وثَلاثُمِائَةٍ وثَلاثَةٌ وثَلاثُونَ ذِراعًا وثُلْثُ ذِراعٍ. تَحْرِيرِ الحِسابِ. وهَذا شَيْءٌ يَسْتَحْيى مِن ذِكْرِهِ. ثُمَّ هو مُخالِفٌ لِما ثَبَتَ في "الصَّحِيحَيْنِ": أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وطُولُهُ سِتُّونَ ذِراعًا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ حَتّى الآنَ»» . ثُمَّ ذَكَرُوا أنَّ هَذا الرَّجُلَ كانَ كافِرًا، وأنَّهُ كانَ ولَدَ زِنْيَةٍ، وأنَّهُ امْتَنَعَ مِن رُكُوبِ سَفِينَةِ نُوحٍ، وأنَّ الطُّوفانَ لَمْ يَصِلْ إلى رُكْبَتِهِ. وهَذا كَذِبٌ وافْتِراءٌ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ أنَّ نُوحًا دَعا عَلى أهْلِ الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ فَقالَ: ﴿وقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارًا﴾ [نوح: ٢٦] وقالَ تَعالى: ﴿فَأنْجَيْناهُ ومَن مَعَهُ في الفُلْكِ المَشْحُونِ﴾ [الشعراء: ١١٩] ﴿ثُمَّ أغْرَقْنا بَعْدُ الباقِينَ﴾ [الشعراء: ١٢٠] وقالَ تَعالى: ﴿لا عاصِمَ اليَوْمَ مِن أمْرِ اللَّهِ إلا مَن رَحِمَ﴾ [هود: ٤٣] وإذا كانَ ابْنُ نُوحٍ، الكافِرُ، غَرِقَ، فَكَيْفَ يَبْقى عُوجُ بْنُ عُنُقَ وهو كافِرٌ ووَلَدُ زِنْيَةٍ؟ هَذا لا يَسُوغُ في عَقْلٍ ولا شَرْعٍ. ثُمَّ في وُجُودِ رَجُلٍ يُقالُ لَهُ عُوجُ بْنُ عُنُقَ، نَظَرٌ. واللَّهُ أعْلَمُ. (p-١٩٣٩)الرّابِعُ: قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ القِصَّةُ تَقْرِيعَ اليَهُودِ، وبَيانَ فَضائِحِهِمْ ومُخالَفَتِهِمْ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ، ونُكُولَهم عَنْ طاعَتِهِما فِيما أمَراهم بِهِ مِنَ الجِهادِ، فَضَعُفَتْ أنْفُسُهم عَنْ مُصابَرَةِ الأعْداءِ ومُجادَلَتِهِمْ ومُقاتَلَتِهِمْ، مَعَ أنَّ بَيْنَ أظْهُرِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وكَلِيمَهُ وصَفِيَّهُ مِن خَلْقِهِ في ذَلِكَ الزَّمانِ، وهو يَعِدُهم بِالنَّصْرِ والظَّفَرِ بِأعْدائِهِمْ. هَذا مَعَ ما شاهَدُوا مِن فِعْلِ اللَّهِ بِعَدُوِّهِمْ، فِرْعَوْنَ، مِنَ العَذابِ والنَّكالِ والغَرَقِ لَهُ ولِجُنُودِهِ في اليَمِّ وهم يَنْظُرُونَ، لِتَقَرَّ بِهِ أعْيُنُهم (وما بِالعَهْدِ مِن قِدَمٍ). ثُمَّ يَنْكُلُونَ عَنْ مُقاتَلَةِ أهْلِ بَلَدٍ هي بِالنِّسْبَةِ إلى دِيارِ مِصْرَ لا تُوازِنُ عُشْرَ المِعْشارِ في عِدَّةِ أهْلِها وعَدَدِهِمْ، وظَهَرَتْ قَبائِحُ صَنِيعِهِمْ لِلْخاصِّ والعامِّ، وافْتَضَحُوا فَضِيحَةً لا يُغَطِّيها اللَّيْلُ ولا يَسْتُرُها الذَّيْلُ. وقالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَبْلَ ذَلِكَ: وما أحْسَنَ ما أجابَ بِهِ الصَّحابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - يَوْمَ بَدْرٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ (p-١٩٤٠)اسْتَشارَهم في قِتالِ النَّفِيرِ الَّذِينَ جاءُوا لِمَنعِ العِيرِ الَّذِي كانَ مَعَ أبِي سُفْيانَ. فَلَمّا فاتَ اقْتِناصُ العِيرِ، واقْتَرَبَ مِنهُمُ النَّفِيرُ، وهم في جَمْعٍ ما بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إلى الألْفِ في العُدَّةِ والبِيضِ واليَلَبِ. فَتَكَلَّمَ أبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأحْسَنَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مِنَ الصَّحابَةِ، مِنَ المُهاجِرِينَ، ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: أشِيرُوا عَلَيَّ أيُّها المُسْلِمُونَ! وما يَقُولُ ذَلِكَ إلّا لِيَسْتَعْلِمَ ما عِنْدَ الأنْصارِ. لِأنَّهم كانُوا جُمْهُورَ النّاسِ يَوْمَئِذٍ. فَقالَ سَعْدُ بْنُ مُعاذٍ: كَأنَّكَ تُعَرِّضُ بِنا يا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ! لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنا هَذا البَحْرَ، فَخُضْتَهُ، لَخُضْناهُ مَعَكَ. ما تَخَلَّفَ مِنّا رَجُلٌ واحِدٌ، وما نَكْرَهُ أنْ تَلْقى بِنا عَدُوَّنا غَدًا. إنّا لَصُبُرٌ في الحَرْبِ، صِدْقٌ في اللِّقاءِ. لَعَلَّ اللَّهَ أنْ يُرِيَكَ مِنّا ما تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ. فَسِرْ عَلى بَرَكَةِ اللَّهِ. فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَوْلِ سَعْدٍ، ونَشَّطَهُ لِذَلِكَ. ورَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «لَقَدْ شَهِدْتُ مِنَ المِقْدادِ مَشْهَدًا، لَأنْ أكُونَ أنا صاحِبَهُ، أحَبُّ إلَيَّ مِمّا عُدِلَ بِهِ. أتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وهو يَدْعُو عَلى المُشْرِكِينَ فَقالَ: واللَّهِ! يا رَسُولَ اللَّهِ! لا نَقُولُ كَما قالَتْ بَنُو إسْرائِيلَ لِمُوسى: اذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا ها هُنا قاعِدُونَ. ولَكِنّا نُقاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وعَنْ يَسارِكَ، ومِن بَيْنِ يَدَيْكَ، ومِن خَلْفِكَ. (p-١٩٤١)فَرَأيْتُ وجْهَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُشْرِقُ لِذَلِكَ. وسَرَّهُ ذَلِكَ». وهَكَذا رَواهُ البُخارِيُّ في "المَغازِي". الخامِسُ: اسْتَنْبَطَ العُمْرانِيُّونَ مِن هَذِهِ الآيَةِ أنَّ مِن عَوائِقِ المُلْكِ حُصُولَ المَذَلَّةِ لِلْقَبِيلِ، والِانْقِيادَ لِسِواهم. قالَ الحَكِيمُ بْنُ خَلْدُونَ في "مُقَدِّمَةِ العِبَرِ" في الفَصْلِ ١٩ تَحْتَ العُنْوانِ المَذْكُورِ: إنَّ المَذَلَّةَ والِانْقِيادَ كاسِرانِ لِسَوْرَةِ العَصَبِيَّةِ وشِدَّتِها. فَإنَّ انْقِيادَهم ومَذَلَّتَهم دَلِيلٌ عَلى فِقْدانِها، فَما رَئِمُوا (ألِفُوا) لِلْمَذَلَّةِ حَتّى عَجَزُوا عَنِ المُدافَعَةِ، ومَن عَجَزَ عَنِ المُدافَعَةِ، فَأوْلى أنْ يَكُونَ عاجِزًا عَنِ المُقاوَمَةِ والمُطالَبَةِ، واعْتُبِرَ ذَلِكَ في بَنِي إسْرائِيلَ لَمّا دَعاهم مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إلى مَلِكِ الشّامِ، وأخْبَرَهم أنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ لَهم مُلْكَها، كَيْفَ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ، قالُوا: إنَّ فِيها قَوْمًا جَبّارِينَ وإنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنها. أيْ: يُخْرِجُهُمُ اللَّهُ مِنها بِضَرْبٍ مِن قُدْرَتِهِ غَيْرَ عَصَبِيَّتِنا، وتَكُونُ مِن مُعْجِزاتِكَ يا مُوسى، ولَمّا عَزَمَ عَلَيْهِمْ لَجُّوا وارْتَكَبُوا العِصْيانَ وقالُوا لَهُ: فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا وما ذَلِكَ إلّا لِما آنَسُوا مِن أنْفُسِهِمْ مِنَ العَجْزِ عَنِ المُقاوَمَةِ والمُطالَبَةِ، كَما تَقْتَضِيهِ الآيَةُ وما يُؤْثَرُ في تَفْسِيرِها، وذَلِكَ بِما حَصَلَ فِيهِمْ مِن خُلُقِ الِانْقِيادِ، وما رَئِمُوا مِنَ الذُّلِّ لِلْقِبْطِ أحْقابًا حَتّى ذَهَبَتِ العَصَبِيَّةُ مِنهم جُمْلَةً. مَعَ أنَّهم (p-١٩٤٢)لَمْ يُؤْمِنُوا حَقَّ الإيمانِ بِما أخْبَرَهم بِهِ مُوسى، مِن أنَّ الشّامَ لَهُمْ، وأنَّ العَمالِقَةَ الَّذِينَ كانُوا بِأرِيحاءَ فَرِيسَتُهُمْ، بِحُكْمٍ مِنَ اللَّهِ قَدَّرَهُ لَهم. فَأقْصَرُوا عَنْ ذَلِكَ وعَجَزُوا، تَعْوِيلًا عَلى ما عَلِمُوا مِن أنْفُسِهِمْ مِنَ العَجْزِ عَنِ المُطالَبَةِ، لِما حَصَلَ لَهم مِن خُلُقِ المَذَلَّةِ. وطَعَنُوا فِيما أخْبَرَهم بِهِ نَبِيُّهم مِن ذَلِكَ وما أمَرَهم بِهِ. فَعاقَبَهُمُ اللَّهُ بِالتِّيهِ. وهو أنَّهم تاهُوا في قَفْرٍ مِنَ الأرْضِ ما بَيْنَ الشّامِ ومِصْرَ أرْبَعِينَ سَنَةً. لَمْ يَأْوُوا فِيها لِعُمْرانٍ، ولا نَزَلُوا مِصْرًا، ولا خالَطُوا بَشَرًا، كَما قَصَّهُ القُرْآنُ، لِغِلْظَةِ العَمالِقَةِ بِالشّامِ والقِبْطِ بِمِصْرَ عَلَيْهِمْ، لِعَجْزِهِمْ عَنْ مُقاوَمَتِهِمْ كَما زَعَمُوهُ. ويَظْهَرُ مِن مَساقِ الآيَةِ ومَفْهُومِها: أنَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ التِّيهِ مَقْصُودَةٌ. وهي فَناءُ الجِيلِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِن قَبْضَةِ الذُّلِّ والقَهْرِ والقُوَّةِ وتَخَلَّقُوا بِهِ. وأفْسَدُوا مِن عَصَبِيَّتِهِمْ، حَتّى نَشَأ في ذَلِكَ التِّيهِ جِيلٌ آخَرُ عَزِيزٌ لا يَعْرِفُ الأحْكامَ والقَهْرَ، ولا يُسامُ بِالمَذَلَّةِ. فَنَشَأتْ لَهم بِذَلِكَ عَصَبِيَّةٌ أُخْرى اقْتَدَرُوا بِها عَلى المُطالَبَةِ والتَّغَلُّبِ، يَظْهَرُ لَكَ مِن ذَلِكَ أنَّ الأرْبَعِينَ سَنَةً أقَلُّ ما يَأْتِي فِيها فَناءُ جِيلٍ ونَشْأةُ جِيلٍ آخَرَ، سُبْحانَ الحَكِيمِ العَلِيمِ، وفي هَذا أوْضَحُ دَلِيلٍ عَلى شَأْنِ العَصَبِيَّةِ. وأنَّها هي الَّتِي تَكُونُ بِها المُدافَعَةُ والمُقاوَمَةُ والحِمايَةُ والمُطالَبَةُ. وأنَّ مَن فَقَدَها عَجَزَ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ كُلِّهِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى وخِيمَ عاقِبَةِ البَغْيِ والحَسَدِ، في جَزاءِ ابْنَيْ آدَمَ لِصُلْبِهِ. تَعْرِيضًا بِاليَهُودِ. وأنَّهم إنْ أصَرُّوا عَلى بَغْيِهِمْ وحَسَدِهِمْ فَسَيَرْجِعُونَ بِالصِّفَةِ الخاسِرَةِ في الدّارَيْنِ، فَقالَ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب