الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[١٠٢] ﴿قَدْ سَألَها قَوْمٌ مِن قَبْلِكم ثُمَّ أصْبَحُوا بِها كافِرِينَ﴾
﴿قَدْ سَألَها قَوْمٌ مِن قَبْلِكُمْ﴾ أيْ: سَألُوا هَذِهِ المَسْألَةَ، لَكِنْ لا عَيْنَها، بَلْ مِثْلَها في كَوْنِها مَحْظُورَةً ومُسْتَتْبِعَةً لِلْوَبالِ. وعَدَمُ التَّصْرِيحِ بِالمِثْلِ لِلْمُبالَغَةِ في التَّحْذِيرِ: ﴿ثُمَّ أصْبَحُوا بِها كافِرِينَ﴾ أيْ: بِسَبَبِها. حَيْثُ لَمْ يَمْتَثِلُوا ما أُجِيبُوا بِهِ، ويَفْعَلُوهُ. وقَدْ كانَ بَنُو إسْرائِيلَ يَسْتَفْتُونَ أنْبِياءَهم عَنْ أشْياءَ، فَإذا أُمِرُوا بِها تَرَكُوها فَهَلَكُوا. والمَعْنى: احْذَرُوا مُشابِهَتَهم والتَّعَرُّضَ لِما تَعَرَّضُوا لَهُ.
تَنْبِيهاتٌ:
الأوَّلُ: رَوى البُخارِيُّ في سَبَبِ نُزُولِها في "التَّفْسِيرِ" عَنْ أبِي الجُوَيْرِيَّةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «كانَ قَوْمٌ يَسْألُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتِهْزاءً. فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَن أبِي؟ ويَقُولُ الرَّجُلُ، تَضِلُّ ناقَتُهُ: أيْنَ ناقَتِي؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْألُوا﴾ [المائدة: ١٠١] حَتّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ كُلِّها».
وأخْرَجَ أيْضًا عَنْ مُوسى بْنِ أنَسٍ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى (p-٢١٦٧)اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ خُطْبَةً ما سَمِعْتُ مِثْلَها قَطُّ، قالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا... قالَ: فَغَطّى أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وُجُوهَهُمْ، لَهم خَنِينٌ. فَقالَ رَجُلٌ: مَن أبِي؟ قالَ: فُلانٌ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿لا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكم تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: ١٠١]»
ورَوى البُخارِيُّ أيْضًا في كِتابِ "الفِتَنِ" عَنْ قَتادَةَ: أنَّ أنَسًا حَدَّثَهم قالَ: سَألُوا النَّبِيَّ ﷺ حَتّى أحْفَوْهُ بِالمَسْألَةِ. فَصَعِدَ النَّبِيُّ ﷺ ذاتَ يَوْمٍ المِنبَرَ فَقالَ: ««لا تَسْألُونِي عَنْ شَيْءٍ إلّا بَيَّنْتُ لَكم. فَجَعَلْتُ أنْظُرُ يَمِينًا وشِمالًا، فَإذا كَلُّ رَجُلٍ، رَأْسُهُ في ثَوْبِهِ يَبْكِي. فَأنْشَأ رَجُلٌ - كانَ إذا لاحى يُدْعى إلى غَيْرِ أبِيهِ - فَقالَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ! مَن أبِي؟ فَقالَ: أبُوكَ حُذافَةُ» . ثُمَّ أنْشَأ عُمَرُ فَقالَ: رَضِينا بِاللَّهِ رَبًّا، وبِالإسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا. نَعُوذُ بِاللَّهِ مِن سُوءِ الفِتَنِ.
فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ما رَأيْتُ في الخَيْرِ والشَّرِّ كاليَوْمِ قَطُّ. إنَّهُ صُوِّرَتْ لِيَ الجَنَّةُ والنّارُ حَتّى رَأيْتُهُما دُونَ الحائِطِ» .
فَكانَ قَتادَةُ يَذْكُرُ هَذا الحَدِيثَ عِنْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ﴾ [المائدة: ١٠١]»
وفِي رِوايَةٍ: قالَ قَتادَةُ يُذْكَرُ - بِالبِناءِ لِلْمَجْهُولِ - هَذا الحَدِيثُ... إلَخْ
ورَوى البُخارِيُّ أيْضًا في كِتابِ "الِاعْتِصامِ بِالكِتابِ والسُّنَّةِ" في بابِ ما يُكْرَهُ مِن كَثْرَةِ السُّؤالِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قالَ: أخْبَرَنِي أنَسُ بْنُ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ حِينَ زاغَتِ الشَّمْسُ فَصَلّى الظُّهْرَ. فَلَمّا سَلَّمَ قامَ إلى المِنبَرِ فَذَكَرَ السّاعَةَ. وذَكَرَ أنَّ بَيْنَ يَدَيْها أُمُورًا عِظامًا. ثُمَّ قالَ: «مَن أحَبَّ أنْ يَسْألَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْألْ عَنْهُ، (p-٢١٦٨)فَواللَّهِ! لا تَسْألُونِي عَنْ شَيْءٍ إلّا أخْبَرْتُكم بِهِ ما دُمْتُ في مَقامِي هَذا» . قالَ أنَسٌ: فَأكْثَرَ الأنْصارُ البُكاءَ، وأكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يَقُولَ: فَقالَ أنَسٌ: فَقامَ رَجُلٌ فَقالَ: أيْنَ مَدْخَلِي يا رَسُولَ اللَّهِ! قالَ: النّارُ. فَقامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذافَةَ فَقالَ: مَن أبِي يا رَسُولَ اللَّهِ؟! قالَ: «أبُوكَ حُذافَةُ» . قالَ: ثُمَّ أكْثَرَ أنْ يَقُولَ: سَلُونِي. فَبَرَكَ عُمَرُ عَلى رُكْبَتَيْهِ فَقالَ: رَضِينا بِاللَّهِ رَبًّا، وبِالإسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ ﷺ رَسُولًا.
قالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ قالَ عُمَرُ ذَلِكَ.
ثُمَّ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّةُ والنّارُ آنِفًا في عُرْضِ هَذا الحائِطِ وأنا أُصَلِّي. فَلَمْ أرَ كاليَوْمِ في الخَيْرِ والشَّرِّ»» .
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: قالَ ابْنُ شِهابٍ: أخْبَرَنِي عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قالَ: قالَتْ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذافَةَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذافَةَ: ما سَمِعْتُ بِابْنٍ قَطُّ أعَقَّ مِنكَ. أأمِنتَ أنْ تَكُونَ أُمُّكَ قَدْ قارَفَتْ بَعْضَ ما تُقارِفُ نِساءُ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ، فَتَفْضَحُها عَلى أعْيُنِ النّاسِ؟
قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذافَةَ: واللَّهِ! لَوْ ألْحَقَنِي بِعَبْدٍ أسْوَدَ لَلَحِقْتُهُ.
ورَوى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قالَ: غَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا مِنَ الأيّامِ فَقامَ خَطِيبًا فَقالَ: سَلُونِي. - نَحْوَ ما تَقَدَّمَ - وزادَ: «فَقامَ إلَيْهِ عُمَرُ فَقَبَّلَ رِجْلَهُ وقالَ: رَضِينا بِاللَّهِ رَبًّا..» إلَخْ.
وزادَ: وبِالقُرْآنِ إمامًا، فاعْفُ عَنّا عَفا اللَّهُ عَنْكَ. فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتّى رَضِيَ.
وأخْرَجَ أيْضًا عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: ««خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وهو غَضْبانُ مُحْمارٌّ وجْهُهُ حَتّى (p-٢١٦٩)جَلَسَ عَلى المِنبَرِ. فَقامَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَقالَ: أيْنَ أنا؟ قالَ: في النّارِ. - نَحْوَ ما مَرَّ - وفِيهِ: فَنَزَلَتْ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْألُوا﴾ [المائدة: ١٠١]» الآيَةَ».
قالَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في "الفَتْحِ": وبِهَذِهِ الزِّيادَةِ - أيْ: عَلى ما في البُخارِيِّ مِن قَوْلِ رَجُلٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أيْنَ أنا؟ قالَ: في النّارِ. - يَتَّضِحُ أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ سَبَبُ نُزُولِ: ﴿لا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ﴾ [المائدة: ١٠١] الآيَةَ. فَإنَّ المَساءَةَ في حَقِّ هَذا جاءَتْ صَرِيحَةً، بِخِلافِها في حَقِّ حُذافَةَ فَإنَّهُ بِطَرِيقِ الجَوازِ، أيْ: لَوْ قُدِّرَ أنَّهُ في نَفْسِ الأمْرِ لَمْ يَكُنْ لِأبِيهِ، فَبَيَّنَ أباهُ الحَقِيقِيَّ، لافْتَضَحَتْ أُمُّهُ، كَما صَرَّحَتْ بِذَلِكَ أُمُّهُ حِينَ عاتَبَتْهُ عَلى هَذا السُّؤالِ. انْتَهى.
ورَوى الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ عَنْ أبِي البُخْتُرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلا﴾ [آل عمران: ٩٧] قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! أفِي كُلِّ عامٍ؟ فَسَكَتَ، فَقالُوا: أفِي كُلِّ عامٍ؟ فَسَكَتَ، قالَ ثُمَّ قالُوا: أفِي كُلِّ عامٍ؟ فَقالَ: لا. ولَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ. ولَوْ وجَبَتْ لَما اسْتَطَعْتُمْ. فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْألُوا﴾ [المائدة: ١٠١] الآيَةَ».
قالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ وسَمِعْتُ البُخارِيَّ يَقُولُ: أبُو البُخْتُرِيِّ لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا.
ورَوى ابْنُ جَرِيرٍ ونَحْوُهُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ وأبِي أُمامَةَ، وكَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، (p-٢١٧٠)قالَ في الآيَةِ: ﴿لا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ﴾ [المائدة: ١٠١] إنْ نَزَلَ القُرْآنُ فِيها بِتَغْلِيظٍ ساءَكم ذَلِكَ، ولَكِنِ انْتَظِرُوا فَإنْ نَزَلَ القُرْآنُ فَإنَّكم لا تَسْألُونَ عَنْ شَيْءٍ إلّا وجَدْتُمْ بَيانَهُ.
قالَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في "الفَتْحِ": والحاصِلُ أنَّها نَزَلَتْ بِسَبَبِ كَثْرَةِ المَسائِلِ. إمّا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ أوِ الِامْتِحانِ، وإمّا عَلى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لَوْ لَمْ يُسْألْ عَنْهُ لَكانَ عَلى الإباحَةِ.
الثّانِي - قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ظاهِرُ الآيَةِ النَّهْيُ عَنِ السُّؤالِ عَنِ الأشْياءِ الَّتِي إذا عَلِمَ بِها الشَّخْصُ ساءَتْهُ. فالأوْلى الإعْراضُ عَنْها وتَرْكُها. وما أحْسَنَ الحَدِيثَ الَّذِي رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأصْحابِهِ: «لا يُبَلِّغْنِي أحَدٌ عَنْ أحَدٍ شَيْئًا؛ فَإنِّي أُحِبُّ أنْ أخْرُجَ إلَيْكم وأنا سَلِيمُ الصَّدْرِ». ورَواهُ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ.
الثّالِثُ: - قالَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ في "إعْلامِ المُوَقِّعِينَ":
لَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ هَذِهِ الآيَةِ، بَلْ لا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أنْ يَتَعَرَّضَ لِلسُّؤالِ عَمّا إنْ بَدا لَهُ ساءَهُ. بَلْ يَسْتَعْفِي ما أمْكَنَهُ، ويَأْخُذَ بِعَفْوِ اللَّهِ. ومِن هاهُنا قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يا صاحِبَ المِيزابِ! لا تُخْبِرْنا. لَمّا سَألَهُ رَفِيقُهُ عَنْ مائِهِ: أطاهِرٌ أمْ لا؟
وكَذَلِكَ لا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أنْ يَسْألَ رَبَّهُ أنْ يُبْدِيَ لَهُ مِن أحْوالِهِ وعاقِبَتِهِ ما طَواهُ عَنْهُ وسَتَرَهُ فَلَعَلَّهُ يَسُوءُهُ إنْ أُبْدِيَ لَهُ. فالسُّؤالُ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ تَعَرُّضٌ لِما يَكْرَهُهُ اللَّهُ. فَإنَّهُ سُبْحانَهُ يَكْرَهُ إبْداءَها، ولِذَلِكَ سَكَتَ عَنْها.
(p-٢١٧١)وما ذَكَرَهُ مِنَ التَّعْمِيمِ هو بِاعْتِبارِ ظاهِرِها. وأمّا المَقْصُودُ أوَّلًا وبِالذّاتِ - كَما يُفِيدُهُ تَتِمَتُّها - فَهو النَّهْيُ عَنِ السُّؤالِ بِما يَسُوءُ إبْداؤُهُ في زَمَنِ الوَحْيِ.
ويَدُلُّ لَهُ، ما رَواهُ البُخارِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ««إنَّ أعْظَمَ المُسْلِمِينَ جُرْمًا، مَن سَألَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِن أجْلِ مَسْألَتِهِ»» .
فَإنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ أُمِنَ وُقُوعُهُ.
وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ««ذَرُونِي ما تَرَكْتُكم. فَإنَّما أهْلَكَ مَن كانَ قَبْلَكم بِكَثْرَةِ سُؤالِهِمْ واخْتِلافِهِمْ عَلى أنْبِيائِهِمْ. فَإذا أمَرْتُكم بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنهُ ما اسْتَطَعْتُمْ. وإذا نَهَيْتُكم عَنْ شَيْءٍ فَدَعَوْهُ»»، رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ ومُسْلِمٌ والنَّسائِيُّ.
وعَنْ أبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ««إنَّ اللَّهَ تَعالى فَرَضَ فَرائِضَ فَلا تُضَيِّعُوها. وحَّدَ حُدُودًا فَلا تَعْتَدُوها. وحَرَّمَ أشْياءَ فَلا تَقْرَبُوها. وتَرَكَ أشْياءَ، مِن غَيْرِ نِسْيانٍ، فَلا تَبْحَثُوا عَنْها»» . رَواهُ اَلدّارَقُطْنِيُّ وأبُو نُعَيْمٍ.
وعَنْ سَلْمانَ الفارِسِيِّ: قالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أشْياءَ فَقالَ: (p-٢١٧٢)«الحَلالُ ما أحَلَّ اللَّهُ في كِتابِهِ. والحَرامُ ما حَرَّمَ اللَّهُ في كِتابِهِ. وما سَكَتَ عَنْهُ فَهو مِمّا قَدْ عَفا عَنْهُ، فَلا تَتَكَلَّفُوا»» . رَواهُ التِّرْمِذِيُّ والحاكِمُ وابْنُ ماجَهْ.
وأخْرَجَ الشَّيْخانِ «عَنْ أنَسٍ قالَ: كُنّا نُهِينا أنْ نَسْألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ شَيْءٍ. وكانَ يُعْجِبُنا أنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ الغافِلُ مِن أهْلِ البادِيَةِ فَيَسْألُهُ ونَحْنُ نَسْمَعُ».
وفِي قِصَّةِ اللِّعانِ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَسائِلَ وعابَها.
(p-٢١٧٣)ولِمُسْلِمٍ «عَنِ النَّوّاسِ بْنِ سَمْعانَ قالَ: أقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سَنَةً بِالمَدِينَةِ، ما يَمْنَعُنِي مِنَ الهِجْرَةِ إلّا المَسْألَةُ. كانَ أحَدُنا، إذا هاجَرَ، لَمْ يَسْألِ النَّبِيَّ ﷺ».
ومُرادُهُ: أنَّهُ قَدِمَ وافِدًا، فاسْتَمَرَّ بِتِلْكَ الصُّورَةِ لِيُحَصِّلَ المَسائِلَ، خَشْيَةَ أنْ يَخْرُجَ مِن صِفَةِ الوَفْدِ إلى اسْتِمْرارِ الإقامَةِ فَيَصِيرُ مُهاجِرًا، فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ السُّؤالُ.
وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ المُخاطَبَ بِالنَّهْيِ عَنِ السُّؤالِ غَيْرُ الأعْرابِ، وُفُودًا كانُوا أوْ غَيْرَهم.
وأخْرَجَ أحْمَدُ عَنْ أبِي أُمامَةَ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ﴾ [المائدة: ١٠١] الآيَةَ. كُنّا قَدْ اتَّقَيْنا أنْ نَسْألَهُ ﷺ. فَأتَيْنا أعْرابِيًّا فَرَشَوْناهُ بِرِداءٍ وقُلْنا: سَلِ النَّبِيَّ ﷺ.
ولِأبِي يَعْلى عَنِ البَراءِ: إنْ كانَ لِيَأْتِيَ عَلَيَّ السَّنَةُ أُرِيدُ أنْ أسْألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الشَّيْءِ فَأتَهَيَّبُ، وإنْ كُنّا لِنَتَمَنّى الأعْرابَ - أيْ: قُدُومَهم - لِيَسْألُوهُ، فَيُسْمِعُوهم أجْوِبَةَ سُؤالاتِ الأعْرابِ، فَيَسْتَفِيدُوها.
وأمّا ما ثَبَتَ في الأحادِيثِ مِن أسْئِلَةِ الصَّحابَةِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ، (p-٢١٧٤)ويُحْتَمَلُ أنَّ النَّهْيَ في الآيَةِ لا يَتَناوَلُ ما يُحْتاجُ إلَيْهِ مِمّا تَقَرَّرَ حُكْمُهُ، أوْ ما لَهم بِمَعْرِفَتِهِ حاجَةٌ راهِنَةٌ: كالسُّؤالِ عَنِ الذَّبْحِ بِالقَصَبِ. والسُّؤالِ عَنْ وُجُوبِ طاعَةِ الأُمَراءِ إذا أمَرُوا بِغَيْرِ الطّاعَةِ. والسُّؤالِ عَنْ أحْوالِ يَوْمِ القِيامَةِ وما قَبْلَها مِنَ المَلاحِمِ والفِتَنِ. والأسْئِلَةِ الَّتِي في القُرْآنِ: كَسُؤالِهِمْ عَنِ الكَلالَةِ والخَمْرِ والمَيْسِرِ والقِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ واليَتامى والمَحِيضِ والنِّساءِ والصَّيْدِ وغَيْرِ ذَلِكَ.
لَكِنَّ الَّذِينَ تَعَلَّقُوا بِالآيَةِ في كَراهِيَةِ كَثْرَةِ المَسائِلِ عَمّا لَمْ يَقَعْ، أخَذُوهُ بِطَرِيقِ الإلْحاقِ، مِن جِهَةِ أنَّ كَثْرَةَ السُّؤالِ، لَمّا كانَتْ سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بِما يَشُقُّ، فَحَقُّها أنْ تُجْتَنَبَ.
وقَدْ عَقَدَ الإمامُ الدّارِمِيُّ في أوائِلِ "مُسْنَدِهِ" لِذَلِكَ بابًا. وأوْرَدَ فِيهِ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِيِنَ آثارًا كَثِيرَةً في ذَلِكَ، مِنها: عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لا تَسْألُوا عَمّا لَمْ يَكُنْ. فَإنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَلْعَنُ السّائِلَ عَمّا لَمْ يَكُنْ.
وعَنْ عُمَرَ: أُحَرِّجُ عَلَيْكم أنْ تَسْألُوا عَمّا لَمْ يَكُنْ. فَإنَّ لَنا فِيما كانَ شُغْلًا.
وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، أنَّهُ كانَ إذا كانَ إذا سُئِلَ عَنِ الشَّيْءِ؟ يَقُولُ: كانَ هَذا؟ فَإنْ قِيلَ: لا قالَ: دَعُوهُ حَتّى يَكُونَ.
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وعَنْ عَمّارٍ نَحْوَ ذَلِكَ.
وأخْرَجَ أبُو داوُدَ في "المَراسِيلِ": عَنْ أبِي سَلَمَةَ ومُعاذٍ مَرْفُوعًا: «لا تَعْجَلُوا بِالبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِها؛ فَإنَّكم إنْ تَفْعَلُوا لَمْ يَزَلْ في المُسْلِمِينَ مَن إذا قالَ سُدِّدَ - أوْ وُفِّقَ - وإنْ عَجِلْتُمْ تَشَتَّتَتْ بِكُمُ السُّبُلُ».
وعَنْ أشْياخِ الزُّبَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «لا يَزالُ في أُمَّتِي مَن إذا سُئِلَ سُدِّدَ، حَتّى يَتَساءَلُوا عَمّا لَمْ يَنْزِلْ».
قالَ بَعْضُ الأئِمَّةِ: والتَّحْقِيقُ في ذَلِكَ: أنَّ البَحْثَ عَمّا لا يُوجَدُ فِيهِ نَصٌّ، عَلى قِسْمَيْنِ:
(p-٢١٧٥)أحَدُهُما: أنْ يُبْحَثَ عَنْ دُخُولِهِ في دَلالَةِ النَّصِّ عَلى اخْتِلافِ وُجُوهِها، فَهَذا مَطْلُوبٌ لا مَكْرُوهٌ. بَلْ رُبَّما كانَ فَرْضًا عَلى مَن تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِنَ المُجْتَهِدِينَ.
ثانِيهِما: - أنْ يُدَقَّقَ النَّظَرُ في وُجُوهِ الفُرُوقِ، فَيُفَرَّقَ بَيْنَ مُتَماثِلَيْنِ بِفَرْقٍ لَيْسَ لَهُ أثَرٌ في الشَّرْعِ مَعَ وُجُودِ وصْفِ الجَمْعِ، أوْ بِالعَكْسِ بِأنْ يُجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقَيْنِ بِوَصْفٍ طَرْدِيٍّ مَثَلًا. فَهَذا الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ. وعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ حَدِيثُابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: «هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ...» أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، فَرَأوْا أنَّ فِيهِ تَضْيِيعَ الزَّمانِ بِما لا طائِلَ تَحْتَهُ.
ومِثْلُهُ الإكْثارُ مِنَ التَّفْرِيعِ عَلى مَسْألَةٍ لا أصْلَ لَها في الكِتابِ ولا السُّنَّةِ ولا الإجْماعِ، وهي نادِرَةُ الوُقُوعِ جِدًّا، فَيَصْرِفُ فِيها زَمانًا كانَ صَرْفُهُ في غَيْرِها أوْلى، لا سِيَّما إنْ لَزِمَ مِن ذَلِكَ إغْفالُ التَّوَسُّعِ في بَيانِ ما يَكْثُرُ وُقُوعُهُ. وأشَدُّ مِن ذَلِكَ - في كَثْرَةِ السُّؤالِ - البَحْثُ عَنْ أُمُورٍ مُغَيَّبَةٍ ورَدَ الشَّرْعُ بِالإيمانِ بِها مَعَ تَرْكِ كَيْفِيَّتِها. ومِنها لا يَكُونُ لَهُ شاهِدٌ في عالَمِ الحِسِّ. كالسُّؤالِ عَنْ وقْتِ السّاعَةِ وعَنِ الرُّوحِ وعَنْ مُدَّةِ هَذِهِ الأُمَّةِ.. إلى أمْثالِ ذَلِكَ مِمّا لا يُعْرَفُ إلّا بِالنَّقْلِ الصِّرْفِ. والكَثِيرُ مِنهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ، فَيَجِبُ الإيمانُ مِن غَيْرِ بَحْثٍ. وأشَدُّ مِن ذَلِكَ ما يُوقِعُ كَثْرَةُ البَحْثِ عَنْهُ في الشَّكِّ والحَيْرَةِ. قالَ بَعْضُهُمْ: مِثالُ التَّنَطُّعِ في السُّؤالِ حَتّى يُفْضِيَ بِالمَسْؤُولِ إلى الجَوابِ بِالمَنعِ بَعْدَ أنْ يُفْتِيَ بِالإذْنِ - أنْ يُسْألَ عَنِ السِّلَعِ الَّتِي تُوجَدُ في الأسْواقِ: هَلْ يُكْرَهُ شِراؤُها مِمَّنْ هي في يَدِهِ مِن قَبْلِ البَحْثِ عَنْ مَصِيرِها إلَيْهِ أوْ لا؟ فَيُجِيبُهُ بِالجَوازِ. فَإنْ عادَ فَقالَ: أخْشى أنْ يَكُونَ مِن نَهْبٍ أوْ غَصْبٍ، ويَكُونُ ذَلِكَ الوَقْتُ قَدْ وقَعَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ في الجُمْلَةِ، فَيَحْتاجُ أنْ يُجِيبَهُ بِالمَنعِ. ويُقَيِّدَ ذَلِكَ إنْ ثَبَتَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ حَرُمَ، وإنْ تَرَدَّدَ كُرِهَ أوْ كانَ خِلافَ الأوْلى، ولَوْ سَكَتَ السّائِلُ عَنْ هَذا التَّنَطُّعِ لَمْ يَزِدِ المُفْتِي عَلى جَوابِهِ بِالجَوازِ. وإذا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَمَن يَسُدُّ بابَ المَسائِلِ حَتّى فاتَهُ مَعْرِفَةُ كَثِيرٍ مِنَ الأحْكامِ الَّتِي يَكْثُرُ وُقُوعُها، فَإنَّهُ يَقِلُّ فَهْمُهُ وعِلْمُهُ، ومَن تَوَسَّعَ في تَفْرِيعِ (p-٢١٧٦)المَسائِلِ وتَوْلِيدِها - ولا سِيَّما فِيما يَقِلُّ وُقُوعُهُ أوْ يَنْدُرُ، ولا سِيَّما إنْ كانَ الحامِلُ عَلى ذَلِكَ المُباهاةَ والمُغالَبَةَ - فَإنَّهُ يُذَمُّ فِعْلُهُ، وهو عَيْنُ الَّذِي كَرِهَ السَّلَفُ. ومَن أمْعَنَ في البَحْثِ عَنْ مَعانِي كِتابِ اللَّهِ، مُحافِظًا عَلى ما جاءَ في تَفْسِيرِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وعَنْ أصْحابِهِ، الَّذِينَ شاهَدُوا التَّنْزِيلَ. وحَصَلَ مِنَ الأحْكامِ ما يُسْتَفادُ مِن مَنطُوقِهِ ومَفْهُومِهِ، وعَنْ مَعانِي السُّنَّةِ وما دَلَّتْ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، مُقْتَصِرًا عَلى ما يَصْلُحُ لِلْحُجَّةِ مِنها، فَإنَّهُ الَّذِي يُحْمَدُ ويُنْتَفَعُ بِهِ. وعَلى ذَلِكَ يُحْمَلُ عَمَلُ فُقَهاءِ الأمْصارِ مِنَ التّابِعِينَ فَمَن بَعْدَهم - كَذا في "فَتْحِ البارِي".
ثُمَّ رَأيْتُ في "مُوافَقاتِ" الإمامِ الشّاطِبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى، في أواخِرِها - في هَذا المَوْضُوعِ - مَبْحَثًا جَلِيلًا، قالَ في أوَّلِهِ:
الإكْثارُ مِنَ الأسْئِلَةِ مَذْمُومٌ. والدَّلِيلُ عَلَيْهِ النَّقْلُ المُسْتَفِيضُ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ وكَلامِ السَّلَفِ الصّالِحِ. مِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى... - وساقَ هَذِهِ الآيَةَ وما أسْلَفْناهُ مِنَ الآثارِ وزادَ أيْضًا عَمّا نَقَلْنا - ثُمَّ قالَ: والحاصِلُ أنَّ كَثْرَةَ السُّؤالِ ومُتابَعَةَ المَسائِلِ بِالأبْحاثِ العَقْلِيَّةِ والِاحْتِمالاتِ النَّظَرِيَّةِ، مَذْمُومٌ. وقَدْ كانَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَدْ وُعِظُوا في كَثْرَةِ السُّؤالِ حَتّى امْتَنَعُوا مِنهُ. وكانُوا يُحِبُّونَ أنْ يَجِيءَ الأعْرابُ فَيَسْألُونَ حَتّى يَسْمَعُوا كَلامَهُ ويَحْفَظُوا مِنهُ العِلْمَ.. ثُمَّ قالَ: ويَتَبَيَّنُ مِن هَذا أنَّ لِكَراهِيَةِ السُّؤالِ مَواضِعَ، نَذْكُرُ مِنها عَشَرَةَ مَواضِعَ:
أحَدُها: السُّؤالُ عَمّا لا يَنْفَعُ في الدِّينِ، كَسُؤالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذافَةَ: مَن أبِي؟ ورُوِيَ في "التَّفْسِيرِ" «أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ سُئِلَ: ما بالُ الهِلالِ يَبْدُو رَقِيقًا كالخَيْطِ ثُمَّ لا يَزالُ يَنْمُو (p-٢١٧٧)حَتّى يَصِيرَ بَدْرًا ثُمَّ يَنْقُصُ إلى أنْ يَصِيرَ كَما كانَ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ﴾ [البقرة: ١٨٩] الآيَةَ». فَإنَّما أُجِيبَ بِما فِيهِ مَنافِعُ الدِّينِ.
وثانِيها: أنْ يَسْألَ بَعْدَ ما بَلَغَ مِنَ العِلْمِ حاجَتَهُ، كَما سَألَ الرَّجُلُ عَنِ الحَجِّ: أكُلَّ عامٍ؟ مَعَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ﴾ [آل عمران: ٩٧] قاضٍ بِظاهِرِهِ أنَّهُ لِلْأبَدِ، لِإطْلاقِهِ. ومِثْلُهُ سُؤالُ بَنِي إسْرائِيلَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧]
وثالِثُها: السُّؤالُ مِن غَيْرِ احْتِياجٍ إلَيْهِ في الوَقْتِ، وكَأنَّ هَذا - واللَّهُ أعْلَمُ - خاصٌّ (p-٢١٧٨)بِما لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ حُكْمٌ، وعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ: ««ذَرُونِي ما تَرَكْتُكُمْ»» . وقَوْلُهُ: ««وسَكَتَ عَنْ أشْياءَ رَحْمَةً بِكُمْ، لا عَنْ نِسْيانٍ، فَلا تَبْحَثُوا عَنْها»» .
ورابِعُها: أنْ يَسْألَ عَنْ صِعابِ المَسائِلِ وشَرارِها، كَما جاءَ في النَّهْيِ عَنِ الأُغْلُوطاتِ.
وخامِسُها: أنْ يَسْألَ عَنْ عِلَّةِ الحُكْمِ - هو مِن قَبِيلِ التَّعَبُّداتِ، أوِ السّائِلُ مِمَّنْ لا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ السُّؤالُ - كَما في حَدِيثِ قَضاءِ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلاةِ.
وسادِسُها: أنْ يَبْلُغَ بِالسُّؤالِ إلى حَدِّ التَّكَلُّفِ والتَّعَمُّقِ، وعَلى ذَلِكَ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ ما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ وما أنا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص: ٨٦] ولَمّا سُئِلَ الرَّجُلُ: (p-٢١٧٩)يا صاحِبَ الحَوْضِ! هَلْ تَرِدُ حَوْضَكَ السِّباعُ؟ قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: يا صاحِبَ الحَوْضِ! لا تُخْبِرْنا. فَإنّا نَرِدُ عَلى السِّباعِ وتَرِدُ عَلَيْنا.
وسابِعُها: أنْ يَظْهَرَ مِنَ السُّؤالِ مُعارَضَةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ بِالرَّأْيِ، ولِذَلِكَ قالَ سَعِيدٌ: أعِراقِيٌّ أنْتَ؟ وقِيلَ لِمالِكِ بْنِ أنَسٍ: الرَّجُلُ يَكُونُ عالِمًا بِالسُّنَّةِ أيُجادِلُ عَنْها؟ قالَ: لا. ولَكِنْ يُخْبِرُ بِالسُّنَّةِ. فَإنْ قُبِلَتْ مِنهُ وإلّا سَكَتَ.
وثامِنُها: السُّؤالُ عَنِ المُتَشابِهاتِ، وعَلى ذَلِكَ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ﴾ [آل عمران: ٧] الآيَةَ.. وعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ: مَن جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُوماتِ أسْرَعَ التَّنَقُّلِ، ومِن ذَلِكَ سُؤالُ مَن سَألَ مالِكًا عَنِ الِاسْتِواءِ؟ فَقالَ: الِاسْتِواءُ مَعْلُومٌ، والكَيْفِيَّةُ مَجْهُولٌ، والسُّؤالُ عَنْهُ بِدَعَةٌ.
(p-٢١٨٠)وتاسِعُها: السُّؤالُ عَمّا شَجَرَ بَيْنَ السَّلَفِ الصّالِحِ. وقَدْ سُئِلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ عَنْ قِتالِ أهْلِ صِفِّينَ؟ فَقالَ: تِلْكَ دِماءٌ كَفَّ اللَّهِ عَنْها يَدِي، فَلا أُحِبُّ أنْ أُلَطِّخَ بِها لِسانِي.
وعاشِرُها: سُؤالُ التَّعَنُّتِ والإفْحامِ وطَلَبِ الغَلَبَةِ في الخِصامِ. وفي القُرْآنِ في ذَمِّ نَحْوِ هَذا: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحَياةِ الدُّنْيا ويُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما في قَلْبِهِ وهو ألَدُّ الخِصامِ﴾ [البقرة: ٢٠٤] وقالَ: ﴿بَلْ هم قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: ٥٨] وفي الحَدِيثِ: «أبْغَضُ الرِّجالِ إلى اللَّهِ الألَدُّ الخَصِمُ».
هَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ المَواضِعِ الَّتِي يُكْرَهُ السُّؤالُ فِيها، يُقاسُ عَلَيْها ما سِواها، ولَيْسَ النَّهْيُ فِيها (p-٢١٨١)واحِدًا، بَلْ فِيها ما تَشْتَدُّ كَراهِيَتُهُ، ومِنها ما يَخِفُّ، ومِنها ما يَحْرُمُ، ومِنها يَكُونُ مَحَلَّ اجْتِهادٍ. وعَلى جُمْلَةٍ، مِنها يَقَعُ النَّهْيُ عَنِ الجِدالِ في الدِّينِ كَما جاءَ: إنَّ المِراءَ في القُرْآنِ كُفْرٌ. وقالَ تَعالى: ﴿وإذا رَأيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آياتِنا فَأعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [الأنعام: ٦٨] الآيَةَ.. وأشْباهُ ذَلِكَ مِنَ الآيِ والأحادِيثِ... فالسُّؤالُ في مِثْلِ ذَلِكَ مَنهِيٌّ عَنْهُ، والجَوابُ بِحَسَبِهِ. انْتَهى كَلامُهُ.
التَّنْبِيهُ الرّابِعُ:
قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: لا بُدَّ مِن تَقْيِيدِ النَّهْيِ في هَذِهِ الآيَةِ (بِما لا تَدْعُو إلَيْهِ حاجَةٌ). لِأنَّ الأمْرَ الَّذِي تَدْعُو إلَيْهِ الحاجَةُ في أُمُورِ الدِّينِ قَدْ أذِنَ اللَّهُ بِالسُّؤالِ عَنْهُ فَقالَ: ﴿فاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣] وقالَ ﷺ: ««قاتَلَهُمُ اللَّهُ ألا سَألُوا إذا لَمْ يَعْلَمُوا. فَإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤالُ...»» انْتَهى.
(p-٢١٨٢)ولا يَخْفى أنَّ الآيَةَ بِقَيْدِها - أعْنِي: إنْ تُبْدَ .. إلَخْ - غَنِيَّةٌ عَنْ أنْ تُقَيَّدَ بِقَيْدٍ آخَرَ كَما ذَكَرَهُ البَعْضُ؛ لِأنَّ المُرادَ بِها ما يَشُقُّ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّكالِيفِ الصَّعْبَةِ وما يَفْتَضِحُونَ بِهِ - كَما أسْلَفْنا - مِمّا هو خَوْضٌ في الفُضُولِ، وشُرُوعٌ فِيما لا حاجَةَ إلَيْهِ. وفِيهِ خَطَرُ المَفْسَدَةِ. والشَّيْءُ الَّذِي لا يَحْتاجُ إلَيْهِ ويَكُونُ فِيهِ خَطَرُ المَفْسَدَةِ، يَجِبُ عَلى العاقِلِ الِاحْتِرازُ عَنْهُ.
وأمّا ما تَدْعُو إلَيْهِ الحاجَةُ فَلا تَشْمَلُهُ الآيَةُ - كَما يَتَّضِحُ مِن نَظْمِها الكَرِيمِ - مَعَ ما بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ في سَبَبِ النُّزُولِ، وتَحَرَّجَ الصَّحابَةُ عَنِ المَسائِلِ المارِّ بَيانُهُ - مَعْلُومٌ أنَّهُ فِيما لا ضَرُورَةَ إلَيْها. وإلّا فَمَسائِلُهم في الضَّرُورِيّاتِ والحاجِيّاتِ طَفَحَتْ بِها كُتُبُ السُّنَّةِ، مِمّا يُبَيِّنُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ في مَوْضُوعٍ خاصٍّ.
وقَدْ كانَ ﷺ يَكْرَهُ فَتْحَ بابِ كَثْرَةِ المَسائِلِ، خَشْيَةَ أنْ تُفْضِيَ إلى حَرَجٍ أوْ مَساءَةٍ أوْ تَعَنُّتٍ.
رَوى الشَّيْخانِ «عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أنَّهُ كَتَبَ إلى مُعاوِيَةَ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَنْهى عَنْ قِيلَ وقالَ، وإضاعَةِ المالِ، وكَثْرَةِ السُّؤالِ».
(p-٢١٨٣)ورَوى أحْمَدُ وأبُو داوُدَ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهى عَنِ الأُغْلُوطاتِ» - وهي صِعابُ المَسائِلِ - والآثارُ في ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى بُطْلانَ ما ابْتَدَعَهُ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ - مِن تَحْرِيمِ بَعْضِ بَهِيمَةِ الأنْعامِ - بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
{"ayah":"قَدۡ سَأَلَهَا قَوۡمࣱ مِّن قَبۡلِكُمۡ ثُمَّ أَصۡبَحُوا۟ بِهَا كَـٰفِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











