الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٢٩ - ٣٢] ﴿وإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أنْصِتُوا فَلَمّا قُضِيَ ولَّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ ﴿قالُوا يا قَوْمَنا إنّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْـزِلَ مِن بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الحَقِّ وإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٣٠] ﴿يا قَوْمَنا أجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكم مِن ذُنُوبِكم ويُجِرْكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٣١] ﴿ومَن لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ في الأرْضِ ولَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أوْلِياءُ أُولَئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الأحقاف: ٣٢] . ﴿وإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ﴾ أيْ: أمَّلْناهم إلَيْكَ، وأقْبَلْنا بِهِمْ نَحْوَكَ: ﴿يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أنْصِتُوا﴾ أيْ: لِيَتِمَّ التَّدَبُّرُ والتَّفَكُّرُ: ﴿فَلَمّا قُضِيَ﴾ أيْ: فَرَغَ مِن قِراءَتِهِ، كَمُلَ تَأْثِيرُهم بِهِ، فَأرادُوا التَّأْثِيرَ بِهِ، لِذَلِكَ: ﴿ولَّوْا﴾ أيْ: رَجَعُوا: ﴿إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ أيْ: عَمّا هم فِيهِ مِنَ الضَّلالِ ﴿قالُوا يا قَوْمَنا إنّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْـزِلَ مِن بَعْدِ مُوسى﴾ [الأحقاف: ٣٠] أيِ: المُتَّفَقُ عَلى تَعْظِيمِ كِتابِهِ. أيْ: وقَدْ عَلِمْنا صِدْقَهُ لِكَوْنِهِ: ﴿مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [الأحقاف: ٣٠] أيْ: مِن هَذِهِ الكُتُبِ كُلِّها، وقَدْ فُضِّلَ عَلَيْها إذْ: ﴿يَهْدِي إلى الحَقِّ﴾ [الأحقاف: ٣٠] أيْ: مَعْرِفَةِ الحَقائِقِ: ﴿وإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٣٠] أيْ: لا عِوَجَ فِيهِ، وهو الإسْلامُ. (p-٥٣٥٨)قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أيْ: يَهْدِي إلى الحَقِّ في الِاعْتِقادِ والأخْبارِ، وإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ في الأعْمالِ. فَإنَّ القُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلى شَيْئَيْنِ: خَبَرٍ وطَلَبٍ. فَخَبَرُهُ صِدْقٌ، وطَلَبُهُ عَدْلٌ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدْلا﴾ [الأنعام: ١١٥] وقالَ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى ودِينِ الحَقِّ﴾ [الفتح: ٢٨] فالهُدى هو العِلْمُ النّافِعُ. ودِينُ الحَقِّ هو العَمَلُ الصّالِحُ. وهَكَذا قالَتِ الجِنُّ: ﴿يَهْدِي إلى الحَقِّ﴾ [الأحقاف: ٣٠] في الِاعْتِقاداتِ، ﴿وإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٣٠] أيْ: في العَمَلِيّاتِ ﴿يا قَوْمَنا أجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ﴾ [الأحقاف: ٣١] أيْ: رَسُولَ اللَّهِ مُحَمَّدًا إلى ما يَدْعُوكم إلَيْهِ مِن طاعَةِ اللَّهِ ﴿وآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكم مِن ذُنُوبِكم ويُجِرْكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٣١] ﴿ومَن لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ في الأرْضِ﴾ [الأحقاف: ٣٢] أيْ: بِمُعْجِزِ رَبِّهِ، بِهَرَبِهِ إذا أرادَ تَعالى عُقُوبَتَهُ؛ لِأنَّهُ في قَبْضَتِهِ وسُلْطانِهِ، أنّى اتَّجَهَ ﴿ولَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أوْلِياءُ﴾ [الأحقاف: ٣٢] أيْ: نُصَراءُ يَنْصُرُونَهُ مِنَ اللَّهِ إذا عاقَبَهُ. ﴿أُولَئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الأحقاف: ٣٢] أيْ: أُخِذَ عَلى غَيْرِ اسْتِقامَةٍ. تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ -رَوى الإمامُ مُسْلِمٌ عَنْ عَلْقَمَةَ قالَ: «سَألْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ شَهِدَ أحَدٌ مِنكم مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ الجِنِّ؟ قالَ: لا، ولَكِنّا كُنّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذاتَ لَيْلَةٍ فَفَقَدْناهُ، فالتَمَسْناهُ في الأوْدِيَةِ والشِّعابِ، فَقِيلَ: اسْتُطِيرَ، اغْتِيلَ! قالَ: فَبِتْنا بِشَرِّ لَيْلَةٍ باتَ فِيها قَوْمٌ. فَلَمّا أصْبَحْنا إذا هو جاءَ مِن قِبَلِ حِراءَ. قالَ: فَقُلْنا: يا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَدْناكَ فَطَلَبْناكَ فَلَمْ نَجِدْكَ، فَبِتْنا بِشَرِّ لَيْلَةٍ باتَ بِها قَوْمٌ. فَقالَ: «أتانِي داعِي الجِنِّ، فَذَهَبْتُ مَعَهُمْ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ» قالَ: فانْطَلَقَ بِنا، فَأرانا آثارَهم». ورَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: «كانَ الجِنُّ يَسْتَمِعُونَ الوَحْيَ، (p-٥٣٥٩)فَيَسْمَعُونَ الكَلِمَةَ، فَيَزِيدُونَ فِيها عَشْرًا. فَيَكُونُ ما سَمِعُوا حَقًّا، وما زادُوا باطِلًا. وكانَتِ النُّجُومُ لا يُرْمى بِها قَبْلَ ذَلِكَ. فَلَمّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كانَ أحَدُهم لا يَأْتِي مَقْعَدَهُ إلّا رُمِيَ بِشِهابٍ يَحْرُقُ ما أصابَ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلى إبْلِيسَ، فَقالَ: ما هَذا إلّا مِن أمْرٍ قَدْ حَدَثَ. فَبَثَّ جُنُودَهُ، فَإذا النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلِيِّ نَخْلَةٍ، فَأتَوْهُ فَأخْبَرُوهُ، فَقالَ: هَذا الحَدَثُ الَّذِي حَدَثَ في الأرْضِ». ورَواهُ التِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ في كِتابَيِ التَّفْسِيرِ مِن سُنَنَيْهِما. وهَكَذا قالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: إنَّهُ ﷺ ما شَعَرَ بِأمْرِهِمْ حَتّى أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ بِخَبَرِهِمْ. وذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ قِصَّةَ خُرُوجِ النَّبِيِّ ﷺ إلى الطّائِفِ، ودُعائِهِ إيّاهم إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وإبائِهِمْ عَلَيْهِ، فَذَكَرَ القِصَّةَ بِطُولِها، ثُمَّ قالَ: فَلَمّا انْصَرَفَ عَنْهُمْ، باتَ بِنَخْلَةٍ، فَقَرَأ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنَ القُرْآنِ، فاسْتَمَعَتْهُ الجِنُّ مِن أهْلِ نَصِيبِينَ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَذا صَحِيحٌ، ولَكِنَّ قَوْلَهُ: (إنَّ الجِنَّ كانَ اسْتِماعُهم تِلْكَ اللَّيْلَةَ). فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإنَّ الجِنَّ كانَ اسْتِماعُهم في ابْتِداءِ الإيحاءِ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما المَذْكُورُ. وخُرُوجُهُ ﷺ إلى الطّائِفِ كانَ بَعْدَ مَوْتِ عَمِّهِ، وذَلِكَ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِسَنَةٍ أوْ سَنَتَيْنِ، كَما قَرَّرَهُ ابْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُ. ورَوى ابْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «هَبَطُوا عَلى النَّبِيِّ ﷺ وهو يَقْرَأُ القُرْآنَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَلَمّا سَمِعُوهُ قالُوا: أنْصِتُوا، فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ عَلَيْهِ: ﴿وإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ﴾ الآيَةَ» . قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَهَذا مَعَ الأوَّلِ مِن رِوايَةِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، يَقْتَضِي أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَشْعُرْ بِحُضُورِهِمْ في هَذِهِ المَرَّةِ، وإنَّما اسْتَمَعُوا قِراءَتَهُ، ثُمَّ رَجَعُوا إلى قَوْمِهِمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وفَدُوا إلَيْهِ أرْسالًا: قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ، وفَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ. (p-٥٣٦٠)فَأمّا ما رَواهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ جَمِيعًا عَنْ مَعْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قالَ: سَمِعْتُ أبِي يَقُولُ: سَألْتُ مَسْرُوقًا: «مَن آذَنَ النَّبِيَّ ﷺ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا القُرْآنَ؟ فَقالَ: حَدَّثَنِي أبُوكَ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنَّهُ آذَنَتْهُ بِهِمْ شَجَرَةٌ،» فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا في المَرَّةِ الأُولى، ويَكُونُ إثْباتًا مُقَدَّمًا عَلى نَفْيِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ في الأُولى، ولَكِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ حالَ اسْتِماعِهِمْ حَتّى آذَنَتْهُ بِهِمُ الشَّجَرَةُ، أيْ: أعْلَمَتْهُ بِاجْتِماعِهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا في بَعْضِ المَرّاتِ المُتَأخِّراتِ، واللَّهُ أعْلَمُ. قالَ الحافِظُ البَيْهَقِيُّ: وهَذا الَّذِي حَكاهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما إنَّما هو أوَّلُ ما سَمِعَتِ الجِنُّ قِراءَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وعَلِمَتْ حالَهُ، وفي ذَلِكَ الوَقْتِ لَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِمْ، ولَمْ يَرَهُمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أتاهُ داعِي الجِنِّ، فَقَرَأ، عَلَيْهِمُ القُرْآنَ، ودَعاهم إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ -كَما رَواهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. ثُمَّ قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وأمّا ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حالَ مُخاطَبَتِهِ لِلْجِنِّ، ودُعائِهِ إيّاهُمْ، وإنَّما كانَ بَعِيدًا مِنهُ، ولَمْ يَخْرُجْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ أحَدٌ سِواهُ، ومَعَ هَذا، لَمْ يَشْهَدْ حالَ المُخاطَبَةِ. هَذِهِ طَرِيقَةُ البَيْهَقِيِّ. وقَدْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أوَّلَ مَرَّةٍ خَرَجَ إلَيْهِمْ، لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ﷺ ابْنُ مَسْعُودٍ ولا غَيْرُهُ، كَما هو ظاهِرُ سِياقِ الرِّوايَةِ الأُولى مِن طَرِيقِ الإمامِ مُسْلِمٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ خَرَجَ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرى -واللَّهُ أعْلَمُ- كَما رَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ في تَفْسِيرِ: ﴿قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ﴾ [الجن: ١] مِن حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ قالَ: قالَ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عُمَرَ: أمّا الجِنُّ الَّذِينَ لَقُوهُ بِنَخْلَةَ فَجِنُّ نِينَوى، وأمّا الجِنُّ الَّذِينَ لَقُوهُ بِمَكَّةَ، فَجِنُّ نَصِيبِينَ. وتَأوَّلَ البَيْهَقِيُّ قَوْلَهُ: فَبِتْنا بِشَرِّ لَيْلَةٍ. عَلى غَيْرِ ابْنِ مَسْعُودٍ، مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ بِخُرُوجِهِ ﷺ إلى الجِنِّ، وهو مُحْتَمَلٌ، عَلى بُعْدٍ، (p-٥٣٦١)وبِالجُمْلَةِ، فَقَدْ رُوِيَ ما يَدُلُّ عَلى تَكْرارِ ذَلِكَ. وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ غَيْرُ ما رُوِيَ عَنْهُ أوَّلًا مِن وجْهٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ في هَذِهِ الآيَةِ، قالَ: كانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ مِن أهْلِ نَصِيبِينَ، فَجَعَلَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رُسُلًا إلى قَوْمِهِمْ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ قَدْ رَوى القِصَّتَيْنِ. وذَكَرَ أبُو حَمْزَةَ الثَّمّالِيُّ أنَّ هَذا الحَيَّ مِنَ الجِنِّ كانُوا أكْثَرَ الجِنِّ عَدَدًا، وأشْرَفَهم نَسَبًا. وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهم كانُوا تِسْعَةً. ويُرْوى أنَّهم كانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ، ورُوِيَ سِتِّينَ، ورُوِيَ ثَلاثَمِائَةٍ. وعَنْ عِكْرِمَةَ أنَّهم كانُوا اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَلَعَلَّ هَذا الِاخْتِلافَ دَلِيلٌ عَلى تَكَرُّرِ وِفادَتِهِمْ عَلَيْهِ ﷺ. ومِمّا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ ما رَواهُ البُخارِيُّ في (صَحِيحِهِ) أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: ما سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِشَيْءٍ قَطُّ يَقُولُ: إنِّي لَأظُنُّهُ هَكَذا، إلّا كانَ كَما يَظُنُّ. بَيْنَما عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ جالِسٌ، إذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ فَقالَ: لَقَدْ أخْطَأ ظَنِّي، أوْ إنَّ هَذا عَلى دِينِهِ في الجاهِلِيَّةِ، أوْ لَقَدْ كانَ كاهِنَهم. عَلَيَّ الرَّجُلَ. فَدُعِيَ لَهُ، فَقالَ لَهُ ذَلِكَ، فَقالَ: ما رَأيْتُ كاليَوْمِ اسْتُقْبِلَ بِهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ. قالَ: فَإنِّي أعْزِمُ عَلَيْكَ إلّا ما أخْبَرْتَنِي! قالَ: كُنْتُ كاهِنَهم في الجاهِلِيَّةِ. قالَ: فَما أعْجَبَ ما جاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ؟ قالَ: بَيْنا أنا يَوْمًا في السُّوقِ، جاءَتْنِي أعْرِفُ فِيها الفَزَعُ، فَقالَتْ: ألَمْ تَرَ الجِنَّ وإبْلاسَها ويَأْسَها مِن بَعْدِ إنْكاسِها، ولُحُوقِها بِالقِلاصِ وأحْلاسِها؟ قالَ عُمَرُ: صَدَقَ! بَيْنَما أنا نائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ، إذْ جاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ، فَصَرَخَ بِهِ صارِخٌ، لَمْ أسْمَعْ صارِخًا قَطُّ أشَدَّ صَوْتًا مِنهُ، يَقُولُ: يا جَلِيحُ! أمْرٌ نَجِيحٌ، رَجُلٌ فَصِيحٌ، يَقُولُ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. قالَ فَوَثَبَ القَوْمُ. فَقُلْتُ: لا أبْرَحُ حَتّى أعْلَمَ ما وراءَ هَذا. ثُمَّ نادى: يا جَلِيحُ ! أمْرٌ نَجِيحٌ، رَجُلٌ فَصِيحٌ، يَقُولُ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. فَقُمْتُ، فَما نَشَبْنا أنْ قِيلَ: هَذا نَبِيٌّ -هَذا سِياقُ البُخارِيِّ - وقَدْ رَواهُ البَيْهَقِيُّ مِن حَدِيثِ ابْنِ وهْبٍ بِنَحْوِهِ. ثُمَّ قالَ: وظاهِرُ هَذِهِ الرِّوايَةِ يُوهِمُ أنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِنَفْسِهِ سَمِعَ الصّارِخَ يَصْرُخُ مِنَ العِجْلِ (p-٥٣٦٢)الَّذِي ذُبِحَ. وكَذَلِكَ هو صَرِيحٌ في رِوايَةٍ ضَعِيفَةٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وسائِرُ الرِّواياتِ تَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا الكاهِنَ هو الَّذِي أخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ رُؤْيَتِهِ وسَماعِهِ -واللَّهُ أعْلَمُ-. وهَذا الرَّجُلُ هو سَوادُ بْنُ قارِبٍ. قالَ البَيْهَقِيُّ: وسَوادُ بْنُ قارِبٍ يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ هو الكاهِنَ الَّذِي لَمْ يُذْكَرِ اسْمُهُ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ. ثُمَّ رَوى بِسَنَدِهِ عَنِ البَراءِ قالَ: «بَيْنَما عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ يَخْطُبُ النّاسَ عَلى مِنبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذْ قالَ: أيُّها النّاسُ! أفِيكم سَوادُ بْنُ قارِبٍ ؟ قالَ، فَلَمْ يُجِبْهُ أحَدٌ تِلْكَ السَّنَةَ. فَلَمّا كانَتِ السَّنَةُ المُقْبِلَةُ قالَ أيُّها النّاسُ! أفِيكم سَوادُ بْنُ قارِبٍ ؟ قالَ، فَقُلْتُ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! وما سَوادُ بْنُ قارِبٍ ؟ قالَ، فَقالَ لَهُ عُمَرُ: إنَّ سَوادَ بْنَ قارِبٍ كانَ بَدْءُ إسْلامِهِ شَيْئًا عَجِيبًا! قالَ: فَبَيْنَما نَحْنُ كَذَلِكَ، إذْ طَلَعَ سَوادُ بْنُ قارِبٍ. قالَ، فَقالَ لَهُ عُمَرُ: يا سَوادُ ! حَدِّثْنا بِبَدْءِ إسْلامِكَ كَيْفَ كانَ؟ قالَ سَوادٌ: فَإنِّي كُنْتُ نازِلًا بِالهِنْدِ، وكانَ لِي رَئِيٌّ مِنَ الجِنِّ. قالَ: فَبَيْنا أنا ذاتَ لَيْلَةٍ نائِمٌ إذْ جاءَنِي في مَنامِي ذَلِكَ، قالَ: قُمْ فافْهَمْ، واعْقِلْ إنْ كُنْتَ تَعْقِلُ ! قَدْ بُعِثَ رَسُولٌ مِن لُؤَيِّ بْنِ غالِبٍ، ثُمَّ أنْشَأ يَقُولُ: ؎عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وتَحْساسِها وشَدِّها العِيسَ بِأحْلاسِها ؎تَهْوِي إلى مَكَّةَ تَبْغِي الهُدى ∗∗∗ ما خَيِّرُ الجِنِّ كَأنْجاسِها ؎فانْهَضْ إلى الصَّفْوَةِ مِن هاشِمٍ ∗∗∗ واسْمُ بِعَيْنَيْكَ إلى راسِها قالَ: ثُمَّ أنْبَهَنِي فَأفْزَعَنِي وقالَ: يا سَوادُ بْنَ قارِبٍ ! إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ بَعَثَ نَبِيًّا، فانْهَضْ إلَيْهِ تَهْتَدِ وتَرْشُدْ. فَلَمّا كانَ مِنَ اللَّيْلَةِ الثّانِيَةِ، أتانِي فَأنْبَهَنِي، ثُمَّ أنْشَأ يَقُولُ: ؎عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وتَطْلابِها ∗∗∗ وشَدِّها العِيسَ بِأقْتابِها ؎تَهْوِي إلى مَكَّةَ تَبْغِي الهُدى ∗∗∗ ولَيْسَ قُدْماها كَأذْنابِها ؎فانْهَضْ إلى الصَّفْوَةِ مِن هاشِمٍ ∗∗∗ واسْمُ بِعَيْنَيْكَ إلى قابِها فَلَمّا كانَ في اللَّيْلَةِ الثّالِثَةِ، أتانِي فَأنْبَهَنِي، ثُمَّ قالَ: ؎عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وتَخْبارِها ∗∗∗ وشَدِّها العِيسَ بِأكْوارِها ؎تَهْوِي إلى مَكَّةَ تَبْغِي الهُدى ∗∗∗ ولَيْسَ ذَوُو الشَّرِّ كَأخْيارِها ؎فانْهَضْ إلى الصَّفْوَةِ مِن هاشِمٍ ∗∗∗ ما مُؤْمِنُو الجِنِّ كَكُفّارِها (p-٥٣٦٣)قالَ: فَلَمّا سَمِعَهُ تَكَرَّرَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ، وقَعَ في قَلْبِي حُبُّ الإسْلامِ مِن أمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ما شاءَ اللَّهُ. قالَ: فانْطَلَقْتُ إلى رَحْلِي، فَشَدَدْتُهُ عَلى راحِلَتِي، فَما حَلَلْتُ نَسْعَةً، ولا عَقَدْتُ أُخْرى، حَتّى أتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَإذا هو بِالمَدِينَةِ -يَعْنِي مَكَّةَ - والنّاسُ عَلَيْهِ كَعُرْفِ الفَرَسِ، فَلَمّا رَآنِي النَّبِيُّ ﷺ قالَ: «مَرْحَبًا بِكَ يا سَوادُ بْنَ قارِبٍ، قَدْ عَلِمْنا ما جاءَ بِكَ». قالَ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ! قَدْ قُلْتُ شِعْرًا، فاسْمَعْهُ مِنِّي! قالَ ﷺ: «قُلْ يا سَوادُ»، فَقُلْتُ: ؎أتانِي رَئِيِّي بَعْدَ لَيْلٍ وهَجْعَةٍ ∗∗∗ ولَمْ يَكُ فِيما قَدْ بَلَوْتُ بِكاذِبِ ؎ثَلاثَ لَيالٍ، قَوْلُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ: ∗∗∗ أتاكَ رَسُولٌ مِن لُؤَيِّ بْنِ غالِبِ ؎فَشَمَّرْتُ عَنْ ساْقِي الإزارَ ووَسَّطَتْ ∗∗∗ بِي الدِّعْلِبُ الوَجْناءُ بَيْنَ السَّباسِبِ ؎فَأشْهَدُ أنَّ اللَّهَ لا رَبَّ غَيْرُهُ ∗∗∗ وأنَّكَ مَأْمُونٌ عَلى كُلِّ غائِبِ ؎وأنَّكَ أدْنى المُرْسَلِينَ وسِيلَةً ∗∗∗ إلى اللَّهِ، يا ابْنَ الأكْرَمِينَ الأطايِبِ ؎فَمُرْنا بِما يَأْتِيكَ يا خَيْرَ مُرْسَلٍ ∗∗∗ وإنْ كانَ فِيما جاءَ شَيْبَ الذَّوائِبِ ؎وكُنْ لِي شَفِيعًا يَوْمَ لا ذُو شَفاعَةٍ ∗∗∗ سِواكَ بِمُغْنٍ عَنْ سَوادِ بْنِ قاْرِبِ قالَ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ ﷺ حَتّى بَدَتْ نَواجِذُهُ، وقالَ لِي: أفْلَحْتَ يا سَوادُ ! فَقالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ يَأْتِيكَ رِئِيُّكَ الآنَ؟ فَقالَ: مُنْذُ قَرَأْتُ القُرْآنَ لَمْ يَأْتِنِي، ونِعْمَ العِوَضُ كِتابُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ مِنَ الجِنِّ». ثُمَّ أسْنَدَهُ البَيْهَقِيُّ مِن وجْهَيْنِ آخَرَيْنِ. انْتَهى كَلامُ ابْنِ كَثِيرٍ. وقَدْ ساقَهُ الإمامُ الماوَرْدِيُّ في (أعْلامِ النُّبُوَّةِ) مَعَ نَظائِرَ لَهُ، في البابِ السّادِسَ عَشَرَ، في هُتُوفِ الجِنِّ، ثُمَّ قالَ: ولَئِنْ كانَتْ هَذِهِ الهُتُوفُ أخْبارَ آحادٍ، عَمَّنْ لا يَرى شَخْصَهُ، ولا يَحُجُّ قَوْلُهُ، فَخُرُوجُهُ عَنِ العادَةِ نَذِيرٌ، وتَأْثِيرُهُ في النُّفُوسِ بَشِيرٌ، وقَدْ قَبِلَها السّامِعُونَ. وقَبُولُ الأخْبارِ يُؤَكِّدُ صِحَّتَها، ويُؤَيِّدُ حُجَّتَها. فَإنْ قِيلَ: إنْ كانَتْ هُتُوفُ الجِنِّ مِن دَلائِلِ النُّبُوَّةِ، (p-٥٣٦٤)جازَ أنْ تَكُونَ دَلِيلًا عَلى صِحَّةِ الكِهانَةِ، فَعَنْهُ جَوابانِ: أحَدُهُما: أنَّ دَلائِلَ النُّبُوَّةِ غَيْرُها، وإنَّما هي مِنَ البَشائِرِ بِها، وفَرَّقَ بَيْنَ الدَّلالَةِ والبِشارَةِ إخْبارًا. والثّانِي: أنَّ الكِهانَةَ عَنْ مُغَيَّبٍ، والبِشارَةَ عَنْ مُعَيَّنٍ، فالعَيانُ مَعْلُومٌ، والغائِبُ مَوْهُومٌ. انْتَهى. التَّنْبِيهُ الثّانِي: قالَ الماوَرْدِيُّ: في صَرْفِ الجِنِّ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ﴾ وجْهانِ: أحَدُهُما:- أنَّهم صَرَفُوا عَنِ اسْتِراقِ سَمْعِ السَّماءِ، بِرُجُومِ الشُّهُبِ، ولَمْ يَصْرِفُوا عَنْهُ بَعْدَ عِيسى إلّا بَعْدَ بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالُوا: ما هَذا الحادِثُ في السَّماءِ، إلّا لِحادِثٍ في الأرْضِ، وتَخَيَّلُوا بِهِ تَجْدِيدَ النُّبُوَّةِ، فَجابُوا الأرْضَ، حَتّى وقَفُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِبَطْنِ مَكَّةَ عامِدًا إلى عُكاظٍ، وهو يُصَلِّي الفَجْرَ، فاسْتَمَعُوا القُرْآنَ، ورَأوْهُ كَيْفَ يُصَلِّي، ويَقْتَدِي بِهِ أصْحابُهُ، فَعَلِمُوا أنَّهُ لِهَذا الحادِثِ، صُرِفُوا عَنِ اسْتِراقِ السَّمْعِ بِرُجُومِ الشِّهابِ. وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ. أقُولُ: وعَلَيْهِ فَتَكُونُ (إلى) -فِي (إلَيْكَ)- بِمَعْنى لامِ التَّعْلِيلِ. وذُكِرَ في (المُغْنِي) أنَّها تَأْتِي مُرادِفَةً اللّامَ، نَحْوَ: والأمْرُ إلَيْكِ. وفِيهِ تَكَلُّفٌ وبُعْدٌ؛ لِنُبُوِّهِ عَمّا يَقْتَضِيهِ سِياقُ بَقِيَّةِ الآيَةِ. ثُمَّ قالَ الماوَرْدِيُّ: (p-٥٣٦٥)وحَكى عِكْرِمَةُ أنَّ السُّورَةَ الَّتِي كانَ يَقْرَؤُها: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١] أقُولُ: سَيَأْتِي مَرْفُوعًا عَنْ جابِرٍ أنَّها سُورَةُ الرَّحْمَنِ. ثُمَّ قالَ الماوَرْدِيُّ: والوَجْهُ الثّانِي:- أنَّهم صُرِفُوا عَنْ بِلادِهِمْ بِالتَّوْفِيقِ، هِدايَةً مِنَ اللَّهِ تَعالى، حَتّى أتَوْا نَبِيَّ اللَّهِ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الآيَةِ، وأخْبَرَهُ بِوُفُودِ الجِنِّ، وأمْرِهِ بِالخُرُوجِ إلَيْهِمْ، فَخَرَجَ ومَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، حَتّى جاءَ الحَجُونَ. قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَخَطَّ عَلِيَّ خَطًّا وقالَ: لا تُجاوِزْهُ. فَعَلى الوَجْهِ الأوَّلِ، لَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ حَتّى أتَوْهُ. وعَلى الوَجْهِ الثّانِي، أعْلَمَهُ جِبْرِيلُ قَبْلَ إتْيانِهِمْ. واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في رُؤْيَتِهِ لَهُمْ، وقِراءَتِهِ عَلَيْهِمْ. فَحَكى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَرَهُمْ، ولَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِمْ، وإنَّما سَمِعُوا قِراءَتَهُ حِينَ مَرُّوا بِهِ مُصَلِّيًا. وحَكى ابْنُ مَسْعُودٍ أنَّهُ رَآهم. وقَرَأ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ. أقُولُ: تَقَدَّمَ لِابْنِ كَثِيرٍ ما فِيهِ كِفايَةٌ-. ثُمَّ قالَ الماوَرْدِيُّ: وفي قَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أنْصِتُوا﴾ وجْهانِ: أحَدُهُما:- فَلَمّا حَضَرُوا قِراءَتَهُ القُرْآنَ، قالُوا: أنْصِتُوا لِسَماعِهِ. والوَجْهُ الثّانِي: فَلَمّا حَضَرُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالُوا: أنْصِتُوا لِسَماعِ قَوْلِهِ. انْتَهى. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَذا -أيْ: قَوْلُهم أنْصِتُوا- أدَبٌ مِنهم. وقَدْ رَوى البَيْهَقِيُّ عَنْ جابِرٍ قالَ: «قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سُورَةَ الرَّحْمَنِ حَتّى خَتَمَها، ثُمَّ قالَ: «ما لِي أراكم سُكُوتًا؟ لَلْجِنُّ كانُوا أحْسَنَ مِنكم رَدًّا؛ ما قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآيَةَ مِن مَرَّةٍ: " فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ "، إلّا قالُوا: ولا بِشَيْءٍ مِن آلائِكَ أوْ نِعَمِكَ رَبَّنا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الحَمْدُ»» ورَواهُ التِّرْمِذِيُّ وقالَ: لا نَعْرِفُهُ إلّا مِن حَدِيثِ الوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ زُهَيْرٍ. الثّالِثُ:- دَلَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا قَوْمَنا أجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ﴾ [الأحقاف: ٣١] عَلى أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ عامَّ الرِّسالَةِ إلى الإنْسِ والجِنِّ. (p-٥٣٦٦)قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: لِأنَّهُ دَعا الجِنَّ إلى اللَّهِ تَعالى، وقَرَأ عَلَيْهِمُ السُّورَةَ الَّتِي فِيها خِطابُ الفَرِيقَيْنِ، وتَكْلِيفُهُمْ، ووَعْدُهُمْ، ووَعِيدُهُمْ، وهي سُورَةُ الرَّحْمَنِ، ولِهَذا قالَ: ﴿أجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وآمِنُوا بِهِ﴾ [الأحقاف: ٣١] قالَ الماوَرْدِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفْ أهْلُ العِلْمِ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولًا مِنَ الإنْسِ، واخْتَلَفُوا في جَوازِ بِعْثَةِ رَسُولٍ مِنهُمْ، فَجَوَّزَهُ قَوْمٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعالى: ﴿يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكم رُسُلٌ مِنكُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٠] ومَنَعَ آخَرُونَ مِنهُ. وهَذا قَوْلُ مَن جَعَلَهم مِن ولَدِ إبْلِيسَ، وحَمَلُوا قَوْلَهُ: ﴿ألَمْ يَأْتِكم رُسُلٌ مِنكُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٠] عَلى الَّذِينَ لَمّا سَمِعُوا القُرْآنَ، ولَّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. انْتَهى. أقُولُ: ونَظِيرُهُ تَسْمِيَةُ رُسُلِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ رُسُلًا في آيَةِ: ﴿إذْ أرْسَلْنا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ﴾ [يس: ١٤] الرّابِعُ:- اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿يَغْفِرْ لَكم مِن ذُنُوبِكم ويُجِرْكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٣١] مَن ذَهَبَ مِنَ العُلَماءِ إلى أنَّ الجِنَّ المُؤْمِنِينَ لا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، وإنَّما جَزاءُ صالِحِيهِمْ أنْ يُجارُوا مِن عَذابِ النّارِ يَوْمَ القِيامَةِ؛ إذْ لَوْ كانَ لَهم جَزاءٌ عَلى الإيمانِ أعْلى مِن هَذا، لَأوْشَكَ أنْ يَذْكُرُوهُ. قالَ الماوَرْدِيُّ: فَأمّا كُفّارُهم فَيَدْخُلُونَ النّارَ، وأمّا مُؤْمِنُوهُمْ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا في دُخُولِهِمُ الجَنَّةَ ثَوابًا عَلى إيمانِهِمْ. فَقالَ الضَّحّاكُ: ومَن جَوَّزَ أنْ يَكُونَ رُسُلُهم مِنهُمْ، يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ. وحَكى سُفْيانُ عَنْ لَيْثٍ أنَّهم يُثابُونَ عَلى الإيمانِ بِأنْ يُجازَوْا عَلى النّارِ خَلاصًا مِنها، ثُمَّ يُقالُ: لَهُمْ: كُونُوا تُرابًا كالبَهائِمِ. انْتَهى. والحَقُّ -كَما قالَ ابْنُ كَثِيرٍ - أنَّ مُؤْمِنَهم كَمُؤْمِنِ الإنْسِ، يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، كَما هو مَذْهَبُ جَماعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهم لِهَذا بِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهم ولا جانٌّ﴾ [الرحمن: ٧٤] وفي هَذا الِاسْتِدْلالِ نَظَرٌ، وأحْسَنَ مِنهُ قَوْلُهُ جَلَّ وعَلا: ﴿ولِمَن خافَ مَقامَ (p-٥٣٦٧)رَبِّهِ جَنَّتانِ﴾ [الرحمن: ٤٦] ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ٤٧] فَقَدِ امْتَنَّ تَعالى عَلى الثَّقَلَيْنِ بِأنْ جَعَلَ جَزاءَ مُحْسِنِهِمُ الجَنَّةَ. وقَدْ قابَلَتِ الجِنُّ هَذِهِ الآيَةَ بِالشُّكْرِ القَوْلِيِّ أبْلَغَ مِنَ الإنْسِ، فَقالُوا: ولا بِشَيْءٍ مِن آلائِكَ رَبَّنا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الحَمْدُ. فَلَمْ يَكُنْ تَعالى لِيَمْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِجَزاءٍ لا يَحْصُلُ لَهم. وأيْضًا، فَإنَّهُ إذا كانَ يُجازِي كافِرَهم بِالنّارِ، وهو مَقامُ عَدْلٍ، فَلَأنْ يُجازِيَ مُؤْمِنَهم بِالجَنَّةِ، وهو مَقامُ فَضْلٍ، بِطَرِيقِ الأوْلى والأحْرى، ومِمّا يَدُلُّ أيْضًا عَلى عُمُومِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ كانَتْ لَهم جَنّاتُ الفِرْدَوْسِ نُـزُلا﴾ [الكهف: ١٠٧] وما أشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. وما ذَكَرُوهُ هَهُنا مِنَ الجَزاءِ عَلى الإيمانِ، مِن تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ، والإجارَةِ مِنَ العَذابِ الألِيمِ، هو يَسْتَلْزِمُ دُخُولَ الجَنَّةِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ في الآخِرَةِ إلّا الجَنَّةُ أوِ النّارُ. فَمَن أُجِيرَ مِنَ النّارِ دَخَلَ الجَنَّةَ لا مَحالَةَ، ولَمْ يَرِدْ مَعَنا نَصٌّ صَرِيحٌ، ولا ظاهِرٌ عَنِ الشّارِعِ، أنَّ مُؤْمِنِي الجِنِّ لا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، وإنْ أُجِيرُوا مِنَ النّارِ، ولَوْ صَحَّ لَقُلْنا بِهِ، واللَّهُ أعْلَمُ. وهَذا نُوحٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: ﴿يَغْفِرْ لَكم مِن ذُنُوبِكم ويُؤَخِّرْكم إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ [نوح: ٤] ولا خِلافَ أنَّ مُؤْمِنِي قَوْمِهِ في الجَنَّةِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلاءِ. وقَدْ حُكِيَ فِيهِمْ أقْوالٌ غَرِيبَةٌ. فَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ أنَّهم لا يَدْخُلُونَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ، وإنَّما يَكُونُونَ في رُبْضِها، وحَوْلَها، وفي أرْجائِها. ومِنَ النّاسِ مَن زَعَمَ أنَّهم في الجَنَّةِ يَراهم بَنُو آدَمَ، ولا يَرَوْنَ بَنِي آدَمَ بِعَكْسِ ما كانُوا عَلَيْهِ في الدّارِ الدُّنْيا، ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: لا يَأْكُلُونَ في الجَنَّةِ ولا يَشْرَبُونَ، وإنَّما يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ، والتَّحْمِيدَ، والتَّقْدِيسَ، عِوَضًا عَنِ الطَّعامِ والشَّرابِ، كالمَلائِكَةِ؛ لِأنَّهم مِن جِنْسِهِمْ، وكُلُّ هَذِهِ الأقْوالِ فِيها نَظَرٌ، ولا دَلِيلَ عَلَيْها. انْتَهى. الخامِسُ: - قِيلَ: سِرُّ التَّبْعِيضِ في قَوْلِهِ: ﴿مِن ذُنُوبِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٣١] أنَّ مِنَ العَذابِ ما لا يُغْفَرُ بِالإيمانِ، كَذُنُوبِ المَظالِمِ، أيْ: حُقُوقُ العِبادِ. وفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأنَّ الحَرْبِيَّ لَوْ نَهَبَ الأمْوالَ المَصُونَةَ، وسَفَكَ الدِّماءَ المَحْقُونَةَ، ثُمَّ حَسُنَ إسْلامُهُ، جَبَّ الإسْلامُ عَنْهُ إثْمَ ما تَقَدَّمَ، بِلا إشْكالٍ. (p-٥٣٦٨)ويُقالُ: إنَّهُ ما وعَدَ المَغْفِرَةَ لِلْكافِرِ عَلى تَقْدِيرِ الإيمانِ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى إلّا مُبَعَّضَةً، والسِّرُّ فِيهِ أنَّ مَقامَ الكافِرِ قَبْضٌ لا بَسْطٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُبْسَطْ رَجاؤُهُ كَما في حَقِّ المُؤْمِنِ -أفادَهُ النّاصِرُ -. السّادِسُ: - قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: جَمَعُوا في دَعْواهم قَوْمَهم بَيْنَ التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ، ولِهَذا نَجَعَ في كَثِيرٍ مِنهُمْ، وجاءُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وُفُودًا وُفُودًا، كَما تَقَدَّمَ بَيانُهُ. السّابِعُ:- قالَ الماوَرْدِيُّ: الجِنُّ مِنَ العالَمِ النّاطِقِ المُمَيِّزِ، يَأْكُلُونَ، ويَتَناكَحُونَ، ويَتَناسَلُونَ، ويَمُوتُونَ، وأشْخاصُهم مَحْجُوبَةٌ عَنِ الأبْصارِ، وإنْ تَمَيَّزُوا بِأفْعالٍ وآثارٍ، إلّا أنَّ اللَّهَ يَخُصُّ بِرُؤْيَتِهِمْ مَن يَشاءُ، وإنَّما عَرَفَهُمُ الإنْسُ مِنَ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ، وما تَخَيَّلُوهُ مِن آثارِهِمُ الخَفِيَّةِ. وقالَ القاشانِيُّ: الجِنُّ نُفُوسٌ أرْضِيَّةٌ تَجَسَّدَتْ في أبْدانٍ لَطِيفَةٍ مُرَكَّبَةٍ مِن لَطائِفِ العَناصِرِ، سَمّاها حُكَماءُ الفُرْسِ: (الصُّوَرُ المُعَلَّقَةُ). ولِكَوْنِها أرْضِيَّةً مُتَجَسِّدَةً في أبْدانٍ عُنْصُرِيَّةٍ، ومُشارَكَتِها الإنْسَ في ذَلِكَ، سُمِّيا (ثَقَلَيْنِ). وكَما أمْكَنَ النّاسُ التَّهَدِّي بِالقُرْآنِ أمْكَنَهُمْ، وحِكاياتُهم مِنَ المُحَقِّقِينَ وغَيْرِهِمْ أكْثَرُ مِن أنْ يُمْكِنَ رَدُّ الجَمِيعِ، وأوْضَحُ مِن أنْ يَقْبَلَ التَّأْوِيلَ. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب