الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[ ٢٣، ٢٤] ﴿أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ وأضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ ﴿وقالُوا ما هي إلا حَياتُنا الدُّنْيا نَمُوتُ ونَحْيا وما يُهْلِكُنا إلا الدَّهْرُ وما لَهم بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ إنْ هم إلا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: ٢٤] .
﴿أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ﴾ أيْ: مَن تَرَكَ مُتابَعَةَ الهُدى إلى مُتابَعَةِ الهَوى، فَكَأنَّهُ يَعْبُدُهُ، فَجَعَلَهُ إلَهًا؛ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أوِ اسْتِعارَةٌ. قالَ القاشانِيُّ: الإلَهُ المَعْبُودُ، ولَمّا أطاعُوا الهَوى فَقَدْ عَبَدُوهُ وجَعَلُوهُ إلَهًا؛ إذْ كَلُّ ما يَعْبُدُهُ الإنْسانُ بِمَحَبَّتِهِ وطاعَتِهِ، فَهو إلَهُهُ لَوْ كانَ (p-٥٣٢٥)حَجَرًا! ﴿وأضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ﴾ أيْ: عالِمًا بِحالِهِ، مِن زَوالِ اسْتِعْدادِهِ، وانْقِلابِ وجْهِهِ، إلى الجِهَةِ السُّفْلِيَّةِ، أوْ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ العابِدِ لِلْهَوى عالِمًا بِعِلْمِ ما يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ في الدِّينِ، عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ: ﴿عَلى عِلْمٍ﴾ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المَفْعُولِ فِي: " أضَلَّهُ اللَّهُ " لا مِنَ الفاعِلِ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ الإخْلالُ لِمُحالَفَتِهِ عِلْمَهُ بِالعَمَلِ، وتَخْتَلِفُ القَدَمُ عَنِ النَّظَرِ؛ لِتَشَرُّبِ قَلْبِهِ بِمَحَبَّةِ النَّفْسِ وغَلَبَةِ الهَوى، أوْ عَلى عِلْمٍ مِنهُ غَيْرِ نافِعٍ؛ لِكَوْنِهِ مِن بابِ الفُضُولِ، لَيْسَ فِيهِ إلى الحَقِّ سُلُوكٌ ووُصُولٌ: ﴿وخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ﴾ أيْ: بِالطَّرْدِ مِن بابِ الهُدى، والإبْعادِ عَنْ مَحَلِّ سَماعِ كَلامِ الحَقِّ وفَهْمِهِ، لِمَكانِ الرَّيْنِ، وغِلَظِ الحِجابِ، فَلا يَعْقِلُ مِنهُ شَيْئًا: ﴿وجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً﴾ أيْ: عَنْ رُؤْيَةِ حُجَجِ اللَّهِ وآياتِهِ: ﴿فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ﴾ أيْ: فَمَن يُوَفِّقُهُ لِإصابَةِ الحَقِّ بَعْدَ إضْلالِ اللَّهِ إيّاهُ: ﴿أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ ﴿وقالُوا ما هي إلا حَياتُنا الدُّنْيا﴾ [الجاثية: ٢٤] أيْ: ما الحَياةُ، أوِ الحالُ غَيْرُ حَياتِنا هَذِهِ الَّتِي نَحْنُ فِيها: ﴿نَمُوتُ﴾ [الجاثية: ٢٤] أيْ: بِالمَوْتِ البَدَنِيِّ الطَّبِيعِيِّ ﴿ونَحْيا﴾ [الجاثية: ٢٤] أيِ: الحَياةَ الجُسْمانِيَّةَ الحِسِّيَّةَ، لا مَوْتَ ولا حَياةَ غَيْرُهُما: ﴿وما يُهْلِكُنا إلا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: ٢٤] أيْ: مَرُّ اللَّيالِي والأيّامِ وطُولُ العُمْرِ: ﴿وما لَهم بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ إنْ هم إلا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: ٢٤] أيْ: وما يَقُولُونَ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ، ولَكِنْ عَنْ ظَنٍّ وتَخْمِينٍ. و: { ذَلِكَ } إشارَةً إلى نِسْبَةِ الحَوادِثِ إلى الدَّهْرِ، أوْ إلى إنْكارِ البَعْثِ، أوْ إلى كِلَيْهِما. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كانُوا يَزْعُمُونَ أنَّ مُرُورَ الأيّامِ، واللَّيالِي هو المُؤَثِّرُ في هَلاكِ الأنْفُسِ، ويُنْكِرُونَ مَلَكَ المَوْتِ، وقَبَضَهُ الأرْواحَ بِأمْرِ اللَّهِ، وكانُوا يُضِيفُونَ كُلَّ حادِثَةٍ وحَدَثٍ إلى الدَّهْرِ والزَّمانِ، وتَرى أشْعارَهم ناطِقَةً بِشَكْوى الزَّمانِ، ومِنهُ قَوْلُهُ ﷺ ««لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فَإنَّ اللَّهَ هو الدَّهْرُ»» أيْ: فَإنَّ اللَّهَ هو الآتِي بِالحَوادِثِ لا الدَّهْرُ. انْتَهى.
وقالَ الخَطّابِيُّ: مَعْناهُ أنا صاحِبُ الدَّهْرِ، ومُدَبِّرُ الأُمُورِ الَّتِي تَنْسُبُونَها إلى الدَّهْرِ. فَمَن سَبَّ الدَّهْرَ مِن أجْلِ أنَّهُ فاعِلُ هَذِهِ الأُمُورِ عادَ سَبُّهُ إلى رَبِّهِ الَّذِي هو فاعِلُها. وإنَّما الدَّهْرُ (p-٥٣٢٦)زَمانٌ جُعِلَ ظَرْفًا لِمَواقِعِ الأُمُورِ. وكانَ عادَتُهم إذا أصابَهم مَكْرُوهٌ أضافُوهُ إلى الدَّهْرِ فَقالُوا: (بُؤْسًا لِلدَّهْرِ)، و(تَبًّا لِلدَّهْرِ). انْتَهى.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وقَدْ غَلِطَ ابْنُ حَزْمٍ. ومَن نَحا نَحْوَهُ مِنَ الظّاهِرِيَّةِ في عَدِّهِمُ الدَّهْرَ مِنَ الأسْماءِ الحُسْنى؛ أخْذًا مِن هَذا الحَدِيثِ. انْتَهى.
تَنْبِيهٌ:
فِي هَذِهِ الآيَةِ رَدٌّ عَلى الدَّهْرِيَّةِ، وهُمُ المُعَطِّلَةُ بِأنَّ مُتَمَسَّكَهم ظَنٌّ وتَخْمِينٌ. لَمْ يَشَمَّ رائِحَةَ اليَقِينِ. وما هَذا سَبِيلُهُ، فَبابُ القَبُولِ في وجْهِهِ مَسْدُودٌ: ﴿إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا﴾ [يونس: ٣٦]
قالَ الشِّهْرِسْتانِيُّ في مُعَطِّلَةِ العَرَبِ: فَصِنْفٌ مِنهم أنْكَرُوا الخالِقَ والبَعْثَ والإعادَةَ، وقالُوا بِالطَّبْعِ المُحْيِي والدَّهْرِ المُفْنِي، وهُمُ الَّذِينَ أخْبَرَ عَنْهُمُ القُرْآنُ المَجِيدُ: ﴿وقالُوا ما هي إلا حَياتُنا الدُّنْيا نَمُوتُ ونَحْيا﴾ [الجاثية: ٢٤] إشارَةً إلى الطَّبائِعِ المَحْسُوسَةِ في العالَمِ السُّفْلِيِّ، وقِصَرِ الحَياةِ والمَوْتِ عَلى تَرَكُّبِها وتَحَلُّلِها.
فالجامِعُ هو الطَّبْعُ، والمُهْلِكُ هو الدَّهْرُ: ﴿وما يُهْلِكُنا إلا الدَّهْرُ وما لَهم بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ إنْ هم إلا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: ٢٤] فاسْتُدِلَّ عَلَيْهِمْ بِضَرُوراتٍ فِكْرِيَّةٍ، وآياتٍ فِطْرِيَّةٍ، في كَمْ آيَةٍ وسُورَةٍ فَقالَ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِن جِنَّةٍ إنْ هو إلا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٤] ﴿أوَلَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الأعراف: ١٨٥] وقالَ: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا إلى ما خَلَقَ اللَّهُ﴾ [النحل: ٤٨] وقالَ: ﴿قُلْ أإنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: ٩] وقالَ: ﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] فَثَبَتَتِ الدَّلالَةُ الضَّرُورِيَّةُ مِنَ الخَلْقِ عَلى الخالِقِ. فَإنَّهُ قادِرٌ عَلى الكَمالِ، إبْداءً وإعادَةً. انْتَهى.
ولِي في الرَّدِّ عَلى الدَّهْرِيِّينَ -وهُمُ المادِّيُّونَ والطَّبِيعِيُّونَ- كِتابٌ وسَمْتُهُ: "دَلائِلُ التَّوْحِيدِ" فَلْيَرْجِعْ إلَيْهِ المُرِيدُ، فَلَيْسَ وراءَهُ -بِحَمْدِهِ تَعالى- مِن مَزِيدٍ.
{"ayahs_start":23,"ayahs":["أَفَرَءَیۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمࣲ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَـٰوَةࣰ فَمَن یَهۡدِیهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ","وَقَالُوا۟ مَا هِیَ إِلَّا حَیَاتُنَا ٱلدُّنۡیَا نَمُوتُ وَنَحۡیَا وَمَا یُهۡلِكُنَاۤ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ وَمَا لَهُم بِذَ ٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا یَظُنُّونَ"],"ayah":"وَقَالُوا۟ مَا هِیَ إِلَّا حَیَاتُنَا ٱلدُّنۡیَا نَمُوتُ وَنَحۡیَا وَمَا یُهۡلِكُنَاۤ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ وَمَا لَهُم بِذَ ٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا یَظُنُّونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق