الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَقُولُونَ طاعَةٌ فَإذا بَرَزُوا مِن عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنهم غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ واللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأعْرِضْ عَنْهم وتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ وكَفى بِاللَّهِ وكِيلا﴾ [٨١] ﴿ويَقُولُونَ﴾ أيِ: المُنافِقُونَ إذا أمَرْتَهم بِشَيْءٍ، وهم عِنْدَكَ ﴿طاعَةٌ﴾ بِالرَّفْعِ، أيْ: أمْرُنا وشَأْنُنا طاعَةٌ، ويَجُوزُ النَّصْبُ بِمَعْنى: أطَعْناكَ طاعَةً، كَما يَقُولُ المُنْقادُ: سَمْعًا وطاعَةً، وسَمْعٌ وطاعَةٌ. قالَ سِيبَوَيْهِ: سَمِعْنا بَعْضَ العَرَبِ المَوْثُوقِ بِهِمْ يُقالُ لَهُ: كَيْفَ أصْبَحْتَ؟ فَيَقُولُ: حَمْدُ اللَّهِ وثَناءٌ عَلَيْهِ، كَأنَّهُ قالَ: أمْرِي وشَأْنِي حَمْدُ اللَّهِ وثَناءٌ عَلَيْهِ، ولَوْ نُصِبَ (حَمْدَ اللَّهِ) كانَ عَلى الفِعْلِ، والرَّفْعُ يَدُلُّ عَلى ثَباتِ الطّاعَةِ واسْتِقْرارِها. ﴿فَإذا بَرَزُوا﴾ أيْ: خَرَجُوا ﴿مِن عِنْدِكَ﴾ أيْ: مِن مَجْلِسِكَ ﴿بَيَّتَ﴾ أيْ: دَبَّرَ لَيْلًا ﴿طائِفَةٌ مِنهُمْ﴾ أيْ: مِنَ القائِلِينَ المَذْكُورِينَ وهم رُؤَساؤُهم ﴿غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ﴾ أيْ: خِلافَ ما قالَتْ لَكَ مِنَ القَبُولِ وضَمانِ الطّاعَةِ؛ لِأنَّهم مُصِرُّونَ عَلى الرَّدِّ والعِصْيانِ، وإنَّما يُظْهِرُونَ ما يُظْهِرُونَ عَلى وجْهِ النِّفاقِ. (p-١٤٠٨)تَنْبِيهانِ: الأوَّلُ: في "القامُوسِ وشَرْحِهِ" وبَيَّتَ الأمْرَ: عَمِلَهُ أوْ دَبَّرَهُ لَيْلًا. وقالَ الزَّجّاجُ: كُلُّ ما فُكِّرَ فِيهِ أوْ خِيضَ بِلَيْلٍ فَقَدْ بُيِّتَ، ويُقالُ: بَيَّتَ بِلَيْلٍ ودَبَّرَ بِلَيْلٍ بِمَعْنًى واحِدٍ. وفِي الحَدِيثِ: «أنَّهُ كانَ ﷺ لا يُبَيِّتُ مالًا ولا يَقِيلُهُ»، أيْ: إذا جاءَهُ مالٌ لا يُمْسِكُهُ إلى اللَّيْلِ ولا إلى القائِلَةِ، بَلْ يُعَجِّلُ قِسْمَتَهُ. انْتَهى. ونَقَلَ الرّازِيُّ عَنِ الزَّجّاجِ أيْضًا: أنَّ كُلَّ أمْرٍ تَفَكَّرَ فِيهِ وتَأمَّلَ في مَصالِحِهِ ومَفاسِدِهِ كَثِيرًا يُقالُ فِيهِ مُبَيَّتٌ، وفي اشْتِقاقِهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: مِنَ البَيْتُوتَةِ؛ لِأنَّ أصْلَحَ الأوْقاتِ لِلْفِكْرِ أنْ يَجْلِسَ الإنْسانُ في بَيْتِهِ بِاللَّيْلِ، فَهُناكَ تَكُونُ الخَواطِرُ أخْلى، والشَّواغِلُ أقَلَّ، فَلَمّا كانَ الغالِبُ أنَّ الإنْسانَ وقْتَ اللَّيْلِ يَكُونُ في البَيْتِ، والغالِبُ أنَّهُ يَسْتَقْصِي الأفْكارَ في اللَّيْلِ، لا جَرَمَ سُمِّيَ الفِكْرُ المُسْتَقْصى مُبَيَّتًا. الثّانِي: اشْتِقاقُهُ مِن أبْياتِ الشِّعْرِ؛ لِأنَّ الشّاعِرَ يُدَبِّرُها ويُسَوِّيها، قالَ الأخْفَشُ: العَرَبُ إذا أرادُوا قَرْضَ الشِّعْرِ بالَغُوا في التَّفَكُّرِ فِيهِ، فَسَمَّوُا المُتَفَكَّرَ فِيهِ المُسْتَقْصى مُبَيَّتًا؛ تَشْبِيهًا لَهُ بِبَيْتِ الشِّعْرِ، مِن حَيْثُ إنَّهُ يُسَوّى ويُدَبَّرُ. الثّانِي: تَذْكِيرُ الفِعْلِ؛ لِأنَّ تَأْنِيثَ (طائِفَةٌ) غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، ولِأنَّها في مَعْنى الفَوْجِ والفَرِيقِ، وإسْنادُهُ إلى طائِفَةٍ مِنهم لِبَيانِ أنَّهُمُ المُتَصَدُّونَ لَهُ بِالذّاتِ، والباقُونَ أتْباعٌ لَهم في ذَلِكَ، لا لِأنَّ الباقِينَ ثابِتُونَ عَلى الطّاعَةِ. ﴿واللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ﴾ أيْ: يُثْبِتُهُ في صَحائِفِ أعْمالِهِمْ بِما يَأْمُرُ بِهِ حَفَظَتَهُ الكاتِبِينَ المُوَكَّلِينَ بِالعِبادِ فَيُجازِيهِمْ عَلَيْهِ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: والمَعْنى في هَذا التَّهْدِيدِ أنَّهُ تَعالى يُخْبِرُ بِأنَّهُ عالِمٌ بِما يُضْمِرُونَهُ ويُسِرُّونَهُ فِيما بَيْنَهُمْ، وما يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ لَيْلًا مِن مُخالَفَةِ الرَّسُولِ ﷺ وعِصْيانِهِ، وإنْ كانُوا قَدْ أظْهَرُوا لَهُ الطّاعَةَ والمُوافَقَةَ، وسَيَجْزِيهِمْ عَلى ذَلِكَ. انْتَهى. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ المَعْنى: واللَّهُ يَكْتُبُهُ في جُمْلَةِ ما يُوحِي إلَيْكَ في كِتابِهِ، فَيُطْلِعُكَ عَلى أسْرارِهِمْ، فَلا يَحْسَبُوا أنَّ إبْطانَهم يُغْنِي عَنْهُمْ، فالقَصْدُ لِتَهْدِيدِهِمْ عَلى الأوَّلِ، وتَحْذِيرِهِمْ مِنَ (p-١٤٠٩)النِّفاقِ لِأنَّ اللَّهَ يُظْهِرُهُ عَلى الثّانِي. ﴿فَأعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أيْ: تَجافَ عَنْهم ولا تُعاقِبْهم ﴿وتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ﴾ أيْ: ثِقْ بِاللَّهِ في شَأْنِهِمْ، فَإنَّ اللَّهَ يَكْفِيكَ شَرَّهم ويَنْتَقِمُ مِنهم ﴿وكَفى بِاللَّهِ وكِيلا﴾ كَفِيلًا بِالنُّصْرَةِ والدَّوْلَةِ لَكَ عَلَيْهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب