الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلا لِيُطاعَ بِإذْنِ اللَّهِ ولَوْ أنَّهم إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم جاءُوكَ فاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوّابًا رَحِيمًا﴾ [٦٤] ﴿وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلا لِيُطاعَ بِإذْنِ اللَّهِ﴾ كَلامٌ مُبْتَدَأٌ، جِيءَ بِهِ تَمْهِيدًا لِبَيانِ خُطَّتِهِمْ في تَرْكِ طاعَةِ الرَّسُولِ، والِاشْتِغالِ بِسِرِّ جِنايَتِهِمْ بِالِاعْتِذارِ بِالأباطِيلِ وعَدَمِ تَلافِيها بِالتَّوْبَةِ، أيْ: وما أرْسَلْنا رَسُولًا إلّا لِيُطاعَ فِيما حَكَمَ، لا لِيَطْلُبَ الحُكْمَ مِن غَيْرِهِ، فَطاعَتُهُ فَرْضٌ عَلى مَن أُرْسِلَ إلَيْهِمْ، وإنْكارُ فَرْضِيَّتِها كُفْرٌ. (p-١٣٦٠)وقَوْلُهُ: ﴿بِإذْنِ اللَّهِ﴾ أيْ: بِسَبَبِ إذْنِهِ في طاعَتِهِ، وبِأنَّهُ أمْرُ المَبْعُوثِ إلَيْهِمْ بِأنْ يُطِيعُوهُ ويَتَّبِعُوهُ، لِأنَّهُ مُؤَدٍّ عَنِ اللَّهِ فَطاعَتُهُ طاعَةُ اللَّهِ ومَعْصِيَتُهُ مَعْصِيَةُ اللَّهِ ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: ٨٠] ويَجُوزُ أنْ يُرادَ: بِتَيْسِيرِ اللَّهِ وتَوْفِيقِهِ في طاعَتِهِ. ﴿ولَوْ أنَّهم إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ﴾ هَذا الظُّلْمَ العَظِيمَ غايَةَ العِظَمِ، إذْ عَرَّضُوها لِعَذابٍ عَلى عَذابِ النِّفاقِ بِتَرْكِ طاعَتِكَ والتَّحاكُمِ إلى الطّاغُوتِ. ﴿جاءُوكَ﴾ تائِبِينَ مِنَ النِّفاقِ مُتَنَصِّلِينَ عَمّا ارْتَكَبُوا ﴿فاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ﴾ مِن ذَلِكَ وتابُوا إلَيْهِ تَعالى مِن صَنِيعِهِمْ: ﴿واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ﴾ أيْ: دَعا لَهم بِالمَغْفِرَةِ، فَكانَ اسْتِغْفارُهُ شَفاعَةً لِقَبُولِ اسْتِغْفارِهِمْ ﴿لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوّابًا﴾ أيْ: قابِلًا لِتَوْبَتِهِمْ ﴿رَحِيمًا﴾ أيْ: مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ وراءَ قَبُولِ التَّوْبَةِ. لَطِيفَةٌ: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولَمْ يَقِلْ: واسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ، وعَدَلَ عَنْهُ إلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ؛ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وتَعْظِيمًا لِاسْتِغْفارِهِ، وتَنْبِيهًا عَلى أنَّ شَفاعَةَ مَنِ اسْمُهُ الرَّسُولُ مِنَ اللَّهِ بِمَكانٍ. قالَ في "الِانْتِصافِ": وفي هَذا النَّوْعِ مِنَ الِالتِفاتِ خُصُوصِيَّةٌ، وهي اشْتِمالُهُ عَلى ذِكْرِ صِفَةٍ مُناسِبَةٍ لِما أُضِيفَ إلَيْهِ، وذَلِكَ زائِدٌ عَلى الِالتِفاتِ بِذِكْرِ الأعْلامِ الجامِدَةِ. * * * تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ تَوْبَةَ المُنافِقِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وِفاقًا، وأمّا الظّاهِرُ فَظاهِرُ الآيَةِ قَبُولُها؛ لِأنَّهُ جَعَلَ النَّبِيَّ ﷺ مُسْتَغْفِرًا لَهم وشافِعًا. وعَنِ الرّاضِي بِاللَّهِ في (الباطِنِيَّةِ): إنْ أظْهَرُوا شُبَهَهم وما يَعْتادُونَ كَتْمَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلى صِدْقِ تَوْبَتِهِمْ، فَيُقْبَلُ وإلّا فَلا، ودَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ مَن تَكَرَّرَتْ مِنهُ المَعْصِيَةُ والتَّوْبَةُ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَوّابًا﴾ وذَلِكَ يُنْبِئُ عَنِ التَّكْرارِ، كَذا في بَعْضِ التَّفاسِيرِ. الثّانِي: قالَ الرّازِيُّ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: ألَيْسَ لَوِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وتابُوا عَلى وجْهٍ صَحِيحٍ لَكانَتْ تَوْبَتُهم مَقْبُولَةً؟ فَما الفائِدَةُ في ضَمِّ اسْتِغْفارِ الرَّسُولِ إلى اسْتِغْفارِهِمْ: قُلْنا: الجَوابُ (p-١٣٦١)عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ ذَلِكَ التَّحاكُمَ إلى الطّاغُوتِ كانَ مُخالَفَةً لِحُكْمِ اللَّهِ، وكانَ أيْضًا إساءَةً إلى الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - ومَن كانَ ذَنْبُهُ كَذَلِكَ وجَبَ عَلَيْهِ الِاعْتِذارُ عَنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ لِغَيْرِهِ، فَلِهَذا المَعْنى وجَبَ عَلَيْهِمْ أنْ يَطْلُبُوا مِنَ الرَّسُولِ أنْ يَسْتَغْفِرَ لَهم. الثّانِي: إنَّ القَوْمَ لَمّا لَمْ يَرْضُوا بِحُكْمِ الرَّسُولِ ظَهَرَ مِنهم ذَلِكَ التَّمَرُّدُ، فَإذا تابُوا وجَبَ عَلَيْهِمْ أنْ يَفْعَلُوا ما يُزِيلُ عَنْهم ذَلِكَ التَّمَرُّدَ، وما ذاكَ إلّا بِأنْ يَذْهَبُوا إلى الرَّسُولِ ﷺ ويَطْلُبُوا مِنهُ الِاسْتِغْفارَ. الثّالِثُ: لَعَلَّهم إذا أتَوُا بِالتَّوْبَةِ أتَوْا بِها عَلى وجْهِ الخَلَلِ، فَإذا انْضَمَّ إلَيْها اسْتِغْفارُ الرَّسُولِ صارَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلْقَبُولِ. انْتَهى. أقُولُ: وثَمَّةَ وجْهٌ رابِعٌ: وهو التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الرَّسُولِ ﷺ وأنَّ طاعَتَهُ طاعَتُهُ تَعالى، فَرِضاهُ رِضاهُ وسُخْطُهُ سُخْطُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب