الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بِما نَـزَّلْنا مُصَدِّقًا لِما مَعَكم مِن قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّها عَلى أدْبارِها أوْ نَلْعَنَهم كَما لَعَنّا أصْحابَ السَّبْتِ وكانَ أمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا﴾ [٤٧] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بِما نَـزَّلْنا﴾ يَعْنِي القُرْآنَ: ﴿مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ﴾ (p-١٢٨٣)أيْ: مُوافِقًا لِلتَّوْراةِ: ﴿مِن قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ أيْ: نَمْحُوَ تَخْطِيطَ صُوَرِها مِن عَيْنٍ وحاجِبٍ وأنْفٍ وفَمٍ، وقالَ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: طَمْسُها أنْ تَعْمى. ﴿فَنَرُدَّها عَلى أدْبارِها﴾ أيْ: فَنَجْعَلُها عَلى هَيْئَةِ أدْبارِها وهي الأقْفاءُ مَطْمُوسَةً مِثْلَها جَزاءً عَلى الكُفْرِ، فالفاءُ لِلتَّسْبِيبِ، أوْ نُنَكِّسُها بَعْدَ الطَّمْسِ فَنَرُدُّها إلى مَوْضِعِ الأقْفاءِ والأقْفاءَ إلى مَوْضِعِها، وقَدِ اكْتُفِيَ بِذِكْرِ أشَدِّهِما، فالفاءُ لِلتَّعْقِيبِ. قالَ الرّازِيُّ: وهَذا المَعْنى إنَّما جَعَلَهُ اللَّهُ عُقُوبَةً لِما فِيهِ مِنَ التَّشْوِيهِ في الخِلْقَةِ والمُثْلَةِ والفَضِيحَةِ؛ لِأنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَعْظُمُ الغَمُّ والحَسْرَةُ. ﴿أوْ نَلْعَنَهم كَما لَعَنّا أصْحابَ السَّبْتِ﴾ أيْ: أوْ نَفْعَلَ بِهِمْ أبْلَغَ مِن ذَلِكَ، وهو أنْ نَطْرُدَهم عَنِ الإنْسانِيَّةِ بِالمَسْخِ الكُلِّيِّ جَزاءً عَلى اعْتِدائِهِمْ بِتَرْكِ الإيمانِ، كَما أخْزَيْنا بِهِ أوائِلَهم أصْحابَ السَّبْتِ جَزاءً عَلى اعْتِدائِهِمْ عَلى السَّبْتِ بِالحِيلَةِ عَلى الِاصْطِيادِ، فَمَسَخْناهم قِرْدَةً. ﴿وكانَ أمْرُ اللَّهِ﴾ أيْ: ما أمَرَ بِهِ ﴿مَفْعُولا﴾ أيْ: نافِذًا كائِنًا لا مَحالَةَ، هَذا وفي الآيَةِ تَأْوِيلٌ آخَرُ وهو أنَّ المُرادَ مِن طَمْسِ الوُجُوهِ مَجازُهُ، وهو صَرْفُهم عَنِ الحَقِّ ورَدُّهم إلى الباطِلِ ورُجُوعُهم عَنِ المَحَجَّةِ البَيْضاءِ إلى سَبِيلِ الضَّلالَةِ، يُهْرَعُونَ ويَمْشُونَ القَهْقَرى عَلى أدْبارِهِمْ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَذا كَما قالَ بَعْضُهم في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا جَعَلْنا في أعْناقِهِمْ أغْلالا فَهي إلى الأذْقانِ فَهم مُقْمَحُونَ﴾ [يس: ٨] ﴿وجَعَلْنا مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا ومِن خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأغْشَيْناهم فَهم لا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: ٩] [يس: ٨ - ٩]: أيْ: هَذا مَثَلُ سُوءٍ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهم في ضَلالِهِمْ ومَنعِهِمْ عَنِ الهُدى. قالَ مُجاهِدٌ: ﴿مِن قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ يَقُولُ: عَنْ صِراطِ الحَقِّ ﴿فَنَرُدَّها عَلى أدْبارِها﴾ أيْ: في الضَّلالِ. قالَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ: ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ نَحْوُ هَذا. قالَ السُّدِّيُّ: ﴿فَنَرُدَّها عَلى أدْبارِها﴾ فَنَمْنَعُها عَنِ الحَقِّ، نُرْجِعُها كُفّارًا. قالَ الرّازِيُّ: المَقْصُودُ عَلى هَذا بَيانُ إلْقائِها في أنْواعِ الخِذْلانِ وظُلُماتِ الضَّلالاتِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذا دَعاكم لِما يُحْيِيكم واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ وأنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: ٢٤] [الأنْفالِ: ٢٤] (p-١٢٨٤)تَحْقِيقُ القَوْلِ فِيهِ أنَّ الإنْسانَ في مَبْدَأِ خِلْقَتِهِ ألِفَ هَذا العالَمَ المَحْسُوسَ، ثُمَّ إنَّهُ عِنْدَ الفِكْرِ والعُبُودِيَّةِ كَأنَّهُ يُسافِرُ مِن عالَمِ المَحْسُوساتِ إلى عالَمِ المَعْقُولاتِ، فَقُدّامَهُ عالَمُ المَعْقُولاتِ، ووَراءَهُ عالَمُ المَحْسُوساتِ، فالمَخْذُولُ هو الَّذِي يَرُدُّ عَنْ قُدّامِهِ إلى خَلْفِهِ، كَما قالَ تَعالى في صِفَتِهِمْ: ﴿ناكِسُو رُءُوسِهِمْ﴾ [السجدة: ١٢] [السَّجْدَةِ: ١٢]. ثُمَّ قالَ الرّازِيُّ: قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: هَذا الوَعِيدُ قَدْ لَحِقَ اليَهُودَ ومَضى، وتَأوَّلَ ذَلِكَ في إجْلاءِ قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ إلى الشّامِ، فَرَدَّ اللَّهُ وُجُوهَهم عَلى أدْبارِهِمْ حِينَ عادُوا إلى أذْرِعاتٍ وأرِيحاءَ مِن أرْضِ الشّامِ، كَما جاءُوا مِنها و(طَمْسُ الوُجُوهِ) عَلى هَذا التَّأْوِيلِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: تَقْبِيحُ صُورَتِهِمْ، يُقالُ: طَمَسَ اللَّهُ صُورَتَهُ، كَقَوْلِهِ: قَبَّحَ اللَّهُ وجْهَهُ. والثّانِي: إزالَةُ آثارِهِمْ عَنْ بِلادِ العَرَبِ ومَحْوُ أحْوالِهِمْ عَنْها، وثَمَّةَ تَأْوِيلٌ آخَرُ، وهُوَ: أنَّ المُرادَ بِالوُجُوهِ الوُجَهاءُ، عَلى أنَّ الطَّمْسَ بِمَعْنى مُطْلَقِ التَّغْيِيرِ، أيْ: مِن قَبْلِ أنْ نُغَيِّرَ أحْوالَ وُجَهائِهِمْ، فَنَسْلُبَ إقْبالَهم ووَجاهَتَهُمْ، ونَكْسُوَهم صَغارًا وإدْبارًا. وقالَ بَعْضُهُمُ: الأظْهَرُ حَمْلُ قَوْلِهِ: ﴿أوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ إلَخْ عَلى اللَّعْنِ المُتَعارَفِ، قالَ: ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَن لَعَنَهُ اللَّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ وجَعَلَ مِنهُمُ القِرَدَةَ والخَنازِيرَ﴾ [المائدة: ٦٠] [المائِدَةِ: ٦٠]، فَفَصَلَ تَعالى بَيْنَ اللَّعْنِ وبَيْنَ مَسْخِهِمْ قِرَدَةً وخَنازِيرَ. وأقُولُ: لا يَخْفى أنَّ جَمِيعَ ما ذُكِرَ مِنَ التَّأْوِيلاتِ - غَيْرَ الأوَّلِ - لا يُساعِدُهُ مَقامُ تَشْدِيدِ (p-١٢٨٥)الوَعِيدِ، وتَعْمِيمِ التَّهْدِيدِ، فَإنَّ المُتَبادَرَ مِنَ اللَّفْظِ الحَقِيقَةُ، ولا يُصارُ إلى المَجازِ إلّا إذا تَعَذَّرَ إرادَتُها، ولا تَعَذُّرَ هُنا، كَما أنَّ المُتَبادَرَ مِنَ اللَّعْنِ - المُشَبَّهِ بِلَعْنِ أصْحابِ السَّبْتِ - هو المَسْخُ، وهو الَّذِي تَقْتَضِيهِ بَلاغَةُ التَّنْزِيلِ، إذْ فِيهِ التَّرَقِّي إلى الوَعِيدِ الأفْظَعِ، ولا نُنْكِرُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ التَّأْوِيلاتُ مِمّا يَشْمَلُهُ لَفْظُ الآيَةِ، وإنَّما البَحْثُ في دَعْوى إرادَتِها دُونَ سابِقِها، فالحَقُّ أنَّ المُتَبادَرَ مِنَ النَّظْمِ الكَرِيمِ هو الأوَّلُ؛ لِأنَّهُ أدْخَلَ في الزَّجْرِ. ويُؤَيِّدُهُ ما رُوِيَ أنَّ كَعْبَ الأحْبارِ أسْلَمَ حِينَ سَمِعَ هَذِهِ الآيَةَ، رَواهُ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، ولَفْظُهُ بَعْدَ إسْنادِهِ: عَنْ أبِي إدْرِيسَ عائِذِ اللَّهِ الخَوْلانِيِّ قالَ: كانَ أبُو مُسْلِمٍ الجَلِيلِيُّ مُعَلِّمَ كَعْبٍ، وكانَ يَلُومُهُ في إبْطائِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ فَبَعَثَهُ إلَيْهِ يَنْظُرُ أهُوَ هُوَ؟ قالَ كَعْبٌ: فَرَكِبْتُ حَتّى أتَيْتُ المَدِينَةَ، فَإذا تالٍ يَقْرَأُ القُرْآنَ يَقُولُ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بِما نَـزَّلْنا مُصَدِّقًا لِما مَعَكم مِن قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّها عَلى أدْبارِها﴾ فاغْتَسَلْتُ، وإنِّي لَأمَسُّ وجْهِي مَخافَةَ أنْ أُطْمَسَ، ثُمَّ أسْلَمْتُ. ورُوِيَ مِن غَيْرِ طَرِيقٍ نَحْوُهُ أيْضًا. فَإنْ قِيلَ: قَرِينَةُ المَجازِ عَدَمُ وُقُوعِ المُتَوَعَّدِ بِهِ، فالجَوابُ: أنَّ عَدَمَ وُقُوعِهِ لا يُعَيِّنُ إرادَةَ المَجازِ، إذْ لَيْسَ في الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى تَحَتُّمِ وُقُوعِهِ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، ولَوْ فُهِمَ مِنها هَذا فَهْمًا أوَّلِيًّا لَكانَ إيمانُهم بَعْدَها إيمانَ إلْجاءٍ واضْطِرارٍ، وهو يُنافِي التَّكْلِيفَ الشَّرْعِيَّ، إذْ لَمْ تَجْرِ سُنَّتُهُ تَعالى بِهَذا، بَلِ النَّظْمُ الكَرِيمُ في هَذا المَقامِ مُحْتَمِلٌ ابْتِداءً لِلْقَطْعِ بِوُقُوعِهِ المُتَوَعَّدِ بِهِ، ولِوُقُوعِهِ مُعَلَقًّا بِأمْرِهِ تَعالى ومَشِيئَتِهِ بِذَلِكَ، وهو المُرادُ، كَما يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكانَ أمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا﴾ [الأحْزابِ: مِنَ الآيَةِ ٣٧] أيْ: ما يَأْمُرُ بِهِ، ويُرِيدُ وُقُوعَهُ، وإذا كانَ الوَعِيدُ مَنُوطًا بِأمْرِهِ سُبْحانَهُ فَلَهُ أنْ (p-١٢٨٦)يُمْضِيَهُ عَلى حَقِيقَتِهِ، ولَهُ أنْ يَصْرِفَهُ لِما هو أعْلَمُ بِهِ، إلّا أنَّ وُرُودَ نَظْمِ الآيَةِ بِهَذا الخِطابِ المُتَبادَرِ في الوُقُوعِ غَيْرِ المُعَلَّقِ؛ لِيَكُونَ أدْخَلَ في التَّرْهِيبِ، ومَزْجَرَةً عَنْ مُخالَفَةِ الأمْرِ، هَكَذا ظَهَرَ لَنا الآنَ، وهو أقْرَبُ مِمّا نَحاهُ المُفَسِّرُونَ هُنا مِن أنَّ العِقابَ مُنْتَظَرٌ، أوْ أنَّهُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الإيمانِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ زَيَّفَها جَمِيعَها العَلّامَةُ أبُو السُّعُودِ، ثُمَّ اخْتارَ أنَّ المُرادَ مِنَ الوَعِيدِ الأُخْرَوِيِّ، قالَ: لِأنَّهُ لَمْ يَتَّضِحْ وُقُوعُهُ، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ أيْضًا لِنُبُوِّ مِثْلِ هَذا الخِطابِ عَنْ إرادَةِ الوَعِيدِ الأُخْرَوِيِّ، لا سِيَّما والجُمْلَةُ الثّانِيَةُ الَّتِي هُدِّدُوا بِها - أعْنِي لَعْنَهم كَأصْحابِ السَّبْتِ - كانَ عِقابُها دُنْيَوِيًّا، فالوَجْهُ ما قَرَّرْناهُ، وما أشْبَهَ هَذِهِ الآيَةَ في وعِيدِها بِآيَةِ يس، أعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أعْيُنِهِمْ فاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأنّى يُبْصِرُونَ﴾ [يس: ٦٦] ﴿ولَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهم عَلى مَكانَتِهِمْ فَما اسْتَطاعُوا مُضِيًّا ولا يَرْجِعُونَ﴾ [يس: ٦٧] [يس: ٦٦ - ٦٧] بَلْ هَذِهِ عِنْدِي تَفْسِيرٌ لِتِلْكَ، والقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَبَرِحَ الخَفاءُ، والحَمْدُ لِلَّهِ. لَطِيفَةٌ: الضَّمِيرُ في (نَلْعَنَهُمْ) لِأصْحابِ الوُجُوهِ، أوْ (لِلَّذِينَ) عَلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ أوْ (لِلْوُجُوهِ) إنْ أُرِيدَ بِها الوُجَهاءُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب