الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿يا أهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا في دِينِكم ولا تَقُولُوا عَلى اللَّهِ إلا الحَقَّ إنَّما المَسِيحُ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ولا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكم إنَّما اللَّهُ إلَهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وكَفى بِاللَّهِ وكِيلا﴾ [١٧١]
﴿يا أهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا في دِينِكُمْ﴾ أيْ: بِالإفْراطِ في رَفْعِ شَأْنِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - (p-١٧٦٣)وادِّعاءِ أُلُوهِيَّتِهِ، فَإنَّهُ تَجاوُزٌ فَوْقَ المَنزِلَةِ الَّتِي أُوتِيَها، وهي الرِّسالَةُ، واسْتُفِيدَ حُرْمَةُ الغُلُوِّ في الدِّينِ وهو مُجاوَزَةُ الحَدِّ.
وفِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ: «لا تُطْرُونِي كَما أطْرَتِ النَّصارى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإنَّما أنا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ» .
وقالَ الإمامُ أحْمَدُ: حَدَّثَنا حَسَنُ بْنُ مُوسى، حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثابِتٍ البُنانِيِّ، عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ، «أنَّ رَجُلًا قالَ: يا مُحَمَّدُ! يا سَيِّدَنا وابْنَ سَيِّدِنا! وخَيْرَنا وابْنَ خَيْرِنا! فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أيُّها النّاسُ! عَلَيْكم بِقَوْلِكم ولا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطانُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ، واللَّهِ ما أُحِبُّ أنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنزِلَتِي الَّتِي أنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ» .
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: تَفَرَّدَ بِهِ مِن هَذا الوَجْهِ.
﴿ولا تَقُولُوا عَلى اللَّهِ إلا الحَقَّ﴾ أيْ: لا تَصِفُوهُ بِما يَسْتَحِيلُ اتِّصافُهُ بِهِ مِنَ الحُلُولِ والِاتِّحادِ، واتِّخاذِ الصّاحِبَةِ والوَلَدِ، بَلْ نَزِّهُوهُ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ.
﴿إنَّما المَسِيحُ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ صِفَةٌ لَهُ مُفِيدَةٌ لِبُطْلانِ ما وصَفُوهُ بِهِ مِن كَوْنِهِ ابْنًا لِلَّهِ تَعالى ﴿رَسُولُ اللَّهِ﴾ خَبَرٌ المُبْتَدَأِ أعْنِي المَسِيحَ، أيْ: مَقْصُورٌ عَلى مَقامِ الرِّسالَةِ لا يَتَخَطّاهُ ﴿وكَلِمَتُهُ﴾ أيْ: مُكَوَّنٌ بِكَلِمَتِهِ وأمْرِهِ الَّذِي هو (كُنْ) مِن غَيْرِ واسِطَةِ أبٍ ولا نُطْفَةٍ.
﴿ألْقاها إلى مَرْيَمَ﴾ أيْ: أوْصَلَها إلَيْها وحَصَّلَها فِيها بِنَفْخِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿ورُوحٌ مِنهُ﴾ أيْ: بِتَخْلِيقِهِ وتَكْوِينِهِ كَسائِرِ الأرْواحِ المَخْلُوقَةِ، وإنَّما أضافَهُ إلى نَفْسِهِ عَلى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ والتَّكْرِيمِ كَما يُقالُ: بَيْتُ اللَّهِ، وناقَةُ اللَّهِ.
وقِيلَ: الرُّوحُ هو نَفْخُ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في جَيْبِ دِرْعِ مَرْيَمَ، فَحَمَلَتْ بِإذْنِ اللَّهِ، سُمِّيَ النَّفْخُ رُوحًا؛ لِأنَّهُ رِيحٌ تَخْرُجُ مِنَ الرُّوحِ، وإنَّما أضافَهُ إلى نَفْسِهِ؛ لِأنَّهُ وُجِدَ بِأمْرِهِ تَعالى وإذْنِهِ.
قالَ أبُو السُّعُودِ: (مِن) لِابْتِداءِ الغايَةِ مَجازًا لا تَبْعِيضِيَّةٌ، كَما زَعَمَتِ النَّصارى.
يُحْكى أنَّ طَبِيبًا نَصْرانِيًّا لِلرَّشِيدِ ناظَرَ عَلِيَّ بْنَ حُسَيْنٍ الواقِدِيَّ المَرْوَزِيَّ ذاتَ يَوْمٍ، فَقالَ لَهُ: إنَّ في كِتابِكم ما يَدُلُّ عَلى أنَّ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - جُزْءٌ مِنهُ تَعالى، وتَلا هَذِهِ الآيَةَ، فَقَرَأ الواقِدِيُّ: (p-١٧٦٤)﴿وسَخَّرَ لَكم ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ جَمِيعًا مِنهُ﴾ [الجاثية: ١٣] [الجاثِيَةِ: ١٣] فَقالَ: إذَنْ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ جَمِيعُ تِلْكَ الأشْياءِ جُزْءًا مِنهُ، تَعالى عُلُوًّا كَبِيرًا، فانْقَطَعَ النَّصْرانِيُّ وأسْلَمَ، وفَرِحَ الرَّشِيدُ فَرَحًا شَدِيدًا، ووَصَلَ الواقِدِيَّ بِصِلَةٍ فاخِرَةٍ.
وقِيلَ: سُمِّيَ رُوحًا؛ لِإحْيائِهِ المَوْتى بِإذْنِ اللَّهِ، وقِيلَ: لِإحْيائِهِ القُلُوبَ، كَما سُمِّيَ بِهِ القُرْآنُ لِذَلِكَ، في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾ [الشورى: ٥٢] [الشُّورى: ٥٢].
وقِيلَ: أُرِيدَ بِالرُّوحِ الوَحْيُ الَّذِي أُوحِيَ إلى مَرْيَمَ بِالبِشارَةِ.
وقِيلَ: جَرَتِ العادَةُ بِأنَّهم إذا أرادُوا وصْفَ شَيْءٍ بِغايَةِ الطَّهارَةِ والنَّظافَةِ قالُوا: إنَّهُ رُوحٌ، فَلَمّا كانَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مُتَكَوِّنًا مِنَ النَّفْخِ لا مِنَ النُّطْفَةِ وُصِفَ بِالرُّوحِ.
وتَقْدِيمُ كَوْنِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - رَسُولَ اللَّهِ في الذِّكْرِ مَعَ تَأخُّرِهِ عَنْ كَوْنِهِ كَلِمَتَهُ تَعالى ورُوحًا مِنهُ في الوُجُودِ - لِتَحْقِيقِ الحَقِّ مِن أوَّلِ الأمْرِ بِما هو نَصٌّ فِيهِ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلتَّأْوِيلِ، وتَعْيِينِ مَآلِ ما يَحْتَمِلُهُ، وسَدِّ بابِ التَّأْوِيلِ الزّائِغِ. انْتَهى.
﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ﴾ وخُصُّوهُ بِالأُلُوهِيَّةِ ﴿ورُسُلِهِ﴾ أيْ: جَمِيعِهِمْ، وصِفُوهم بِالرِّسالَةِ، ولا تُخْرِجُوا بَعْضَهم عَنْ سِلْكِهِمْ بِوَصْفِهِ بِالأُلُوهِيَّةِ.
﴿ولا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ﴾ أيِ: الآلِهَةُ ثَلاثَةٌ: اللَّهُ، والمَسِيحُ، ومَرْيَمُ، كَما يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة: ١١٦] [المائِدَةِ: ١١٦].
وقَدْ ذَكَرَ السَّيِّدُ عَبْدُ اللَّهِ الهِنْدِيُّ في مُناظَرَتِهِ مَعَ قِسِّيسِ الهِنْدِ حِكايَةً عَنْ مُناظِرِهِ أنَّهُ (p-١٧٦٥)حَكى أنَّ فِرْقَةً مِنَ النَّصارى تُسَمّى (كُولى رِي دِينِسَ) كانَتْ تَقُولُ: الآلِهَةُ ثَلاثَةٌ: الأبُ والِابْنُ ومَرْيَمُ، قالَ: ولَعَلَّ هَذا الأمْرَ كانَ مَكْتُوبًا في نُسَخِهِمْ؛ لِأنَّ القُرْآنَ كَذَّبَهُمُ. انْتَهى.
أوِ التَّقْدِيرُ: ولا تَقُولُوا: اللَّهُ ثَلاثَةٌ، أيْ: ثَلاثَةُ أقانِيمَ، وفي تَعالِيمِهِمُ المَدْرَسِيَّةِ المَطْبُوعَةِ الآنَ ما نَصُّهُ: أخَصُّ أسْرارِ المَسِيحِيَّةِ سِرُّ الثّالُوثِ، وهو إلَهٌ واحِدٌ في ثَلاثَةِ أقانِيمَ: الأبُ والِابْنُ ورُوحُ القُدُسِ.
والأبُ هو اللَّهُ، والِابْنُ هو اللَّهُ، ورُوحُ القُدُسِ هو اللَّهُ، ولَيْسُوا ثَلاثَةَ آلِهَةٍ، بَلْ إلَهٌ واحِدٌ مَوْجُودٌ في ثَلاثَةِ أقانِيمَ مُتَساوِينَ في الجَوْهَرِ، ومُتَمَيِّزِينَ فِيما بَيْنَهم بِالأُقْنُومِيَّةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ لَهم جَوْهَرًا واحِدًا ولاهُوتًا واحِدًا، وذاتًا واحِدَةً، ولَيْسَ أحَدُ هَذِهِ الأقانِيمِ الثَّلاثَةِ أعْظَمَ أوْ أقْدَمَ أوْ أقْدَرَ مِنَ الآخَرَيْنِ؛ لِكَوْنِ الثَّلاثَةِ مُتَساوِيَةً في العَظَمَةِ والأزَلِيَّةِ والقُدْرَةِ وفي كُلِّ شَيْءٍ، ما عَدا الأُقْنُومِيَّةِ، ولا نَقْدِرُ أنْ نَفْهَمَ جَيِّدًا هَذِهِ الحَقائِقَ؛ لِأنَّها أسْرارٌ فائِقَةُ العَقْلِ والإدْراكِ البَشَرِيِّ. انْتَهى كَلامُهم في تَعْلِيمِهِمُ المَدْرَسِيِّ المَطْبُوعِ في بَيْرُوتَ سَنَةَ (١٨٧٦) مَسِيحِيَّةً.
فانْظُرْ إلى هَذا التَّناقُضِ والتَّمْوِيهِ، يَعْتَرِفُونَ بِأنَّ الثَّلاثَةَ آلِهَةٌ، ثُمَّ يُناقِضُونَ قَوْلَهم ويُنْكِرُونَ ذَلِكَ.
ونَقَلَ العَلّامَةُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ الهِنْدِيُّ في كِتابِهِ "إظْهارِ الحَقِّ" عَنْ صاحِبِ "مِيزانِ الحَقِّ" النَّصْرانِيِّ أنَّهُ قالَ: نَحْنُ لا نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ ثَلاثَةُ أشْخاصٍ أوْ شَخْصٌ واحِدٌ، بَلْ نَقُولُ بِثَلاثَةِ أقانِيمَ في الوَحْدَةِ، وبَيْنَ الأقانِيمِ الثَّلاثَةِ وثَلاثَةِ أشْخاصٍ بُعْدُ السَّماءِ والأرْضِ. انْتَهى.
قالَ رَحْمَةُ اللَّهِ: وهَذِهِ مُغالَطَةٌ صِرْفَةٌ؛ لِأنَّ المَوْجُودَ لا يُمْكِنُ أنْ يُوجَدَ بِدُونِ التَّشَخُّصِ، فَإذا فُرِضَ أنَّ الأقانِيمَ مَوْجُودُونَ ومُمْتازُونَ بِالِامْتِيازِ الحَقِيقِيِّ - كَما صَرَّحَ هو بِنَفْسِهِ في كُتُبِهِ - فالقَوْلُ بِوُجُودِ الأقانِيمِ الثَّلاثَةِ هو بِعَيْنِهِ القَوْلُ بِوُجُودِ الأشْخاصِ الثَّلاثَةِ، عَلى أنَّهُ وقَعَ في الصَّحِيفَةِ التّاسِعَةِ والعِشْرِينَ مِن كِتابِ الصَّلاةِ، الرّائِجِ في كَنِيسَةِ إنْكِلْتِرَةَ، المَطْبُوعِ سَنَةَ (١٨١٨) ما تَرْجَمْتُهُ: أيُّها الثَّلاثَةُ المُقَدَّسُونَ والمُبارَكُونَ والعالُونَ مَنزِلَةً، الَّذِينَ هم واحِدٌ. يَعْنِي ثَلاثَةَ أشْخاصٍ وإلَهًا واحِدًا، فَوَقَعَ فِيهِ ثَلاثَةُ أشْخاصٍ صَرِيحًا، وكَذَلِكَ مَمْلُوءَةٌ بِعِباراتٍ (p-١٧٦٦)مُصَرِّحَةٍ بِأنَّ عِيسى ابْنُ اللَّهِ، وأنَّهُ اللَّهُ، وأنَّ مَرْيَمَ أُمُّ اللَّهِ وزَوْجَةُ اللَّهِ، ويَسْجُدُونَ لَها ولِصُورَتِها السُّجُودَ المُحَرَّمَ في كُتُبِهِمْ لِغَيْرِ اللَّهِ، كَما يَسْجُدُونَ لِلَّهِ، نَسْألُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى الحِفْظَ، ونَعُوذُ بِهِ مِنَ الخِذْلانِ وتَسْوِيلاتِ الشَّيْطانِ.
ولَقَدْ شَفى الغَلِيلَ الأُسْتاذُ الجَلِيلُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ في "إظْهارِ الحَقِّ" فَساقَ - في البابِ الرّابِعِ مِنهُ - إبْطالَ التَّثْلِيثِ بِالبَراهِينِ الدّامِغَةِ والحُجَجِ البالِغَةِ.
كَما رَدَّ عَلَيْهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ ومِمَّنْ أسْلَمَ مِنهم عَدَدٌ وافِرٌ يَفُوتُ الحُصْرَ، وقَدِ انْتَشَرَ - ولِلَّهِ الحَمْدُ - في ذَلِكَ مُؤَلَّفاتٌ نافِعَةٌ، بَلْ رَدَّ عَلَيْهِمْ فِرَقٌ كَثِيرَةٌ مِنهم.
فَقَدْ جاءَ في كِتابِ "الرَّأْيِ الصَّوابِ وفَصْلِ الخِطابِ" لِلْقَسِّ جَبّارَةَ ما صُورَتُهُ: إنَّ المَسِيحِيِّينَ المُوَحِّدِينَ الَّذِينَ ظَهَرُوا مُنْذُ (٨٠) سَنَةً في أمِيرِكا ولَهُمُ الآنَ ثَلاثُمِائَةِ كَنِيسَةٍ، والدَّرَجَةُ الأُولى في المَعارِفِ والمَدارِسِ والِاجْتِماعاتِ الأدَبِيَّةِ، وكَذَلِكَ لَهم في إنْكِلْتِرا ثَلاثُمِائَةِ كَنِيسَةٍ، وتَآلِيفُ عَدِيدَةٌ مُعْتَبِرَةٌ، ويَعْتَبِرُونَ القُرْآنَ كَما يَعْتَبِرُونَ الإنْجِيلَ والتَّوْراةَ كُتُبًا إلَهِيَّةً - لا يُؤْمِنُونَ بِتَثْلِيثِ الآلِهَةِ، أيْ أنَّهم لا يَعْتَقِدُونَ بِكَوْنِ السَّيِّدِ المَسِيحِ أوِ الرُّوحِ القُدُسِ هو إلَهٌ حَقِيقِيٌّ، كاللَّهِ الواجِبِ الوُجُودِ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ أنَّ اللَّهَ وحْدَهُ هو الإلَهُ الحَقُّ. انْتَهى.
وفِيهِ أيْضًا ما لَفْظُهُ: كُلُّ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ تُعَلِّمُ بِالوَحْدانِيَّةِ وتَنْفِي تَثْلِيثَ الآلِهَةِ، أوْ كَوْنَ اللَّهِ ثَلاثَةً، وتُعْلِنُ صَرِيحًا بِأوْضَحِ العِبارَةِ أنَّ اللَّهَ واحِدٌ أحَدٌ، وأنَّهُ لا إلَهَ حَقًّا سِواهُ. انْتَهى.
وفِي كِتابِ "سَوْسَنَةِ سُلَيْمانَ" ذِكْرُ فِرَقٍ مِنهم مُتَعَدِّدَةٍ صارَتْ إلى إنْكارِ أُلُوهِيَّةِ المَسِيحِ والرُّوحِ القُدُسِ، وهَذا الكِتابُ ساقَ مِن فِرَقِهِمُ العَتِيقَةِ والحَدِيثَةِ واخْتِلافِهِمْ ما يَقْضِي بِالعَجَبِ، مِمّا يُؤَيِّدُ ما قالَهُ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ مِن أنَّ لَهم آراءً مُخْتَلِفَةً وأقْوالًا غَيْرَ مُؤْتَلِفَةٍ. ولَقَدْ أحْسَنَ بَعْضُ المُتَكَلِّمِينَ حَيْثُ قالَ: لَوِ اجْتَمَعَ عَشَرَةٌ مِنَ النَّصارى لافْتَرَقُوا عَنْ أحَدَ عَشَرَ قَوْلًا. انْتَهى.
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ في "الرِّسالَةِ القُبْرُصِيَّةِ": فَتَفَرَّقَ النَّصارى في التَّثْلِيثِ والِاتِّحادِ تَفَرُّقًا، وتَشَتَّتُوا تَشْتِيتًا لا يُقِرُّ بِهِ عاقِلٌ، ولِمَ يَجِئْ نَقْلٌ إلّا كَلِماتٌ مُتَشابِهاتٌ في الإنْجِيلِ وما قَبْلَهُ مِنَ الكُتُبِ، قَدْ بَيَّنَتْها كَلِماتٌ مُحْكَماتٌ في الإنْجِيلِ وما قَبْلَهُ، كُلُّها تَنْطِقُ (p-١٧٦٧)بِعُبُودِيَّةِ المَسِيحِ وعِبادَتِهِ لِلَّهِ وحْدِهِ، ودُعائِهِ وتَضَرُّعِهِ.
ولَمّا كانَ أصْلُ الدِّينِ هو الإيمانَ بِاللَّهِ ورُسُلِهِ كانَ أمْرُ الدِّينِ تَوْحِيدَ اللَّهِ والإقْرارَ بِرُسُلِهِ، فَأرْبابُ التَّثْلِيثِ في الوَحْدانِيَّةِ والِاتِّحادِ في الرِّسالَةِ قَدْ دَخَلَ في أصْلِ دِينِهِمْ مِنَ الفَسادِ ما هو بَيِّنٌ بِفِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها، وبِكُتُبِ اللَّهِ الَّتِي أنْزَلَها. انْتَهى.
وقَدِ اجْتَمَعَ لَدَيَّ - بِحَمْدِهِ تَعالى - حِينَ كِتابَةِ هَذِهِ السُّطُورِ عِشْرُونَ مُؤَلَّفًا في الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وكُلُّها - ولِلَّهِ الحَمْدُ - مَطْبُوعَةٌ مُنْتَشِرَةٌ، فَلا حاجَةَ لِلْإطالَةِ بِالنَّقْلِ عَنْها؛ لِسُهُولَةِ الوُقُوفِ عَلَيْها.
قالَ الماوَرْدِيُّ في "أعْلامِ النُّبُوَّةِ": فَأمّا النَّصارى فَقَدْ كانُوا قَبْلَ أنْ تَنَصَّرَ قُسْطَنْطِينُ المَلِكُ عَلى دِينٍ صَحِيحٍ في تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى ونُبُوَّةِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ثُمَّ اخْتَلَفُوا في عِيسى بَعْدَ تَنَصُّرِ قُسْطَنْطِينُ، وهو أوَّلُ مَن تَنَصَّرَ مِن مُلُوكِ الرُّومِ، أيْ: لِأنَّ الرُّومَ كانَتْ صابِئَةً، ثُمَّ قَهَرَهم عَلى التَّنَصُّرِ قُسْطَنْطِينُ لَما مَلَكَهم.
فَقالَ أوائِلُ النُّسْطُورِيَّةِ: إنَّ عِيسى هو اللَّهُ.
وقالَ أوائِلُ اليَعاقِبَةِ: إنَّهُ ابْنُ اللَّهِ.
وقالَ أوائِلُ المِلْكانِيَّةِ: إنَّ الآلِهَةَ ثَلاثَةٌ، أحَدُهم عِيسى.
ثُمَّ عَدَلَ أواخِرُهم عَنِ التَّصْرِيحِ بِهَذا القَوْلِ المُسْتَنْكَرِ، حِينَ اسْتَنْكَرَتْهُ النُّفُوسُ، ودَفَعَتْهُ العُقُولُ، فَقالُوا: إنَّ اللَّهَ تَعالى جَوْهَرٌ واحِدٌ، هو ثَلاثَةُ أقانِيمَ، أُقْنُومُ الأبِ، وأُقْنُومُ الِابْنِ، وأُقْنُومُ رُوحِ القُدُسِ، وأنَّها واحِدَةٌ في الجَوْهَرِيَّةِ، وأنَّ أُقْنُومَ الأبِ هو الذّاتُ، وأُقْنُومَ الِابْنِ هو الكَلِمَةُ، وأُقْنُومَ رُوحِ القُدُسِ هو الحَياةُ.
واخْتَلَفُوا في الأقانِيمِ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: هي خَواصُّ، وقالَ بَعْضُهُمْ: هي أشْخاصٌ، وقالَ بَعْضُهُمْ: هي صِفاتٌ، وقالُوا: إنَّ الكَلِمَةَ اتَّحَدَتْ بِعِيسى، واخْتَلَفُوا في الِاتِّحادِ.
ثُمَّ قالَ: ولَيْسَ لِهَذِهِ المَذاهِبِ شُبْهَةٌ تَقْبَلُها العُقُولُ، وفَسادُها ظاهِرٌ في المَعْقُولِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿انْتَهُوا﴾ أيْ: عَنِ التَّثْلِيثِ ﴿خَيْرًا لَكُمْ﴾ أيِ: انْتِهاءً خَيْرًا، أوِ اقْصُدُوا خَيْرًا مِنَ التَّثْلِيثِ وهو التَّوْحِيدُ.
﴿إنَّما اللَّهُ إلَهٌ واحِدٌ﴾ أيْ: بِالذّاتِ، لا تَعَدُّدَ فِيهِ بِوَجْهٍ ما.
وبِقَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ﴾ تَنْزِيهٌ لِمَقامِهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - عَمّا زَعَمُوهُ مِن بُنُوَّةِ عِيسى؛ (p-١٧٦٨)حَيْثُ قالُوا: إنَّهُ اللَّهُ وابْنُ اللَّهِ، والَّذِي أوْقَعَهم في هَذِهِ المَهْلَكَةِ الوَخِيمَةِ، والوَرْطَةِ الجَسِيمَةِ - ما ورَدَ مُوهِمًا مِن ألْفاظِ الإنْجِيلِ كالأبِ والِابْنِ، فَلَمْ يَحْمِلُوها عَلى ما أُرِيدَ مِنها، وحَمَلُوها عَلى ظاهِرِها، فَضَلُّوا وأضَلُّوا.
وفِي "مُنْيَةِ الأذْكِياءِ" ما نَصُّهُ: وأمّا ما ورَدَ في الإنْجِيلِ المَوْجُودِ الآنَ مِن إطْلاقِ ابْنِ اللَّهِ عَلى عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَهو إنْ لَمْ يَكُنْ مِمّا حُرِّفَ يَكُونُ مَجازًا، بِمَعْنى ابْنِ المَحَبَّةِ، كَما يُقالُ: فُلانٌ مِن أبْناءِ الدُّنْيا.
ونَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ – لِلْيَهُودِ حِينَ ادَّعَوْا أنَّ لَهم أبًا واحِدًا هو اللَّهُ: (لَوْ كانَ اللَّهُ أباكم لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي) ثُمَّ قالَ لَهُمْ: (أنْتُمْ مِن أبٍ هو إبْلِيسُ، وشَهَواتِ أبِيكم تُرِيدُونَ أنْ تَعْلَمُوا) ادَّعَتِ اليَهُودُ أنَّ اللَّهَ تَعالى أبُوهُمْ، أيْ أنَّهم مُطِيعُونَ لَهُ إطاعَةَ الِابْنِ لِلْأبِ، فَكَذَّبَهم عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وجَعَلَهم أبْناءَ الشَّيْطانِ، أيْ: أنَّهم مُطِيعُونَ لَهُ، ولا يَخْفى أنَّ الِابْنَ والأبَ هُنا مَجازانِ.
وقَدْ كَثُرَ إطْلاقُ اسْمِ الأبِ عَلى اللَّهِ تَعالى، واسْمِ الِابْنِ عَلى العَبْدِ الصّالِحِ - في الكُتُبِ السّالِفَةِ، فَهو إمّا مِنَ الخَبْطِ في التَّرْجَمَةِ، وإمّا مُؤَوَّلٌ بِما ذَكَرْنا، فَلا تَغْفُلْ.
لَكِنْ قَدْ مُنِعَ مِن هَذا الإطْلاقِ في المِلَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ بِالكُلِّيَّةِ؛ تَحَرُّزًا مِنَ الإيهامِ والوُقُوعِ في شِرْكِ الأوْهامِ، وهَذا هو الطَّرِيقُ الرُّشْدُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ تَعْلِيلٌ لِتَنَزُّهِهِ مِمّا نُسِبَ إلَيْهِ، بِمَعْنى أنَّ كُلَّ ما فِيهِما خَلْقُهُ ومِلْكُهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ بَعْضُ مِلْكِهِ جُزْءًا مِنهُ؟! إذِ البُنُوَّةُ والمِلْكُ لا يَجْتَمِعانِ.
﴿وكَفى بِاللَّهِ وكِيلا﴾ أيْ: إلَيْهِ يَكِلُ كُلُّ الخَلْقِ أُمُورَهُمْ، وهو غَنِيٌّ عَنْهُمْ، فَأنّى يُتَصَوَّرُ في حَقِّهِ اتِّخاذُ الوَلَدِ، الَّذِي هو شَأْنُ العَجَزَةِ المُحْتاجِينَ في تَدْبِيرِ أُمُورِهِمْ إلى مَن يَخْلُفُهم ويَقُومُ مَقامَهُمْ، وقَوْلُهُ تَعالى:
{"ayah":"یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لَا تَغۡلُوا۟ فِی دِینِكُمۡ وَلَا تَقُولُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِیحُ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥۤ أَلۡقَىٰهَاۤ إِلَىٰ مَرۡیَمَ وَرُوحࣱ مِّنۡهُۖ فَـَٔامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُوا۟ ثَلَـٰثَةٌۚ ٱنتَهُوا۟ خَیۡرࣰا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهࣱ وَ ٰحِدࣱۖ سُبۡحَـٰنَهُۥۤ أَن یَكُونَ لَهُۥ وَلَدࣱۘ لَّهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق