الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكم فَإنْ كانَ لَكم فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا ألَمْ نَكُنْ مَعَكم وإنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكم ونَمْنَعْكم مِنَ المُؤْمِنِينَ فاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكم يَوْمَ القِيامَةِ ولَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلى المُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾ [١٤١]
﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ إمّا بَدَلٌ مِنَ ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ﴾ [النساء: ١٣٩] وإمّا صِفَةٌ لِلْمُنافِقِينَ، أيْ: يَنْتَظِرُونَ بِكم ما يَتَجَدَّدُ لَكم مِن ظَفَرٍ أوْ هَزِيمَةٍ.
﴿فَإنْ كانَ لَكم فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ﴾ أيْ: نَصْرٌ وتَأْيِيدٌ وظَفَرٌ وغَنِيمَةٌ ﴿قالُوا﴾ لَكُمْ: ﴿ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ أيْ: مُظاهِرِينَ لَكُمْ، فَلَنا دَخْلٌ في فَتْحِكُمْ، فَلْيَكُنْ لَنا شَرِكَةٌ في غَنِيمَتِكم ﴿وإنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ أيْ: إدالَةٌ عَلى المُؤْمِنِينَ في بَعْضِ الأحْيانِ - كَما وقَعَ يَوْمَ أُحُدٍ - فَإنَّ الرُّسُلَ تُبْتَلى ثُمَّ تَكُونُ لَها العاقِبَةُ ﴿قالُوا﴾ أيِ: الكَفَرَةُ؛ تَوَدُّدًا إلَيْهِمْ، ومُصانَعَةً لَهُمْ؛ لِيَحْظَوْا عِنْدَهم ويَأْمَنُوا كَيْدَهم (p-١٦١٦)لِضَعْفِ إيمانِهِمْ ﴿ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ أيْ: ألَمْ نَغْلِبْكم ونَتَمَكَّنْ مِن قَتْلِكم وأسْرِكم فَأبْقَيْنا عَلَيْكم ﴿ونَمْنَعْكم مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ بِأنْ ثَبَّطْناهم عَنْكُمْ، وتَوانَيْنا في مُظاهَرَتِهِمْ حَتّى انْتَصَرْتُمْ عَلَيْهِمْ، وإلّا لَكُنْتُمْ نُهْبَةً لِلنَّوائِبِ، وتَسْمِيَةُ (ظَفَرِ المُسْلِمِينَ) فَتْحًا و(ما لِلْكافِرِينَ) نَصِيبًا؛ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ المُسْلِمِينَ وتَخْسِيسِ حَظِّ الكافِرِينَ.
قالَ في "الِانْتِصافِ": وهَذا مِن مَحاسِنِ نُكَتِ القُرْآنِ، فَإنَّ الَّذِي كانَ يَتَّفِقُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ: اسْتِئْصالٌ لِشَأْفَةِ الكُفّارِ، واسْتِيلاءٌ عَلى أرْضِهِمْ ودِيارِهِمْ وأمْوالِهِمْ وأرْضٍ لَمْ يَطَؤُها، وأمّا ما كانَ يَتَّفِقُ لِلْكُفّارِ فَمِثْلُ الغَلَبَةِ والقُدْرَةِ الَّتِي لا يَبْلُغُ شَأْنُها أنْ تُسَمّى فَتْحًا، فالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُما أيْضًا مُطابِقٌ لِلْواقِعِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
قالَ بَعْضُ الزَّيْدِيَّةِ: في الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى وُجُوبِ مَحَبَّةِ نُصْرَةِ المُؤْمِنِينَ وكَراهَةِ أنْ تَكُونَ اليَدُ عَلَيْهِمْ، وتَحْرِيمِ خِذْلانِهِمْ، وإنَّ المُنافِقَ لا سَهْمَ لَهُ؛ لِأنَّ في الآيَةِ إشارَةً إلى أنَّهم طَلَبُوا لَمّا مُنِعُوا، فَقالُوا: ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ ثُمَّ قالَ: يَجُوزُ التَّأْلِيفُ مِنَ الغَنِيمَةِ لِلْمُنافِقِينَ، كَما فَعَلَ الرَّسُولُ ﷺ يَوْمَ حُنَيْنٍ، حَتّى أعْطى الواحِدَ مِنهم مِائَةَ ناقَةٍ، والواحِدَ مِنَ المُسْلِمِينَ الشّاةَ أوِ البَعِيرَ.
﴿فاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكم يَوْمَ القِيامَةِ﴾ أيْ: حُكْمًا يَلِيقُ بِشَأْنِ كُلٍّ مِنكم مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ، أيْ: فَلا يَغْتَرُّ المُنافِقُونَ بِحَقْنِ دِمائِهِمْ في الدُّنْيا لِتَلَفُّظِهِمْ بِالشَّهادَةِ؛ لِما لَهُ تَعالى في ذَلِكَ مِنَ الحِكْمَةِ، فَيَوْمَ القِيامَةِ لا يَنْفَعُهم ظَواهِرُهم.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلى المُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾ رَدٌّ عَلى المُنافِقِينَ فِيما أمَّلُوهُ ورَجَوْهُ وانْتَظَرُوهُ مِن زَوالِ دَوْلَةِ المُؤْمِنِينَ، وفِيما سَلَكُوهُ مِن مُصانَعَتِهِمُ الكافِرِينَ خَوْفًا عَلى أنْفُسِهِمْ مِنهُمْ، إذا هم ظَهَرُوا عَلى المُؤْمِنِينَ فاسْتَأْصَلُوهُمْ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَتَرى الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ﴾ [المائدة: ٥٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿نادِمِينَ﴾ [المائدة: ٥٢] [المائِدَةِ: ٥٢] أيْ: لَنْ يُسَلِّطَ اللَّهُ الكافِرِينَ عَلى المُؤْمِنِينَ فَيَسْتَأْصِلُوهم بِالكُلِّيَّةِ، وإنْ حَصَلَ (p-١٦١٧)لَهم ظَفَرٌ حِينًا ما، أفادَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
وهَذا التَّأْوِيلُ رُوعِيَ فِيهِ سابِقُ الآيَةِ ولاحِقُها، وأنَّ السِّياقَ في (المُنافِقِينَ) وهو جَيِّدٌ، ويَقْرُبُ مِنهُ ما في تَفْسِيرِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن حَمْلِ (الكافِرِينَ) عَلى يَهُودِ المَدِينَةِ، ومَن وقَفَ مَعَ عُمُومِها قالَ: المُرادُ بِالسَّبِيلِ الحُجَّةُ، وتَسْمِيَتُها (سَبِيلًا) لِكَوْنِها مُوَصِّلًا لِلْغَلَبَةِ، أوِ المُرادُ: ما دامَ المُؤْمِنُونَ عامِلِينَ بِالحَقِّ غَيْرَ راضِينَ بِالباطِلِ ولا تارِكِينَ لِلنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠] [الشُّورى: ٣٠] قالَ: فَلا يُرادُ أنَّهُ قَدْ يُدالُ لِلْكافِرِينَ.
* * *
تَنْبِيهٌ:
قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الكافِرَ لا يَنْكِحُ مُؤْمِنَةً، وأنَّهُ لا يَلِي عَلى مُؤْمِنَةٍ في نِكاحٍ ولا سَفَرٍ، وأنَّ الكافِرَ لا يَشْفَعُ لِلْمُؤْمِنِ، وهَذا قَوْلُ الهادِي في "الأحْكامِ" والنَّفْسِ الزَّكِيَّةِ والرّاضِي بِاللَّهِ، ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الحَسَنِ والشَّعْبِيِّ وأحْمَدَ.
وقالَ في "المُنْتَخَبِ" والمُؤَيَّدِ بِاللَّهِ والحَنَفِيَّةِ والشّافِعِيَّةِ: لَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِعُمُومِ أدِلَّةِ الشُّفْعَةِ، وبِالقِياسِ عَلى رَدِّ المَعِيبِ فِيما شَرى مِن مُسْلِمٍ.
ويُسْتَدَلُّ بِأنَّ المُرْتَدَّ تَبِينُ مِنهُ امْرَأتُهُ المُسْلِمَةُ، والخِلافُ: هَلْ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ كَما يَقُولُ الحَنَفِيَّةُ، أوْ بِانْقِضاءِ العِدَّةِ كَما يَقُولُ المُؤَيَّدُ بِاللَّهِ والشّافِعِيَّةُ؟ وكَذَلِكَ بَيْعُ العَبْدِ المُسْلِمِ مِنَ الذِّمِّيِّ أجازَهُ الحَنَفِيَّةُ ومَنَعَهُ المُؤَيَّدُ والشّافِعِيَّةُ، لَكِنْ عَلى الأوَّلِ يُجْبَرُ عَلى بَيْعِهِ فَلا يَسْتَخْدِمُهُ، قِيلَ: والأمَةُ مُجْمَعٌ عَلى تَحْرِيمِ بَيْعِها مِنَ الكافِرِ إذا كانَتْ مُسْلِمَةً.
ولا خِلافَ أنَّ الآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِأُمُورٍ مِنها: الدَّيْنُ يَثْبُتُ لِلْكافِرِ عَلى المُؤْمِنِ، ومِنها: أنَّهُ يُنْفِقُ المُؤْمِنُ عَلى أبَوَيْهِ الكافِرَيْنِ ونَحْوُ ذَلِكَ، وإذا خُصَّ العُمُومُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الأُصُولِيُّونَ: هَلْ تَبْقى دَلالَتُهُ عَلى الباقِي حَقِيقَةً أمْ مَجازًا؟ انْتَهى.
وزادَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: إنَّ الكافِرَ لا يَرِثُ المُسْلِمَ، وإنَّ المُسْلِمَ لا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ.
{"ayah":"ٱلَّذِینَ یَتَرَبَّصُونَ بِكُمۡ فَإِن كَانَ لَكُمۡ فَتۡحࣱ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوۤا۟ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ وَإِن كَانَ لِلۡكَـٰفِرِینَ نَصِیبࣱ قَالُوۤا۟ أَلَمۡ نَسۡتَحۡوِذۡ عَلَیۡكُمۡ وَنَمۡنَعۡكُم مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۚ فَٱللَّهُ یَحۡكُمُ بَیۡنَكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۗ وَلَن یَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَـٰفِرِینَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ سَبِیلًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق