الباحث القرآني

(p-١٦٠٤)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلى أنْفُسِكم أوِ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أوْ فَقِيرًا فاللَّهُ أوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الهَوى أنْ تَعْدِلُوا وإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [١٣٥] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالقِسْطِ﴾ أيْ: مُقْتَضى إيمانِكُمُ المُبالَغَةُ والِاجْتِهادُ في القِيامِ بِالعَدْلِ والِاسْتِقامَةِ؛ إذْ بِهِ انْتِظامُ أمْرِ الدّارَيْنِ المُوجِبِ لِثَوابِهِما، ومِن أشَدِّهِ القِيامُ بِالشَّهادَةِ عَلى وجْهِها، فَكُونُوا: ﴿شُهَداءَ لِلَّهِ﴾ أيْ: مُقِيمِينَ لِلشَّهادَةِ بِالحَقِّ، مُؤَدِّينَ لَها لِوَجْهِهِ تَعالى ﴿ولَوْ﴾ كانَتِ الشَّهادَةُ ﴿عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ فاشْهَدُوا عَلَيْها بِأنْ تُقِرُّوا بِالحَقِّ عَلَيْها ولا تَكْتُمُوهُ ﴿أوِ﴾ عَلى ﴿الوالِدَيْنِ﴾ أيِ: الأُصُولِ ﴿والأقْرَبِينَ﴾ أيِ: الأوْلادِ والإخْوَةِ وغَيْرِهِمْ، فَلا تُراعِهِمْ فِيها بَلِ اشْهَدْ بِالحَقِّ وإنْ عادَ ضَرَرُها عَلَيْهِمْ، فَإنَّ الحَقَّ حاكِمٌ عَلى كُلِّ أحَدٍ. ﴿إنْ يَكُنْ﴾ أيْ: مَن تَشْهَدُونَ عَلَيْهِ ﴿غَنِيًّا﴾ يُبْتَغى في العادَةِ رِضاهُ ويُتَّقى سُخْطُهُ ﴿أوْ فَقِيرًا﴾ يُتَرَحَّمُ عَلَيْهِ غالِبًا، أوْ يُخافُ مِنَ الشَّهادَةِ عَلَيْهِ أنْ يُلْجَأ الأمْرُ إلى أنْ يُعْطى ما يَكْفِيهِ ﴿فاللَّهُ أوْلى بِهِما﴾ أيْ: مِنَ المَشْهُودِ عَلَيْهِ، وأعْلَمُ بِما فِيهِ صَلاحُهُما، فَلَوْلا أنَّ الشَّهادَةَ عَلَيْهِما مَصْلَحَةٌ لَهُما لَما شَرَعَها؛ لِأنَّهُ أنْظَرُ لِعِبادِهِ مِن كُلِّ ناظِرٍ. ﴿فَلا تَتَّبِعُوا الهَوى أنْ تَعْدِلُوا﴾ أيْ: إرادَةَ العُدُولِ عَنْ أمْرِ اللَّهِ الَّذِي هو مُصْلِحُ أُمُورِكُمْ، وأُمُورِ المَشْهُودِ عَلَيْهِمْ، لَوْ نَظَرْتُمْ ونَظَرُوا إلَيْهِ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أيْ: لا يَحْمِلَنَّكُمُ الهَوى والعَصَبِيَّةُ وبُغْضُ النّاسِ إلَيْكم عَلى تَرْكِ العَدْلِ في شُؤُونِكُمْ، بَلِ الزَمُوا العَدْلَ عَلى أيِّ حالٍ كانَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ولا يَجْرِمَنَّكم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ألا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هو أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ [المائدة: ٨] [المائِدَةِ: ٨]. ومِن هَذا قَوْلُ (p-١٦٠٥)«عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَواحَةَ لَمّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ ﷺ يَخْرُصُ عَلى أهْلِ خَيْبَرَ ثِمارَهم وزُرُوعَهُمْ، فَأرادُوا أنْ يُرْشُوهُ لِيَرْفُقَ بِهِمْ، فَقالَ: واللَّهِ! لَقَدْ جِئْتُكم مِن عِنْدِ أحَبِّ الخَلْقِ إلَيَّ، ولَأنْتُمْ أبْغَضُ إلَيَّ مِن أعْدادِكم مِنَ القِرَدَةِ والخَنازِيرِ، وما يَحْمِلُنِي حُبِّي إيّاهُ وبُغْضِي لَكم عَلى أنْ لا أعْدِلَ فِيكُمْ، فَقالُوا: بِهَذا قامَتِ السَّماواتُ والأرْضُ». ﴿وإنْ تَلْوُوا﴾ أيْ: تُحَرِّفُوا ألْسِنَتَكم عَنِ الشَّهادَةِ عَلى وجْهِها ﴿أوْ تُعْرِضُوا﴾ أيْ: عَنْها بِكَتْمِها ﴿فَإنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ فَيُجازِيكم عَلى ذَلِكَ. قالَ تَعالى: ﴿ومَن يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣] [البَقَرَةِ: ٢٨٣]. * * * تَنْبِيهٌ: قالَ بَعْضُ مُفَسِّرِي الزَّيْدِيَّةِ: لِهَذِهِ الآيَةِ ثَمَراتٌ هي أحْكامٌ: الأوَّلُ: وُجُوبُ العَدْلِ (p-١٦٠٦)عَلى القُضاةِ والوُلاةِ، وأنْ لا يَعْدِلَ عَنِ القِسْطِ لِأمْرٍ تَمِيلُ إلَيْهِ النُّفُوسُ وشَهَواتُ القُلُوبِ مِن غِنًى أوْ فَقْرٍ أوْ قَرابَةٍ، بَلْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الدَّنِيءُ والشَّرِيفُ والقَرِيبُ والبَعِيدُ. ويُرْوى أنَّ عُمَرَ أقامَ حَدًّا عَلى ولَدٍ لَهُ، فَذاكَرَهُ في حَقِّ القَرابَةِ، فَقالَ: إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ شَهِدْتَ عِنْدَ اللَّهِ أنَّ أباكَ كانَ يُقِيمُ عَلَيْكَ الحُدُودَ. الحُكْمُ الثّانِي: أنَّهُ يَجِبُ الإقْرارُ عَلى مَن عَلَيْهِ الحَقُّ ولا يَكْتُمُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ والمُرادُ بِالشَّهادَةِ عَلى النَّفْسِ الإقْرارُ، وهَذا ظاهِرٌ. وقِيلَ المَعْنى: ولَوْ كانَتِ الشَّهادَةُ وبالًا ومَضَرَّةً عَلى أنْفُسِكم وآبائِكم بِأنْ تَكُونَ الشَّهادَةُ عَلى سُلْطانٍ ظالِمٍ. وهَذِهِ المَسْألَةُ فِيها خِلافٌ بَيْنِ الفُقَهاءِ إذا خَشِيَ مَضَرَّةً دُونَ القَتْلِ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الشَّهادَةُ أمْ لا ؟ فَقِيلَ: يَجِبُ لِأنَّهُ لا يَحْفَظُ مالَهُ بِتَلَفِ مالِ غَيْرِهِ. وعَنِ الشّافِعِيَّةِ والمُتَكَلِّمِينَ - وصُحِّحَ لِلْمَذْهَبِ - أنَّهُ لا يَجِبُ؛ لِأنَّ الشَّهادَةَ أمْرٌ بِمَعْرُوفِ، وشَرْطُهُ أنْ لا يُؤَدِّيَ إلى مُنْكَرٍ، ولَكِنْ إنَّما يَسْقُطُ عَنْهُ أداءُ الشَّهادَةِ بِحُصُولِ الظَّنِّ لِمَضَرَّتِهِ، لا بِمُجَرَّدِ الخَشْيَةِ. وقَدْ قالَ المُؤَيَّدُ بِاللَّهِ في "الإفادَةِ": عَلى الشّاهِدِ أنْ يَشْهَدَ وإنْ خَشِيَ عَلى نَفْسِهِ ومالِهِ؛ لِأنَّ الَّذِي يَخْشاهُ مَظْنُونٌ، ولَعَلَّهُ غَيْرُ كائِنٍ، يُؤَوَّلُ عَلى أنَّ مُرادَهُ مُجَوَّزٌ لا أنَّهُ قَدْ ظَنَّ حُصُولَ المَضَرَّةِ، وهَذا يَجُوزُ لَهُ الشَّهادَةُ مَعَ الخَشْيَةِ عَلى نَفْسِهِ. قالَ في "شَرْحِ الإبانَةِ": يَجُوزُ إذا كانَ قَتْلُهُ إعْزازًا لِلدِّينِ، كالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، أمّا لَوْ كَتَمَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَلا إشْكالَ في عِصْيانِهِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: ذَلِكَ مِنَ الكَبائِرِ. الحُكْمُ الثّالِثُ: يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿شُهَداءَ لِلَّهِ﴾ أيْ: تَشْهَدُونَ لِوَجْهِ اللَّهِ كَما أمَرَكُمْ، وفي هَذا دَلالَةٌ عَلى أنَّ أخْذَ الأُجْرَةِ عَلى تَأْدِيَةِ الشَّهادَةِ لا يَجُوزُ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُقِمْها لِلَّهِ، وقَدِ اسْتَثْنى أهْلُ الفِقْهِ صُوَرًا جَوَّزُوا أخْذَ الأُجْرَةِ عَلى تَأْدِيَةِ الشَّهادَةِ، مِنها: إذا طُلِبَ إلى مَوْضِعٍ؛ لِأنَّ الخُرُوجَ غَيْرُ واجِبٍ عَلَيْهِ، ومِنها: إذا كانَ غَيْرُهُ يَشْهَدُ ويَحْصُلُ بِهِ الحَقُّ، فَإنَّ شَهادَتَهُ غَيْرُ لازِمَةٍ. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب