الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فاذْكُرُوا اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِكم فَإذا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا﴾ [١٠٣] ﴿فَإذا قَضَيْتُمُ﴾ أيْ: أتْمَمْتُمْ ﴿الصَّلاةَ﴾ أيْ: صَلاةَ الخَوْفِ - عَلى ما فُصِّلَ - ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِكُمْ﴾ أيْ: فَداوِمُوا عَلى ذِكْرِهِ تَعالى في جَمِيعِ الأحْوالِ، فَإنَّ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الخَوْفِ والحَذَرِ مَعَ العَدُوِّ جَدِيرٌ بِالمُواظَبَةِ عَلى ذِكْرِ اللَّهِ والتَّضَرُّعِ إلَيْهِ، قالَهُ الرّازِيُّ. وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أمَرَ تَعالى بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ عَقِيبَ صَلاةِ الخَوْفِ، وإنْ كانَ مَشْرُوعًا مُرَغَّبًا فِيهِ أيْضًا بَعْدَ غَيْرِها، ولَكِنْ هُنا آكَدُ لِما وقَعَ فِيها مِنَ التَّخْفِيفِ في أرْكانِها، ومِنَ الرُّخْصَةِ في الذَّهابِ فِيها والإيابِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لَيْسَ يُوجَدُ في غَيْرِها كَما قالَ تَعالى (فِي الأشْهُرِ (p-١٥١٩)الحُرُمِ): ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٦] [التَّوْبَةِ: ٣٦] وإنَّ كانَ هَذا مَنهِيًّا عَنْهُ في غَيْرِها، ولَكِنْ فِيها آكَدُ لِشِدَّةِ حُرْمَتِها وعِظَمِها. ﴿فَإذا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ أيْ: سَكَنَتْ قُلُوبُكم بِالأمْنِ ﴿فَأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ أيْ: عَلى الحالَةِ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْرِفُونَها، فَلا تُغَيِّرُوا شَيْئًا مِن هَئْياتِها ﴿إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا﴾ أيْ: فَرْضًا مُوَقَّتًا، لا يَجُوزُ إخْراجُها عَنْ أوْقاتِها وإنْ لَزِمَها نَقائِصُ في رِعايَتِها. * * * فَصْلٌ فِي أحْكامٍ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الآيَةِ: الأوَّلُ: في هَذِهِ الآيَةِ مَشْرُوعِيَّةُ صَلاةِ الخَوْفِ وصِفَتُها، وأنَّهُ لا يَجِبُ قَضاؤُها، وأنَّهُ يُطْلَبُ فِيها حَمْلُ السِّلاحِ إلّا لِعُذْرٍ. الثّانِي: تَعَلَّقَ بِظاهِرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ [النساء: ١٠٢] مَن لَمْ يَرَ صَلاةَ الخَوْفِ بَعْدَهُ ﷺ زاعِمًا أنَّها خاصَّةً بِعَهْدِهِ ﷺ لِاشْتِراطِهِ كَوْنَهُ فِيهِمْ، ولا يَخْفى أنَّ الأئِمَّةَ بَعْدَهُ نُوّابُهُ قُوّامٌ بِما كانَ يَقُومُ بِهِ، فَيَتَناوَلُهم حُكْمُ الخِطابِ الوارِدِ لَهُ ﷺ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: ١٠٣] [التَّوْبَةِ: ١٠٣] وقَدْ قالَ ﷺ: «صَلُّوا كَما رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي» . (p-١٥٢٠)وعُمُومُ مَنطُوقِ هَذا الحَدِيثِ مُقَدَّمٌ عَلى ذَلِكَ المَفْهُومِ، وقَدْ رَوى أبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ والحاكِمُ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وغَيْرُهُمْ، «عَنْ سَعِيدِ بْنِ العاصِ أنَّهُ قالَ (فِي غَزْوَةٍ ومَعَهُ حُذَيْفَةُ ): أيُّكم شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ صَلاةَ الخَوْفِ؟ فَقالَ حُذَيْفَةُ: أنا، فَأمَرَهم حُذَيْفَةُ فَلَبِسُوا السِّلاحَ، ثُمَّ قالَ: إنْ هاجَمَكم هَيْجٌ فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ القِتالُ، فَصَلّى بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، والأُخْرى مُواجِهَةٌ العَدُوَّ، ثُمَّ انْصَرَفَ هَؤُلاءِ، فَقامُوا مَقامَ أُولَئِكَ، وجاءَ أُولَئِكَ فَصَلّى بِهِمْ رَكْعَةً أُخْرى، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وكانَتِ الغَزْوَةُ بِطَبَرِسْتانَ، قالَ بَعْضُهُمْ: وكانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - فَلَمْ يُنْكِرْهُ أحَدٌ، فَحَلَّ مَحَلَّ الإجْماعِ». ورَوى أبُو داوُدَ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ صَلّى بِكابُلَ صَلاةَ الخَوْفِ. الثّالِثُ: رَوى الإمامُ أحْمَدُ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وأبُو داوُدَ، والنَّسائِيُّ وغَيْرُهم (فِي نُزُولِ الآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) (p-١٥٢١)قالَ: «كُنّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِعُسْفانَ، فاسْتَقْبَلَنا المُشْرِكُونَ، عَلَيْهِمْ خالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، وهم بَيْنَنا وبَيْنَ القِبْلَةِ، فَصَلّى بِنا النَّبِيُّ ﷺ الظُّهْرَ، فَقالُوا: قَدْ كانُوا عَلى حالٍ لَوْ أصَبْنا غَرَّتْهُمْ، ثُمَّ قالُوا: تَأْتِي عَلَيْهِمُ الآنَ صَلاةٌ هي أحَبُّ إلَيْهِمْ مِن أبْنائِهِمْ وأنْفُسِهِمْ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الآياتِ بَيْنَ الظُّهْرِ والعَصْرِ: ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ﴾ [النساء: ١٠٢] فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَأمَرَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأخْذِ السِّلاحِ، فَصَفَّنا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعْنا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ فَرَفَعْنا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ النَّبِيُّ ﷺ بِالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ والآخَرُونَ قِيامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمّا جَلَسُوا جَلَسَ الآخَرُونَ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ». ورَوى عَبْدُ الرَّزّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ هِشامٍ مِثْلَ هَذا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ إلّا أنَّهُ قالَ: «نَكَصَ الصَّفُّ المُقَدَّمُ القَهْقَرى حِينَ يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهم مِنَ السُّجُودِ، ويَتَقَدَّمُ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ فَيَسْجُدُونَ في مَصافِّ الأوَّلِينَ». ورَوى عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ أبِي نَجِيحٍ قالَ: «قالَ مُجاهِدٌ (فِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [النساء: ١٠١] ): نَزَلَتْ يَوْمَ كانَ النَّبِيُّ ﷺ بِعُسْفانَ والمُشْرِكُونَ بِضَجْنانَ فَتَواقَفُوا، فَصَلّى النَّبِيُّ ﷺ بِأصْحابِهِ صَلاةَ الظُّهْرِ أرْبَعًا، رُكُوعَهم وسُجُودَهم وقِيامَهم مَعًا جَمِيعَهُمْ، فَهَمَّ بِهِمُ المُشْرِكُونَ أنْ يُغِيرُوا عَلى أمْتِعَتِهِمْ ويُقاتِلُوهُمْ، فَأنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: ﴿فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ﴾ [النساء: ١٠٢] فَصَلّى النَّبِيُّ ﷺ العَصْرَ وصَفَّ أصْحابُهُ صَفَّيْنِ وكَبَّرَ بِهِمْ جَمِيعًا فَسَجَدَ الأوَّلُونَ بِسُجُودِهِ والآخِرُونَ قِيامٌ لَمْ يَسْجُدُوا، حَتّى قامَ النَّبِيُّ ﷺ والصَّفُّ الأوَّلُ، ثُمَّ كَبَّرَ بِهِمْ ورَكَعُوا جَمِيعًا، فَقَدَّمُوا الصَّفَّ الآخِرَ واسْتَأْخَرُوا، فَتَعاقَبُوا السُّجُودَ كَما فَعَلُوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ، وقَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ (p-١٥٢٢)صَلاةَ العَصْرِ رَكْعَتَيْنِ». وفِي هَذِهِ الأحادِيثِ أنَّ صَلاةَ الطّائِفَتَيْنِ مَعَ الإمامِ جَمِيعًا، واشْتِراكُهم في الحِراسَةِ، ومُتابَعَتِهِ في جَمِيعِ أرْكانِ الصَّلاةِ إلّا السُّجُودَ، فَتَسْجُدُ مَعَهُ طائِفَةٌ وتَنْتَظِرُ الأُخْرى حَتّى تَفْرَغَ الطّائِفَةُ الأُولى، ثُمَّ تَسْجُدُ، وإذا فَرَغُوا مِنَ الرَّكْعَةِ الأُولى تَقَدَّمَتِ الطّائِفَةُ المُتَأخِّرَةُ مَكانَ الطّائِفَةِ المُتَقَدِّمَةِ، وتَأخَّرَتِ المُتَقَدِّمَةُ. (فَإنْ قُلْتَ): لا يَنْطْبِقُ ما في الآيَةِ عَلى هَذِهِ الرِّواياتِ الَّتِي حَكَتْ سَبَبَ نُزُولِها، وذَلِكَ لِأنَّهُ قِيلَ في الآيَةِ: ﴿فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهم فَإذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن ورائِكم ولْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا﴾ [النساء: ١٠٢] الآيَةَ، وفي هَذِهِ الرِّواياتِ أنَّهم قامُوا جَمِيعًا مَعَهُ ﷺ في الصَّلاةِ، وإنَّما يَنْطَبِقُ ما فِيها عَلى ما رَواهُ الشَّيْخانِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قالَ: «صَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلاةَ الخَوْفِ بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، والطّائِفَةُ الأُخْرى مُواجِهَةٌ العَدُوَّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وقامُوا مَقامَ أصْحابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلى العَدُوِّ، وجاءَ أُولَئِكَ، ثُمَّ صَلّى بِهِمُ النَّبِيُّ ﷺ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَضى هَؤُلاءِ رَكْعَةً وهَؤُلاءِ رَكْعَةً». وما رَوَياهُ عَنْ صالِحِ بْنِ خَوّاتٍ، عَمَّنْ صَلّى مَعَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ ذاتِ الرِّقاعِ «أنَّ الطّائِفَةَ صَفَّتْ مَعَهُ وطائِفَةٌ وِجاهَ العَدُوِّ، فَقَضى بِالَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ ثَبَتَ قائِمًا، فَأتَمُّوا لِأنْفُسِهِمْ ثُمَّ انْصَرَفُوا وِجاهَ العَدُوِّ، وجاءَتِ الطّائِفَةُ الأُخْرى فَصَلّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِن صَلاتِهِ، فَأتَمُّوا لِأنْفُسِهِمْ، فَسَلَّمَ بِهِمْ». (قُلْتُ): بِمُراجَعَةِ ما أسْلَفْناهُ في المُقَدِّمَةِ مِن قاعِدَةِ سَبَبِ النُّزُولِ يَنْدَفِعُ الإشْكالُ. وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: «نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ ضَجْنانَ وعُسْفانَ فَقالَ المُشْرِكُونَ: لِهَؤُلاءِ صَلاةٌ هي أحَبُّ إلَيْهِمْ مِن آبائِهِمْ وأُمَّهاتِهِمْ، وهي العَصْرُ، فَأجْمِعُوا أمْرَكم فَمِيلُوا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً واحِدَةً، وإنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أتى النَّبِيَّ ﷺ فَأمَرَهُ أنْ يَقْسِمَ أصْحابَهُ (p-١٥٢٣)شَطْرَيْنِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ وتَقُومُ طائِفَةٌ أُخْرى وراءَهُمْ، ولْيَأْخُذُوا حِذْرَهم وأسْلِحَتَهُمْ، فَتَكُونُ لَهم رَكْعَةٌ ولِلنَّبِيِّ ﷺ رَكْعَتانِ،» أخْرَجَهُ أصْحابُ السُّنَنِ. ثُمَّ رَأيْتُ القُرْطُبِيَّ بَحَثَ في "تَفْسِيرِهِ" نَحْوَ ما سَبَقَ لِي؛ حَيْثُ قالَ: وما ذَكَرْناهُ مِن سَبَبِ النُّزُولِ في قِصَّةِ خالِدِ بْنِ الوَلِيدِ لا يُلائِمُ تَفْرِيقَ القَوْمِ إلى طائِفَتَيْنِ، ثُمَّ قالَ (بَعْدَ رِوايَةِ حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ المَذْكُورِ) قُلْتُ: ولا تَعارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّواياتِ، فَلَعَلَّهُ ﷺ صَلّى بِهِمْ صَلاةً أُخْرى مُفْتَرِقِينَ. انْتَهى. الرّابِعُ: ظاهِرُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ التَّرْخِيصُ لِكُلِّ طائِفَةٍ بِرَكْعَةٍ واحِدَةٍ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ فِيها حالَ الرَّكْعَةِ الباقِيَةِ، وقَدْ رَوى النَّسائِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلّى بِذِي قَرَدٍ فَصَفَّ النّاسَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ: صَفًّا خَلْفَهُ وصَفًّا مُوازِيَ العَدُوِّ، فَصَلّى بِالَّذِينَ خَلْفَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ انْصَرَفَ هَؤُلاءِ إلى مَكانِ هَؤُلاءِ، وجاءَ أُولَئِكَ فَصَلّى بِهِمْ رَكْعَةً ولَمْ يَقْضُوا رَكْعَةً». وكَذا رَوى أبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ أيْضًا، عَنْ حُذَيْفَةَ أنَّهُ صَلّى بِطَبَرِسْتانَ بِهَؤُلاءِ رَكْعَةً وبِهَؤُلاءِ رَكْعَةً ولَمْ يَقْضُوا. ورَوى أحْمَدُ ومُسْلِمُ وأبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قالَ: «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاةَ عَلى نَبِيِّكم ﷺ في الحَضَرِ أرْبَعًا، وفي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وفي الخَوْفِ رَكْعَةً،» فَهَذِهِ الأحادِيثُ تَدُلُّ عَلى أنَّ مِن صِفَةِ صَلاةَ الخَوْفِ الِاقْتِصارُ عَلى رَكْعَةٍ لِكُلِّ طائِفَةٍ. قالَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في "الفَتْحِ": وبِالِاقْتِصارِ عَلى رَكْعَةٍ واحِدَةٍ في الخَوْفِ يَقُولُ الثَّوْرِيُّ وإسْحاقُ ومَن تَبِعَهُما، وقالَ بِهِ أبُو هُرَيْرَةَ وأبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ وغَيْرُ واحِدٍ مِنَ التّابِعِينَ، (p-١٥٢٤)ومِنهم مَن قَيَّدَ بِشِدَّةِ الخَوْفِ. وقالَ الجُمْهُورُ: قَصْرُ الخَوْفِ قَصْرُ هَيْئَةٍ لا قَصْرُ عَدَدٍ، وتَأوَّلُوا هَذِهِ الأحادِيثَ بِأنَّ المُرادَ بِها رَكْعَةٌ مَعَ الإمامِ ولَيْسَ فِيها نَفْيُ الثّانِيَةِ، ويَرُدُّ ذَلِكَ قَوْلُهُ في حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ وحُذَيْفَةَ: (ولَمْ يَقْضُوا رَكْعَةً) وكَذا قَوْلُهُ في حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ الثّانِي: (وفِي الخَوْفِ رَكْعَةٌ). وأمّا تَأْوِيلُهم قَوْلَهُ: (لَمْ يَقْضُوا) بِأنَّ المُرادَ مِنهُ لَمْ يُعِيدُوا الصَّلاةَ بَعْدَ الأمْنِ - فَبَعِيدٌ جِدًّا، كَذا في "نَيْلِ الأوْطارِ" نَعَمْ. وقَعَ في حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ وقَدْ قَدَّمْناهُ: «ثُمَّ قَضى هَؤُلاءِ رَكْعَةً وهَؤُلاءِ رَكْعَةً»، وعِنْدَ أبِي داوُدَ مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «ثُمَّ سَلَّمَ، وقامَ هَؤُلاءِ فَصَلَّوْا لِأنْفُسِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمُوا ثُمَّ ذَهَبُوا، ورَجَعَ أُولَئِكَ إلى مَقامِهِمْ فَصَلَّوْا لِأنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا». وبِالتَّحْقِيقِ كُلُّ ما رُوِيَ هو مِن صُوَرِها الجائِزَةِ، ولَمّا ذَكَرَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ في "زادِ المَعادِ" هَدْيَهُ ﷺ في أدائِها، قالَ في آخِرِ صُورَةٍ: وتارَةً كانَ يُصَلِّي بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً فَتَذْهَبُ ولا تَقْضِي شَيْئًا، وتَجِيءُ الأُخْرى فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً ولا تَقْضِي شَيْئًا، فَيَكُونُ لَهُ ﷺ رَكْعَتانِ، ولَهم رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ، وهَذِهِ الأوْجُهُ كُلُّها يَجُوزُ الصَّلاةُ بِها. قالَ الإمامُ أحْمَدُ: كُلُّ حَدِيثٍ يُرْوى في بابِ صَلاةِ الخَوْفِ فالعَمَلُ بِهِ جائِزٌ. انْتَهى. وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: صَلاةُ الخَوْفِ أنْواعٌ كَثِيرَةٌ، فَإنَّ العَدُوَّ تارَةً يَكُونُ تُجاهَ القِبْلَةِ، وتارَةً يَكُونُ في غَيْرِ صَوْبِها، ثُمَّ تارَةً يُصَلُّونَ جَماعَةً وتارَةً يَلْتَحِمُ الحَرْبُ فَلا يَقْدِرُونَ عَلى الجَماعَةِ، بَلْ يُصَلُّونَ فُرادى مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةَ وغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيها، ورِجالًا ورُكْبانًا، ولَهم أنَّ يَمْشُوا - والحالَةُ هَذِهِ - ويَضْرِبُوا الضَّرْبَ المُتَتابِعَ في مَتْنِ الصَّلاةِ، ومِنَ العُلَماءِ مَن قالَ: يُصَلُّونَ - والحالَةُ هَذِهِ - رَكْعَةً واحِدَةً لِحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ المُتَقَدِّمِ، وبِهِ قالَ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. قالَ المُنْذِرِيُّ: وبِهِ قالَ عَطاءٌ وجابِرٌ والحَسَنُ ومُجاهِدٌ والحَكَمُ وقَتادَةُ وحَمّادٌ، وإلَيْهِ ذَهَبَ طاوُسٌ والضَّحّاكُ. وقَدْ حَكى أبُو عاصِمٍ العَبّادِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ المَرْوَزِيِّ أنَّهُ يَرى رَدَّ الصُّبْحِ إلى رَكْعَةٍ في الخَوْفِ، وإلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ أيْضًا، وقالَ إسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ: أمّا عِنْدَ المُسايَفَةِ (p-١٥٢٥)فَيَجْزِيكَ رَكْعَةٌ واحِدَةٌ تُومِئُ بِها إيماءً، فَإنْ لَمْ تَقْدِرْ فَسَجْدَةٌ واحِدَةٌ؛ لِأنَّها ذِكْرُ اللَّهِ. وقالَ آخَرُونَ: يَكْفِي تَكْبِيرَةٌ واحِدَةٌ، فَلَعَلَّهُ أرادَ رَكْعَةً واحِدَةً، كَما قالَهُ الإمامُ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وأصْحابُهُ، وبِهِ قالَ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وكَعْبٌ وغَيْرُ واحِدٍ مِنَ الصَّحابَةِ، والسُّدِّيُّ. ورَواهُ ابْنُ جَرِيرٍ، ولَكِنِ الَّذِينَ حَكَوْهُ إنَّما حَكَوْهُ عَلى ظاهِرِهِ في الِاجْتِزاءِ بِتَكْبِيرَةٍ واحِدَةٍ، كَما هو مَذْهَبُ إسْحاقَ بْنِ راهَوَيْهِ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الأمِيرُ عَبْدُ الوَهّابِ بْنُ بُخْتٍ المَكِّيُّ حَتّى قالَ: فَإنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلى التَّكْبِيرِ فَلا يَتْرُكُها في نَفْسِهِ، يَعْنِي بِالنِّيَّةِ، رَواهُ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ في "سُنَنِهِ" عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ عَيّاشٍ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ دِينارٍ عَنْهُ، فاللَّهُ أعْلَمُ. ومِنَ العُلَماءِ مَن أباحَ تَأْخِيرَ الصَّلاةِ لِعُذْرِ القِتالِ والمُناجَزَةِ، كَما أخَّرَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ الأحْزابِ الظُّهْرَ والعَصْرَ، فَصَلّاهُما بَعْدَ الغُرُوبِ، ثُمَّ صَلّى بَعْدَهُما المَغْرِبَ ثُمَّ العِشاءَ، وكَما قالَ بَعْدَها - يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ - حِينَ جَهَّزَ إلَيْهِمُ الجَيْشَ: «لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ مِنكُمُ العَصْرَ إلّا في بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأدْرَكَتْهُمُ الصَّلاةُ في أثْناءِ الطَّرِيقِ، فَقالَ مِنهم قائِلُونَ: لَمْ يُرِدْ مِنّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلّا تَعْجِيلَ المَسِيرِ، ولَمْ يُرِدْ مِنّا تَأْخِيرَ الصَّلاةِ عَنْ وقْتِها، فَصَلَّوُا الصَّلاةَ لِوَقْتِها في الطَّرِيقِ، وأخَّرَ آخَرُونَ مِنهم صَلاةَ العَصْرِ فَصَلَّوْها في بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ الغُرُوبِ، ولَمْ يُعَنِّفْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أحَدًا مِنَ الفَرِيقَيْنِ، فاحْتَجَّ في عُذْرِهِمْ في تَأْخِيرِ الصَّلاةِ لِأجْلِ الجِهادِ والمُبادَرَةِ إلى حِصارِ النّاكِثِينَ لِلْعَهْدِ مِنَ الطّائِفَةِ المَلْعُونَةِ اليَهُودِ. وأمّا الجُمْهُورُ فَقالُوا: هَذا كُلُّهُ مَنسُوخٌ بِصَلاةِ الخَوْفِ فَإنَّها لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ بَعْدُ، فَلَمّا نَزَلَتْ نُسِخَ تَأْخِيرُ الصَّلاةِ لِذَلِكَ، وهَذا أبْيَنُ في حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ الَّذِي رَواهُ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وأهْلُ السُّنَنِ، ولَكِنْ يُشْكَلُ عَلَيْهِ ما حَكاهُ البُخارِيُّ في "صَحِيحِهِ" حَيْثُ قالَ: (بابُ الصَّلاةِ عِنْدَ مُناهَضَةِ الحُصُونِ ولِقاءِ العَدُوِّ). وقالَ الأوْزاعِيُّ: إنْ كانَ تَهَيَّأ الفَتْحُ ولَمْ يَقْدِرُوا عَلى الصَّلاةِ صَلُّوا إيماءً، كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ، فَإنْ لَمْ يَقْدِرُوا (p-١٥٢٦)عَلى الإيماءِ أخَّرُوا الصَّلاةَ حَتّى يَنْكَشِفَ القِتالُ، أوْ يَأْمَنُوا فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ، فَإنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وسَجْدَتَيْنِ، فَإنْ لَمْ يَقْدِرُوا فَلا يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ ويُؤَخِّرُونَها حَتّى يَأْمَنُوا، وبِهِ قالَ مَكْحُولٌ. وقالَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ: حَضَرْتُ عِنْدَ مُناهَضَةِ حِصْنَ تُسْتَرَ عِنْدَ إضاءَةِ الفَجْرِ، واشْتَدَّ اشْتِعالُ القِتالِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلى الصَّلاةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إلّا بَعْدَ ارْتِفاعِ النَّهارِ، فَصَلَّيْنا ونَحْنُ مَعَ أبِي مُوسى، فَفُتِحَ لَنا، وقالَ أنَسٌ: وما يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاةِ الدُّنْيا وما فِيها. انْتَهى. ثُمَّ أتْبَعَهُ بِحَدِيثِ تَأْخِيرِ الصَّلاةِ يَوْمَ الأحْزابِ، ثُمَّ بِحَدِيثِ أمْرِهِ إيّاهم أنْ لا يُصَلُّوا العَصْرَ إلّا في بَنِي قُرَيْظَةَ، وكَأنَّهُ كالمُخْتارِ لِذَلِكَ، واللَّهُ أعْلَمُ. ولِمَن جَنَحَ لَهُ أنْ يَحْتَجَّ بِصَنِيعِ أبِي مُوسى وأصْحابِهِ يَوْمَ فَتْحِ تُسْتَرَ فَإنَّهُ يُشْتَهَرُ غالِبًا، وكانَ ذَلِكَ في إمارَةِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، ولَمْ يُنْقَلْ أنَّهُ أنْكَرَ عَلَيْهِمْ ولا أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ. قالَ هَؤُلاءِ: وقَدْ كانَتْ صَلاةُ الخَوْفِ مَشْرُوعَةً في الخَنْدَقِ؛ لِأنَّ غَزْوَةَ ذاتِ الرِّقاعِ كانَتْ قَبْلَ الخَنْدَقِ في قَوْلِ جُمْهُورِ عُلَماءِ السِّيَرِ والمَغازِي، ومِمَّنْ نَصَّ عَلى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ، ومُوسى بْنُ عُقْبَةَ، والواقِدِيُّ، ومُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كاتِبُهُ، وخَلِيفَةُ بْنُ الخَيّاطِ، وغَيْرُهم. وقالَ البُخارِيُّ وغَيْرُهُ: كانَتْ ذاتُ الرِّقاعِ بَعْدَ الخَنْدَقِ؛ لِحَدِيثِ أبِي مُوسى، وما قُدِّمَ إلّا في خَيْبَرَ، واللَّهُ أعْلَمُ. (p-١٥٢٧)الحُكْمُ الخامِسُ: اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿طائِفَةٌ﴾ [النساء: ١٠٢] عَلى أنَّهُ لا يُشْتَرَطُ اسْتِواءُ الفَرِيقَيْنِ في العَدَدِ، لَكِنْ لا بُدَّ أنْ تَكُونَ الَّتِي تَحْرُسُ تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِها في ذَلِكَ. قالَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في "الفَتْحِ": الطّائِفَةُ تُطْلَقُ عَلى القَلِيلِ والكَثِيرِ حَتّى عَلى الواحِدِ، فَلَوْ كانُوا ثَلاثَةً ووَقَعَ لَهُمُ الخَوْفُ جازَ لِأحَدِهِمْ أنْ يُصَلِّيَ بِواحِدٍ ويَحْرُسَ واحِدٌ، ثُمَّ يُصَلِّي الآخَرُ، وهو أقَلُّ ما يُتَصَوَّرُ في صَلاةِ الخَوْفِ جَماعَةً. السّادِسُ: اسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى عِظَمِ أمْرِ الجَماعَةِ، بَلْ عَلى تَرْجِيحِ القَوْلِ بِمُوجِبِها؛ لِارْتِكابِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ لا تُغْتَفَرُ في غَيْرِها، ولَوْ صَلّى كُلُّ امْرِئٍ مُنْفَرِدًا لَمْ يَقَعِ الِاحْتِياجُ إلى مُعْظَمِ ذَلِكَ، أفادَهُ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في "الفَتْحِ". قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وما أحْسَنَ ما اسْتَدَلَّ بِهِ مَن ذَهَبَ إلى وُجُوبِ الجَماعَةِ مِن هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، حَيْثُ اغْتُفِرَتْ أفْعالٌ كَثِيرَةٌ لِأجْلِ الجَماعَةِ، فَلَوْلا أنَّها واجِبَةٌ ما ساغَ ذَلِكَ. السّابِعُ: قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: اخْتُلِفَ في المَأْمُورِ بِأخْذِ السِّلاحِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ﴾ [النساء: ١٠٢] فَقِيلَ: هُمُ الطّائِفَةُ الَّذِينَ يُواجِهُونَ العَدُوَّ، وهَذا ظاهِرٌ، وقِيلَ: بَلْ هُمُ الطّائِفَةُ المُصَلُّونَ، وأرادَ ما لا يَشْغَلُ عَنِ الصَّلاةِ مِنَ الدِّرْعِ والخِنْجَرِ والسَّيْفِ ونَحْوِ ذَلِكَ، وقِيلَ: لِلطّائِفَتَيْنِ، وهو قَوْلُ القاسِمِ. انْتَهى. قالَ النّاصِرُ في "الِانْتِصافِ": والظّاهِرُ أنَّ المُخاطَبَ بِأخْذِ الأسْلِحَةِ المُصَلُّونَ، إذْ مَن لَمْ يُصَلِّ إنَّما أُعِدَّ لِلْحَرَسِ، فالظّاهِرُ الِاسْتِغْناءُ عَنْ أمْرِهِمْ بِذَلِكَ وتَنْبِيهِهِمْ عَلَيْهِ، وهم إنَّما أخَّرُوا الصَّلاةَ لِذَلِكَ، أمّا المُصَلُّونَ فَهم في مَظِنَّةِ طَرْحِ الأسْلِحَةِ؛ لِأنَّهم لَمْ يَعْتادُوا حَمْلَها في الصَّلاةِ، فَنُبِّهُوا عَلى أنَّهم لا يَنْبَغِي لَهم طَرْحُ الأسْلِحَةِ وإنْ كانُوا في الصَّلاةِ؛ لِضَرُورَةِ الخَوْفِ وخَشْيَةِ الغِرَّةِ، وأيْضًا فَصَنِيعُ الآيَةِ يُعْطِي ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ﴾ [النساء: ١٠٢] وعَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ﴾ [النساء: ١٠٢] فالظّاهِرُ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إلَيْهِمْ، وحَيْثُ يُعادُ إلى غَيْرِ المُصَلِّينَ يَحْتاجُ إلى تَكَلُّفٍ في صِحَّةِ العَوْدِ إلَيْهِمْ؛ بِدَلالَةِ قُوَّةِ الكَلامِ عَلَيْهِمْ، وإنْ لَمْ يُذْكَرُوا. وناقَشَ (p-١٥٢٨)النّاصِرُ أيْضًا الزَّمَخْشَرِيَّ في جَعْلِهِ المَرادَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا﴾ [النساء: ١٠٢] غَيْرَ المُصَلِّينَ، فَقالَ: الظّاهِرُ أنَّ مَعْنى السُّجُودِ هَهُنا الصَّلاةُ، وقَدْ عُبِّرَ عَنْها بِالسُّجُودِ كَثِيرًا، والمُرادُ: فَإذا صَلَّتِ الطّائِفَةُ (أيْ: أتَمَّتْ صَلاتَها) فَلْيَكُونُوا مِن ورائِكم. انْتَهى. الثّامِنُ: قالَ أبُو عَلِيٍّ الجُرْجانِيُّ صاحِبُ النَّظْمِ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: ١٠٢] يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ ﷺ أنْ يَأْتِيَ بِصَلاةِ الخَوْفِ عَلى جِهَةٍ يَكُونُ بِها حاذِرًا، غَيْرَ غافِلٍ عَنْ كَيْدِ العَدُوِّ، والَّذِي نَزَلَ بِهِ القُرْآنُ في هَذا المَوْضِعِ هو وجْهُ الحَذَرِ؛ لِأنَّ العَدُوَّ يَوْمَئِذٍ بِذاتِ الرِّقاعِ كانَ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فالمُسْلِمُونَ كانُوا مُسْتَدْبِرِينَ القِبْلَةَ، ومَتى اسْتَقْبَلُوا القِبْلَةَ صارُوا مُسْتَدْبِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، فَلا جَرَمَ أُمِرُوا بِأنْ يَصِيرُوا طائِفَتَيْنِ: طائِفَةٌ في وجْهِ العَدُوِّ، وطائِفَةٌ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، وأمّا حِينَ كانَ النَّبِيُّ ﷺ بِعُسْفانَ وبِبَطْنِ نَخْلٍ فَإنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ أصْحابَهُ طائِفَتَيْنِ، وذَلِكَ لِأنَّ العَدُوَّ كانَ مُسْتَدْبِرَ القِبْلَةِ، والمُسْلِمُونَ كانُوا مُسْتَقْبِلِينَ لَها، فَكانُوا يَرَوْنَ العَدُوَّ حالَ كَوْنِهِمْ في الصَّلاةِ، فَلَمْ يَحْتاجُوا إلى الِاحْتِراسِ إلّا عِنْدَ السُّجُودِ، فَلا جَرَمَ لَمّا سَجَدَ الصَّفُّ الأوَّلُ بَقِيَ الصَّفُّ الثّانِي يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمّا فَرَغُوا مِنَ السُّجُودِ وقامُوا تَأخَّرُوا وتَقَدَّمَ الصَّفُّ الثّانِي وسَجَدُوا، وكانَ الصَّفُّ الأوَّلُ حالَ قِيامِهِمْ يَحْرُسُونَ الصَّفَّ الثّانِيَ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: ٧١] يَدُلُّ عَلى جَوازِ كُلِّ هَذِهِ الوُجُوهِ. والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الآيَةِ ما ذَكَرْناهُ أنّا لَوْ لَمْ نَحْمِلْها عَلى هَذا الوَجْهِ لَصارَ تَكْرارًا مَحْضًا مِن غَيْرِ فائِدَةٍ، ولَوَقَعَ فِعْلُ الرَّسُولِ بِعُسْفانَ وبِبَطْنِ نَخْلٍ عَلى خِلافِ نَصِّ القُرْآنِ، وإنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ، نَقَلَهُ الرّازِيُّ. وقالَ الخَطابِيُّ: صَلاةُ الخَوْفِ أنْواعٌ صَلّاها النَّبِيُّ ﷺ في أيّامٍ مُخْتَلِفَةٍ وأشْكالٍ مُتَبايِنَةٍ، يُتَحَرّى في ذَلِكَ كُلِّهِ ما هو الأحْوَطُ لِلصَّلاةِ والأبْلَغُ في الحِراسَةِ، فَهي مَعَ اخْتِلافِ صُوَرِها مُتَّفِقَةُ المَعْنى. انْتَهى. وأنْواعُها مُبَيَّنَةٌ في شُرُوحِ السُّنَّةِ، ثُمَّ حَثَّهم تَعالى عَلى الجِهادِ بِقَوْلِهِ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب