الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٦٤ - ٦٦] ﴿إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الكافِرِينَ وأعَدَّ لَهم سَعِيرًا﴾ ﴿خالِدِينَ فِيها أبَدًا لا يَجِدُونَ ولِيًّا ولا نَصِيرًا﴾ [الأحزاب: ٦٥] ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهم في النّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أطَعْنا اللَّهَ وأطَعْنا الرَّسُولا﴾ [الأحزاب: ٦٦] .
﴿إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الكافِرِينَ﴾ أيْ: أبْعَدَهم مِن رَحْمَتِهِ: ﴿وأعَدَّ لَهم سَعِيرًا﴾ أيْ: نارًا شَدِيدَةَ الِاتِّقادِ في الآخِرَةِ: ﴿خالِدِينَ فِيها أبَدًا لا يَجِدُونَ ولِيًّا﴾ [الأحزاب: ٦٥] أيْ: حافِظًا يَتَوَلّاهُمْ: ﴿ولا نَصِيرًا﴾ [الأحزاب: ٦٥] أيْ: يُخَلِّصُهُمْ: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهم في النّارِ﴾ [الأحزاب: ٦٦] أيْ: تُصَرَّفُ مِن جِهَةٍ إلى جِهَةٍ، تَشْبِيهٌ بِقِطْعَةِ لَحْمٍ في قِدْرٍ تَغْلِي، تَرامى بِها الغَلَيانُ مِن جِهَةٍ إلى جِهَةٍ. أوِ المَعْنى: مِن حالٍ إلى حالٍ، فالمُرادُ تَغْيِيرُ هَيْئاتِها مِن سَوادٍ وتَقْدِيدٍ وغَيْرِهِ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وخُصَّتِ الوُجُوهُ بِالذِّكْرِ، لِأنَّ الوَجْهَ أكْرَمُ مَوْضِعٍ عَلى الإنْسانِ مِن جَسَدِهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الوَجْهُ عِبارَةً عَنِ الجُمْلَةِ، وناصِبُ الظَّرْفِ: (يَقُولُونَ)، أوِ (اذْكُرْ)، أوْ (لا يَجِدُونَ)، أوْ (خالِدِينَ)، أوْ (نَصِيرًا): ﴿يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أطَعْنا اللَّهَ وأطَعْنا الرَّسُولا﴾ [الأحزاب: ٦٦] أيْ: فَكُنّا نَنْجُو مِن هَذا العَذابِ.
(p-٤٩١٤)[٦٧-٦٩] ﴿وقالُوا رَبَّنا إنّا أطَعْنا سادَتَنا وكُبَراءَنا فَأضَلُّونا السَّبِيلا﴾ [الأحزاب: ٦٧] ﴿رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذابِ والعَنْهم لَعْنًا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: ٦٨] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأهُ اللَّهُ مِمّا قالُوا وكانَ عِنْدَ اللَّهِ وجِيهًا﴾ [الأحزاب: ٦٩]
﴿وقالُوا رَبَّنا إنّا أطَعْنا سادَتَنا وكُبَراءَنا﴾ [الأحزاب: ٦٧] وهم رُؤَساءُ الكُفْرِ الَّذِينَ لَقَّنُوهُمُ الكُفْرَ وزَيَّنُوهُ لَهم حَتّى قَلَّدُوهم فِيهِ: ﴿فَأضَلُّونا السَّبِيلا﴾ [الأحزاب: ٦٧] أيْ: بِما زَيَّنُوهُ لَنا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وزِيادَةُ الألِفِ لِإطْلاقِ الصَّوْتِ جَعَلَتْ فَواصِلَ الآيِ كَقَوافِي الشِّعْرِ، وفائِدَتُها الوَقْفُ والدَّلالَةُ عَلى أنَّ الكَلامَ قَدِ انْقَطَعَ، وأنَّ ما بَعْدَهُ مُسْتَأْنِفٌ: ﴿رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذابِ﴾ [الأحزاب: ٦٨] أيْ: مِثْلَيِ العَذابِ الَّذِي آتَيْتَناهُ؛ لِأنَّهم ضَلُّوا وأضَلُّوا: ﴿والعَنْهم لَعْنًا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: ٦٨] أيْ: لَعْنًا هو أشَدُّ اللَّعْنِ وأعْظَمُهُ.
وقُرِئَ: (كَثِيرًا)، تَكْثِيرًا لِأعْدادِ اللَّعائِنِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأهُ اللَّهُ مِمّا قالُوا وكانَ عِنْدَ اللَّهِ وجِيهًا﴾ [الأحزاب: ٦٩] لَمّا بَيَّنَ تَعالى وعِيدَ مَن يُؤْذِي نَبِيَّهُ ﷺ، مِنِ اسْتِحْقاقِهِ اللَّعْنَةَ في الدّارَيْنِ، تَعْرِيضًا بِمَن صَدَرَ مِنهم شَيْءٌ مِنَ الأذى في قِصَّةِ زَيْدٍ وزَيْنَبَ، الَّتِي سِيقَتِ السُّورَةُ لِأجْلِها، خَتَمَها أيْضًا بِالوَصِيَّةِ بِالتَّباعُدِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِقَوْمٍ صَدَرَ مِنهم إيذاءٌ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، بِتَنْقِيصِهِ تارَةً، وقِلَّةِ الأدَبِ مَعَهُ طَوْرًا، ونِسْبَتِهِ إلى ما يُنافِي الرِّسالَةَ آوِنَةً، كَما يَمُرُّ كَثِيرٌ مِن ذَلِكَ بِقارِئِي تَوْراتِهِمْ، مِمّا يُنْبِئُ عَنْ عَدَمِ إيفائِهِمْ رِسالَتَهُ ونُبُوَّتَهُ حَقَّها، مِنَ التَّعْظِيمِ لَهُ والصَّلاةِ عَلَيْهِ والتَّسْلِيمِ لِأمْرِهِ وقَضِيَّتِهِ، فَكانَتِ النَّتِيجَةُ أنْ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ورَماهم بِأفانِينَ العُقُوباتِ، ولَحِقَتْهُمُ المَخازِي، وبَرَّأ رَسُولَهُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِن إفْكِهِمْ، ونَزَّهَ مَقامَهُ عَنْ تَنْقِيصِهِمْ، بِأنْ حَقَّقَ فَضْلَهُ، وأسْمى مَنزِلَتَهُ، وآتاهُ الوَجاهَةَ -وهِيَ العَظَمَةُ والقُرْبُ- عِنْدَهُ.
وهَكَذا حَقَّتْ كَلِمَةُ اللَّعْنَةِ والخِزْيِ عَلى مُؤْذِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، (p-٤٩١٥)ولَحِقَهُمُ الدَّمارُ، وشَرَحَ لِنَبِيِّهِ صَدْرَهُ، ورَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وأعْلى مَنزِلَتَهُ، وفَخَّمَ وجاهَتَهُ، ما تَعاقَبَتِ الأدْوارُ، ويَقْرُبُ مِن هَذِهِ الآيَةِ، في المَعْنى والإشارَةِ، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وقَدْ تَعْلَمُونَ أنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهم واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ [الصف: ٥] وفِيهِما كِلْتَيْهِما تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ بِتَأسِّيهِ بِأخِيهِ مُوسى صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِما، وكَثِيرًا ما كانَ يَقُولُ ﷺ في جَوابِ جُفاةِ الأعْرابِ حِينَ ما يَبْلُغُهُ أوْ يَسْمَعُ ما يَكْرَهُ: ««رَحْمَةُ اللَّهِ عَلى مُوسى؛ لَقَدْ أُوذِيَ بِأكْثَرَ مِن هَذا فَصَبَرَ»» .
وقَدْ رَوى المُفَسِّرُونَ هَهُنا آثارًا، أحْسَنُها ما أخْرَجَهُ البَزّارُ عَنْ أنَسٍ مَرْفُوعًا: ««كانَ مُوسى رَجُلًا حَيِيًّا، وأنَّهُ أتى الماءَ لِيَغْتَسِلَ، فَوَضَعَ ثِيابَهُ عَلى صَخْرَةٍ، وكانَ لا يَكادُ تَبْدُو عَوْرَتُهُ، فَقالَ بَنُو إسْرائِيلَ إنَّ مُوسى آدَرُ أوْ بِهِ آفَةٌ؛ يَعْنُونَ أنَّهُ لا يَضَعُ ثِيابَهُ، فاحْتَمَلَتِ الصَّخْرَةُ ثِيابَهُ حَتّى صارَتْ بِحِذاءِ بَنِي إسْرائِيلَ، فَنَظَرُوا إلىمُوسى كَأحْسَنِ الرِّجالِ -أوْ كَما قالَ-»» . فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَبَرَّأهُ اللَّهُ مِمّا قالُوا وكانَ عِنْدَ اللَّهِ وجِيهًا﴾ [الأحزاب: ٦٩] ورَواهُ البُخارِيُّ في (صَحِيحِهِ) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أيْضًا.
قالَ الرّازِيُّ وحَدِيثُ إيذاءِ مُوسى مُخْتَلَفٌ فِيهِ؛ -أيْ: لِكَثْرَةِ الرِّواياتِ فِيهِ- مَعَ أنَّ الإيذاءَ المَذْكُورَ في القُرْآنِ كافٍ كَقَوْلِهِمْ: ﴿فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا﴾ [المائدة: ٢٤] وقَوْلِهِمْ: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥] وقَوْلِهِمْ: ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ﴾ [البقرة: ٦١] إلى غَيْرِ ذَلِكَ. فَقالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: لا تَكُونُوا أمْثالَهُمُ. انْتَهى.
(p-٤٩١٦)وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ كُلُّ ما رُوِيَ مُرادًا، وأنْ يَكُونَ مَعَهُ غَيْرُهُ. انْتَهى؛ أيْ: لِعُمُومِ المَعْمُولِ المَحْذُوفِ، وما بَيَّنّاهُ أوَّلًا، هو الأقْرَبُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
تَنْبِيهاتٌ:
الأوَّلُ (الوَجِيهُ) لُغَةً: بِمَعْنى السَّيِّدِ، كالوَجْهِ، يُقالُ: هَؤُلاءِ وُجُوهُ البَلَدِ ووُجَهاؤُهُ؛ أيْ: أشْرافُهُ، وبِمَعْنى ذِي الجاهِ- والجاهُ القَدْرُ والمَنزِلَةُ، مَقْلُوبٌ عَنْ (وجْهٍ)، فَلَمّا أُخِّرَتِ (الواوُ) إلى مَوْضِعِ (العَيْنِ)، وصارَتْ جَوَهًا، قُلِبَتِ (الواوُ) ألِفًا. فَصارَتْ (جاهًا)، وكَذا في القامُوسِ وشَرْحِهِ.
الثّانِي- قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (وجِيهًا)؛ أيْ: ذا جاهٍ ومَنزِلَةٍ عِنْدَهُ، فَلِذَلِكَ كانَ يُمِيطُ عَنْهُ التُّهَمَ ويَدْفَعُ الأذى ويُحافِظُ عَلَيْهِ لِئَلّا يَلْحَقَهُ وصْمٌ ولا يُوصَفُ بِنَقِيصَةٍ، كَما يَفْعَلُ المَلِكُ بِمَن لَهُ عِنْدَهُ قُرْبَةٌ ووَجاهَةٌ. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أيْ: كانَ مُوسى عِنْدَ اللَّهِ مُشَفَّعًا فِيما يَسْألُ، ذا وجْهٍ ومَنزِلَةٍ عِنْدَهُ، بِطاعَتِهِ إيّاهُ، أيْ: مَقْبُولًا ومُجابًا فِيما يَطْلُبُ لِقَوْمِهِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، عِنايَةً مِنهُ تَعالى وتَفْضِيلًا.
الثّالِثُ- اتَّخَذَ العامَّةُ، وكَثِيرٌ مِنَ المُتَعالِمِينَ، وصْفَ الوَجاهَةِ لِلْأنْبِياءِ ذَرِيعَةً لِلطَّلَبِ والرَّغْبَةِ مِنهُمْ، مِمّا لا يَنْطَبِقُ عَلى عَقْلٍ ولا نَقْلٍ، ولا يُصَدِّقُ عَلى المَعْنى اللُّغَوِيِّ بِوَجْهٍ ما، وقَدْ كَتَبَ في ذَلِكَ الإمامُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ عَبْدُهُ فُتْيا، أبانَ وجْهَ الصَّوابِ فِيما تَشابَهَ مِن هَذِهِ المَسْألَةِ، وذَلِكَ أنَّهُ سُئِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَمَّنْ يَتَوَسَّلُ بِالأنْبِياءِ، والأوْلِياءِ، مُعْتَقِدًا أنَّ النَّبِيَّ أوِ الوَلِيَّ يَسْتَمِيلُ إرادَةَ اللَّهِ تَعالى عَمّا هي عَلَيْهِ، كَما هو المَعْرُوفُ لِلنّاسِ مِن مَعْنى الشَّفاعَةِ والجاهِ عِنْدَ الحاكِمِ، وأنَّ التَّوَسُّلَ بِهِمْ إلى اللَّهِ تَعالى كالتَّوَسُّلِ بِأكابِرِ النّاسِ إلى الحُكّامِ.
فَقالَ امْرُؤٌ: إنَّ هَذا مُخِلٌّ بِالعَقِيدَةِ، وإنَّ قِياسَ التَّوَسُّلِ إلى اللَّهِ تَعالى عَلى التَّوَسُّلِ بِالحُكّامِ مُحالٌ، وإنَّ عَقِيدَةَ التَّوْحِيدِ أنْ لا فاعِلَ ولا نافِعَ ولا ضارَّ إلّا اللَّهُ تَعالى، وإنَّهُ لا يُدْعى مَعَهُ (p-٤٩١٧)أحَدٌ سِواهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أحَدًا﴾ [الجن: ١٨] وإنَّ النَّبِيَّ ﷺ، وإنْ كانَ أعْظَمَ مَنزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعالى مِن جَمِيعِ البَشَرِ، وأعْظَمَ النّاسِ جاهًا ومَحَبَّةً، وأقْرَبَهم إلَيْهِ، لَيْسَ لَهُ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ، ولا يَمْلِكُ لِلنّاسِ ضَرًّا ولا نَفْعًا ولا رَشَدًا ولا غَيْرَهُ، كَما في نَصِّ القُرْآنِ.
وإنَّما هو مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ تَعالى، ولا يُتَوَسَّلُ إلَيْهِ تَعالى إلّا بِالعَمَلِ بِما جاءَ عَلى لِسانِهِ ﷺ، واتِّباعِ ما كانَ عَلَيْهِ الصَّحابَةُ والتّابِعُونَ والأئِمَّةُ المُجْتَهِدُونَ مِن هَدْيِهِ وسُنَّتِهِ، وإنَّهُ لا سَبَبَ لِجَلْبِ المَنافِعِ ودَفْعِ المَضارِّ إلّا ما هَدى اللَّهُ النّاسَ إلَيْهِ، ولا مَعْنى لِلتَّوَسُّلِ بِنَبِيٍّ أوْ ولِيٍّ إلّا بِاتِّباعِهِ والِاقْتِداءِ بِهِ، يُرْشِدُنا إلى هَذا كَثِيرٌ مِنَ الآياتِ الوارِدَةِ في القُرْآنِ العَظِيمِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٣١] ﴿وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام: ١٥٣] إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. وإنْ كانَ هو الصَّوابَ فَأرْجُو إقْرارِي عَلَيْهِ كِتابَةً، لِأُدافِعَ بِذَلِكَ مَن أساءَ بِي الظَّنَّ.
فَأجابَ رَحِمَهُ اللَّهُ، بَعْدَ البَسْمَلَةِ والحَوْقَلَةِ: اعْتِقادُكَ هَذا هو الِاعْتِقادُ الصَّحِيحُ، ولا يَشُوبُهُ شَوْبٌ مِنَ الخَطَأِ، وهو ما يَجِبُ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ يُؤْمِنُ بِما جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ أنْ يَعْتَقِدَهُ؛ فَإنَّ الأساسَ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ رِسالَةُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ هو هَذا المَعْنى مِنَ التَّوْحِيدِ، كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص: ٢] و: "الصَّمَدُ" هو الَّذِي يُقْصَدُ في الحاجاتِ، ويَتَوَجَّهُ إلَيْهِ المُرَبُّونَ في مَعُونَتِهِمْ عَلى ما يَطْلُبُونَ، وإمْدادِهِمْ بِالقُوَّةِ فِيما تَضْعُفُ عَنْهُ قُواهُمْ، والإتْيانُ بِالخَبَرِ عَلى هَذِهِ الصُّورَةِ يُفِيدُ الحَصْرَ، كَما هو مَعْرُوفٌ عِنْدَ أهْلِ اللُّغَةِ، فَلا صَمَدَ إلّا هو.
وقَدْ أرْشَدَنا إلى وُجُوبِ القَصْدِ إلَيْهِ وحْدَهُ بِأصْرَحِ عِبارَةٍ في قَوْلِهِ: ﴿وإذا سَألَكَ عِبادِي عَنِّي فَإنِّي (p-٤٩١٨)قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذا دَعانِ﴾ [البقرة: ١٨٦] وقَدْ قالَ الشَّيْخُ مُحْيِ الدِّينِ بْنُ العَرَبِيِّ، شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ، في صَفْحَةِ ٢٢٦ مِنَ الجُزْءِ الرّابِعِ مِن (فُتُوحاتِهِ) عِنْدَ الكَلامِ عَلى هَذِهِ الآيَةِ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَتْرُكْ لِعَبْدِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ. بَلْ لِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ، فَلا يُتَوَسَّلُ إلَيْهِ بِغَيْرِهِ؛ فَإنَّ التَّوَسُّلَ إنَّما هو طَلَبُ القُرْبِ مِنهُ، وقَدْ أخْبَرَنا اللَّهُ أنَّهُ قَرِيبٌ، وخَبَرُهُ صِدْقٌ. انْتَهى مُلَخَّصًا.
عَلى أنَّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ جَوازَ شَيْءٍ مِمّا عَلَيْهِ العامَّةُ اليَوْمَ في هَذا الشَّأْنِ، إنَّما يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ بِالمُبْهَماتِ، ويَسْلُكُونَ طُرُقًا مِنَ التَّأْوِيلِ لا تَنْطَبِقُ عَلى ما في نُفُوسِ النّاسِ. ويُفَسِّرُونَ الجاهَ والواسِطَةَ بِما لا أثَرَ لَهُ في مُخَيَّلاتِ المُعْتَقِدِينَ. فَأيُّ حالَةٍ تَدْعُوهم إلى ذَلِكَ؟ وبَيْنَ أيْدِيهِمُ القُرُونُ الثَّلاثَةُ الأُولى، ولَمْ يَكُنْ فِيها شَيْءٌ مِن هَذا التَّوَسُّلِ، ولا ما يُشْبِهُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وكُتُبُ السُّنَّةِ والسِّيَرِ بَيْنَ أيْدِينا شاهِدَةٌ بِذَلِكَ، فَكُلُّ ما حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأقَلُّ أوْصافِهِ أنَّهُ (بِدْعَةٌ) في الدِّينِ وكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وكُلُّ ضَلالَةٍ في النّارِ.
وأسْوَأُ البِدَعِ ما كانَ فِيهِ شُبْهَةُ الإشْراكِ بِاللَّهِ تَعالى وسُوءِ الظَّنِّ بِهِ، كَهَذِهِ البِدَعِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ الكَلامِ فِيها، وكَأنَّ هَؤُلاءِ الزّاعِمِينَ يَظُنُّونَ أنَّ في ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِقَدْرِ النَّبِيِّ ﷺ، أوِ الأنْبِياءِ أوِ الأوْلِياءِ، مَعَ أنَّ أفْضَلَ التَّعْظِيمِ لِلْأنْبِياءِ هو الوُقُوفُ عِنْدَما جاءُوا بِهِ، واتِّقاءُ الزِّيادَةِ عَلَيْهِمْ فِيما شَرَعُوهُ بِإذْنِ رَبِّهِمْ. وتَعْظِيمُ الأوْلِياءِ يَكُونُ بِاخْتِيارِ ما اخْتارُوهُ لِأنْفُسِهِمْ. وظَنُّ هَؤُلاءِ الزّاعِمِينَ أنَّ الأنْبِياءَ والأوْلِياءَ يَفْرَحُونَ بِإطْرائِهِمْ، وتَنْظِيمِ المَدائِحِ وعَزْوِها إلَيْهِمْ، وتَفْخِيمِ الألْفاظِ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ، واخْتِراعِ شُؤُونٍ لَهم مَعَ اللَّهِ، لَمْ تَرِدْ في كِتابِ اللَّهِ ولا في سُنَّةِ رَسُولِهِ ولا رَضِيَها السَّلَفُ الصّالِحُ.
هَذا الظَّنُّ بِالأنْبِياءِ والأوْلِياءِ هو أسْوَأُ الظَّنِّ؛ لِأنَّهم شَبَّهُوهم في ذَلِكَ بِالجَبّارِينَ مِن أهْلِ الدُّنْيا، الَّذِينَ غَشِيَتْ أبْصارَهم ظُلُماتُ الجَهْلِ قَبْلَ لِقاءِ المَوْتِ، ولَيْسَ يَخْطُرُ بِالبالِ أنَّ جَبّارًا لَقِيَ المَوْتَ وانْكَشَفَ لَهُ الغِطاءُ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ فِيهِ، يَرْضى أنْ يُفَخِّمَهُ النّاسُ بِما لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ. فَكَيْفَ بِالأنْبِياءِ والصَّدِّيقِينَ؟
إنَّ لَفْظَ الجاهِ الَّذِي يُضِيفُونَهُ إلى الأنْبِياءِ والأوْلِياءِ عِنْدَ التَّوَسُّلِ، مَفْهُومُهُ العُرْفِيُّ هو السُّلْطَةُ. وإنْ شِئْتَ قُلْتَ نَفاذَ الكَلِمَةِ عِنْدَ مَن يُسْتَعْمَلُ عَلَيْهِ أوْ لَدَيْهِ، فَيُقالُ فُلانٌ اغْتَصَبَ مالَ فُلانٍ بِجاهِهِ، ويُقالُ فُلانٌ خَلَّصَ فُلانًا (p-٤٩١٩)مِن عُقُوبَةِ الذَّنْبِ بِجاهِهِ، لَدى الأمِيرِ أوِ الوَزِيرِ مَثَلًا، فَزَعْمُ زاعِمٍ أنَّ لِفُلانٍ جاهًا عِنْدَ اللَّهِ بِهَذا المَعْنى، إشْراكٌ جَلِيٌّ لا خَفِيٌّ، وقَلَّما يَخْطُرُ بِبالِ أحَدٍ مِنَ المُتَوَسِّلِينَ مَعْنى اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ، وهو المَنزِلَةُ والقَدْرُ، عَلى أنَّهُ لا مَعْنى لِلتَّوَسُّلِ بِالقَدْرِ والمَنزِلَةِ نَفْسِها؛ لِأنَّها لَيْسَتْ شَيْئًا يَنْفَعُ. وإنَّما يَكُونُ لِذَلِكَ مَعْنًى، لَوْ أُوِّلَتْ بِصِفَةٍ مِن صِفاتِ اللَّهِ، كالِاجْتِباءِ والِاصْطِفاءِ، ولا عَلاقَةَ لَها بِالدُّعاءِ ولا يُمْكِنُ لِمُتَوَسِّلٍ أنْ يَقْصِدَها في دُعائِهِ، وإنْ كانَ (الآلُوسِيُّ) بَنى تَجْوِيزَ التَّوَسُّلِ بِجاهِ النَّبِيِّ خاصَّةً عَلى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ. وما حَمَلَهُ عَلى هَذا إلّا خَوْفُهُ مِن ألْسِنَةِ العامَّةِ وسِبابِ الجُهّالِ، وهو مِمّا لا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ العارِفِينَ. فالتَّوَسُّلُ بِلَفْظِ الجاهِ مُبْتَدَعٌ بَعْدَ القُرُونِ الثَّلاثَةِ، وفِيهِ شُبْهَةُ الشِّرْكِ والعِياذُ بِاللَّهِ، وشُبْهَةُ العُدُولِ عَمّا جاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، فَلِمَ الإصْرارُ عَلى تَحْسِينِ هَذِهِ البِدْعَةِ؟
يَقُولُ بَعْضُ النّاسِ: إنَّ لَنا عَلى ذَلِكَ حُجَّةً لا أبْلَغَ مِنها. وهي ما رَواهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ إلى عُثْمانَ بْنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «إنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ البَصَرِ أتى النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: ادْعُ اللَّهَ أنْ يُعافِيَنِي. فَقالَ: «إنْ شِئْتَ دَعَوْتَ، وإنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهو خَيْرٌ لَكَ» . قالَ: فادْعُهُ. قالَ فَأمَرَهُ أنْ يَتَوَضَّأ فَيُحْسِنَ الوُضُوءَ، ويَدْعُو بِهَذا الدُّعاءِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ وأتَوَجَّهُ إلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ. يا مُحَمَّدُ! إنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إلى رَبِّي في حاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضى لِي. اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ»» . قالَ التِّرْمِذِيُّ وهو حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
ونَقُولُ أوَّلًا: قَدْ وُصِفَ الحَدِيثُ بِالغَرِيبِ، وهو ما رَواهُ واحِدٌ، ثُمَّ يَكْفِي في لُزُومِ التَّحَرُّزِ عَنِ الأخْذِ بِهِ، أنَّ أهْلَ القُرُونِ الثَّلاثَةِ لَمْ يَقَعْ مِنهم مِثْلُهُ، وهم أعْلَمُ مِنّا بِما يَجِبُ الأخْذُ بِهِ مِن ذَلِكَ، ولا وجْهَ لِابْتِعادِهِمْ عَنِ العَمَلِ بِهِ، إلّا عِلْمُهم بِأنَّ ذَلِكَ مِن بابِ طَلَبِ الِاشْتِراكِ في الدُّعاءِ مِنَ الحَيِّ؛ كَما قالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، في حَدِيثِ الِاسْتِسْقاءِ: إنّا كُنّا نَتَوَسَّلُ (p-٤٩٢٠)إلَيْكَ بِنَبِيِّنا ﷺ فَتَسْقِينا، وإنّا نَتَوَسَّلُ إلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّكَ العَبّاسِ فاسْقِنا، قالَ ذَلِكَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، والعَبّاسُ بِجانِبِهِ يَدْعُو اللَّهَ تَعالى، ولَوْ كانَ التَّوَسُّلُ ما يَزْعُمُ هَؤُلاءِ الزّاعِمُونَ، لَكانَ عُمَرُ يَسْتَسْقِي ويَتَوَسَّلُ بِالنَّبِيِّ ﷺ، ولا يَقُولُ (كُنّا نَسْتَسْقِي بِنَبِيِّكَ)، وطَلَبُ الِاشْتِراكِ في الدُّعاءِ مَشْرُوعٌ حَتّى مِنَ الأخِ لِأخِيهِ، بَلْ ويَكُونُ مِنَ الأعْلى لِلْأدْنى، كَما ورَدَ في الحَدِيثِ، ولَيْسَ فِيهِ ما يَخْشى مِنهُ، فَإنَّ الدّاعِيَ ومَن يُشْرِكُهُ في الدُّعاءِ وهو حَيٌّ، كِلاهُما عَبْدٌ يَسْألُ اللَّهَ تَعالى، والشَّرِيكُ في الدُّعاءِ شَرِيكٌ في العُبُودِيَّةِ، لا وزِيرَ يَتَصَرَّفُ في إرادَةِ الأمِيرِ كَما يَظُنُّونَ: ﴿سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: ١٨٠]
ثُمَّ المَسْألَةُ داخِلَةٌ في بابِ العَقائِدِ، لا في بابِ الأعْمالِ، ذَلِكَ أنَّ الأمْرَ فِيها يَرْجِعُ إلى هَذا السُّؤالِ: هَلْ يَجُوزُ أنْ نَعْتَقِدَ بِأنَّ واحِدًا سِوى اللَّهِ يَكُونُ واسِطَةً بَيْنَنا وبَيْنَ اللَّهِ في قَضاءِ حاجاتِنا أوْ لا يَجُوزُ؟ أمّا الكِتابُ فَصَرِيحٌ في أنَّ تِلْكَ العَقِيدَةَ مِن عَقائِدِ المُشْرِكِينَ، وقَدْ نَعاها عَلَيْهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهم ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: ١٨] سُورَةُ يُونُسَ، وقَدْ جاءَ في السُّورَةِ الَّتِي نَقْرَؤُها كُلَّ يَوْمٍ في الصَّلاةِ: ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] فَلا اسْتِعانَةَ إلّا بِهِ، وقَدْ صَرَّحَ الكِتابُ بِأنَّ أحَدًا لا يَمْلِكُ لِلنّاسِ مِنَ اللَّهِ نَفْعًا ولا ضَرًّا، وهَذا هو التَّوْحِيدُ الَّذِي كانَ أساسَ الرِّسالَةِ المُصْطَفَوِيَّةِ كَما بَيَّنّا.
ثُمَّ البُرْهانُ العَقْلِيُّ يُرْشِدُ إلى أنَّ اللَّهَ تَعالى في أعْمالِهِ لا يُقاسُ بِالحُكّامِ، وأمْثالِهِمْ في التَّحَوُّلِ عَنْ إرادَتِهِمْ، بِما يَتَّخِذُهُ أهْلُ الجاهِ عِنْدَهُمْ، لِتَنَزُّهِهِ جَلَّ شَأْنُهُ عَنْ ذَلِكَ، ولَوْ أرادَ مُبْتَدِعٌ أنْ يَدْعُوَ إلى هَذِهِ العَقِيدَةِ، فَعَلَيْهِ أنْ يُقِيمَ عَلَيْها الدَّلِيلَ المُوَصِّلَ إلى اليَقِينِ، إمّا بِالمُقَدِّماتِ العَقْلِيَّةِ البُرْهانِيَّةِ أوْ بِالأدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ المُتَواتِرَةِ، ولا يُمْكِنُهُ أنْ يَتَّخِذَ حَدِيثًا مِن حَدِيثِ الآحادِ دَلِيلًا عَلى العَقِيدَةِ مَهْما قَوِيَ سَنَدُهُ، فَإنَّ المَعْرُوفَ عِنْدَ الأئِمَّةِ قاطِبَةً أنَّ أحادِيثَ الآحادِ لا تُفِيدُ إلّا الظَّنَّ ﴿وإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم: ٢٨] انْتَهى كَلامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
(p-٤٩٢١)ثُمَّ راجَعْتُ (اقْتِضاءَ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ) لِلْإمامِ العَلَمِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَرَأيْتُهُ ذَكَرَ نَحْوًا مِن ذَلِكَ، وعِبارَتُهُ: فالوَسِيلَةُ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ بِابْتِغائِها، تَعُمُّ الوَسِيلَةَ في عِبادَتِهِ وفي مَسْألَتِهِ، فالتَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ الَّتِي أمَرَ بِها، وبِدُعاءِ الأنْبِياءِ والصّالِحِينَ وشَفاعَتِهِمْ، لَيْسَ هو مِن بابِ الإقْسامِ عَلَيْهِ بِمَخْلُوقاتِهِ، ومِن هَذا البابِ اسْتِشْفاعُ النّاسِ بِالنَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ القِيامَةِ، فَإنَّهم يَطْلُبُونَ مِنهُ أنْ يَشْفَعَ لَهم إلى اللَّهِ، كَما كانُوا في الدُّنْيا يَطْلُبُونَ مِنهُ أنْ يَدْعُوَ لَهم في الِاسْتِسْقاءِ وغَيْرِهِ، وقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (إنّا كُنّا، إذا أجْدَبْنا، تَوَسَّلْنا إلَيْكَ بِنَبِيِّنا فَتَسْقِينا، وإنّا نَتَوَسَّلُ إلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنا). مَعْناهُ نَتَوَسَّلُ بِدُعائِهِ وشَفاعَتِهِ وسُؤالِهِ، ونَحْنُ نَتَوَسَّلُ إلَيْكَ بِدُعاءِ عَمِّهِ وسُؤالِهِ وشَفاعَتِهِ، لَيْسَ المُرادُ بِهِ، إنّا نُقْسِمُ عَلَيْكَ بِهِ، أوْ ما يَجْرِي هَذا المَجْرى مِمّا يَفْعَلُ بَعْدَ مَوْتِهِ وفي مَغِيبِهِ، كَما يَقُولُهُ بَعْضُ النّاسِ: أسْألُكَ بِجاهِ فُلانٍ عِنْدَكَ، ويَقُولُونَ: إنّا نَتَوَسَّلُ إلى اللَّهِ بِأنْبِيائِهِ وأوْلِيائِهِ، ويَرْوُونَ حَدِيثًا مَوْضُوعًا: ««إذا سَألْتُمُ اللَّهَ فاسْألُوهُ بِجاهِي، فَإنَّ جاهِي عِنْدَ اللَّهِ عَرِيضٌ»» فَإنَّهُ لَوْ كانَ هَذا هو التَّوَسُّلَ الَّذِي كانَ الصَّحابَةُ يَفْعَلُونَهُ، كَما ذَكَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَفَعَلُوا ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، ولَمْ يَعْدِلُوا عَنْهُ إلى العَبّاسِ، مَعَ عِلْمِهِمْ أنَّ السُّؤالَ بِهِ والإقْسامَ بِهِ، أعْظَمُ مِنَ العَبّاسِ، فَعُلِمَ أنَّ ذَلِكَ التَّوَسُّلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ، وهو مِمّا يُفْعَلُ بِالأحْياءِ دُونَ الأمْواتِ، وهو التَّوَسُّلُ بِدُعائِهِمْ وشَفاعَتِهِمْ؛ فَإنَّ الحَيَّ يُطْلَبُ مِنهُ ذَلِكَ والمَيِّتَ لا يُطْلَبُ مِنهُ شَيْءٌ، لا دُعاءَ ولا غَيْرَهُ، وكَذَلِكَ حَدِيثُ الأعْمى؛ فَإنَّهُ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ أنْ يَدْعُوَ لَهُ لِيَرُدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ. فَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ ﷺ دُعاءً أمَرَهُ فِيهِ، أنْ يَسْألَ اللَّهَ قَبُولَ شَفاعَةِ نَبِيِّهِ فِيهِ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ شَفَعَ فِيهِ، وأمَرَهُ أنْ يَسْألَ اللَّهَ قَبُولَ شَفاعَتِهِ، وأنَّ قَوْلَهُ ««أسْألُكَ وأتَوَجَّهُ إلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ»» أيْ: بِدُعائِهِ وشَفاعَتِهِ؛ كَما قالَ عُمَرُ: كُنّا نَتَوَسَّلُ إلَيْكَ بِنَبِيِّنا. فَلَفْظُ: (التَّوَجُّهِ)، و(التَّوَسُّلِ) في الحَدِيثَيْنِ بِمَعْنًى واحِدٍ. ثُمَّ قالَ: (يا مُحَمَّدُ! يا رَسُولَ اللَّهِ! إنِّي أتَوَجَّهُ بِكَ إلى رَبِّي في حاجَتِي لِيَقْضِيَها. اللَّهُمَّ! فَشَفِّعْهُ فِيَّ). فَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ أنْ يُشَفِّعَ فِيهِ نَبِيَّهُ. وقَوْلُهُ: (يا مُحَمَّدُ! يا نَبِيَّ اللَّهِ!). هَذا وأمْثالُهُ نِداءٌ. يُطْلَبُ بِهِ اسْتِحْضارُ المُنادى في القَلْبِ، (p-٤٩٢٢)فَيُخاطِبُ المَشْهُودَ بِالقَلْبِ؛ كَما يَقُولُ المُصَلِّي: السَّلامُ عَلَيْكَ أيُّها النَّبِيُّ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ. والإنْسانُ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذا كَثِيرًا، يُخاطِبُ مَن يَتَصَوَّرُهُ في نَفْسِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ في الخارِجِ مَن يَسْمَعُ الخِطابَ، فَلَفْظُ التَّوَسُّلِ بِالشَّخْصِ والتَّوَجُّهُ بِهِ والسُّؤالُ بِهِ، فِيهِ إجْمالٌ واشْتِراكٌ، غَلَطٌ فَسَبَبُهُ مَن لَمْ يَفْهَمْ مَقْصِدَ الصَّحابَةِ، يُرادُ بِهِ التَّشَبُّثُ بِهِ (فِي الأصْلِ التَّسَبُّبُ بِهِ) لِكَوْنِهِ داعِيًا وشافِعًا مَثَلًا، أوْ لِكَوْنِهِ الدّاعِيَ مُحَبَّبًا لَهُ، مُطِيعًا لِأمْرِهِ، مُقْتَدِيًا بِهِ. فَيَكُونُ التَّسَبُّبُ إمّا بِمَحَبَّةِ السّائِلِ لَهُ واتِّباعِهِ لَهُ، وإمّا بِدُعاءِ الوَسِيلَةِ وشَفاعَتِهِ، ويُرادُ بِهِ الإقْسامُ بِهِ والتَّوَسُّلُ بِذاتِهِ، فَلا يَكُونُ التَّوَسُّلُ، لا شَيْءَ مِنهُ ولا شَيْءَ مِنَ السّائِلِ، بَلْ بِذاتِهِ أوْ بِمُجَرَّدِ الإقْسامِ بِهِ عَلى اللَّهِ. فَهَذا الثّانِي هو الَّذِي كَرِهُوهُ ونُهُوا عَنْهُ. انْتَهى.
{"ayahs_start":64,"ayahs":["إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وَأَعَدَّ لَهُمۡ سَعِیرًا","خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ لَّا یَجِدُونَ وَلِیࣰّا وَلَا نَصِیرࣰا","یَوۡمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمۡ فِی ٱلنَّارِ یَقُولُونَ یَـٰلَیۡتَنَاۤ أَطَعۡنَا ٱللَّهَ وَأَطَعۡنَا ٱلرَّسُولَا۠","وَقَالُوا۟ رَبَّنَاۤ إِنَّاۤ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاۤءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِیلَا۠","رَبَّنَاۤ ءَاتِهِمۡ ضِعۡفَیۡنِ مِنَ ٱلۡعَذَابِ وَٱلۡعَنۡهُمۡ لَعۡنࣰا كَبِیرࣰا","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَكُونُوا۟ كَٱلَّذِینَ ءَاذَوۡا۟ مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُوا۟ۚ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِیهࣰا"],"ayah":"یَوۡمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمۡ فِی ٱلنَّارِ یَقُولُونَ یَـٰلَیۡتَنَاۤ أَطَعۡنَا ٱللَّهَ وَأَطَعۡنَا ٱلرَّسُولَا۠"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق