الباحث القرآني

(p-٤٩٠٨)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٥٩] ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ قُلْ لأزْواجِكَ وبَناتِكَ ونِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أدْنى أنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ . ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ قُلْ لأزْواجِكَ وبَناتِكَ ونِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ﴾ جَمْعُ (جِلْبابٍ)، كَسِرْدابٍ، وهو الرِّداءُ فَوْقَ الخِمارِ، تَتَغَطّى بِهِ المَرْأةُ، وهو مَعْنى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: جِلْبابُها مُلاءَتُها تَشْتَمِلُ بِها. وقِيلَ هو الخِمارُ. قالَتْ جَنُوبُ أُخْتُ عَمْرِو ذِي الكَلْبِ تَرْثِيهِ: ؎تَمْشِي النُّسُورُ إلَيْهِ وهي لاهِيَةٌ مَشْيَ العَذارى، عَلَيْهِنَّ الجَلالِيبُ وقالَ آخَرُ يَصِفُ الشَّيْبَ: ؎حَتّى اكْتَسى الرّاسُ قِناعًا أشْهَبا ∗∗∗ أكْرَهَ جِلْبابٍ لِمَن تَجَلْبَبا وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الجِلْبابُ ثَوْبٌ واسِعٌ، أوْسَعُ مِنَ الخِمارِ، ودُونَ الرِّداءِ، تَلْوِيهِ المَرْأةُ عَلى رَأْسِها ويَبْقى مِنهُ ما تُرْسِلُهُ عَلى صَدْرِها، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: الرِّداءُ الَّذِي يَسْتُرُ مِن فَوْقَ إلى أسْفَلَ، ثُمَّ قالَ: ومَعْنى: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ﴾ يُرْخِينَها عَلَيْهِنَّ ويُغَطِّينَ بِها وُجُوهَهُنَّ وأعْطافَهُنَّ، يُقالُ إذا زَلَّ عَنْ وجْهِ المَرْأةِ: أدْنِي ثَوْبَكِ عَلى وجْهِكِ. وذَلِكَ أنَّ النِّساءَ كُنَّ في أوَّلِ الإسْلامِ عَلى هَجِيراهُنَّ في الجاهِلِيَّةِ مُتَبَذِّلاتٍ، تَبْرُزُ المَرْأةُ في دِرْعٍ وخِمارٍ، لا فَصْلَ بَيْنَ الحُرَّةِ والأمَةِ. وكانَ الفِتْيانُ وأهْلُ الشَّطارَةِ يَتَعَرَّضُونَ لِلْإماءِ إذا خَرَجْنَ بِاللَّيْلِ، إلى مَقاضِي حَوائِجِهِنَّ في النَّخِيلِ والغِيطانِ، ورُبَّما تَعَرَّضُوا لِلْحُرَّةِ بِعِلَّةِ الأمَةِ، يَقُولُونَ حَسِبْناها أمَةً، فَأُمِرْنَ أنْ يُخالِفْنَ بِزِيِّهِنَّ عَنْ زِيِّ الإماءِ، بِلِبْسِ الأرْدِيَةِ والمَلاحِفِ وسَتْرِ الرُّؤُوسِ والوُجُوهِ (p-٤٩٠٩)لِيَحْتَشِمْنَ ويُهَبْنَ، فَلا يَطْمَعُ فِيهِنَّ طامِعٌ، وذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ أدْنى أنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ﴾ أيْ: أوْلى وأجْدَرُ بِأنْ يُعْرَفْنَ أنَّهُنَّ حَرائِرُ، فَلا يَتَعَرَّضُ لَهُنَّ ولا يَلْقَيْنَ ما يَكْرَهْنَ. ثُمَّ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى (مِن)، فِي: ﴿مِن جَلابِيبِهِنَّ﴾ قُلْتُ: هو لِلتَّبْعِيضِ، إلّا أنَّ مَعْنى التَّبْعِيضِ مُحْتَمِلٌ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما- أنْ يَتَجَلْبَبْنَ بِبَعْضِ ما لَهُنَّ مِنَ الجَلابِيبِ. والمُرادُ أنْ لا تَكُونَ الحُرَّةُ مُتَبَذِّلَةً في دِرْعٍ وخِمارٍ كالأمَةِ والماهِنَةِ، ولَها جِلْبابانِ فَصاعِدًا في بَيْتِها. والثّانِي- أنْ تُرْخِيَ المَرْأةُ بَعْضَ جِلْبابِها وفَضْلَهُ عَلى وجْهِها، لِتَتَقَنَّعَ حَتّى تَتَمَيَّزَ مِنَ الأمَةِ. انْتَهى. ومِنَ الآثارِ في الآيَةِ، ما رَواهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: أمَرَ اللَّهُ نِساءَ المُؤْمِنِينَ إذا خَرَجْنَ مِن بُيُوتِهِنَّ في حاجَةٍ، أنْ يُغَطِّينَ وُجُوهَهُنَّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِنَّ بِالجَلابِيبِ، ويُبْدِينَ عَيْنًا واحِدَةً. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قالَتْ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ﴾ خَرَجَ نِساءُ الأنْصارِ كَأنَّ عَلى رُؤُوسِهِنَّ الغِرْبانَ، مِنَ السِّكِينَةِ. وعَلَيْهِنَّ أكْسِيَةٌ سُودٌ يَلْبَسْنَها. وأخْرَجَ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ أنَّهُ سَألَ الزُّهْرِيَّ: هَلْ عَلى الوَلِيدَةِ خِمارٌ، مُتَزَوِّجَةٌ أوْ غَيْرُ مُتَزَوِّجَةٍ؟ قالَ: عَلَيْها الخِمارُ إنْ كانَتْ مُتَزَوِّجَةً، وتَنْهى عَنِ الجِلْبابِ؛ لِأنَّهُ يُكْرَهُ لَهُنَّ أنْ يَتَشَبَّهْنَ بِالحَرائِرِ المُحْصَناتِ. تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ- قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: رُوِيَ عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ أنَّهُ قالَ: لا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلى زِينَةِ نِساءِ أهْلِ الذِّمَّةِ، وإنَّما نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ لِخَوْفِ الفِتْنَةِ، لا لِحُرْمَتِهِنَّ، واسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونِساءِ المُؤْمِنِينَ﴾ انْتَهى. الثّانِي- قالَ السُّبْكِيُّ في (طَبَقاتِهِ): اسْتَنْبَطَ أحْمَدُ بْنُ عِيسى، مِن فُقَهاءِ الشّافِعِيَّةِ، مِن هَذِهِ الآيَةِ أنَّ ما يَفْعَلُهُ العُلَماءُ والسّاداتُ، مِن تَغْيِيرِ لِباسِهِمْ وعَمائِمِهِمْ، أمْرٌ حَسَنٌ. وإنْ لَمْ يَفْعَلْهُ السَّلَفُ؛ لِأنَّ فِيهِ تَمْيِيزًا لَهم حَتّى يَعْرِفُوا، فَيَعْمَلُ بِأقْوالِهِمُ. انْتَهى. (p-٤٩١٠)الثّالِثُ- قالَ الشِّهابُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُدْنِينَ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مَقُولَ القَوْلِ. وهو خَبَرٌ بِمَعْنى الأمْرِ، أوْ جَوابِ الأمْرِ، عَلى حَدٍّ: ﴿قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [إبراهيم: ٣١] انْتَهى: ﴿وكانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾ أيْ: لِما سَلَفَ مِنهُنَّ مِنَ التَّفْرِيطِ: ﴿رَحِيمًا﴾ أيْ: بِعِبادِهِ، حَيْثُ يُراعِي مَصالِحَهم حَتّى الجُزْئِيّاتِ مِنها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب