الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٣٨ - ٣٩] ﴿فَآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ والمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وجْهَ اللَّهِ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ ﴿وما آتَيْتُمْ مِن رِبًا لِيَرْبُوَ في أمْوالِ النّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وما آتَيْتُمْ مِن زَكاةٍ تُرِيدُونَ وجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ﴾ [الروم: ٣٩]
﴿فَآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ﴾ أيْ: مِنَ البِرِّ والصِّلَةِ، واسْتَدَلَّ بِهِ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلى وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْمَحارِمِ إذا كانُوا مُحْتاجِينَ عاجِزِينَ عَنِ الكَسْبِ؛ لِأنَّ (آتِ): أمْرٌ لِلْوُجُوبِ. والظّاهِرُ مِنَ: (الحَقِّ)، بِقَرِينَةِ ما قَبْلَهُ أنَّهُ ما لِيَ، وهو اسْتِدْلالٌ مَتِينٌ: ﴿والمِسْكِينَ﴾ وهو الَّذِي لا شَيْءَ لَهُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، أوْ لَهُ شَيْءٌ لا يَقُومُ بِكِفايَتِهِ: ﴿وابْنَ السَّبِيلِ﴾ أيِ: السّائِلَ فِيهِ، والَّذِي انْقَطَعَ بِهِ، وحَقُّهُما هو نَصِيبُهُما مِنَ الصَّدَقَةِ والمُواساةِ: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وجْهَ اللَّهِ﴾ أيِ: النَّظَرَ إلَيْهِ يَوْمَ القِيامَةِ، وهو الغايَةُ القُصْوى، أوْ يُرِيدُونَ ذاتَهُ بِمَعْرُوفِهِمْ لا رِياءَ ولا سُمْعَةَ، ولا مُكافَأةَ يَدٍ، كَما قالَ تَعالى: ﴿الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكّى﴾ [الليل: ١٨] ﴿وما لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزى﴾ [الليل: ١٩] ﴿إلا ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِ الأعْلى﴾ [الليل: ٢٠] ﴿وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ أيْ: في الدُّنْيا والآخِرَةِ.
﴿وما آتَيْتُمْ مِن رِبًا﴾ [الروم: ٣٩] أيْ: مالٍ تُرابُونَ فِيهِ: ﴿لِيَرْبُوَ في أمْوالِ النّاسِ﴾ [الروم: ٣٩] أيْ: لِيَزِيدَ في أمْوالِهِمْ؛ إذْ تَأْخُذُونَ فِيهِ أكْثَرَ مِنهُ: ﴿فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٩] أيْ: لا يَزْكُو ولا يَنْمُو (p-٤٧٨٢)ولا يُبارِكُ فِيهِ، بَلْ يَمْحَقُهُ مَحْقَ ما لا عاقِبَةَ لَهُ عِنْدَهُ إلّا الوَبالُ والنَّكالُ، وذُكِرَ في تَفْسِيرِها مَعْنًى آخَرَ، وهو أنْ يَهَبَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ، أوْ يَهْدِيَ لَهُ لِيُعَوِّضَهُ أكْثَرَ مِمّا وهَبَ أوْ أهْدى. فَلَيْسَتْ تِلْكَ الزِّيادَةُ بِحَرامٍ، وتَسْمِيَتْها رِبًا مَجازٌ؛ لِأنَّها سَبَبُ الزِّيادَةِ.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَذا الصَّنِيعُ مُباحٌ وإنْ كانَ لا ثَوابَ فِيهِ، إلّا أنَّهُ نَهى عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خاصَّةً، قالَهُ الضَّحّاكُ، واسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر: ٦] أيْ: لا تُعْطِ العَطاءَ، تُرِيدُ أكْثَرَ مِنهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الرِّبا رِباءانِ، فَرِبًا لا يَصِحُّ، يَعْنِي رِبا البَيْعِ، ورِبًا لا بَأْسَ بِهِ، وهو هَدِيَّةُ الرَّجُلِ، يُرِيدُ فَضْلَها وإضْعافَها. انْتَهى.
وأقُولُ: في ذَلِكَ كُلِّهِ نَظَرٌ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ- أنَّ هَذِهِ الآيَةَ شَبِيهَةٌ بِآيَةِ: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا ويُرْبِي الصَّدَقاتِ﴾ [البقرة: ٢٧٦] وهي في رِبا البَيْعِ الَّذِي كانَ فاشِيًا في أهْلِ مَكَّةَ حَتّى صارَ مَلَكَةً راسِخَةً فِيهِمُ، امْتَصُّوا بِها ثَرْوَةَ كَثِيرٍ مِنَ البُؤَساءِ، مِمّا خَرَجَ عَنْ طَوْرِ الرَّحْمَةِ والشَّفَقَةِ والكَمالِ البَشَرِيِّ. فَنَعى عَلَيْهِمْ حالَهُمْ، طَلَبًا لِتَزْكِيَتِهِمْ بِتَوْبَتِهِمْ مِنهُ، ثُمَّ أكَّدَ ذَلِكَ في مِثْلِ هَذِهِ الآيَةِ؛ مُبالَغَةً في الزَّجْرِ.
الثّانِي- أنَّ الرِّبا، عَلى ما ذُكِرَ، مَجازٌ، والأصْلُ في الإطْلاقِ الحَقِيقَةُ، إلّا لِصارِفٍ يُرْشِدُ إلَيْهِ دَلِيلُ الشَّرْعِ، أوِ العَقْلِ، ولا واحِدَ مِنهُما هُنا؛ إذْ لا مُوجَبَ لَهُ.
الثّالِثُ- دَعْوى أنَّ الهِبَةَ المَذْكُورَةَ مُباحَةٌ، لا بَأْسَ بِها بَعْدَ كَوْنِها هي المُرادَةُ مِنَ الآيَةِ بَعِيدَةٌ غايَةَ البُعْدِ؛ لِأنَّ في أُسْلُوبِها مِنَ التَّرْهِيبِ والتَّحْذِيرِ ما يَجْعَلُها في مَصافِّ المُحَرَّماتِ، ودَلالَةُ الأُسْلُوبِ مِن أدِلَّةِ التَّنْزِيلِ القَوِيَّةِ، كَما تَقَرَّرَ في مَوْضِعِهِ.
الرّابِعُ- زَعْمُ أنَّ المَنهِيَّ عَنْهُ هو الحَضْرَةُ النَّبَوِيَّةُ خاصَّةً، لا دَلِيلَ عَلَيْهِ إلّا ظاهِرُ الخِطابِ، ولَيْسَ قاطِعًا؛ لِأنَّ اخْتِصاصَ الخِطابِ لا يُوجِبُ اخْتِصاصَ الحُكْمِ عَلى التَّحْقِيقِ، لا يُقالُ الأصْلُ وُجُوبُ (p-٤٧٨٣)حَمْلِ اللَّفْظِ عَلى حَقِيقَتِهِ، وحَمْلُهُ عَلى المَجازِ لا يَكُونُ إلّا بِدَلِيلٍ، وكَذا ما يُقالُ إنَّ ثُبُوتَ الحُكْمِ في غَيْرِ مَحَلِّ الخِطابِ يَفْتَقِرُ إلى دَلِيلٍ- لِأنّا نَقُولُ: الأصْلُ في التَّشْرِيعاتِ العُمُومُ، إلّا ما قامَ الدَّلِيلُ القاطِعُ عَلى التَّخْصِيصِ بِالتَّنْصِيصِ، ولَيْسَ مِنهُ شَيْءٌ هُنا. وقَدْ عُهِدَ في التَّنْزِيلِ تَخْصِيصٌ مُرادٌ بِهِ التَّعْمِيمُ إجْماعًا، كَآيَةِ: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ [الأحزاب: ١] وأمْثالُها.
الخامِسُ- أنَّ في هَذا المَنهِيِّ عَنْهُ مِن إصْعادِ المَرْءِ إلى ذُرْوَةِ المُحْسِنِينَ الأعِفّاءِ، الَّذِينَ لا يُتْبِعُونَ قُلُوبَهم نَفَقَتَهُمْ، ما يُبَيِّنُ أنَّهُ شامِلٌ لِسائِرِهِمْ، لِما فِيهِ مِن تَرْبِيَةِ إرادَتِهِمْ وتَهْذِيبِ أخْلاقِهِمْ. بَلْ لَوْ قِيلَ إنَّ الخِطابَ لَهُ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، والمُرادُ غَيْرُهُ، كَما قالُوهُ في كَثِيرٍ مِنَ الآيِ- لَمْ يَبْعُدْ؛ لِما تَقَرَّرَ مِن عِصْمَتِهِ ونَزاهَتِهِ عَنْ هَذا الخُلُقِ، في سِيرَتِهِ الزَّكِيَّةِ، وحِينَئِذٍ فالوَجْهُ في الآيَةِ هو الأوَّلُ، وعَلَيْهِ المُعَوِّلُ. واللَّهُ أعْلَمُ: ﴿وما آتَيْتُمْ مِن زَكاةٍ﴾ [الروم: ٣٩] أيْ: مالٍ تَتَزَكَّوْنَ بِهِ مِن رِجْسِ الشُّحِّ، ودَنَسِ البُخْلِ: ﴿تُرِيدُونَ وجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ﴾ [الروم: ٣٩] أيْ: ذَوُو الأضْعافِ مِنَ الثَّوابِ، جَمْعُ (مُضْعِفٍ)، اسْمُ فاعِلٍ (مِن أضْعَفَ)، إذا صارَ ذا ضِعْفٍ -(بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ)- بِأنْ يُضافَ لَهُ ثَوابُ ما أعْطاهُ، (كَأقْوى وأيْسَرَ)، إذا صارَ ذا قُوَّةٍ ويَسارٍ. فَهو لِصَيْرُورَةِ الفاعِلِ ذا أصْلُهُ، أوِ الَّذِينَ ضَعَّفُوا ثَوابَهم وأمْوالَهم بِبَرَكَةِ ما أنْفَقُوا، عَلى أنَّهُ (مِن أضْعَفَ) والهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ، ومَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ، وهو ما ذُكِرَ.
{"ayahs_start":38,"ayahs":["فَـَٔاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِینَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِۚ ذَ ٰلِكَ خَیۡرࣱ لِّلَّذِینَ یُرِیدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ","وَمَاۤ ءَاتَیۡتُم مِّن رِّبࣰا لِّیَرۡبُوَا۟ فِیۤ أَمۡوَ ٰلِ ٱلنَّاسِ فَلَا یَرۡبُوا۟ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَاۤ ءَاتَیۡتُم مِّن زَكَوٰةࣲ تُرِیدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُضۡعِفُونَ"],"ayah":"وَمَاۤ ءَاتَیۡتُم مِّن رِّبࣰا لِّیَرۡبُوَا۟ فِیۤ أَمۡوَ ٰلِ ٱلنَّاسِ فَلَا یَرۡبُوا۟ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَاۤ ءَاتَیۡتُم مِّن زَكَوٰةࣲ تُرِیدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُضۡعِفُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق