الباحث القرآني

اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ٧ ] ﴿هُوَ الَّذِي أنْـزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا وما يَذَّكَّرُ إلا أُولُو الألْبابِ﴾ . ﴿هُوَ الَّذِي أنْـزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ﴾ واضِحاتُ الدِّلالَةِ: ﴿هُنَّ (p-٧٥٢)أُمُّ الكِتابِ﴾ أيْ: أصْلُهُ المُعْتَمَدُ عَلَيْهِ في الأحْكامِ: ﴿وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾ وهي: ما اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِها لِعَدَمِ اتِّضاحِ حَقِيقَتِها الَّتِي أخْبَرَ عَنْها، أوْ ما احْتَمَلَتْ أوْجُهًا. وجَعَلَهُ كُلَّهُ مُحْكَمًا في قَوْلِهِ: ﴿أُحْكِمَتْ آياتُهُ﴾ [هود: ١] بِمَعْنى أنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عَيْبٌ، وأنَّهُ كَلامٌ حَقٌّ فَصِيحُ الألْفاظِ، صَحِيحُ المَعانِي. ومُتَشابِهًا في قَوْلِهِ: ﴿كِتابًا مُتَشابِهًا﴾ [الزمر: ٢٣] بِمَعْنى أنَّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا في الحُسْنِ، ويُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا: ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ أيْ: مَيْلٌ عَنْ اسْتِقامَةٍ إلى كُفْرٍ وأهْواءٍ وابْتِداعٍ: ﴿فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ﴾ أيْ: طَلَبِ الإيقاعِ في الشُّبَهاتِ واللَّبْسِ: ﴿وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ﴾ وحْدَهُ: ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ أيْ: الثّابِتُونَ المُتَمَكِّنُونَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ: ﴿يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ﴾ أيْ: بِالمُتَشابِهِ عَلى ما أرادَ اللَّهُ تَعالى: ﴿كُلٌّ﴾ مِنَ المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ: ﴿مِن عِنْدِ رَبِّنا وما يَذَّكَّرُ إلا أُولُو الألْبابِ﴾ أيْ: العُقُولِ الخالِصَةِ مِنَ الرُّكُونِ إلى الأهْواءِ الزّائِغَةِ. وهو تَذْيِيلٌ سِيقَ مِنهُ تَعالى مَدْحًا لِلرّاسِخِينَ بِجَوْدَةِ الذِّهْنِ وحُسْنِ النَّظَرِ. تَنْبِيهٌ: لِلْعُلَماءِ في المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ أقْوالٌ كَثِيرَةٌ، ومَباحِثُ واسِعَةٌ، وأبْدَعَ ما رَأيْتُهُ في تَحْرِيرِ هَذا المَقامِ مَقالَةٌ سابِغَةُ الذَّيْلِ لِشَيْخِ الإسْلامِ تَقِيِّ الدِّينِ أحْمَدَ بْنِ تَيْمِيَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ والرِّضْوانُ - . يَقُولُ في خِلالِها: اَلْمُحْكَمُ في القُرْآنِ، تارَةً يُقابَلُ بِالمُتَشابِهِ، والجَمِيعُ مِن آياتِ اللَّهِ، وتارَةً يُقابَلُ بِما نَسَخَهُ اللَّهُ، مِمّا ألْقاهُ الشَّيْطانُ. ومِنَ النّاسِ مَن يَجْعَلُهُ مُقابِلًا لِما نَسَخَهُ اللَّهُ مُطْلَقًا حَتّى يَقُولَ: هَذِهِ الآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَيْسَتْ مَنسُوخَةً، ويَجْعَلَ المَنسُوخَ لَيْسَ مُحْكَمًا، وإنْ كانَ اللَّهُ أنْزَلَهُ أوَّلًا اتِّباعًا لِلظّاهِرِ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ﴾ [الحج: ٥٢] فَهَذِهِ ثَلاثَةُ مَعانٍ تُقابِلُ المُحْكَمَ، يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَها. وجِماعُ ذَلِكَ أنَّ الإحْكامَ تارَةً يَكُونُ في التَّنْزِيلِ. فَيَكُونُ في مُقابَلَتِهِ ما يُلْقِيهِ الشَّيْطانُ. فالمُحْكَمُ المُنَزَّلُ مِن عِنْدِ اللَّهِ أحْكَمَهُ اللَّهُ، أيْ: فَصَّلَهُ مِنَ الِاشْتِباهِ بِغَيْرِهِ، وفَصَّلَ مِنهُ ما لَيْسَ مِنهُ، فَإنَّ الإحْكامَ هو الفَصْلُ والتَّمْيِيزُ والفَرْقُ والتَّحْدِيدُ الَّذِي بِهِ يَتَحَقَّقُ الشَّيْءُ ويَحْصُلُ إتْقانُهُ، (p-٧٥٣)ولِهَذا دَخَلَ فِيهِ مَعْنى المَنعِ، كَما دَخَلَ في الحَدِّ بِالمَنعِ جُزْءُ مَعْناهُ، لا جَمِيعُ مَعْناهُ، وتارَةً يَكُونُ في إبْقاءِ التَّنْزِيلِ عِنْدَ مَن قابَلَهُ بِالنَّسْخِ الَّذِي هو رَفْعُ ما شُرِّعَ، وهو اصْطِلاحِيٌّ. أوْ يُقالُ: (وهو أشْبَهُ): السَّلَفُ كانُوا يُسَمُّونَ كُلَّ رَفْعٍ نَسْخًا، سَواءٌ كانَ رَفْعَ حُكْمٍ، أوْ رَفْعَ دِلالَةٍ ظاهِرَةٍ، فَكُلُّ ظاهِرٍ تُرِكَ ظاهِرُهُ لِمُعارِضٍ راجِحٍ كَتَخْصِيصِ العامِّ وتَقْيِيدِ المُطْلَقِ، فَهو مَنسُوخٌ في اصْطِلاحِ السَّلَفِ، وإلْقاءُ الشَّيْطانِ في أُمْنِيَّتِهِ قَدْ يَكُونُ في نَفْسِ لَفْظِ المُبَلِّغِ، وقَدْ يَكُونُ في مَسْمَعِ المُبَلَّغِ، وقَدْ يَكُونُ في فَهْمِهِ، كَما قالَ: ﴿أنْـزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها﴾ [الرعد: ١٧] ومَعْلُومٌ أنَّ مَن سَمِعَ، سَمِعَ النَّصِّ الَّذِي قَدْ رُفِعَ حُكْمُهُ، أوْ دِلالَةٌ لَهُ، فَإنَّهُ يُلْقِي الشَّيْطانُ في تِلْكَ التِّلاوَةِ اتِّباعَ ذَلِكَ المَنسُوخِ، فَيُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ بِالنّاسِخِ الَّذِي بِهِ رُفِعَ الحُكْمُ، وبانَ المُرادُ. وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ، فَيَصِحُّ أنْ يُقالَ: المُتَشابِهُ والمَنسُوخُ، بِهَذا الِاعْتِبارِ. واَللَّهُ أعْلَمُ. وتارَةً يَكُونُ الإحْكامُ في التَّأْوِيلِ والمَعْنى، وهو تَمْيِيزُ الحَقِيقَةِ المَقْصُودَةِ مِن غَيْرِها، حَتّى لا تَشْتَبِهَ بِغَيْرِها. وفي مُقابَلَةِ المُحْكَماتِ الآياتُ المُتَشابِهاتُ الَّتِي تُشْبِهُ هَذا وتُشْبِهُ هَذا. فَتَكُونُ مُحْتَمِلَةً لِلْمَعْنَيَيْنِ، ولَمْ يَقُلْ في المُتَشابِهِ: (لا يَعْلَمُ تَفْسِيرَهُ ومَعْناهُ إلّا اللَّهُ)، وإنَّما قالَ: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ﴾ وهَذا هو فَصْلُ الخِطابِ بَيْنَ المُتَنازِعِينَ في هَذا المَوْضِعِ. فَإنَّ اللَّهَ أخْبَرَ أنَّهُ لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا هو. والوَقْفُ هُنا، عَلى ما دَلَّ عَلَيْهِ أدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ، وعَلَيْهِ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وجُمْهُورُ التّابِعِينَ، وجَماهِيرُ الأُمَّةِ. ولَكِنْ لَمْ يَنْفِ عِلْمَهم بِمَعْناهُ وتَفْسِيرِهِ، بَلْ قالَ: ﴿كِتابٌ أنْـزَلْناهُ إلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ﴾ [ص: ٢٩] وهَذا يَعُمُّ الآياتِ (p-٧٥٤)اَلْمُحْكَماتِ والآياتِ المُتَشابِهاتِ. وما لا يُعْقَلُ لَهُ مَعْنًى لا يُتَدَبَّرُ، وقالَ: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ﴾ [النساء: ٨٢] ولَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا مِنهُ نَهى عَنْ تَدَبُّرِهِ. واَللَّهُ ورَسُولُهُ إنَّما ذَمَّ مَن اتَّبَعَ المُتَشابِهَ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، فَأمّا مَن تَدَبَّرَ المُحْكَمَ والمُتَشابِهَ كَما أمَرَ اللَّهُ، وطَلَبَ فَهْمَهُ ومَعْرِفَةَ مَعْناهُ، فَلَمْ يَذُمَّهُ اللَّهُ، بَلْ أمَرَ بِذَلِكَ ومَدَحَ عَلَيْهِ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أنَّ التَّأْوِيلَ، قَدْ رُوِيَ أنَّ اليَهُودَ الَّذِينَ كانُوا بِالمَدِينَةِ عَلى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ كَحُيَيِّ بْنِ أخْطَبَ، وغَيْرِهِ مَن طَلَبَ مِن حُرُوفِ الهِجاءِ الَّتِي في أوائِلِ السُّوَرِ بَقاءَ هَذِهِ الأُمَّةِ، كَما سَلَكَ ذَلِكَ طائِفَةٌ مِنَ المُتَأخِّرِينَ مُوافَقَةً لِلصّابِئَةِ المُنَجِّمِينَ، وزَعَمُوا أنَّهُ سِتُّمِائَةٍ وثَلاثَةٌ وتِسْعُونَ عامًا، لِأنَّ ذَلِكَ هو عَدَدُ ما لِلْحُرُوفِ في حِسابِ الجُمَلِ، بَعْدَ إسْقاطِ المُكَرَّرِ. وهَذا مِن نَوْعِ تَأْوِيلِ الحَوادِثِ الَّتِي أخْبَرَ بِها القُرْآنُ في اليَوْمِ الآخِرِ. ورُوِيَ أنَّ مِنَ النَّصارى الَّذِينَ وفَدُوا عَلى النَّبِيِّ ﷺ في وفْدِ نَجْرانَ مَن تَأوَّلَ (إنّا ونَحْنُ) عَلى أنَّ الآلِهَةَ ثَلاثَةٌ، لِأنَّ هَذا ضَمِيرُ جَمْعٍ. وهَذا تَأْوِيلٌ في الإيمانِ بِاَللَّهِ. فَأُولَئِكَ تَأوَّلُوا في اليَوْمِ الآخِرِ. وهَؤُلاءِ تَأوَّلُوا في اللَّهِ. ومَعْلُومٌ أنْ (أنا ونَحْنُ) مِنَ المُتَشابِهِ. فَإنَّهُ يُرادُ بِها الواحِدُ الَّذِي مَعَهُ غَيْرُهُ مِن جِنْسِهِ، ويُرادُ بِها الواحِدُ الَّذِي مَعَهُ أعْوانُهُ وإنْ لَمْ يَكُونُوا مِن جِنْسِهِ، ويُرادُ الواحِدُ المُعَظِّمُ نَفْسَهُ، الَّذِي يَقُومُ مَقامَهُ مَن مَعَهُ غَيْرُهُ لِتَنَوُّعِ أسْمائِهِ الَّتِي كُلُّ اسْمٍ مِنها يَقُومُ مَقامَ مُسَمًّى. فَصارَ هَذا مُتَشابِهًا لِأنَّ اللَّفْظَ واحِدٌ، والمَعْنى مُتَنَوِّعٌ، والأسْماءُ المُشْتَرِكَةُ في اللَّفْظِ هي مِنَ المُتَشابِهِ، وبَعْضُ المُتَواطِئِ أيْضًا مِنَ المُتَشابِهِ. ويُسَمِّيها أهْلُ التَّفْسِيرِ: (الوُجُوهَ والنَّظائِرَ) وصَنَّفُوا كُتُبَ الوُجُوهِ والنَّظائِرِ. فالوُجُوهُ في الأسْماءِ المُشْتَرِكَةِ، والنَّظائِرُ في الأسْماءِ المُتَواطِئَةِ. وقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أصْحابِنا المُصَنِّفِينَ في ذَلِكَ أنَّ الوُجُوهَ والنَّظائِرَ جَمِيعًا في الأسْماءِ المُشْتَرِكَةِ، فَهي نَظائِرُ بِاعْتِبارِ اللَّفْظِ، ووُجُوهٌ بِاعْتِبارِ المَعْنى، ولَيْسَ الأمْرُ عَلى ما قالَهُ، (p-٧٥٥)بَلْ كَلامُهم صَرِيحٌ فِيما قُلْناهُ لِمَن تَأمَّلَهُ، واَلَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يَدَعُونَ المُحْكَمَ الَّذِي لا اشْتِباهَ فِيهِ مِثْلَ: ﴿وإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ﴾ [البقرة: ١٦٣] ﴿إنَّنِي أنا اللَّهُ لا إلَهَ إلا أنا فاعْبُدْنِي﴾ [طه: ١٤] ﴿ما اتَّخَذَ اللَّهُ مِن ولَدٍ وما كانَ مَعَهُ مِن إلَهٍ﴾ [المؤمنون: ٩١] ﴿ولَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ﴾ [الفرقان: ٢] ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: ٣] ﴿ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤] ويَتَّبِعُونَ المُتَشابِهَ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ لِيَفْتِنُوا بِهِ النّاسَ إذا وضَعُوهُ عَلى غَيْرِ مَواضِعِهِ، وحَرَّفُوا الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ. وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وهو الحَقِيقَةُ الَّتِي أخْبَرَ عَنْها. وذَلِكَ أنَّ الكَلامَ نَوْعانِ: إنْشاءٌ فِيهِ الأمْرُ، وإخْبارٌ. فَتَأْوِيلُ الأمْرِ هو نَفْسُ الفِعْلِ المَأْمُورِ بِهِ، كَما قالَ مَن قالَ مِنَ السَّلَفِ: إنَّ السُّنَّةَ هي تَأْوِيلُ الأمْرِ. قالَتْ عائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. يَتَأوَّلُ القُرْآنَ، تَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كانَ تَوّابًا﴾ [النصر: ٣]» وأمّا الإخْبارُ فَتَأْوِيلُهُ عَيْنُ الأمْرِ المُخْبَرِ بِهِ إذا وقَعَ، (p-٧٥٦)لَيْسَ تَأْوِيلُهُ فَهْمَ مَعْناهُ، وقَدْ جاءَ اسْمُ التَّأْوِيلِ في القُرْآنِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ. وهَذا مَعْناهُ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ جِئْناهم بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدًى ورَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ٥٢] ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالحَقِّ﴾ [الأعراف: ٥٣] فَقَدْ أخْبَرَ أنَّهُ فَصَّلَ الكِتابَ، وتَفْصِيلُهُ بَيانُهُ وتَمْيِيزُهُ بِحَيْثُ لا يَشْتَبِهُ، ثُمَّ قالَ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ [الأعراف: ٥٣] أيْ: يَنْتَظِرُونَ ﴿إلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [الأعراف: ٥٣] إلى آخِرِ الآيَةِ. وإنَّما ذَلِكَ مَجِيءُ ما أخْبَرَ بِهِ القُرْآنُ بِوُقُوعِهِ مِنَ القِيامَةِ وأشْراطِها، كالدّابَّةِ ويَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ وطُلُوعِ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها ومَجِيءِ رَبِّكَ والمَلَكِ صَفًّا صَفًّا، وما في الآخِرَةِ مِنَ الصُّحُفِ والمَوازِينِ والجَنَّةِ والنّارِ وأنْواعِ النَّعِيمِ والعَذابِ وغَيْرِ ذَلِكَ. فَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ: ﴿قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالحَقِّ فَهَلْ لَنا مِن شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ﴾ [الأعراف: ٥٣] وهَذا القَدْرُ الَّذِي أخْبَرَ بِهِ القُرْآنُ مِن هَذِهِ الأُمُورِ لا يَعْلَمُ وقْتَهُ وقَدْرَهُ وصِفَتَهُ إلّا اللَّهُ، فَإنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهم مِن قُرَّةِ أعْيُنٍ﴾ [السجدة: ١٧] ويَقُولُ: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَيْسَ في الدُّنْيا مِمّا في الجَنَّةِ إلّا الأسْماءُ، فَإنَّ اللَّهَ قَدْ أخْبَرَ أنَّ في الجَنَّةِ خَمْرًا ولَبَنًا وماءً وحَرِيرًا وذَهَبًا وفِضَّةً وغَيْرَ ذَلِكَ. ونَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أنَّ تِلْكَ الحَقِيقَةَ لَيْسَتْ مُماثِلَةً لِهَذِهِ، بَلْ بَيْنَهُما تَبايُنٌ عَظِيمٌ مَعَ (p-٧٥٧)التَّشابُهِ. كَما في قَوْلِهِ: ﴿وأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] عَلى أحَدِ القَوْلَيْنِ، أيْ: يُشْبِهُ ما في الدُّنْيا، ولَيْسَ مِثْلَهُ، فَأشْبَهَ اسْمُ تِلْكَ الحَقائِقِ أسْماءَ هَذِهِ الحَقائِقِ، كَما أشْبَهَتْ الحَقائِقُ الحَقائِقَ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ، فَنَحْنُ نَعْلَمُها إذا خُوطِبْنا بِتِلْكَ الأسْماءِ مِنَ القَدَرِ المُشْتَرِكِ بَيْنَهُما، ولَكِنْ لِتِلْكَ الحَقائِقِ خاصِّيَّةٌ لا نُدْرِكُها في الدُّنْيا، ولا سَبِيلَ إلى إدْراكِنا لَها لِعَدَمِ إدْراكِ عَيْنِها أوْ نَظِيرِها مِن كُلِّ وجْهٍ، وتِلْكَ الحَقائِقُ عَلى ما هي تَأْوِيلٌ ما أخْبَرَ اللَّهُ بِهِ، وهَذا فِيهِ رَدٌّ عَلى اليَهُودِ والنَّصارى والصّابِئِينَ مِنَ المُتَفَلْسِفَةِ وغَيْرِهِمْ. فَإنَّهم يُنْكِرُونَ أنْ يَكُونَ في الجَنَّةِ أكْلٌ وشُرْبٌ ولِباسٌ ونِكاحٌ، ويَمْنَعُونَ وُجُودَ ما أخْبَرَ بِهِ القُرْآنُ. ومَن دَخَلَ في الإسْلامِ ونافَقَ المُؤْمِنِينَ، تَأوَّلَ ذَلِكَ عَلى أنَّ هَذِهِ أمْثالٌ مَضْرُوبَةٌ لِتَفْهِيمِ النَّعِيمِ الرُّوحانِيِّ، إنْ كانَ مِنَ المُتَفَلْسِفَةِ الصّابِئَةِ المُنْكِرَةِ لِحَشْرِ الأجْسادِ. وإنْ كانَ مِن مُنافِقَةِ المِلَّتَيْنِ المُقِرِّينَ بِحَشْرِ الأجْسادِ، تَأوَّلَ ذَلِكَ عَلى تَفْهِيمِ النَّعِيمِ الَّذِي في الجَنَّةِ مِنَ الرُّوحانِيِّ والسَّماعِ الطَّيِّبِ والرَّوائِحِ العَطِرَةِ، كُلُّ ضالٍّ يُحَرِّفُ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ إلى ما اعْتَقَدَ ثُبُوتَهُ. وكانَ في هَذا أيْضًا مُتَّبِعًا لِلْمُتَشابِهِ، إذْ الأسْماءُ تُشْبِهُ الأسْماءَ، والمُسَمَّياتُ تُشْبِهُ المُسَمَّياتِ، ولَكِنْ تُخالِفُها أكْثَرَ مِمّا تُشابِهُها. فَهَؤُلاءِ يَتَّبِعُونَ هَذا المُتَشابِهَ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ بِما يُورِدُونَهُ مِنَ الشُّبُهاتِ عَلى امْتِناعِ أنْ يَكُونَ في الجَنَّةِ هَذِهِ الحَقائِقُ، وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ لِيَرُدُّوهُ إلى المَعْهُودِ الَّذِي يَعْلَمُونَهُ في الدُّنْيا، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ﴾ فَإنَّ تِلْكَ الحَقائِقَ قالَ اللَّهُ فِيها: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهم مِن قُرَّةِ أعْيُنٍ﴾ [السجدة: ١٧] لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. وقَوْلُهُ: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ﴾ إمّا أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عائِدًا عَلى الكِتابِ أوْ عَلى المُتَشابِهِ. فَإنْ (p-٧٥٨)كانَ عائِدًا عَلى الكِتابِ لِقَوْلِهِ: مِنهُ، ومِنهُ: ﴿فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ فَهَذا يَصِحُّ، فَإنَّ جَمِيعَ آياتِ الكِتابِ المُحْكَمَةِ والمُتَشابِهَةِ الَّتِي فِيها إخْبارٌ عَنْ الغَيْبِ الَّذِي أُمِرْنا أنْ نُؤْمِنَ بِهِ، لا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الغَيْبِ ومَتى يَقَعُ إلّا اللَّهُ، وقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَذا أنَّ اللَّهَ جَعَلَ التَّأْوِيلَ لِلْكِتابِ كُلِّهِ مَعَ إخْبارِهِ أنَّهُ مُفَصَّلٌ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ جِئْناهم بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدًى ورَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ٥٢] ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [الأعراف: ٥٣] فَجَعَلَ التَّأْوِيلَ الجائِيَّ الكِتابَ المُفَصَّلَ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ لا يَعْلَمُهُ - وقْتًا وقَدْرًا ونَوْعًا وحَقِيقَةً - إلّا اللَّهُ، وإنَّما نَعْلَمُ نَحْنُ بَعْضَ صِفاتِهِ بِمَبْلَغِ عِلْمِنا لِعَدَمِ نَظِيرِهِ عِنْدَنا، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ولَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ [يونس: ٣٩] وإذا كانَ التَّأْوِيلُ الكِتابَ كُلَّهُ والمُرادُ بِهِ ذَلِكَ، ارْتَفَعَتْ الشُّبْهَةُ، وصارَ هَذا بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أيّانَ مُرْساها قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إلا هو ثَقُلَتْ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الأعراف: ١٨٧] - إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الأعراف: ١٨٧] وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يَسْألُكَ النّاسُ عَنِ السّاعَةِ قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ [الأحزاب: ٦٣] فَأخْبَرَ أنَّهُ لَيْسَ عِلْمُها إلّا عِنْدَ اللَّهِ، وإنَّما هو عِلْمُ وقْتِها المُعَيَّنِ وحَقِيقَتِها، وإلّا فَنَحْنُ قَدْ عَلِمْنا مِن صِفاتِها ما أُخْبِرْنا بِهِ، فَعِلْمُ تَأْوِيلِهِ كَعِلْمِ السّاعَةِ والسّاعَةُ مِن تَأْوِيلِهِ. وهَذا واضِحٌ بَيِّنٌ، ولا يُنافِي كَوْنَ عِلْمِ السّاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ أنْ نَعْلَمَ مِن صِفاتِها وأحْوالِها ما عَلِمْناهُ، وأنْ نُفَسِّرَ النُّصُوصَ المُبَيِّنَةَ لِأحْوالِها. فَهَذا هَذا. (p-٧٥٩)وإنْ كانَ الضَّمِيرُ عائِدًا إلى ما تَشابَهَ كَما يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ، فَلِأنَّ المُخْبَرَ بِهِ مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ مُتَشابِهٌ، بِخِلافِ الأمْرِ والنَّهْيِ. ولِهَذا في الآثارِ: العَمَلُ بِمُحْكَمِهِ، والإيمانُ بِمُتَشابِهِهِ، لِأنَّ المَقْصُودَ في الخَبَرِ الإيمانُ. وذَلِكَ لِأنَّ المُخْبَرَ بِهِ مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ فِيهِ مِنَ التَّشابُهِ ما ذَكَرْناهُ. بِخِلافِ الأمْرِ والنَّهْيِ، فَإنَّهُ مُتَمَيِّزٌ غَيْرُ مُشْتَبِهٍ بِغَيْرِهِ، فَإنَّهُ أُمُورٌ نَفْعَلُها قَدْ عَلِمْناها بِالوُقُوعِ، وأُمُورٌ نَتْرُكُها لا بُدَّ أنْ نَتَصَوَّرَها. ومِمّا جاءَ مِن لَفْظِ التَّأْوِيلِ في القُرْآنِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ولَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ [يونس: ٣٩] والكِتابَةُ عائِدَةٌ عَلى القُرْآنِ، أوْ عَلى ما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وهو يَعُودُ إلى القُرْآنِ. قالَ تَعالى: ﴿وما كانَ هَذا القُرْآنُ أنْ يُفْتَرى مِن دُونِ اللَّهِ ولَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وتَفْصِيلَ الكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ [يونس: ٣٧] ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [يونس: ٣٨] ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ولَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظّالِمِينَ﴾ [يونس: ٣٩] ﴿ومِنهم مَن يُؤْمِنُ بِهِ ومِنهم مَن لا يُؤْمِنُ بِهِ ورَبُّكَ أعْلَمُ بِالمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: ٤٠] فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ هَذا القُرْآنَ ما كانَ لِيُفْتَرى مِن دُونِ اللَّهِ وهَذِهِ الصِّيغَةَ تَدُلُّ عَلى امْتِناعِ المَنفِيِّ كَقَوْلِهِ: ﴿وما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرى بِظُلْمٍ وأهْلُها مُصْلِحُونَ﴾ [هود: ١١٧] لِأنَّ الخَلْقَ عاجِزُونَ عَنْ الإتْيانِ بِمِثْلِهِ. كَما تَحَدّاهم وطالَبَهم لَمّا قالَ: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [يونس: ٣٨] فَهَذا تَعْجِيزٌ (p-٧٦٠)لِجَمِيعِ المَخْلُوقِينَ. قالَ تَعالى: ﴿ولَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [يونس: ٣٧] أيْ: مُصَدِّقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وتَفْصِيلَ الكِتابِ، أيْ: مُفَصِّلَ الكِتابِ، فَأخْبَرَ أنَّهُ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ومُفَصِّلُ الكِتابِ. والكِتابُ اسْمُ جِنْسٍ. ولَمّا تَحَدّى القائِلِينَ: افْتَراهُ، ودَلَّ عَلى أنَّهم هم المُفْتَرُونَ، قالَ: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ولَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ [يونس: ٣٩] فَفَرَّقَ بَيْنَ الإحاطَةِ بِعِلْمِهِ، وبَيْنَ إتْيانِ تَأْوِيلِهِ. فَتَبَيَّنَ أنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُحِيطَ أهْلُ العِلْمِ والإيمانِ بِعِلْمِهِ، ولَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، وأنَّ الإحاطَةَ بِعِلْمِ القُرْآنِ لَيْسَتْ إتْيانَ تَأْوِيلِهِ، فَإنَّ الإحاطَةَ بِعِلْمِهِ مَعْرِفَةُ مَعانِي الكَلامِ عَلى التَّمامِ، وإتْيانَ التَّأْوِيلِ نَفْسُ وُقُوعِ المُخْبَرِ بِهِ. وفَرْقٌ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الخَبَرِ وبَيْنَ المُخْبَرِ بِهِ. فَمَعْرِفَةُ الخَبَرِ هي مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِ القُرْآنِ، ومَعْرِفَةِ المُخْبَرِ بِهِ هي مَعْرِفَةُ تَأْوِيلِهِ. وهَذا هو الَّذِي بَيَّنّاهُ فِيما تَقَدَّمَ. إنَّ اللَّهَ إنَّما أنْزَلَ القُرْآنَ لِيُعْلَمَ ويُفْهَمَ ويُفْقَهَ ويُتَدَبَّرَ ويُتَفَكَّرَ بِهِ مُحْكَمُهُ ومُتَشابِهُهُ، وإنْ لَمْ يُعْلَمْ تَأْوِيلُهُ، ويُبَيِّنُ ذَلِكَ أنَّ اللَّهَ يَقُولُ عَنْ الكُفّارِ: ﴿وإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا﴾ [الإسراء: ٤٥] ﴿وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا وإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في القُرْآنِ وحْدَهُ ولَّوْا عَلى أدْبارِهِمْ نُفُورًا﴾ [الإسراء: ٤٦] فَقَدْ أخْبَرَ، ذَمًّا لِلْمُشْرِكِينَ، أنَّهُ إذا قُرِئَ عَلَيْهِمْ القُرْآنُ حَجَبَ بَيْنَ أبْصارِهِمْ وبَيْنَ الرَّسُولِ بِحِجابٍ مَسْتُورٍ، وجَعَلَ عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا. فَلَوْ كانَ أهْلُ العِلْمِ والإيمانِ عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةٌ أنْ يَفْقَهُوا بَعْضَهُ لَشارَكُوهم في ذَلِكَ. وقَوْلُهُ: ﴿أنْ يَفْقَهُوهُ﴾ [الإسراء: ٤٦] يَعُودُ إلى القُرْآنِ كُلِّهِ. فَعُلِمَ أنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أنْ يُفْقَهَ، ولِهَذا قالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: ما أنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إلّا وهو يُحِبُّ أنْ يُعْلَمَ في ماذا أُنْزِلَتْ وماذا عُنِيَ بِها. وما اسْتُثْنِيَ مِن ذَلِكَ لا مُتَشابِهًا ولا غَيْرَهُ. وقالَ مُجاهِدٌ: عَرَضْتُ المُصْحَفَ عَلى ابْنِ عَبّاسٍ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ مَرّاتٍ، (p-٧٦١)أقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وأسْألُهُ عَنْها. فَهَذا ابْنُ عَبّاسٍ حَبْرُ الأُمَّةِ، وهو أحَدُ مِن كانَ يَقُولُ: لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ، يُجِيبُ مُجاهِدًا عَنْ كُلِّ آيَةٍ في القُرْآنِ، وهَذا هو الَّذِي جَعَلَ مُجاهِدًا ومَن وافَقَهُ كابْنِ قُتَيْبَةَ عَلى أنْ جَعَلُوا الوَقْفَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ فَجَعَلُوا الرّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ، لِأنَّ مُجاهِدًا تَعَلَّمَ مِن ابْنِ عَبّاسٍ تَفْسِيرَ القُرْآنِ كُلِّهِ وبَيانَ مَعانِيهِ. فَظَنَّ أنَّ هَذا هو التَّأْوِيلُ المَنفِيُّ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ. وأصْلُ ذَلِكَ أنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ، وبِهِ أُشِيرَ إلى بَيْنَ ما عَناهُ اللَّهُ في القُرْآنِ وبَيْنَ ما كانَ يُطْلِقُهُ طَوائِفُ مِنَ السَّلَفِ، وبَيْنَ اصْطِلاحِ طَوائِفَ مِنَ المُتَأخِّرِينَ، فَبِسَبَبِ الِاشْتِراكِ في لَفْظِ (التَّأْوِيلِ) اعْتَقَدَ كُلُّ مَن فَهِمَ مِنهُ مَعْنًى بِلُغَتِهِ أنَّ ذَلِكَ هو المَذْكُورُ في القُرْآنِ. ومُجاهِدٌ إمامُ التَّفْسِيرِ، قالَ الثَّوْرِيُّ: إذا جاءَكَ التَّفْسِيرُ عَنْ مُجاهِدٍ فَحَسْبُكَ بِهِ. وأمّا التَّأْوِيلُ فَشَأْنٌ آخَرُ. ويُبَيِّنُ ذَلِكَ أنَّ الصَّحابَةَ والتّابِعِينَ لَمْ يَمْتَنِعْ أحَدٌ مِنهم عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِن كِتابِ اللَّهِ وقالَ: هَذِهِ مِنَ المُتَشابِهِ الَّذِي لا يُعْلَمُ مَعْناهُ، ولا قالَ قَطُّ أحَدٌ مِن سَلَفِ الأُمَّةِ ولا مِنَ الأئِمَّةِ المَتْبُوعِينَ: إنَّ في القُرْآنِ آياتٌ لا يَعْلَمُ مَعْناها ولا يَفْهَمُها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولا أهْلُ العِلْمِ والإيمانِ جَمِيعُهم. وإنَّما قَدْ يَنْفُونَ عِلْمَ بَعْضِ ذَلِكَ عَلى بَعْضِ النّاسِ، وهَذا لا رَيْبَ فِيهِ، وإنَّما وضَعَ هَذِهِ المَسْألَةَ المُتَأخِّرُونَ مِنَ الطَّوائِفِ بِسَبَبِ الكَلامِ في آياتِ الصِّفاتِ وآياتِ القَدَرِ وغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَقَّبُوها، هَلْ يَجُوزُ أنْ يَشْتَمِلَ القُرْآنُ عَلى ما لا يُعْلَمُ مَعْناهُ، وما تُعُبِّدْنا بِتِلاوَةِ حُرُوفِهِ بِلا فَهْمٍ ؟ فَجَوَّزَ ذَلِكَ طَوائِفُ مُتَمَسِّكِينَ بِظاهِرٍ مِن هَذِهِ الآيَةِ، وبِأنَّ اللَّهَ يَمْتَحِنُ عِبادَهُ بِما شاءَ، ومَنَعَها طَوائِفُ لِيَتَوَصَّلُوا بِذَلِكَ إلى تَأْوِيلاتِهِمْ الفاسِدَةِ الَّتِي هي تَحْرِيفُ الكَلِمِ عَنْ مَواضِعِهِ. والغالِبُ عَلى كِلْتا الطّائِفَتَيْنِ الخَطَأُ. أُولَئِكَ يُقَصِّرُونَ في فَهْمِهِمْ القُرْآنَ بِمَنزِلَةِ مَن قِيلَ فِيهِ: ﴿ومِنهم أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلا أمانِيَّ وإنْ هم إلا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨] وهَؤُلاءِ مُعْتَدُونَ، بِمَنزِلَةِ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ. ومِنَ المُتَأخِّرِينَ مَن وضَعَ المَسْألَةَ (p-٧٦٢)بِلَقَبٍ شَنِيعٍ فَقالَ: لا يَجُوزُ أنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِكَلامٍ ولا يَعْنِيَ بِهِ شَيْئًا، خِلافًا لِلْحَشْوِيَّةِ، وهَذا لَمْ يَقُلْهُ مُسْلِمٌ إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِما لا مَعْنًى لَهُ، وإنَّما النِّزاعُ هَلْ يَتَكَلَّمُ بِما لا يُفْهَمُ مَعْناهُ. وبَيْنَ نَفْيِ المَعْنى عِنْدَ المُتَكَلِّمِ، ونَفْيِ الفَهْمِ عِنْدَ المُخاطَبِ، بَوْنٌ عَظِيمٌ. ثُمَّ احْتَجَّ بِما يَجْرِي عَلى أصْلِهِ، فَقالَ: هَذا عَبَثٌ، والعَبَثُ عَلى اللَّهِ مُحالٌ، وعِنْدَهُ أنَّ اللَّهَ لا يَقْبُحُ مِنهُ شَيْءٌ أصْلًا، بَلْ يَجُوزُ أنْ يَفْعَلَ كُلَّ شَيْءٍ، ولَيْسَ لَهُ أنْ يَقُولَ العَبَثَ صِفَةَ نَقْصٍ، فَهو مُنْتَفٍ عَنْهُ، لِأنَّ النِّزاعَ في الحُرُوفِ، وهي عِنْدُهُ مَخْلُوقَةٌ مِن جُمْلَةِ الأفْعالِ، ويَجُوزُ أنْ يَشْتَمِلَ الفِعْلُ عِنْدَهُ عَلى كُلِّ صِفَةٍ، فَلا نَقْلَ صَرِيحٌ، ولا عَقْلَ صَحِيحٌ. ومَثارُ الفِتَنِ بَيْنَ الطّائِفَتَيْنِ ومَحارُ عُقُولِهِمْ أنَّ مُدَّعِي التَّأْوِيلِ أخْطَؤُوا في زَعْمِهِمْ أنَّ العُلَماءَ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ، وفي دَعْواهم أنَّ التَّأْوِيلَ هو تَأْوِيلُهم الَّذِي هو تَحْرِيفُ الكَلِمِ عَنْ مَواضِعِهِ. فَإنَّ الأوَّلِينَ، لِعِلْمِهِمْ بِالقُرْآنِ والسُّنَنِ، وصِحَّةِ عُقُولِهِمْ، وعِلْمِهِمْ بِكَلامِ السَّلَفِ، وكَلامِ العَرَبِ، عَلِمُوا يَقِينًا أنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي يَدَّعِيهِ هَؤُلاءِ لَيْسَ هو مَعْنى القُرْآنِ. فَإنَّهم حَرَّفُوا الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، وصارُوا مَراتِبَ ما بَيْنَ قَرامِطَةٍ وباطِنِيَّةٍ يَتَأوَّلُونَ لِلْأخْبارِ والأوامِرِ. وما بَيْنَ صابِئَةٍ فَلاسِفَةٍ يَتَأوَّلُونَ عامَّةَ الأخْبارِ عَنْ اللَّهِ وعَنْ اليَوْمِ الآخِرِ، حَتّى عَنْ أكْثَرِ أحْوالِ الأنْبِياءِ. وما بَيْنَ جَهْمِيَّةٍ ومُعْتَزِلَةٍ يَتَأوَّلُونَ بَعْضَ ما جاءَ في اليَوْمِ الآخِرِ وفي آياتِ القَدَرِ، ويَتَأوَّلُونَ آياتِ الصِّفاتِ. وقَدْ وافَقَهم بَعْضُ مُتَأخِّرِي الأشْعَرِيَّةِ عَلى ما جاءَ في بَعْضِ الصِّفاتِ، وبَعْضُهم في بَعْضِ ما جاءَ في اليَوْمِ الآخِرِ. وآخَرُونَ مِن أصْنافِ الأُمَّةِ، وإنْ كانَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ السُّـنَّةُ، فَقَدْ يَتَأوَّلُونَ أيْضًا مَواضِعَ يَكُونُ تَأْوِيلُهم مِن تَحْرِيفِ الكَلِمِ عَنْ مَواضِعِهِ. واَلَّذِينَ ادَّعَوْا العِلْمَ بِالتَّأْوِيلِ مِثْلَ طائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ وأهْلِ السُّنَّةِ، وأكْثَرَ أهْلِ الكَلامِ والبِدَعِ، رَأوْا أيْضًا أنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ عَلى مَعْرِفَةِ مَعانِي القُرْآنِ. ورَأوْا عَجْزًا وعَيْبًا وقَبِيحًا أنْ يُخاطِبَ اللَّهُ عِبادَهُ بِكَلامٍ يَقْرَؤُونَهُ ويَتْلُونَهُ وهم لا يَفْهَمُونَهُ. وهم مُصِيبُونَ فِيما اسْتَدَلُّوا بِهِ مِن سَمْعٍ وعَقْلٍ، لَكِنْ أخْطَؤُوا في مَعْنى التَّأْوِيلِ الَّذِي نَفاهُ اللَّهُ، وفي التَّأْوِيلِ الَّذِي أثْبَتُوهُ وتَسَلَّقَ بِذَلِكَ (p-٧٦٣)مُبْتَدِعَتُهم إلى تَحْرِيفِ الكَلِمِ عَنْ مَواضِعِهِ، وصارَ الأوَّلُونَ أقْرَبَ إلى السُّكُوتِ والسَّلامَةِ بِنَوْعٍ مِنَ الجَهْلِ، وصارَ الآخِرُونَ أكْثَرَ كَلامًا وجِدالًا، ولَكِنْ بِفِرْيَةٍ عَلى اللَّهِ، وقَوْلٍ عَلَيْهِ ما لا يَعْلَمُونَهُ، وإلْحادٍ في أسْمائِهِ وآياتِهِ، فَهَذا هَذا. ومَنشَأُ الشُّبْهَةِ الِاشْتِراكُ في لَفْظِ التَّأْوِيلِ، فَإنَّ التَّأْوِيلَ في عُرْفِ المُتَأخِّرِينَ مِنَ المُتَفَقِّهَةِ والمُتَكَلِّمَةِ والمُحَدِّثَةِ والمُتَصَوِّفَةِ ونَحْوِهِمْ هو: صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ المَعْنى الرّاجِحِ إلى المَعْنى المَرْجُوحِ لِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهِ، وهَذا هو التَّأْوِيلُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ عَلَيْهِ في أُصُولِ الفِقْهِ ومَسائِلِ الخِلافِ. فَإذا قالَ أحَدٌ مِنهم: هَذا الحَدِيثُ أوْ هَذا النَّصُّ مُؤَوَّلٌ، أوْ هو مَحْمُولٌ عَلى كَذا، قالَ الآخَرُ: هَذا نَوْعُ تَأْوِيلٍ، والتَّأْوِيلُ يَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ. والمُتَأوِّلُ عَلَيْهِ وظِيفَتانِ: بَيانُ احْتِمالِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنى الَّذِي ادَّعاهُ، وبَيانُ الدَّلِيلِ المُوجِبِ لِلصَّرْفِ إلَيْهِ عَنْ المَعْنى الظّاهِرِ، وهَذا هو التَّأْوِيلُ الَّذِي يَتَنازَعُونَ فِيهِ في مَسائِلِ الصِّفاتِ، إذا صَنَّفَ بَعْضُهم في إبْطالِ التَّأْوِيلِ، أوْ ذَمِّ التَّأْوِيلِ، أوْ قالَ بَعْضُهم: آياتُ الصِّفاتِ لا تُؤَوَّلُ، وقالَ الآخَرُ: بَلْ يَجِبُ تَأْوِيلُها، وقالَ الثّالِثُ: بَلْ التَّأْوِيلُ جائِزٌ يُفْعَلُ عِنْدَ المَصْلَحَةِ، ويُتْرَكُ عِنْدَ المَصْلَحَةِ، أوْ يَصِحُّ لِلْعُلَماءِ دُونَ غَيْرِهِمْ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَقالاتِ والتَّنازُعِ. * * * وأمّا لَفْظُ التَّأْوِيلِ في لَفْظِ السَّلَفِ فَلَهُ مَعْنَيانِ: أحَدُهُما: تَفْسِيرُ الكَلامِ وبَيانُ مَعْناهُ، سَواءٌ وافَقَ ظاهِرَهُ أوْ خالَفَهُ، فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ والتَّفْسِيرُ عِنْدَ هَؤُلاءِ مُتَقارِبًا أوْ مُتَرادِفًا، وهَذا - واَللَّهُ أعْلَمُ - هو الَّذِي عَناهُ مُجاهِدٌ أنَّ العُلَماءَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ. ومُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ يَقُولُ في تَفْسِيرِهِ: القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ كَذا وكَذا. واخْتَلَفَ أهْلُ التَّأْوِيلِ في هَذِهِ الآيَةِ. ونَحْوَ ذَلِكَ، ومُرادُهُ التَّفْسِيرُ. والمَعْنى الثّانِي: في لَفْظِ السَّلَفِ وهو الثّالِثُ مِن مُسَمّى التَّأْوِيلِ مُطْلَقًا هو نَفْسُ المُرادِ بِالكَلامِ. فَإنَّ الكَلامَ إنْ كانَ طَلَبًا كانَ تَأْوِيلُهُ نَفْسَ الفِعْلِ المَطْلُوبِ. وإنْ كانَ خَبَرًا كانَ تَأْوِيلُهُ نَفْسَ الشَّيْءِ المُخْبَرِ بِهِ. وبَيْنَ هَذا المَعْنى واَلَّذِي قَبْلَهُ بَوْنٌ. فَإنَّ الَّذِي قَبْلَهُ يَكُونُ التَّأْوِيلُ (p-٧٦٤)فِيهِ مِن بابِ العِلْمِ، والكَلامِ كالتَّفْسِيرِ والشَّرْحِ والإيضاحِ، ويَكُونُ وُجُودُ التَّأْوِيلِ في القَلْبِ واللِّسانِ، لَهُ الوُجُودُ الذِّهْنِيُّ واللَّفْظِيُّ والرَّسْمِيُّ. وأمّا هَذا، فالتَّأْوِيلُ فِيهِ نَفْسُ الأُمُورِ المَوْجُودَةِ في الخارِجِ، سَواءٌ كانَتْ ماضِيَةً أوْ مُسْتَقْبَلَةً. فَإذا قِيلَ: طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَتَأْوِيلُ هَذا نَفْسُ طُلُوعِها. وهَذا الوَضْعُ والعُرْفُ. اَلثّالِثُ: هو لُغَةُ القُرْآنِ الَّتِي نَزَلَ بِها وقَدْ قَدَّمْنا التَّبْيِينَ في ذَلِكَ. ومِن ذَلِكَ قَوْلُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِيُوسُفَ: ﴿وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ ويُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ [يوسف: ٦] وقَوْلُهُ: ﴿ودَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أحَدُهُما إنِّي أرانِي أعْصِرُ خَمْرًا وقالَ الآخَرُ إنِّي أرانِي أحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إنّا نَراكَ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: ٣٦] ﴿قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إلا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ﴾ [يوسف: ٣٧] وقَوْلُ المَلَأِ: ﴿أضْغاثُ أحْلامٍ وما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعالِمِينَ﴾ [يوسف: ٤٤] ﴿وقالَ الَّذِي نَجا مِنهُما وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أنا أُنَبِّئُكم بِتَأْوِيلِهِ فَأرْسِلُونِ﴾ [يوسف: ٤٥] وقَوْلُ يُوسُفَ لَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ مِصْرَ وآوى إلَيْهِ أبَوَيْهِ وقالَ: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ [يوسف: ٩٩] (p-٧٦٥)﴿ورَفَعَ أبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وقالَ يا أبَتِ هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا﴾ [يوسف: ١٠٠] فَتَأْوِيلُ الأحادِيثِ الَّتِي هي رُؤْيا المَنامِ هي نَفْسُ مَدْلُولِها الَّتِي تُؤَوَّلُ إلَيْهِ، كَما قالَ يُوسُفُ: ﴿هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ١٠٠] والعالِمُ بِتَأْوِيلِها الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ. كَما قالَ يُوسُفُ: ﴿لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ﴾ [يوسف: ٣٧] أيْ: في المَنامِ ﴿إلا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أنْ يَأْتِيَكُما﴾ [يوسف: ٣٧] أيْ: قَبْلَ أنْ يَأْتِيَكُما التَّأْوِيلُ. وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلا﴾ [النساء: ٥٩] قالُوا: أحْسَنُ عاقِبَةً ومَصِيرًا. فالتَّأْوِيلُ هُنا تَأْوِيلُ فِعْلِهِمْ الَّذِي هو الرَّدُّ إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ، والتَّأْوِيلُ في سُورَةِ يُوسُفَ تَأْوِيلُ أحادِيثِ الرُّؤْيا، والتَّأْوِيلُ في الأعْرافِ ويُونُسَ تَأْوِيلُ القُرْآنِ، وكَذَلِكَ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. وقالَ تَعالى في قِصَّةِ مُوسى والعالِمِ: ﴿قالَ هَذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٧٨] إلى قَوْلِهِ: ﴿وما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٨٢] فالتَّأْوِيلُ هُنا تَأْوِيلُ الأفْعالِ الَّتِي فَعَلَها العالِمُ (p-٧٦٦)مِن خَرْقِ السَّفِينَةِ بِغَيْرِ إذْنِ صاحِبِها. ومِن قَتْلِ الغُلامِ، ومِن إقامَةِ الجِدارِ. فَهو تَأْوِيلُ عَمَلٍ، لا تَأْوِيلُ قَوْلٍ، وإنَّما كانَ كَذَلِكَ لِأنَّ التَّأْوِيلَ مَصْدَرُ أوَّلَهُ يُؤَوِّلُهُ تَأْوِيلًا، مِثْلَ حَوَّلَ تَحْوِيلًا، وعَوَّلَ تَعْوِيلًا. و (أوَّلَ يُؤَوِّلُ) تَعْدِيَةُ (آلَ يَؤُولُ أوْلًا)، مِثْلَ حالَ يَحُولُ حَوْلًا وقَوْلُهم (آلَ يَؤُولُ) أيْ: عادَ إلى كَذا ورَجَعَ إلَيْهِ، ومِنهُ المَآلُ، وهو ما يَؤُولُ إلَيْهِ الشَّيْءُ. ويُشارِكُهُ في الِاشْتِقاقِ المَوْئِلُ، فَإنَّهُ وألَ، وهَذا مِن أوَّلَ، والمَوْئِلُ المَرْجِعُ، قالَ تَعالى: ﴿لَنْ يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلا﴾ [الكهف: ٥٨] ومِمّا يُوافِقُهُ في اشْتِقاقِهِ الأصْغَرِ الآلُ، فَإنَّ آلَ الشَّخْصِ مَن يَؤُولُ إلَيْهِ، ولِهَذا لا يُسْتَعْمَلُ إلّا في عَظِيمٍ، بِحَيْثُ يَكُونُ المُضافُ إلَيْهِ يَصْلُحُ أنْ يَؤُولَ إلَيْهِ الآلُ. كَآلِ إبْراهِيمَ وآلِ لُوطٍ وآلِ فِرْعَوْنَ. بِخِلافِ الأهْلِ. والأوَّلُ أفْعَلُ، لِأنَّهم قالُوا في تَأْنِيثِهِ أُولى، كَما قالُوا جُمادى الأُولى، وفي القِصَصِ: ﴿لَهُ الحَمْدُ في الأُولى والآخِرَةِ﴾ [القصص: ٧٠] ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ فَوْعَلُ ويَقُولُ (أوَّلَهُ) إلّا أنَّ هَذا يَحْتاجُ إلى شاهِدٍ مِن كَلامِ العَرَبِ، بَلْ عَدَمُ صَرْفِهِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ أفْعَلُ لا فَوَعْلٌ. فَإنَّ فَوْعَلَ مِثْلَ كَوْثَرٍ وجَوْهَرٍ مَصْرُوفٌ. سُمِّيَ المُتَقَدِّمُ أوَّلَ - واَللَّهُ أعْلَمُ - لِأنَّ ما بَعْدَهُ يَؤُولُ إلَيْهِ ويُبْنى عَلَيْهِ، فَهو أُسٌّ لِما بَعْدَهُ وقاعِدَةٌ لَهُ. والصِّيغَةُ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ مِثْلُ: أكْبَرَ وكُبْرى وأصْغَرَ وصُغْرى، لا مَن أحْمَرَ وحَمْراءَ، ولِهَذا يَقُولُونَ: جِئْتُهُ أوَّلَ مِن أمْسِ وقالَ: ﴿مِن أوَّلِ يَوْمٍ﴾ [التوبة: ١٠٨] ﴿وأنا أوَّلُ المُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٣] ﴿ولا تَكُونُوا أوَّلَ كافِرٍ بِهِ﴾ [البقرة: ٤١] (p-٧٦٧)ومِثْلُ: هَذا أوَّلُ هَؤُلاءِ. . فَهَذا الَّذِي فُضِّلَ عَلَيْهِمْ في الأوَّلِ، لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ يَرْجِعُ إلى ما قَبْلُهُ، فَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وهَذا السّابِقُ؛ كُلُّهم يَؤُولُ إلَيْهِ. فَإنَّ مَن تَقَدَّمَ في فِعْلٍ، فاسْتَبَقَ بِهِ مَن بَعْدَهُ، كانَ السّابِقَ الَّذِي يَؤُولُ الكُلُّ إلَيْهِ. فالأوَّلُ لَهُ وصْفُ السُّؤْدُدِ والِاتِّباعِ. ولَفْظُ الأوْلِ مُشْعِرٌ بِالرُّجُوعِ والعَوْدِ. والأوَّلُ مُشْعِرٌ بِالِابْتِداءِ. والمُبْتَدِي خِلافُ العائِدِ، لِأنَّهُ إنَّما كانَ أوَّلًا لِما بَعْدَهُ، فَإنَّهُ يُقالُ: أوَّلُ المُسْلِمِينَ، وأوَّلُ يَوْمٍ، فَما فِيهِ مِن مَعْنى الرُّجُوعِ والعَوْدِ، هو لِلْمُضافِ إلَيْهِ لا لِلْمُضافِ. وإذا قُلْنا: آلُ فُلانٍ فالعَوْدُ في المُضافِ، لِأنَّ ذَلِكَ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ في كَوْنِهِ مَآلًا ومَرْجِعًا لِغَيْرِهِ، لِأنَّ كَوْنَهُ مُفَضَّلًا دَلَّ عَلَيْهِ أنَّهُ مَآلٌ ومَرْجِعٌ، لا آيِلٌ راجِعٌ، إذْ لا فَضْلَ في كَوْنِ الشَّيْءِ راجِعًا إلى غَيْرِهِ. آيِلًا إلَيْهِ، وإنَّما الفَضْلُ في كَوْنِهِ هو الَّذِي يُرْجَعُ إلَيْهِ ويُؤالُ. فَلَمّا كانَتْ الصِّيغَةُ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ أشْعَرَتْ بِأنَّهُ مُفَضَّلٌ في كَوْنِهِ مَآلًا ومَرْجِعًا، والتَّفْضِيلُ المُطْلَقُ في ذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ هو السّابِقَ المُبْتَدِئَ. واَللَّهُ أعْلَمُ. فَتَأْوِيلُ الكَلامِ ما أوَّلَهُ إلَيْهِ المُتَكَلِّمُ أوْ ما يُؤَوَّلُ إلَيْهِ الكَلامُ أوْ ما تَأوَّلَهُ المُتَكَلِّمُ. فَإنَّ التَّفْضِيلَ يَجْرِي عَلى غَيْرِ فِعْلٍ كَقَوْلِهِ: ﴿وتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلا﴾ [المزمل: ٨] فَيَجُوزُ أنْ يُقالَ تَأوَّلَ الكَلامَ إلى هَذا المَعْنى تَأْوِيلًا، والمَصْدَرُ واقِعٌ مَوْقِعَ الصِّفَةِ، إذْ قَدْ يَحْصُلُ المَصْدَرُ صِفَةً بِمَعْنى الفاعِلِ، كَعَدْلٍ وصَوْمٍ وفِطْرٍ، وبِمَعْنى المَفْعُولِ كَـ: دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأمِيرِ، وهَذا خَلْقُ اللَّهِ. فالتَّأْوِيلُ هو ما أُوِّلَ إلَيْهِ الكَلامُ أوْ يُؤَوَّلُ إلَيْهِ، أوْ تَأوَّلَ هو إلَيْهِ. والكَلامُ إنَّما يَرْجِعُ ويَعُودُ ويَسْتَقِرُّ ويَؤُولُ ويُؤَوَّلُ إلى حَقِيقَتِهِ الَّتِي هي عَيْنُ المَقْصُودِ بِهِ، كَما قالَ بَعْضُ السَّلَفِ في قَوْلِهِ: ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٦٧] قالَ: حَقِيقَةٌ. فَإنْ كانَ خَبَرًا فَإلى الحَقِيقَةِ المُخْبَرِ بِها يَؤُولُ ويَرْجِعُ، وإلّا لَمْ تَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ ولا مَآلٌ ولا مَرْجِعٌ، بَلْ كانَ كَذِبًا، وإنْ كانَ طَلبًا فَإلى الحَقِيقَةِ المَطْلُوبَةِ يَؤُولُ ويَرْجِعُ، وإلّا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ مَوْجُودًا ولا حاصِلًا، ومَتى كانَ الخَبَرُ وعْدًا أوْ وعِيدًا (p-٧٦٨)فَإلى الحَقِيقَةِ المَطْلُوبَةِ المُنْتَظَرَةِ يَؤُولُ. كَما رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: ﴿قُلْ هو القادِرُ عَلى أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكم عَذابًا مِن فَوْقِكم أوْ مِن تَحْتِ أرْجُلِكم أوْ يَلْبِسَكم شِيَعًا﴾ [الأنعام: ٦٥] قالَ: إنَّها كائِنَةٌ ولَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُها بَعْدُ». فَصْلٌ وأمّا إدْخالُ أسْماءِ اللَّهِ وصِفاتِهِ أوْ بَعْضِ ذَلِكَ في المُتَشابِهِ الَّذِي لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ، أوْ اعْتِقادُ أنَّ ذَلِكَ هو المُتَشابِهُ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ كَما يَقُولُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ القَوْلَيْنِ طَوائِفُ مِن أصْحابِنا وغَيْرِهِمْ، فَإنَّهم وإنْ أصابُوا في كَثِيرٍ مِمّا يَقُولُونَهُ ونَجَوْا مِن بِدَعٍ وقَعَ فِيها غَيْرُهم، فالكَلامُ عَلى هَذا مِن وجْهَيْنِ: اَلْأوَّلُ: مَن قالَ إنَّ هَذا مِنَ المُتَشابِهِ وإنَّهُ لا يُفْهَمُ مَعْناهُ، ما الدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ ؟ فَإنِّي ما أعْلَمُ عَنْ أحَدٍ مِن سَلَفِ الأُمَّةِ، ولا مِنَ الأئِمَّةِ، لا أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ولا غَيْرِهِ أنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِنَ المُتَشابِهِ الدّاخِلِ في هَذِهِ الآيَةِ، ونَفى أنْ يَعْلَمَ أحَدٌ مَعْناهُ، وجَعَلُوا أسْماءَ اللَّهِ وصِفاتِهِ بِمَنزِلَةِ الكَلامِ الأعْجَمِيِّ الَّذِي لا يُفْهَمُ. ولا قالُوا إنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ كَلامًا لا يَفْهَمُ أحَدٌ مَعْناهُ. وإنَّما قالُوا: كَلِماتٌ لَها مَعانٍ صَحِيحَةٌ. قالُوا في أحادِيثِ الصِّفاتِ: تُمَرُّ كَما جاءَتْ، ونَهَوْا عَنْ تَأْوِيلاتِ الجَهْمِيَّةِ ورَدُّوها وأبْطَلُوها. الَّتِي مَضْمُونُها تَعْطِيلُ النُّصُوصِ عَلى ما دَلَّتْ عَلَيْهِ. ونُصُوصُ أحْمَدَ والأئِمَّةِ قَبْلَهُ بَيِّنَةٌ في أنَّهم كانُوا يُبْطِلُونَ تَأْوِيلاتِ الجَهْمِيَّةِ، ويُقِرُّونَ النُّصُوصَ عَلى ما دَلَّتْ عَلَيْهِ مِن مَعْناها، ويَفْهَمُونَ مِنها بَعْضَ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ، كَما يَفْهَمُونَ ذَلِكَ في سائِرِ نُصُوصِ الوَعْدِ والوَعِيدِ والفَضائِلِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وأحْمَدُ قَدْ قالَ في غَيْرِ أحادِيثِ الصِّفاتِ: تُمَرُّ كَما جاءَتْ في (p-٧٦٩)أحادِيثِ الوَعْدِ. مِثْلَ: ««مَن غَشَّنا فَلَيْسَ مِنّا»» . وأحادِيثِ الفَضائِلِ. ومَقْصُودُهُ بِذَلِكَ أنَّ الحَدِيثَ لا يُحَرَّفُ كُلُّهُ عَنْ مَواضِعِهِ كَما يَفْعَلُهُ مَن يُحَرِّفُهُ ويُسَمِّي تَحْرِيفَهُ تَأْوِيلًا، بِالعُرْفِ المُتَأخِّرِ. فَتَأْوِيلُ هَؤُلاءِ المُتَأخِّرِينَ عِنْدَ الأئِمَّةِ تَحْرِيفٌ باطِلٌ. وكَذَلِكَ نَصَّ أحْمَدُ في كِتابِ الرَّدِّ عَلى الزَّنادِقَةِ الجَهْمِيَّةِ أنَّهم تَمَسَّكُوا بِمُتَشابِهِ القُرْآنِ. وتَكَلَّمَ أحْمَدُ عَلى ذَلِكَ المُتَشابِهِ، وبَيَّنَ مَعْناهُ وتَفْسِيرَهُ بِما يُخالِفُ تَأْوِيلَ الجَهْمِيَّةِ. وجَرى في ذَلِكَ عَلى سُنَنِ الأئِمَّةِ قَبْلَهُ، فَهَذا اتِّفاقٌ مِنَ الأئِمَّةِ عَلى أنَّهم يَعْلَمُونَ مَعْنى هَذا المُتَشابِهِ وأنَّهُ لا يُسْكَتُ عَنْ بَيانِهِ وتَفْسِيرِهِ. بَلْ يُبَيَّنُ ويُفَسَّرُ. فاتِّفاقُ الأئِمَّةِ مِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ لَهُ عَلى مَواضِعِهِ أوْ إلْحادٍ في أسْماءِ اللَّهِ وآياتِهِ. ومِمّا يُوَضِّحُ لَكَ ما وقَعَ هُنا مِنَ الِاضْطِرابِ، أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلى إبْطالِ تَأْوِيلاتِ الجَهْمِيَّةِ ونَحْوِهِمْ مِنَ المُنْحَرِفِينَ المُلْحِدِينَ، والتَّأْوِيلُ المَرْدُودُ هو صَرْفُ الكَلامِ عَنْ ظاهِرِهِ إلى ما يُخالِفُ ظاهِرَهُ. فَلَوْ قِيلَ: إنَّ هَذا هو التَّأْوِيلُ المَذْكُورُ في الآيَةِ، وأنَّهُ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ، لَكانَ في هَذا تَسْلِيمٌ لِلْجَهْمِيَّةِ أنْ لِلْآيَةِ تَأْوِيلًا يُخالِفُ دِلالَتَها، لَكِنَّ ذَلِكَ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ. ولَيْسَ هَذا مَذْهَبَ السَّلَفِ والأئِمَّةِ، وإنَّما مَذْهَبُهم نَفْيُ هَذِهِ التَّأْوِيلاتِ ورَدُّها، لا التَّوَقُّفُ عَنْها. وعِنْدَهم قِراءَةُ الآيَةِ والحَدِيثِ - تَفْسِيرُها، وتُمَرُّ كَما جاءَتْ دالَّةً عَلى المَعانِي. لا تُحَرَّفُ ولا يُلْحَدُ فِيها. والدَّلِيلُ عَلى أنَّ هَذا لَيْسَ بِمُتَشابِهٍ لا يُعْلَمُ مَعْناهُ، أنْ تَقُولَ: لا رَيْبَ أنَّ اللَّهَ سَمّى نَفْسَهُ في القُرْآنِ بِأسْماءٍ مِثْلَ الرَّحْمَنِ والوَدُودِ والعَزِيزِ والجَبّارِ والقَدِيرِ والرَّؤُوفِ ونَحْوِ ذَلِكَ، ووَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفاتٍ، مِثْلَ سُورَةِ الإخْلاصِ وآيَةِ الكُرْسِيِّ وأوَّلِ الحَدِيدِ وآخِرِ الحَشْرِ، وقَوْلِهِ: (إنَّ اللَّهَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، و: (عَلى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، و: ﴿فَإنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ٧٦] و: (المُقْسِطِينَ)، و: (المُحْسِنِينَ)، وأنَّهُ يَرْضى عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ، (p-٧٧٠)و: ﴿فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنهم فَأغْرَقْناهم أجْمَعِينَ﴾ [الزخرف: ٥٥] ﴿ذَلِكَ بِأنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أسْخَطَ اللَّهَ﴾ [محمد: ٢٨] ﴿ولَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٦] ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ [الأعراف: ٥٤] ﴿يَعْلَمُ ما يَلِجُ في الأرْضِ وما يَخْرُجُ مِنها وما يَنْـزِلُ مِنَ السَّماءِ وما يَعْرُجُ فِيها وهو مَعَكم أيْنَ ما كُنْتُمْ﴾ [الحديد: ٤] ﴿وهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إلَهٌ وفي الأرْضِ إلَهٌ وهو الحَكِيمُ العَلِيمُ﴾ [الزخرف: ٨٤] ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠] ﴿إنَّنِي مَعَكُما أسْمَعُ وأرى﴾ [طه: ٤٦] (p-٧٧١)﴿وهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ وفي الأرْضِ﴾ [الأنعام: ٣] ﴿ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥] ﴿بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ﴾ [المائدة: ٦٤] ﴿ويَبْقى وجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ والإكْرامِ﴾ [الرحمن: ٢٧] ﴿يُرِيدُونَ وجْهَهُ﴾ [الكهف: ٢٨] ﴿ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ [طه: ٣٩] إلى أمْثالِ ذَلِكَ. فَيُقالُ لِمَن ادَّعى في هَذا أنَّهُ مُتَشابِهٌ لا يُعْلَمُ مَعْناهُ: أتَقُولُ هَذا في جَمِيعِ ما سَمّى اللَّهُ ووَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أمْ في البَعْضِ ؟ فَإنْ قُلْتَ: هَذا في الجَمِيعِ كانَ هَذا عِنادًا ظاهِرًا، وجَحْدًا لِما يُعْلَمُ بِالِاضْطِرارِ مِن دِينِ الإسْلامِ، بَلْ كُفْرٌ صَرِيحٌ. فَإنّا نَفْهَمُ مِن قَوْلِهِ: (إنَّ اللَّهَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ) . مَعْنًى. ونَفْهَمُ مِن قَوْلِهِ: (p-٧٧٢)(إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مَعْنًى لَيْسَ هو الأوَّلَ. ونَفْهَمُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٥٦] مَعْنًى، ونَفْهَمُ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ﴾ [إبراهيم: ٤٧] مَعْنًى. وصِبْيانُ المُسْلِمِينَ، بَلْ وكُلُّ عاقِلٍ يَفْهَمُ هَذا. وقَدْ رَأيْتُ بَعْضَ مَن ابْتَدَعَ وجَحَدَ مِن أهْلِ المَغْرِبِ مَعَ انْتِسابِهِ إلى الحَدِيثِ، لَكِنْ أثَّرَتْ فِيهِ الفَلْسَفَةُ الفاسِدَةُ، مَن يَقُولُ: إنّا نُسَمِّي اللَّهَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ العَلِيمَ القَدِيرَ عِلْمًا مَحْضًا مِن غَيْرِ أنْ نَفْهَمَ مِنهُ مَعْنًى يَدُلُّ عَلى شَيْءٍ قَطُّ، وكَذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥] يُطْلَقُ هَذا اللَّفْظُ مِن غَيْرِ أنْ نَقُولَ لَهُ عِلْمٌ، وهَذا الغُلُوُّ في الظّاهِرِ، مِن جِنْسِ غُلُوِّ القَرامِطَةِ في الباطِنِ. لَكِنَّ هَذا أيْبَسُ وذاكَ أكْفَرُ. ثُمَّ يُقالُ لِهَذا المُعانِدِ: فَهَلْ هَذِهِ الأسْماءُ دالَّةٌ عَلى الإلَهِ المَعْبُودِ، أوْ عَلى حَقٍّ مَوْجُودٍ. أمْ لا ؟ فَإنْ قالَ: لا، كانَ مُعَطِّلًا مَحْضًا. وما أعْلَمُ مُسْلِمًا يَقُولُ هَذا. وإنْ قالَ: نَعَمْ قِيلَ لَهُ: فَهَلْ فَهِمْتَ مِنها دِلالَتَها عَلى نَفْسِ الرَّبِّ، ولَمْ تَفْهَمْ دِلالَتَها عَلى ما فِيها مِنَ المَعانِي مِنَ الرَّحْمَةِ والعِلْمِ، وكِلاهُما في الدِّلالَةِ سَواءٌ ؟ فَلا بُدَّ أنْ يَقُولَ: لِأنَّ ثُبُوتَ الصِّفاتِ مُحالٌ في العَقْلِ، لِأنَّهُ يَلْزَمُ مِنهُ التَّرْكِيبُ أوْ الحُدُوثُ، بِخِلافِ الذّاتِ. فَيُخاطَبُ حِينَئِذٍ بِما يُخاطَبُ بِهِ الفَرِيقُ الثّانِي كَما سَنَذْكُرُهُ. وهو مَن أقَرَّ بِفَهْمِ بَعْضِ مَعْنى هَذِهِ الأسْماءِ والصِّفاتِ دُونَ بَعْضٍ. فَيُقالُ لَهُ: ما الفَرْقُ بَيْنَ ما أثْبَتَّهُ وبَيْنَ ما نَفَيْتَهُ أوْ سَكَتَّ عَنْ إثْباتِهِ ونَفْيِهِ ؟ فَإنَّ الفَرْقَ إمّا أنْ يَكُونَ مِن جِهَةِ السَّمْعِ، لِأنَّ أحَدَ النَّصَّيْنِ دالٌّ دِلالَةٍ قَطْعِيَّةً أوْ ظاهِرَةً، بِخِلافِ الآخَرِ. أوْ مِن جِهَةِ العَقْلِ بِأنَّ أحَدَ المَعْنَيَيْنِ يَجُوزُ أوْ يَجِبُ إثْباتُهُ دُونَ الآخَرِ، وكِلا الوَجْهَيْنِ (p-٧٧٣)باطِلٌ في أكْثَرِ المَواضِعِ، أمّا الأوَّلُ فَدِلالَةُ القُرْآنِ عَلى أنَّهُ رَحْمانٌ رَحِيمٌ ودُودٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَلِيٌّ عَظِيمٌ، كَدِلالَتِهِ عَلى أنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، لَيْسَ بَيْنَهُما فَرْقٌ مِن جِهَةِ النَّصِّ. وكَذَلِكَ ذِكْرُهُ لِرَحْمَتِهِ ومَحَبَّتِهِ وعُلُوِّهِ مِثْلُ ذِكْرِهِ لِمَشِيئَتِهِ وإرادَتِهِ. وأمّا الثّانِي فَيُقالُ لِمَن أثْبَتَ شَيْئًا ونَفى آخَرَ: لِمَ نَفَيْتَ، مَثَلًا، حَقِيقَةَ رَحْمَتِهِ ومَحَبَّتِهِ وأعَدْتَ ذَلِكَ إلى إرادَتِهِ ؟ فَإنْ قالَ: لِأنَّ المَعْنى المَفْهُومَ مِنَ الرَّحْمَةِ في حَقِّنا هي رِقَّةٌ تَمْتَنِعُ عَلى اللَّهِ، قِيلَ لَهُ: والمَعْنى المَفْهُومُ مِنَ الإرادَةِ في حَقِّنا هي مَيْلٌ يَمْتَنِعُ عَلى اللَّهِ. فَإنْ قالَ: إرادَتُهُ لَيْسَتْ مِن جِنْسِ إرادَةِ خَلْقِهِ. قِيلَ لَهُ: ورَحْمَتُهُ لَيْسَتْ مِن جِنْسِ رَحْمَةِ خَلْقِهِ. وكَذَلِكَ مَحَبَّتُهُ. وإنْ قالَ (وهو حَقِيقَةُ قَوْلِهِ): لَمْ أُثْبِتْ الإرادَةَ وغَيْرَها بِالسَّمْعِ، وإنَّما أثْبَتُّ العِلْمَ والقُدْرَةَ والإرادَةَ بِالعَقْلِ. وكَذَلِكَ السَّمْعَ والبَصَرَ والكَلامَ عَلى إحْدى الطَّرِيقَتَيْنِ، لِأنَّ الفِعْلَ دَلَّ عَلى القُدْرَةِ، والإحْكامَ دَلَّ عَلى العِلْمِ، والتَّخْصِيصَ دَلَّ عَلى الإرادَةِ. قِيلَ لَهُ: الجَوابُ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّ الإنْعامَ والإحْسانَ وكَشْفَ الضُّرِّ دَلَّ أيْضًا عَلى الرَّحْمَةِ كَدِلالَةِ التَّخْصِيصِ عَلى الإرادَةِ والتَّقْرِيبِ والإدْناءِ. وأنْواعُ التَّخْصِيصِ الَّتِي لا تَكُونُ إلّا مِنَ المُحِبِّ تَدُلُّ عَلى المَحَبَّةِ، أوْ مُطْلَقُ التَّخْصِيصِ يَدُلُّ عَلى الإرادَةِ. وأمّا التَّخْصِيصُ بِالإنْعامِ فَتَخْصِيصُ خاصٌّ، والتَّخْصِيصُ بِالتَّقْرِيبِ والِاصْطِفاءِ تَقْرِيبٌ خاصٌّ، وما سَلَكَهُ في مَسْلَكِ الإرادَةِ يُسْلَكُ في مِثْلِ هَذا. اَلثّانِي: يُقالُ لَهُ: هَبْ أنَّ العَقْلَ لا يَدُلُّ عَلى هَذا، فَإنَّهُ لا يَنْفِيهِ إلّا بِمِثْلِ ما يَنْفِي بِهِ الإرادَةَ، والسَّمْعُ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، بَلْ الطُّمَأْنِينَةُ إلَيْهِ في هَذِهِ المَضايِقِ أعْظَمُ ودِلالَتُهُ أتَمُّ، فَلِأيِّ شَيْءٍ نَفَيْتَ مَدْلُولَهُ أوْ تَوَقَّفْتَ وأعَدْتَ هَذِهِ الصِّفاتِ كُلَّها إلى الإرادَةِ ؟ مَعَ أنَّ النُّصُوصَ تُفَرِّقُ. فَلا يَذْكُرُ حُجَّةً إلّا عُورِضَ بِمِثْلِها في إثْباتِهِ الإرادَةَ زِيادَةً عَلى الفِعْلِ. اَلثّالِثُ: يُقالُ لَهُ: إذا قالَ لَكَ الجَهْمِيُّ: الإرادَةُ لا مَعْنى لَها إلّا عَدَمُ الإكْراهِ، أوْ نَفْسُ الفِعْلِ والأمْرُ بِهِ، وزَعَمَ أنَّ إثْباتَ إرادَةٍ تَقْتَضِي مَحْذُورًا إنْ قالَ بِقِدَمِها، ومَحْذُورًا إنَّ قالَ بِحُدُوثِها. (p-٧٧٤)وهُنا اضْطَرَبَتْ المُعْتَزِلَةُ. فَإنَّهم لا يَقُولُونَ بِإرادَةٍ قَدِيمَةٍ لِامْتِناعِ صِفَةِ قَدِيمَةٍ عِنْدَهم. ولا يَقُولُونَ بِتَجَدُّدِ صِفَةٍ لَهُ، لِامْتِناعِ حُلُولِ الحَوادِثِ عَنْ أكْثَرِهِمْ مَعَ تُناقُضِهِمْ. فَصارُوا حِزْبَيْنِ: اَلْبَغْدادِيُّونَ: وهم أشَدُّ غُلُوًّا في البِدْعَةِ في الصِّفاتِ وفي القَدَرِ، نَفَوْا حَقِيقَةَ الإرادَةِ. وقالَ الحافِظُ: لا مَعْنى لَها إلّا عَدَمُ الإكْراهِ. وقالَ الكَعْبِيُّ: لا مَعْنى لَها إلّا نَفْسُ الفِعْلِ، إذا تَعَلَّقَتْ بِفِعْلِهِ، ونَفْسُ الأمْرِ إذا تَعَلَّقَتْ بِطاعَةِ عِبادِهِ. والبَصْرِيُّونَ: كَأبِي عَلِيٍّ وأبِي هاشِمٍ. قالُوا: تَحْدُثُ إرادَةٌ لا في مَحَلٍّ، فَلا إرادَةَ. فالتَزَمُوا حُدُوثَ حادِثٍ غَيْرِ مُرادٍ وقِيامَ صِفَةٍ بِغَيْرِ مَحَلٍّ، وكِلاهُما عِنْدَ العَقْلِ مَعْلُومُ الفَسادِ بِالبَدِيهَةِ. كانَ جَوابُهُ: أنَّ ما ادَّعى إحالَتَهُ مِن ثُبُوتِ الصِّفاتِ لَيْسَ بِمُحالٍ، والنَّصُّ قَدْ دَلَّ عَلَيْها، والفِعْلُ أيْضًا. فَإذا أخَذَ الخَصْمَ يُنازِعُ في دِلالَةِ النَّصِّ أوْ العَقْلِ، جُعِلَ مُسَفْسِطًا أوْ مُقَرْمِطًا، وهَذا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ في الرَّحْمَةِ والمَحَبَّةِ، فَإنَّ خُصُومَهُ يُنازِعُونَهُ في دِلالَةِ السَّمْعِ والعَقْلِ عَلَيْها عَلى الوَجْهِ القَطْعِيِّ. ثُمَّ يُقالُ لِخُصُومِهِ: بِمَ أثْبَتُّمْ أنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ؟ فَما أثْبَتُوهُ بِهِ مِن سَمْعٍ وعَقْلٍ فَبِعَيْنِهِ تَثْبُتُ الإرادَةُ، وما عارَضُوا بِهِ مِنَ الشُّبَهِ عُورِضُوا بِمِثْلِهِ في العَلِيمِ والقَدِيرِ، وإذا انْتَهى الأمْرُ إلى ثُبُوتِ المَعانِي، وأنَّها تَسْتَلْزِمُ الحُدُوثَ أوْ التَّرْكِيبَ والِافْتِقارَ، كانَ الجَوابُ ما قَرَّرْناهُ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، فَإنَّ ذَلِكَ لا يَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا ولا تَرْكِيبًا مُقْتَضِيًا حاجَةً إلى غَيْرِهِ. ويُعارِضُونَ أيْضًا بِما يَنْفِي بِهِ أهْلُ التَّعْطِيلِ الذّاتَ مِنَ الشُّبَهِ الفاسِدَةِ، ويُلْزِمُونَ بِوُجُودِ الرَّبِّ الخالِقِ المَعْلُومِ بِالفِطْرَةِ الخِلْقِيَّةِ، والضَّرُورَةِ العَقْلِيَّةِ، والقَواطِعِ العَقْلِيَّةِ، واتِّفاقِ الأُمَمِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلائِلِ. ثُمَّ يُطالِبُونَ بِوُجُودٍ مِن جِنْسِ ما نَعْهَدُهُ، أوْ بِوُجُودٍ يَعْلَمُونَ كَيْفِيَّتَهُ، فَلا بُدَّ أنْ يَفِرُّوا إلى إثْباتِ ما تُشْبِهُ حَقِيقَتُهُ الحَقائِقَ. فالقَوْلُ في سائِرِ ما سَمّى ووَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ كالقَوْلِ في نَفْسِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى. (p-٧٧٥)ونُكْتَةُ هَذا الكَلامِ أنَّ غالِبَ مَن نَفى وأثْبَتَ شَيْئًا مِمّا دَلَّ عَلَيْهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ، لا بُدَّ أنْ يُثْبِتَ الشَّيْءَ لِقِيامِ المُقْتَضى، وانْتِفاءِ المانِعِ. ويَنْفِي الشَّيْءَ لِوُجُودِ المانِعِ أوْ لِعَدَمِ المُقْتَضى، أوْ يَتَوَقَّفُ إذا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مُقْتَضٍ ولا مانِعٌ، فَيُبَيَّنُ لَهُ أنَّ المُقْتَضى فِيما نَفاهُ قائِمٌ، كَما أنَّهُ فِيما أثْبَتَهُ قائِمٌ. إمّا مِن كُلِّ وجْهٍ، أوْ مِن وجْهٍ يَجِبُ بِهِ الإثْباتُ. فَإنْ كانَ المُقْتَضى هُناكَ حَقًّا، فَكَذَلِكَ هُنا. وإلّا فَدَرْءُ ذاكَ المُقْتَضى مِن جِنْسِ دَرْءِ هَذا. وأمّا المانِعُ فَيُبَيَّنُ أنَّ المانِعَ الَّذِي تَخَيَّلَهُ فِيما نَفاهُ مِن جِنْسِ المانِعِ الَّذِي تَخَيَّلَهُ فِيما أثْبَتَهُ، فَإذا كانَ ذَلِكَ المانِعُ المُسْتَحِيلُ مَوْجُودًا عَلى التَّقْدِيرَيْنِ لَمْ يَنْجُ مِن مَحْذُورِهِ بِإثْباتِ أحَدِهِما ونَفْيِ الآخَرِ، فَإنَّهُ إنْ كانَ حَقًّا نَفاهُما، وإنْ كانَ باطِلًا لَمْ يَنْفِ واحِدًا مِنهُما، فَعَلَيْهِ أنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ في الإثْباتِ والنَّفْيِ، ولا سَبِيلَ إلى النَّفْيِ، فَتَعَيَّنَ الإثْباتَ. فَهَذِهِ نُكْتَةُ الإلْزامِ لِمَن أثْبَتَ شَيْئًا. وما مِن أحَدٍ إلّا ولا بُدَّ أنْ يُثْبِتَ شَيْئًا أوْ يَجِبُ عَلَيْهِ إثْباتُهُ، فَهَذا يُعْطِيكَ مِن حَيْثُ الجُمْلَةِ أنَّ اللَّوازِمَ الَّتِي يَدَّعِي أنَّها مُوجِبَةُ النَّفْيِ خَيالاتٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وإنْ لَمْ يُعْرَفْ فَسادُها عَلى التَّفْضِيلِ، وأمّا مِن حَيْثُ التَّفْصِيلِ، فَيُبَيَّنُ فَسادُ المانِعِ وقِيامُ المُقْتَضى كَما قَرَّرَ هَذا غَيْرَ مَرَّةٍ. فَإنْ قالَ: مَن أثْبَتَ هَذِهِ الصِّفاتِ الَّتِي هي فِينا أعْراضٌ كالحَياةِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ، ولَمْ يُثْبِتْ ما هو فِيها أبْعاضٌ كاليَدِ والقَدَمِ: هَذِهِ أجْزاءٌ وأبْعاضٌ تَسْتَلْزِمُ التَّرْكِيبَ والتَّجْسِيمَ. قِيلَ لَهُ: وتِلْكَ أعْراضٌ تَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ والتَّرْكِيبَ العَقْلِيَّ كَما اسْتَلْزَمَتْ هَذِهِ عِنْدَكَ التَّرْكِيبَ الحِسِّيَّ. فَإنْ أثْبَتَّ تِلْكَ عَلى وجْهٍ لا تَكُونُ أعْراضًا أوْ تَسْمِيَتُها أعْراضًا لا يَمْنَعُ ثُبُوتَها، قِيلَ لَهُ: وأثْبَتَّ هَذِهِ عَلى وجْهٍ لا تَكُونُ تَرْكِيبًا وأبْعاضًا أوْ تَسْمِيَتُها تَرْكِيبًا وأبْعاضًا لا يَمْنَعُ ثُبُوتَها. فَإنْ قالَ: هَذِهِ لا يُعْقَلُ مِنها إلّا الأجْزاءَ، قِيلَ لَهُ: وتِلْكَ لا يُعْقَلُ مِنها إلّا الأعْراضُ. فَإنْ قالَ: العَرَضُ ما لا يَبْقى وصِفاتُ الرَّبِّ باقِيَةٌ. قِيلَ: والبَعْضُ ما جازَ انْفِصالُهُ عَنْ الجُمْلَةِ، وذَلِكَ في حَقِّ اللَّهِ مُحالٌ، فَمُفارَقَةُ الصِّفاتِ القَدِيمَةِ مُسْتَحِيلَةٌ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى مُطْلَقًا، والمَخْلُوقُ يَجُوزُ أنْ تُفارِقَهُ أعْراضُهُ وأبْعاضُهُ. (p-٧٧٦)فَإنْ قالَ: ذَلِكَ تَجْسِيمٌ والتَّجْسِيمُ مُنْتَفٍ، قِيلَ: وهَذا تَجْسِيمٌ والتَّجْسِيمُ مُنْتَفٍ. فَإنْ قالَ: أنا أعْقِلُ صِفَةً لَيْسَتْ عَرَضًا بِغَيْرٍ مُتَحَيِّزٍ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ في الشّاهِدِ نَظِيرٌ. قِيلَ لَهُ: فاعْقِلْ صِفَةً هي لَنا بَعْضٌ لِغَيْرِ مُتَحَيِّزٍ وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ في الشّاهِدِ نَظِيرٌ. فَإنْ نَفى عَقْلَ هَذا نَفى عَقْلَ ذاكَ، وإنْ كانَ بَيْنَهُما نَوْعُ فَرْقٍ، لَكِنَّهُ فَرْقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ في مَوْضِعِ النِّزاعِ. ولِهَذا كانَتْ المُعَطِّلَةُ الجَهْمِيَّةُ تَنْفِي الجَمِيعَ لَكِنَّ ذاكَ أيْضًا مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ الذّاتِ، ومَن أثْبَتَ هَذِهِ الصِّفاتِ الخَبَرِيَّةِ مِن نَظِيرِ هَؤُلاءِ، صَرَّحَ بِأنَّها صِفَةٌ قائِمَةٌ بِهِ كالعِلْمِ والقُدْرَةِ، وهَذا أيْضًا لَيْسَ هو مَعْقُولَ النَّصِّ، ولا مَدْلُولَ العَقْلِ، وإنَّما الضَّرُورَةُ ألْجَأتْهم إلى هَذِهِ المَضايِقِ. وأصْلُ ذَلِكَ أنَّهم أتَوْا بِألْفاظٍ لَيْسَتْ في الكِتابِ ولا في السُّنَّةِ، وهي ألْفاظٌ مُجْمَلَةٌ. مِثْلَ مُتَحَيِّزٍ ومُحَدَّدٍ وجِسْمٍ ومُرَكَّبٍ، ونَحْوِ ذَلِكَ، ونَفَوْا مَدْلُولَها، وجَعَلُوا ذَلِكَ مُقَدِّمَةً بَيْنَهم مُسَلَّمَةً، ومَدْلُولًا عَلَيْها بِنَوْعِ قِياسٍ، وذَلِكَ القِياسُ أوْقَعَهم فِيهِ مَسْلَكٌ سَلَكُوهُ في إثْباتِ حُدُوثِ العالَمِ بِحُدُوثِ الأعْراضِ، أوْ إثْباتِ إمْكانِ الجِسْمِ بِالتَّرْكِيبِ مِنَ الأجْزاءِ، فَوَجَبَ طَرْدُ الدَّلِيلِ بِالحُدُوثِ والإمْكانِ لِكُلِّ ما شَمِلَهُ هَذا الدَّلِيلُ، إذْ الدَّلِيلُ القَطْعِيُّ لا يَقْبَلُ التَّرْكَ لِمُعارِضٍ راجِحٍ، فَرَأوْا ذَلِكَ يُعَكِّرُ عَلَيْهِمْ مِن جِهَةِ النُّصُوصِ ومِن جِهَةِ العَقْلِ مِن ناحِيَةٍ أُخْرى فَصارُوا أحْزابًا، تارَةً يُغَلِّبُونَ القِياسَ الأوَّلَ ويَدْفَعُونَ ما عارَضَهُ وهم المُعْتَزِلَةُ، وتارَةً يُغَلِّبُونَ القِياسَ الثّانِيَ ويَدْفَعُونَ الأوَّلَ كَهِشامِ بْنِ الحَكَمِ الرّافِضِيِّ، فَإنَّهُ قَدْ قِيلَ: أوَّلُ ما تُكُلِّمَ في الجِسْمِ نَفْيًا وإثْباتًا مِن زَمَنِ هِشامِ بْنِ الحَكَمِ وأبِي الهُذَيْلِ العَلّافِ. فَإنَّ أبا الهُذَيْلِ ونَحْوَهُ مِن قُدَماءَ المُعْتَزِلَةِ نَفَوْا الجِسْمَ لِما سَلَكُوا مِنَ القِياسِ. وعارَضَهم هِشامُ وأثْبَتَ الجِسْمَ لِما سَلَكُوهُ مِنَ القِياسِ، واعْتَقَدَ الأوَّلُونَ إحالَةَ ثُبُوتِهِ، واعْتَقَدَ هَذا إحالَةَ نَفْيِهِ، وتارَةً يَجْمَعُونَ بَيْنَ النُّصُوصِ والقِياسِ بِجَمْعٍ يَظْهَرُ فِيهِ الإحالَةُ والتَّناقُضُ. فَما أعْلَمُ أحَدًا مِنَ الخارِجِينَ عَنْ الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن جَمِيعِ فُرْسانِ الكَلامِ والفَلْسَفَةِ إلّا ولا بُدَّ أنْ يَتَناقَضَ فَيُحِيلُ ما أوْجَبَ نَظِيرَهُ، ويُوجِبُ ما أحالَ نَظِيرَهُ، إذْ كَلامُهم مِن (p-٧٧٧)عِنْدٍ غَيْرِ اللَّهِ، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢] والصَّوابُ ما عَلَيْهِ أئِمَّةُ الهُدى، وهو أنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أوْ وصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، لا يُتَجاوَزُ القُرْآنُ والحَدِيثُ، ويُتَّبِعُ في ذَلِكَ سُبُلُ السَّلَفِ الماضِينَ، أهْلِ العِلْمِ والإيمانِ. والمَعانِي المَفْهُومَةُ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ لا تُرَدُّ بِالشُّبَهاتِ فَتَكُونُ مِن بابِ تَحْرِيفِ الكَلِمِ عَنْ مَواضِعِهِ. ولا يُعْرَضُ عَنْها، فَيَكُونُ مِن بابِ الَّذِينَ إذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وعُمْيانًا. ولا يُتْرَكُ تَدَبُّرُ القُرْآنِ، فَيَكُونُ مِن بابِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلّا أمانِيَّ. فَهَذا أحَدُ الوَجْهَيْنِ. وهو مَنعُ أنْ تَكُونَ مِنَ المُتَشابِهِ. * * * اَلْوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ إذا قِيلَ هَذِهِ مِنَ المُتَشابِهِ، أوْ كانَ فِيها ما هو مِنَ المُتَشابِهِ، كَما نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الأئِمَّةِ أنَّهُ سَمّى بَعْضَ ما اسْتَدَلَّ بِهِ الجَهْمِيَّةُ مُتَشابِهًا،، فَيُقالُ: الَّذِي في القُرْآنِ أنَّهُ لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ، إمّا المُتَشابِهُ، وإمّا الكِتابُ كُلُّهُ كَما تَقَدَّمَ. ونَفْيُ عِلْمِ تَأْوِيلِهِ لَيْسَ نَفْيَ عِلْمِ مَعْناهُ كَما قَدَّمْناهُ في القِيامَةِ وأُمُورِ القِيامَةِ. وهَذا الوَجْهُ قَوِيٌّ إنَّ ثَبَتَ حَدِيثُ ابْنِ إسْحاقَ في وفْدِ نَجْرانَ، أنَّهم احْتَجُّوا عَلى النَّبِيِّ ﷺ بِقَوْلِهِ: (إنّا ونَحْنُ) ونَحْوِ ذَلِكَ، ويُؤَيِّدُهُ أيْضًا أنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أنَّ في القُرْآنِ مُتَشابِهًا، وهو ما يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، وفي سائِرِ الصِّفاتِ ما هو مِن هَذا البابِ، كَما أنَّ ذَلِكَ في مَسائِلِ المَعادِ وأوْلى، فَإنَّ نَفْيَ المُتَشابِهِ بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ خَلْقِهِ أعْظَمُ مِن نَفْيِ المُتَشابِهِ بَيْنَ مَوْعُودِ الجَنَّةِ ومَوْجُودِ الدُّنْيا، وإنَّما نُكْتَةُ الجَوابِ هو ما قَدَّمْناهُ أوَّلًا أنَّ نَفْيَ عِلْمِ التَّأْوِيلِ لَيْسَ نَفْيًا لِعِلْمِ المَعْنى، ونَزِيدُهُ تَقْرِيرًا أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ يَقُولُ: ﴿ولَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ في هَذا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الزمر: ٢٧] ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ [الزمر: ٢٨] وقالَ (p-٧٧٨)تَعالى: ﴿الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ﴾ [يوسف: ١] ﴿إنّا أنْـزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: ٢] فَأخْبَرَ أنَّهُ أنْزَلَهُ لِيَعْقِلُوهُ، وأنَّهُ طَلَبَ تَذَكُّرَهم. وقالَ أيْضًا: ﴿وتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهم يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر: ٢١] فَحَضَّ عَلى تَدَبُّرِهِ وفِقْهِهِ وعَقْلِهِ والتَّذَكُّرِ بِهِ والتَّفْكِيرِ فِيهِ، ولَمْ يَسْتَثْنِ مِن ذَلِكَ شَيْئًا. بَلْ نُصُوصٌ مُتَعَدِّدَةٌ تُصَرِّحُ بِالعُمُومِ فِيهِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها﴾ [محمد: ٢٤] وقَوْلُهُ: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢] ومَعْلُومٌ أنَّ نَفْيَ الِاخْتِلافِ عَنْهُ لا يَكُونُ إلّا بِتَدَبُّرِهِ كُلِّهِ، وإلّا فَتَدَبُّرُ بَعْضِهِ لا يُوجِبُ الحُكْمَ بِنَفْيِ مُخالَفَةِ ما لَمْ يُتَدَبَّرْ لِما تُدُبِّرَ. وقالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا قِيلَ لَهُ: هَلْ تَرَكَ عِنْدَكم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَيْئًا ؟ فَقالَ: لا واَلَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وبَرَأ النَّسَمَةَ، إلّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا في كِتابِهِ وما في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. فَأخْبَرَ أنَّ الفَهْمَ فِيهِ مُخْتَلِفٌ في الأُمَّةِ، والفَهْمُ أخَصُّ مِنَ العِلْمِ والحُكْمِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ (p-٧٧٩)وكُلا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٩] وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ««رَبَّ مَبْلَغٍ أوَعّى مِن سامِعٍ»»، وقالَ: ««بَلَّغُوا عَنِّي ولَوْ آيَةً»» . وأيْضًا فالسَّلَفُ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ وسائِرِ الأُمَّةِ قَدْ تَكَلَّمُوا في جَمِيعِ نُصُوصِ القُرْآنِ، آياتِ الصِّفاتِ وغَيْرِها، وفَسَّرُوها بِما يُوافِقُ دِلالَتَها، ورَوَوْا عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أحادِيثَ كَثِيرَةً تُوافِقُ القُرْآنَ. وأئِمَّةُ الصَّحابَةِ في هَذا أعْظَمُ مِن غَيْرِهِمْ. مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي كانَ يَقُولُ: لَوْ أعْلَمُ أعْلَمَ بِكِتابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ آباطُ الإبِلِ لَأتَيْتُهُ. (p-٧٨٠)وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبّاسٍ الَّذِي دَعا لَهُ النَّبِيُّ ﷺ وهو حَبْرُ الأُمَّةِ وتُرْجُمانِ القُرْآنِ، كانا هُما وأصْحابُهُما مِن أعْظَمِ الصَّحابَةِ والتّابِعِينِ إثْباتًا لِلصِّفاتِ ورِوايَةً لَها عَنْ النَّبِيِّ ﷺ . ومَن لَهُ خِبْرَةٌ بِالحَدِيثِ والتَّفْسِيرِ يَعْرِفُ هَذا، وما في التّابِعِينِ أجَلُّ مِن أصْحابِ هَذَيْنِ السَّيِّدَيْنِ، بَلْ وثالِثُهُما في عِلْيَةِ التّابِعِينَ مِن جِنْسِهِمْ أوْ قَرِيبٍ مِنهم جَلالَةً، أصْحابُ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، لَكِنَّ أصْحابَهُ مَعَ جَلالَتِهِمْ لَيْسُوا مُخْتَصِّينَ بِهِ، بَلْ أخَذُوا عَنْ غَيْرِهِ مِثْلَ عُمَرَ، وابْنِ عُمَرَ، وابْنِ عَبّاسٍ. ولَوْ كانَ مَعانِي هَذِهِ الآياتِ مَنفِيًّا أوْ مَسْكُوتًا عَنْهُ، لَمْ يَكُنْ رَبّانِيُّو الصَّحابَةِ أهْلُ العِلْمِ بِالكِتابِ والسُّنَّةِ أكْثَرَ كَلامًا فِيهِ، ثُمَّ إنَّ الصَّحابَةَ نَقَلُوا عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهم كانُوا يَتَعَلَّمُونَ مِنهُ التَّفْسِيرَ مَعَ التِّلاوَةِ، ولَمْ يَذْكُرْ أحَدٌ مِنهم عَنْهُ قَطُّ أنَّهُ امْتَنَعَ مِن تَفْسِيرِ آيَةٍ. قالَ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: حَدَّثَنا الَّذِينَ كانُوا يُقْرِئُونَنا: عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وغَيْرُهُما أنَّهم كانُوا إذا تَعَلَّمُوا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَشْرَ آياتٍ لَمْ يُجاوِزُوها حَتّى يَتَعَلَّمُوا ما فِيهِ مِنَ العِلْمِ والعَمَلِ، قالُوا: فَتَعَلَّمْنا القُرْآنَ والعِلْمَ والعَمَلَ. وكَذَلِكَ الأئِمَّةُ كانُوا إذا سُئِلُوا شَيْئًا مِن ذَلِكَ لَمْ يَنْفُوا مَعْناهُ، بَلْ يُثْبِتُونَ المَعْنى ويَنْفُونَ الكَيْفِيَّةَ. كَقَوْلِ مالِكِ بْنِ أنَسٍ لَمّا سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] كَيْفَ اسْتَوى ؟ فَقالَ: الِاسْتِواءُ مَعْلُومٌ، والكَيْفُ مَجْهُولٌ، والإيمانُ بِهِ واجِبٌ، والسُّؤالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. وكَذَلِكَ رَبِيعَةُ قَبْلَهُ. وقَدْ تَلَقّى النّاسُ هَذا الكَلامَ بِالقَبُولِ. فَلَيْسَ في أهْلِ السُّنَّةِ مَن يُنْكِرُهُ. وقَدْ بَيَّنَ أنَّ الِاسْتِواءَ مَعْلُومٌ، كَما أنَّ سائِرَ ما أخْبَرَ بِهِ مَعْلُومٌ، ولَكِنَّ الكَيْفِيَّةَ لا تُعْلَمُ، ولا يَجُوزُ السُّؤالُ عَنْها، لا يُقالُ: كَيْفَ اسْتَوى ؟ ولَمْ يَقُلْ مالِكٌ: الكَيْفُ مَعْدُومٌ، وإنَّما قالَ: الكَيْفُ مَجْهُولٌ. وهَذا فِيهِ نِزاعٌ بَيْنَ أصْحابِنا وغَيْرِهِمْ مِن أهْلِ السُّنَّةِ، غَيْرَ أنَّ أكْثَرَهم يَقُولُونَ: لا تَخْطُرُ كَيْفِيَّتُهُ بِبالٍ، ولا تَجْرِي ماهِيَّتُهُ في مَقالٍ. ومِنهم مَن يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ كَيْفِيَّةٌ ولا ماهِيَّةٌ. فَإنْ قِيلَ: مَعْنى قَوْلِهِ: الِاسْتِواءُ مَعْلُومٌ أنَّ وُرُودَ هَذا اللَّفْظِ في القُرْآنِ مَعْلُومٌ كَما قالَهُ بَعْضُ أصْحابِنا الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعْرِفَةَ مَعانِيها مِنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، قِيلَ: هَذا ضَعِيفٌ، فَإنَّ هَذا (p-٧٨١)مِن بابِ تَحْصِيلِ الحاصِلِ، فَإنَّ السّائِلَ قَدْ عَلِمَ أنَّ هَذا مَوْجُودٌ في القُرْآنِ، وقَدْ تَلا الآيَةَ، وأيْضًا فَلَمْ يَقُلْ ذُكِرَ الِاسْتِواءُ في القُرْآنِ، ولا إخْبارُ اللَّهِ بِالِاسْتِواءِ، وإنَّما قالَ: الِاسْتِواءُ مَعْلُومٌ، فَأخْبَرَ عَنْ الِاسْمِ المُفْرَدِ أنَّهُ مَعْلُومٌ، لَمْ يُخْبِرْ عَنْ الجُمْلَةِ، وأيْضًا فَإنَّهُ قالَ: والكَيْفُ مَجْهُولٌ، ولَوْ أرادَ ذَلِكَ لَقالَ: مَعْنى الِاسْتِواءِ مَجْهُولٌ، أوْ تَفْسِيرُ الِاسْتِواءِ مَجْهُولٌ، أوْ بَيانُ الِاسْتِواءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَلَمْ يَنْفِ إلّا العِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الِاسْتِواءِ، لا العِلْمَ بِنَفْسِ الِاسْتِواءِ، وهَذا شَأْنُ جَمِيعِ ما وصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ. لَوْ قالَ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّنِي مَعَكُما أسْمَعُ وأرى﴾ [طه: ٤٦] كَيْفَ يَسْمَعُ وكَيْفَ يَرى ؟ لَقُلْنا: السَّمْعُ والرُّؤْيَةُ مَعْلُومٌ والكَيْفُ مَجْهُولٌ. ولَوْ قالَ: كَيْفَ كَلَّمَ مُوسى تَكْلِيمًا ؟ لَقُلْنا: التَّكْلِيمُ مَعْلُومٌ والكَيْفُ غَيْرُ مَعْلُومٍ. وأيْضًا فَإنَّ مَن قالَ هَذا مِن أصْحابِنا وغَيْرِهِمْ مِن أهْلِ السُّنَّةِ يُقِرُّونَ بِأنَّ اللَّهَ فَوْقَ العَرْشِ حَقِيقَةً، وأنَّ ذاتَهُ فَوْقَ ذاتِ العَرْشِ، لا يُنْكِرُونَ مَعْنى الِاسْتِواءِ، ولا يَرَوْنَ هَذا مِنَ المُتَشابِهِ الَّذِي لا يُعْلَمُ مَعْناهُ بِالكُلِّيَّةِ. ثُمَّ السَّلَفُ مُتَّفِقُونَ عَلى تَفْسِيرِهِ بِما هو مَذْهَبُ أهْلِ السُّنَّةِ. قالَ بَعْضُهم: ارْتَفَعَ عَلى العَرْشِ: عَلا عَلى العَرْشِ. وقالَ بَعْضُهم عِباراتٍ أُخْرى. وهَذِهِ ثابِتَةٌ عَنْ السَّلَفِ. وقَدْ ذَكَرَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ بَعْضَها في آخِرِهِ، في كِتابِ الرَّدِّ عَلى الجَهْمِيَّةِ. وأمّا التَّأْوِيلاتُ المُحَرَّفَةُ مِثْلَ اسْتَوْلى وغَيْرِ ذَلِكَ، فَهي مِنَ التَّأْوِيلاتِ المُبْتَدَعَةِ لَمّا ظَهَرَتْ الجَهْمِيَّةُ. وأيْضًا قَدْ ثَبَتَ أنَّ اتِّباعَ المُتَشابِهِ لَيْسَ في خُصُوصِ الصِّفاتِ، بَلْ في صَحِيحِ البُخارِيِّ (p-٧٨٢)أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لِعائِشَةَ: ««يا عائِشَةُ ! إذا رَأيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ؛ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمّى اللَّهُ، فاحْذَرِيهِمْ»»، وهَذا عامٌّ. وقِصَّةُ صَبِيغِ بْنِ عَسَلٍ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ مِن أشْهَرِ القَضايا، فَإنَّهُ بَلَغَهُ أنَّهُ يَسْألُ عَنْ مُتَشابِهِ القُرْآنِ حَتّى رَآهُ عُمَرُ، فَسَألَ عُمَرَ عَنْ: ﴿والذّارِياتِ ذَرْوًا﴾ [الذاريات: ١] فَقالَ: ما اسْمُكَ ؟ قالَ: عَبْدُ اللَّهِ صَبِيغٌ، فَقالَ: وأنا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ، وضَرَبَهُ الضَّرْبَ الشَّدِيدَ. وكانَ ابْنُ عَبّاسٍ إذا ألَحَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ في مَسْألَةٍ مِن هَذا الجِنْسِ يَقُولُ: ما أحْوَجَكَ أنْ يُصْنَعَ بِكَ كَما صَنَعَ عُمَرُ بِصَبِيغٍ. وهَذا لِأنَّهم رَأوْا أنَّ غَرَضَ السّائِلِ ابْتِغاءُ الفِتْنَةِ لا الِاسْتِرْشادُ والِاسْتِفْهامُ، كَما قالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««إذا رَأيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ...»» . وكَما قالَ تَعالى: ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ﴾ فَعاقِبُوهم عَلى هَذا القَصْدِ الفاسِدِ، كاَلَّذِي يُعارِضُ بَيْنَ آياتِ القُرْآنِ. وقَدْ نَهى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ ذَلِكَ وقالَ: لا تَضْرِبُوا كِتابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ فَإنَّ ذَلِكَ يُوقِعُ الشَّكَّ في قُلُوبِهِمْ (p-٧٨٣)ومَعَ ابْتِغاءِ الفِتْنَةِ ابْتِغاءُ تَأْوِيلِهِ الَّذِي لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ، فَكانَ مَقْصُودُهم مَذْمُومًا، ومَطْلُوبُهم مُتَعَذِّرًا، مِثْلَ أُغْلُوطاتِ المَسائِلِ الَّتِي نَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْها. ومِمّا يُبَيِّنُ الفَرْقَ بَيْنَ المَعْنى والتَّأْوِيلِ أنْ صَبِيغًا سَألَ عَنْ الذّارِياتِ ولَيْسَتْ مِنَ الصِّفاتِ. وقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحابَةُ في تَفْسِيرِها مِثْلَ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ مَعَ ابْنِ الكَوّاءِ لَمّا سَألَهُ عَنْها، كَرِهَ سُؤالَهُ، لِما رَآهُ مِن قَصْدِهِ، لَكِنْ عَلِيٌّ كانَ رَعِيَّتُهُ مُلْتَوِيَةً عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ مُطاعًا فِيهِمْ طاعَةَ عُمَرَ حَتّى يُؤَدِّبَهُ، والذّارِياتِ والحامِلاتِ والجارِياتِ والمُقَسِّماتِ فِيها اشْتِباهٌ، لِأنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الرِّياحَ والسَّحابَ والنُّجُومَ والمَلائِكَةَ ويَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ، إذْ لَيْسَ في اللَّفْظِ ذِكْرُ المَوْصُوفِ. والتَّأْوِيلُ الَّذِي لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ هو أعْيانُ الرِّياح ومَقادِيرُها وصِفاتُها وأعْيانُ السَّحابِ وما تَحْمِلُهُ مِنَ الأمْطارِ ومَتى يَنْزِلُ المَطَرُ. وكَذَلِكَ في الجارِياتِ والمُقَسِّماتِ، فَهَذا لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ تَعالى. وكَذَلِكَ في قَوْلِهِ: (إنّا ونَحْنُ) ونَحْوِهِما مِن أسْماءِ اللَّهِ الَّتِي فِيها مَعْنى الجَمْعِ كَما اتَّبَعَتْهُ النَّصارى، فَإنَّ مَعْناهُ مَعْلُومٌ وهو اللَّهُ سُبْحانَهُ، لَكِنَّ اسْمَ الجَمْعِ يَدُلُّ عَلى تَعَدُّدِ المَعانِي بِمَنزِلَةِ الأسْماءِ المُتَعَدِّدَةِ، مِثْلَ العَلِيمِ والقَدِيرِ والسَّمِيعِ والبَصِيرِ، فَإنَّ المُسَمّى واحِدٌ، ومَعانِيَ الأسْماءِ مُتَعَدِّدَةٌ، فَهَكَذا الِاسْمُ الَّذِي لَفْظُهُ الجَمْعُ. وأمّا التَّأْوِيلُ الَّذِي اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ، فَحَقِيقَةُ ذاتِهِ وصِفاتِهِ، كَما قالَ مالِكٌ: والكَيْفُ مَجْهُولٌ فَإذا قالُوا: ما حَقِيقَةُ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ وسَمْعِهِ وبَصَرِهِ ؟ قِيلَ: هَذا هو التَّأْوِيلُ الَّذِي لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ. وما أحْسَنَ ما يُعادُ التَّأْوِيلُ إلى القُرْآنِ كُلِّهِ. (p-٧٨٤)فَإنْ قِيلَ: فَقَدْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِابْنِ عَبّاسٍ: ««اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ في الدِّينِ وعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»» . قِيلَ: أمّا تَأْوِيلُ الأمْرِ والنَّهْيِ فَذاكَ يَعْلَمُهُ، واللّامُ هُنا لِلتَّأْوِيلِ المَعْهُودِ، لَمْ يَقُلْ: تَأْوِيلَ كُلِّ القُرْآنِ. فالتَّأْوِيلُ المَنفِيُّ هو تَأْوِيلُ الأخْبارِ الَّتِي لا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ مَخْبَرِها إلّا اللَّهُ، والتَّأْوِيلُ المَعْلُومُ هو الأمْرُ الَّذِي يَعْلَمُ العِبادُ تَأْوِيلَهُ. وهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [الأعراف: ٥٣] وقَوْلِهِ: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ولَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ [يونس: ٣٩] فَإنَّ المُرادَ تَأْوِيلُ الخَبَرِ الَّذِي فِيهِ عَنْ المُسْتَقْبَلِ، فَإنَّهُ هو الَّذِي يُنْتَظَرُ ويَأْتِي، ولَمّا يَأْتِهِمْ. وأمّا تَأْوِيلُ الأمْرِ والنَّهْيِ فَذاكَ في الأمْرِ، وتَأْوِيلُ الخَبَرِ عَنْ اللَّهِ وعَمَّنْ مَضى إنَّ أُدْخِلَ في التَّأْوِيلِ لا يُنْتَظَرُ، واَللَّهُ سُبْحانَهُ أعْلَمُ وبِهِ التَّوْفِيقُ. انْتَهى كَلامُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ. وإنَّما سُقْتُهُ بِطُولِهِ لِما أنَّ هَذا البَحْثَ مِنَ المَعارِكِ المُهِمَّةِ الَّتِي قَلَّ مَن حَرَّرَها ونَهَجَ فِيها مَنهَجَ الحَقِّ كالشَّيْخِ - قُدِّسَ سِرُّهُ - . ومَعَ ما في خِلالِ البَحْثِ مِنَ القَواعِدِ الجَلِيلَةِ في فَنِّ التَّفْسِيرِ. فَخُذْ ما أُوتِيتَ وكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ. واَللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهو يَهْدِي السَّبِيلَ. (p-٧٨٥)وقالَ الإمامُ الجَلِيلُ أبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ المُرْتَضى اليَمانِيُّ في كِتابِ (إيثارِ الحَقِّ عَلى الخَلْقِ) في بَحْثِ سَبَبِ الِاخْتِلافِ الشَّدِيدِ بَيْنَ الفِرَقِ ما نَصُّهُ: وأمّا الأصْلُ الثّانِي وهو السَّمْعُ فَهو اخْتِلافُهم في أمْرَيْنِ: أحَدُهُما: في مَعْرِفَةِ المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ أنْفُسِهِما والتَّمْيِيزِ بَيْنَهُما حَتّى يُرَدَّ المُتَشابِهُ إلى المُحْكَمِ. وثانِيهِما: اخْتِلافُهم هَلْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ المُتَشابِهِ، ثُمَّ اخْتِلافُهم في تَأْوِيلِهِ عَلى تَسْلِيمِ أنَّهم قَدْ عَرَفُوا المُتَشابِهَ. [[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب