الباحث القرآني

اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١٩١ ] ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِهِمْ ويَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ . ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِهِمْ﴾ أيْ: فَلا يَخْلُو حالٌ مِن أحْوالِهِمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ المُفِيدِ صَفاءَ الظّاهِرِ المُؤَثِّرِ في تَصْفِيَةِ الباطِنِ. فالمُرادُ: تَعْمِيمُ الذِّكْرِ لِلْأوْقاتِ، وعَدَمُ الغَفْلَةِ عَنْهُ تَعالى. وتَخْصِيصُ الأحْوالِ المَذْكُورَةِ بِالذِّكْرِ، لَيْسَ لِتَخْصِيصِ الذِّكْرِ بِها، بَلْ لِأنَّها الأحْوالُ المَعْهُودَةُ الَّتِي لا يَخْلُو عَنْها الإنْسانُ غالِبًا: ﴿ويَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ: في إنْشائِهِما بِهَذِهِ الأجْرامِ العِظامِ، وما فِيهِما مِن عَجائِبِ المَصْنُوعاتِ، وغَرائِبِ المُبْتَدَعاتِ، لِيَدُلَّهم ذَلِكَ عَلى كَمالِ قُدْرَةِ الصّانِعِ سُبْحانَهُ وتَعالى، فَيَعْلَمُوا أنَّ لَهُما خالِقًا قادِرًا مُدَبِّرًا حَكِيمًا، لِأنَّ عِظَمَ آثارِهِ وأفْعالِهِ تَدُلُّ عَلى عِظَمِ خالِقِها تَعالى. كَما قِيلَ: ؎وفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ واحِدُ رَوى ابْنُ أبِي الدُّنْيا في (كِتابِ التَّوَكُّلِ والِاعْتِبارِ) عَنْ الصُّوفِيِّ الجَلِيلِ الشَّيْخِ أبِي سُلَيْمانَ الدّارانِيِّ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ - أنَّهُ قالَ: إنِّي لَأخْرُجُ مِن مَنزِلِي، فَما يَقَعُ بَصَرِي عَلى شَيْءٍ إلّا رَأيْتُ لِلَّهِ عَلَيَّ فِيهِ نِعْمَةً، ولِي فِيهِ عِبْرَةٌ. وإنَّما خُصِّصَ التَّفَكُّرُ بِالخَلْقِ لِلنَّهْيِ عَنْ التَّفَكُّرِ في الخالِقِ لِعَدَمِ الوُصُولِ إلى كُنْهِ ذاتِهِ وصِفاتِهِ. خَرَّجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ: «(لا تَفَكَّرُوا في اللَّهِ، ولَكِنْ تَفَكَّرُوا فِيما خَلَقَ)» . ولَهُ شَواهِدُ كَثِيرَةٌ. (p-١٠٦٧)قالَ الرّازِيُّ: دَلائِلُ التَّوْحِيدِ مَحْصُورَةٌ في قِسْمَيْنِ: دَلائِلُ الآفاقِ، ودَلائِلُ الأنْفُسِ، ولا شَكَّ أنَّ دَلائِلَ الآفاقِ أجَلُّ وأعْظَمُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ أكْبَرُ مِن خَلْقِ النّاسِ﴾ [غافر: ٥٧] ولَمّا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، لا جَرَمَ أُمِرَ في هَذِهِ الآيَةِ بِالفِكْرِ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ، لِأنَّ دِلالَتَها أعْجَبُ، وشَواهِدَها أعْظَمُ، وكَيْفَ لا نَقُولُ ذَلِكَ، ولَوْ أنَّ الإنْسانَ نَظَرَ إلى ورَقَةٍ صَغِيرَةٍ مِن أوْراقِ شَجَرَةٍ، رَأى في تِلْكَ الوَرَقَةِ عِرْقًا واحِدًا ًمُمْتَدًّا في وسَطِها، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ مِن ذَلِكَ العِرْقِ عُرُوقٌ كَثِيرَةٌ إلى الجانِبَيْنِ، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ مِنها عُرُوقٌ دَقِيقَةٌ، ولا يَزالُ يَتَشَعَّبُ مِن كُلِّ عِرْقٍ عُرُوقٌ أُخَرُ، حَتّى تَصِيرَ في الدِّقَّةِ بِحَيْثُ لا يَراها البَصَرُ، وعِنْدَ هَذا يَعْلَمُ أنَّ لِلْخالِقِ في تَدْبِيرِ تِلْكَ الوَرَقَةِ عَلى هَذِهِ الخِلْقَةِ حِكَمًا بالِغَةً، وأسْرارًا عَجِيبَةً، وأنَّ اللَّهَ تَعالى أوْدَعَ فِيها قُوًى جاذِبَةً لِغِذائِها مِن قَعْرِ الأرْضِ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الغِذاءَ يَجْرِي في تِلْكَ العُرُوقِ، حَتّى يَتَوَزَّعَ عَلى كُلِّ جُزْءٍ مِن أجْزاءِ تِلْكَ الوَرَقَةِ جُزْءٌ مِن أجْزاءِ ذَلِكَ الغِذاءِ بِتَقْدِيرِ العَزِيزِ العَلِيمِ، ولَوْ أرادَ الإنْسانُ أنْ يَعْرِفَ كَيْفِيَّةَ خِلْقَةِ تِلْكَ الوَرَقَةِ، وكَيْفِيَّةَ التَّدْبِيرِ في إيجادِها، وإيداعِ القُوى الغاذِيَةِ والنّامِيَةِ فِيها، لَعَجَزَ عَنْهُ. فَإذا عَرَفَ أنَّ عَقْلَهُ قاصِرٌ عَنْ الوُقُوفِ عَلى كَيْفِيَّةِ خِلْقَةِ تِلْكَ الوَرَقَةِ الصَّغِيرَةِ، فَحِينَئِذٍ يَقِيسُ تِلْكَ الوَرَقَةَ إلى السَّماواتِ، مَعَ ما فِيها مِنَ الشَّمْسِ والقَمَرِ والنُّجُومِ. وإلى الأرْضِ مَعَ ما فِيها مِنَ البِحارِ والجِبالِ والمَعادِنِ والنَّباتِ والحَيَوانِ - عَرَفَ أنَّ تِلْكَ الوَرَقَةَ بِالنِّسْبَةِ إلى هَذِهِ الأشْياءِ كالعَدَمِ. فَإذا عَرَفَ قُصُورَ عَقْلِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الحَقِيرِ - عَرَفَ أنَّهُ لا سَبِيلَ لَهُ البَتَّةَ إلى الِاطِّلاعِ عَلى عَجائِبِ حِكْمَةِ اللَّهِ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ، وإذا عَرَفَ بِهَذا البُرْهانِ النَّيِّرِ قُصُورَ عَقْلِهِ وفَهْمِهِ عَنْ الإحاطَةِ بِهَذا المَقامِ، لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إلّا الِاعْتِرافُ بِأنَّ الخالِقَ أجَلُّ وأعْظَمُ مِن أنْ يُحِيطَ بِهِ وصْفُ الواصِفِينَ ومَعارِفُ العارِفِينَ. بَلْ يُسَلِّمُ أنَّ كُلَّ ما خَلَقَهُ فَفِيهِ حِكَمٌ بالِغَةٌ، وأسْرارٌ عَظِيمَةٌ، وإنْ كانَ لا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَتِها. وإلى هَذا الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلا﴾ عَلى إرادَةِ (p-١٠٦٨)اَلْقَوْلِ بِمَعْنى يَتَفَكَّرُونَ قائِلِينَ ذَلِكَ. وكَلِمَةُ: (هَذا) مُتَضَمِّنَةٌ لِضَرْبٍ مِنَ التَّعْظِيمِ، أيْ: ما خَلَقْتُ هَذا المَخْلُوقَ البَدِيعَ العَظِيمَ الشَّأْنِ عَبَثًا، عارِيًا عَنْ الحِكْمَةِ، خالِيًا عَنْ المَصْلَحَةِ، بَلْ مُنْتَظِمًا لِحِكَمٍ جَلِيلَةٍ، ومَصالِحَ عَظِيمَةٍ. مَن جُمْلَتِها أنْ يَكُونَ دِلالَةً عَلى مَعْرِفَتِكَ، ووُجُوبِ طاعَتِكَ، واجْتِنابِ مَعْصِيَتِكَ، وأنْ يَكُونَ مَدارًا لِمَعايِشِ العِبادِ، ومَنارًا يُرْشِدُهم إلى مَعْرِفَةِ أحْوالِ المَبْدَأِ والمَعادِ. لَطِيفَةٌ: قالَ أبُو البَقاءِ: (باطِلًا) مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ. والباطِلُ، هُنا، فاعِلٌ بِمَعْنى المَصْدَرِ، مِثْلَ العاقِبَةِ والعافِيَةِ. والمَعْنى: ما خَلَقْتُهُما عَبَثًا. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا. تَقْدِيرُهُ ما خَلَقْتُ هَذا خالِيًا عَنْ حِكْمَةٍ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: خَلْقًا باطِلًا - انْتَهى - . وقَوْلُهُ: ﴿سُبْحانَكَ﴾ أيْ: تَنْزِيهًا لَكَ مِنَ العَبَثِ، وأنْ تَخْلُقَ شَيْئًا بِغَيْرِ حِكْمَةٍ: ﴿فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ قالَ السُّيُوطِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبابُ هَذا الذِّكْرِ عِنْدَ النَّظَرِ إلى السَّماءِ. ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ في (الأذْكارِ) ا هـ. وفِيهِ تَعْلِيمُ العِبادِ كَيْفِيَّةَ الدُّعاءِ، وهو تَقْدِيمُ الثَّناءِ عَلى اللَّهِ تَعالى أوَّلًا، كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿سُبْحانَكَ﴾ ثُمَّ بَعْدَ الثَّناءِ يَأْتِي الدُّعاءُ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ: ﴿فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ وعَنْ فَضالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: «سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَجُلًا يَدْعُو في صَلاتِهِ، لَمْ يُمَجِّدْ اللَّهَ تَعالى، ولَمْ يُصَلِّ عَلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَجِلَ هَذا»»، ثُمَّ دَعاهُ فَقالَ لَهُ أوْ لِغَيْرِهِ: ««إذا صَلّى أحَدُكم فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ سُبْحانَهُ، والثَّناءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلى النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِما شاءَ»» . رَواهُ أبُو داوُدَ واَلتِّرْمِذِيُّ وقالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. واعْلَمْ أنَّهُ لَمّا حَكى تَعالى عَنْ هَؤُلاءِ العِبادِ المُخْلِصِينَ أنَّ ألْسِنَتَهم مُسْتَغْرِقَةٌ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى، وأبْدانَهم في طاعَةِ اللَّهِ، وقُلُوبَهم في التَّفَكُّرِ في دَلائِلِ عَظَمَةِ اللَّهِ - ذَكَرَ أنَّهم مَعَ هَذِهِ الطّاعاتِ يَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ أنْ يَقِيَهم عَذابَ النّارِ، ثُمَّ أتْبَعُوا ذَلِكَ بِما يَدُلُّ عَلى عِظَمِ ذَلِكَ العِقابِ وشِدَّتِهِ وهو الخِزْيُ، بِقَوْلِهِمْ: (p-١٠٦٩)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب