الباحث القرآني

اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١٨٥ ] ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ وإنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكم يَوْمَ القِيامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وما الحَياةُ الدُّنْيا إلا مَتاعُ الغُرُورِ﴾ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿كُلُّ مَن عَلَيْها فانٍ﴾ [الرحمن: ٢٦] ﴿ويَبْقى وجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ والإكْرامِ﴾ [الرحمن: ٢٧] وفي هَذِهِ الآيَةِ تَعْزِيَةٌ لِجَمِيعِ النّاسِ، ووَعْدٌ ووَعِيدٌ لِلْمُصَدِّقِ والمُكَذِّبِ: ﴿وإنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكم يَوْمَ القِيامَةِ﴾ أيْ: تُعْطَوْنَ جَزاءَ أعْمالِكم وافِيًا يَوْمَ القِيامَةِ، إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: فَهَذا يُوهِمُ نَفْيَ ما يُرْوى أنَّ القَبْرَ رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الجَنَّةِ، أوْ حُفْرَةٌ مِن حُفَرِ النّارِ ! قُلْتُ: كَلِمَةُ التَّوْفِيَةِ تُزِيلُ هَذا (p-١٠٥٨)اَلْوَهْمَ، لِأنَّ المَعْنى أنَّ تَوْفِيَةَ الأُجُورِ وتَكْمِيلَها يَكُونُ ذَلِكَ اليَوْمُ، وما يَكُونُ قَبْلَ ذَلِكَ فَبَعْضُ الأُجُورِ. وقالَ الرّازِيُّ: بَيَّنَ تَعالى أنَّ تَمامَ الأجْرِ والثَّوابِ لا يَصِلُ إلى المُكَلَّفِ إلّا يَوْمَ القِيامَةِ، لِأنَّ كُلَّ مَنفَعَةٍ تَصِلُ إلى المُكَلَّفِ في الدُّنْيا فَهي مُكَدَّرَةٌ بِالغُمُومِ والهُمُومِ، وبِخَوْفِ الِانْقِطاعِ والزَّوالِ، والأجْرُ التّامُّ والثَّوابُ الكامِلُ إنَّما يَصِلُ إلى المُكَلَّفِ يَوْمَ القِيامَةِ، لِأنَّ هُناكَ يَحْصُلُ السُّرُورُ بِلا غَمٍّ، والأمْنُ بِلا خَوْفٍ، واللَّذَّةُ بِلا ألَمٍ، والسَّعادَةُ بِلا خَوْفِ الِانْقِطاعِ. (p-١٠٥٩)وكَذا القَوْلُ في العِقابِ، فَإنَّهُ لا يَحْصُلُ في الدُّنْيا ألَمٌ خالِصٌ عَنْ شَوائِبِ اللَّذَّةِ، بَلْ يَمْتَزِجُ بِهِ راحاتٌ وتَخْفِيفاتٌ، وإنَّما الألَمُ التّامُّ الخالِصُ الباقِي هو الَّذِي يَكُونُ يَوْمَ القِيامَةِ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنهُ ﴿فَمَن زُحْزِحَ﴾ أيْ: أُبْعِدَ: ﴿عَنِ النّارِ﴾ الَّتِي هي مَجْمَعُ الآفاتِ والشُّرُورِ: ﴿وأُدْخِلَ الجَنَّةَ﴾ الجامِعَةَ لِلَّذّاتِ والسُّرُورِ: ﴿فَقَدْ فازَ﴾ أيْ: حَصَّلَ الفَوْزَ العَظِيمَ، وهو الظَّفَرُ بِالبُغْيَةِ، أعْنِي: النَّجاةَ مِن سُخْطِ اللَّهِ والعَذابِ السَّرْمَدِ، ونَيْلِ رِضْوانِ اللَّهِ والنَّعِيمِ المُخَلَّدِ. ورَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««مَن أحَبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النّارِ ويُدْخَلَ الجَنَّةَ، فَلْتُدْرِكْهُ مَنِيَّتُهُ وهو يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ، ولْيَأْتِ إلى النّاسِ ما يُحِبُّ أنْ يُؤْتى إلَيْهِ»» . وأخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أيْضًا: ﴿وما الحَياةُ الدُّنْيا﴾ أيْ: لَذّاتُها: ﴿إلا مَتاعُ الغُرُورِ﴾ المَتاعُ: ما يُتَمَتَّعُ ويُنْتَفَعُ بِهِ، والغُرُورُ: (بِضَمِّ الغَيْنِ) مَصْدَرُ غَرَّهُ، أيْ: خَدَعَهُ وأطْمَعَهُ بِالباطِلِ، (p-١٠٦٠)وإنَّما وُصِفَ عَيْشُ الدُّنْيا بِذَلِكَ لِما تُمَنِّيهِ لَذّاتُها مِن طُولِ البَقاءِ، وأمَلِ الدَّوامِ، فَتَخْدَعُهُ ثُمَّ تَصْرَعُهُ. قالَ بَعْضَ السَّلَفِ: الدُّنْيا مَتاعٌ مَتْرُوكٌ يُوشِكُ أنْ يَضْمَحِلَّ ويَزُولَ. فَخُذُوا مِن هَذا المَتاعِ واعْمَلُوا فِيهِ بِطاعَةِ اللَّهِ ما اسْتَطَعْتُمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب