الباحث القرآني

اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١٤٠ ] ﴿إنْ يَمْسَسْكم قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وتِلْكَ الأيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكم شُهَداءَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ﴾ ﴿إنْ يَمْسَسْكم قَرْحٌ﴾ بِالفَتْحِ والضَّمِّ قِراءَتانِ، وهُما لُغَتانِ، كالضَّعْفِ والضُّعْفِ، أيْ: (p-٩٨٠)إنْ أصابَكم يَوْمَ أُحُدٍ جِراحٌ: ﴿فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ أيْ: يَوْمَ بَدْرٍ، ولَمْ يَضْعُفُوا ولَمْ يَجْبُنُوا فَأنْتُمْ أوْلى، لِأنَّكم مَوْعُودُونَ بِالنَّصْرِ دُونَهم، أيْ: فَقَدْ اسْتَوَيْتُمْ في الألَمِ، وتَبايَنْتُمْ في الرَّجاءِ والثَّوابِ، كَما قالَ: ﴿إنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهم يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ﴾ [النساء: ١٠٤] فَما بالُكم تَهِنُونَ وتَضْعُفُونَ عِنْدَ القَرْحِ والألَمِ، فَقَدْ أصابَهم ذَلِكَ في سَبِيلِ الشَّيْطانِ، وأنْتُمْ أُصِبْتُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ، وابْتِغاءِ مَرْضاتِهِ. وقِيلَ: كِلا المَسَّـيْنِ كانَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَإنَّ المُسْلِمِينَ نالُوا مِنهم قَبْلَ أنْ يُخالِفُوا أمْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿وتِلْكَ الأيّامُ﴾ أيْ: أيّامُ هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا: ﴿نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ﴾ أيْ: نُصَرِّفُها بَيْنَهم، نُدِيلُ تارَةً لِهَؤُلاءِ، وتارَةً لِهَؤُلاءِ فَهي عَرَضٌ حاضِرٌ، يُقَسِّمُها بَيْنَ أوْلِيائِهِ وأعْدائِهِ. بِخِلافِ الآخِرَةِ، فَإنَّ عَرَضَها ونَصْرَها ورَجاءَها خالِصٌ لِلَّذِينِ آمَنُوا. قالَ ابْنُ القَـيِّمِ - قُدِّسَ سِرُّهُ - في ذِكْرِ بَعْضِ الحِكَمِ والغاياتِ المَحْمُودَةِ الَّتِي كانَتْ في وقْعَةِ أُحُدٍ: ومِنها: أنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ وسُـنَّتَهُ في رُسُلِهِ وأتْباعِهِمْ جَرَتْ بِأنْ يُدالُوا مَرَّةً ويُدالُ عَلَيْهِمْ أُخْرى، لَكِنْ تَكُونُ لَهم العاقِبَةُ. فَإنَّهم لَوْ انْتَصَرُوا دائِمًا دَخَلَ مَعَهم المُسْلِمُونَ وغَيْرُهم، ولَمْ يُمَيَّزْ الصّادِقُ مِن غَيْرِهِ. ولَوْ انْتُصِرَ عَلَيْهِمْ دائِمًا لَمْ يَحْصُلْ المَقْصُودُ مِنَ البَعْثَةِ والرِّسالَةِ. فاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ أنْ جَمَعَ لَهم بَيْنَ الأمْرَيْنِ لِيَتَمَيَّزَ مَن يَتْبَعُهم ويُطِيعُهم لِلْحَقِّ وما جاءُوا بِهِ، مِمَّنْ يَتْبَعُهم عَلى الظُّهُورِ والغَلَبَةِ خاصَّةً - انْتَهى - . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قالَ ابْنُ القَيِّمِ: حِكْمَةٌ أُخْرى وهي أنْ يَتَمَيَّزَ المُؤْمِنُونَ مِنَ المُنافِقِينَ فَيَعْلَمُهم، عِلْمَ رُؤْيَةٍ ومُشاهَدَةٍ بَعْدَ أنْ كانُوا مَعْلُومِينَ في غَيْبِهِ، وذَلِكَ العِلْمُ (p-٩٨١)اَلْغَيْبِيُّ لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوابٌ ولا عِقابٌ، وإنَّما يَتَرَتَّبانِ عَلى المَعْلُومِ إذا صارَ مُشاهَدًا واقِعًا في الحِسِّ. لَطِيفَةٌ: فِي الآيَةِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ المُعَلَّلُ مَحْذُوفًا مَعْناهُ: ﴿ولِيَعْلَمَ﴾ إلَخْ. فِعْلَنا ذَلِكَ. اَلثّانِي: أنْ تَكُونَ العِلَّةُ مَحْذُوفَةً، وهَذا عَطْفٌ عَلَيْهِ، مَعْناهُ: وفَعَلْنا ذَلِكَ لِيَكُونَ كَيْتٌ وكَيْتٌ، ولِيَعْلَمَ اللَّهُ. وإنَّما حُذِفَ لِلْإيذانِ بِأنَّ المَصْلَحَةَ فِيما فَعَلَ لَيْسَتْ بِواحِدَةٍ لِيُسَلِّيَهم عَمّا جَرى عَلَيْهِمْ ولِيُبَصِّرَهم أنَّ العَبْدَ يَسُوؤُهُ ما يَجْرِي عَلَيْهِ مِنَ المَصائِبِ، ولا يَشْعُرُ أنَّ لِلَّهِ في ذَلِكَ مِنَ المَصالِحِ ما هو غافِلٌ عَنْهُ - أفادَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ - . تَنْبِيهٌ: فِي هَذِهِ الآيَةِ بَحْثٌ مَشْهُورٌ، وذَلِكَ بِأنَّ ظاهِرَها مُشْعِرٌ بِأنَّهُ تَعالى إنَّما فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكْتَسِبَ هَذا العِلْمَ، ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ مُحالٌ عَلى اللَّهِ تَعالى، ونَظِيرُها في الإشْكالِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمّا يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ١٤٢] إلَخْ. وقَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ٣] وقَوْلُهُ: ﴿لِنَعْلَمَ أيُّ الحِزْبَيْنِ أحْصى﴾ [الكهف: ١٢] وقَوْلُهُ: ﴿ولَنَبْلُوَنَّكم حَتّى نَعْلَمَ المُجاهِدِينَ مِنكم والصّابِرِينَ ونَبْلُوَ أخْبارَكُمْ﴾ [محمد: ٣١] (p-٩٨٢)وقَوْلُهُ: ﴿إلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ [البقرة: ١٤٣] قالَ الرّازِيُّ: وقَدْ احْتَجَّ هِشامُ بْنُ الحَكَمِ بِظَواهِرِ هَذِهِ الآياتِ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَعْلَمُ حُدُوثَ الحَوادِثِ إلّا عِنْدَ وُقُوعِها، فَقالَ: كُلُّ هَذِهِ الآياتِ دالَّةٌ عَلى أنَّهُ تَعالى إنَّما صارَ عالِمًا بِحُدُوثِ هَذِهِ الأشْياءِ عِنْدَ حُدُوثِها. ولَمّا كانَتْ الدَّلائِلُ القَطْعِيَّةُ دالَّةً عَلى أزَلِيَّةِ عِلْمِهِ جَلَّ اسْمُهُ، أجابَ عَنْ ذَلِكَ العُلَماءُ بِأجْوِبَةٍ: مِنها: أنَّها مِن بابِ التَّمْثِيلِ. فالتَّقْدِيرُ في هَذِهِ الآيَةِ: لِيُعامِلَكم مُعامَلَةَ مَن يُرِيدُ أنْ يَعْلَمَ المُخْلِصِينَ الثّابِتِينَ عَلى الإيمانِ مَن غَيْرِهِمْ. ومِنها: أنَّ العِلْمَ فِيهِ مَجازٌ عَنْ التَّمْيِيزِ بِطَرِيقِ إطْلاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلى المُسَبَّبِ، أيْ: لِيَمِيزَ الثّابِتِينَ عَلى الإيمانِ مِن غَيْرِهِمْ. ومِنها: أنَّ العِلْمَ عَلى حَقِيقَتِهِ، إلّا أنَّهُ مُعْتَبَرٌ مِن حَيْثُ تَعَلُّقِهِ بِالمَعْلُومِ، مِن حَيْثُ إنَّهُ واقِعٌ مَوْجُودٌ بِالفِعْلِ، أيْ: لِيَعْلَمَ الثّابِتَ واقِعًا مِنهم كَما كانَ يَعْلَمُ أنَّهُ سَيَقَعُ لِأنَّ المُجازاةَ تَقَعُ عَلى الواقِعِ دُونَ المَعْلُومِ الَّذِي لَمْ يُوجَدُ، وهَذا ما اعْتَمَدَهُ ابْنُ القَيِّمِ كَما نَقَلْناهُ أوَّلًا. ومِنها: أنَّ الكَلامَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ. أيْ: لِيَعْلَمَ أوْلِياءَ اللَّهِ، فَأضافَ إلى نَفْسِهِ تَفْخِيمًا. واَللَّهُ أعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرى، وهي اتِّخاذُهُ سُبْحانَهُ مِنهم شُهَداءَ، بِقَوْلِهِ: ﴿ويَتَّخِذَ مِنكم شُهَداءَ﴾ أيْ: ولِيُكْرِمَ ناسًا مِنكم بِالشَّهادَةِ لِيَكُونُوا مِثالًا لِغَيْرِهِمْ في تَضْحِيَةِ النَّفْسِ شَهادَةً لِلْحَقِّ، واسْتِماتَةً دُونَهُ، وإعْلاءً لِكَلِمَتِهِ، وهو تَعالى يُحِبُّ الشُّهَداءَ مِن عِبادِهِ، وقَدْ أعَدَّ لَهم أعْلى (p-٩٨٣)المَنازِلِ وأفْضَلَها، وقَدْ اتَّخَذَهم لِنَفْسِهِ، فَلا بُدَّ أنْ يُنِيلَهم دَرَجَةَ الشَّهادَةِ. وفي لَفْظِ الِاتِّخاذِ المُنْبِئِ عَنْ الِاصْطِفاءِ والتَّقْرِيبِ، مِن تَشْرِيفِهِمْ وتَفْخِيمِ شَأْنِهِمْ ما لا يَخْفى. وقَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ﴾ قالَ ابْنُ القَيِّمِ: تَنْبِيهٌ لِطَيْفُ المَوْقِعِ جِدًّا عَلى أنَّ كَراهَتَهُ وبُغْضَهُ لِلْمُنافِقِينَ الَّذِينَ انْخَزَلُوا عَنْ نَبِيِّهِ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَشْهَدُوهُ، ولَمْ يَتَّخِذْ مِنهم شُهَداءَ، لِأنَّهُ لَمْ يُحِبَّهم، فَأرْكَسَهم ورَدَّهم لِيَحْرِمَهم ما خُصَّ بِهِ المُؤْمِنُونَ في ذَلِكَ اليَوْمِ، وما أعْطاهُ مَن اسْتُشْهِدَ مِنهم، فَثَبَّطَ هَؤُلاءِ الظّالِمِينَ عَنْ الأسْبابِ الَّتِي وفَّقَ لَها أوْلِياءَهُ وحِزْبَهُ. انْتَهى. فالتَّعْرِيضُ بِالمُنافِقِينَ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِالكَفَرَةِ الَّذِينَ أُدِيلَ لَهم، تَنْبِيهًا عَلى أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِطَرِيقِ النُّصْرَةِ لَهم، بَلْ لِما ذُكِرَ مِنَ الفَوائِدِ العائِدَةِ إلى المُؤْمِنِينَ. ثُمَّ ذَكَّرَ حِكْمَةً أُخْرى فِيما أصابَهم ذَلِكَ اليَوْمَ بِقَوْلِهِ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب