الباحث القرآني
اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[ ١٠٦ ] ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأمّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهم أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكم فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾
﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ أيْ: تَبْيَضُّ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ وهي وُجُوهُ المُؤْمِنِينَ لِاتِّباعِها الدِّينَ الحَقَّ الَّذِي هو النُّورُ السّاطِعُ. وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ، وهي وُجُوهُ الكافِرِينَ مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ؛ لِاتِّباعِها الضَّلالاتِ المُظْلِمَةِ، ولِيُسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلى إيمانِهِمْ وكُفْرِهِمْ، فَيُجازى كُلٌّ بِمُقْتَضى حالِهِ، وهَذِهِ الآيَةُ لَها نَظائِرُ، مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَوْمَ القِيامَةِ تَرى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى اللَّهِ وُجُوهُهم مُسْوَدَّةٌ ألَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [الزمر: ٦٠] ومِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يَرْهَقُ وُجُوهَهم قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ﴾ [يونس: ٢٦] ومِنها قَوْلُهُ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ [عبس: ٣٨] ﴿ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ [عبس: ٣٩] ﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ﴾ [عبس: ٤٠] ﴿تَرْهَقُها قَتَرَةٌ﴾ [عبس: ٤١] ومِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢] ﴿إلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٣] ﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٤] ﴿تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٥] ومِنها: ﴿تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطففين: ٢٤] إلى غَيْرِ ذَلِكَ. ولِلْمُفَسِّرِينَ في هَذا البَياضِ والنَّضْرَةِ والغَبَرَةِ والقَتَرَةِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنَّ البَياضَ مَجازٌ عَنْ الفَرَحِ والسُّرُورِ، والسَّوادَ عَنْ الغَمِّ. وهَذا مَجازٌ مُسْتَعْمَلٌ، قالَ تَعالى: ﴿وإذا بُشِّرَ أحَدُهم بِالأُنْثى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا وهو كَظِيمٌ﴾ [النحل: ٥٨] ويُقالُ: لِفُلانٍ عِنْدِي يَدٌ بَيْضاءُ، أيْ: جَلِيَّةُ سارَّةٌ.
(p-٩٣٣)وتَقُولُ العَرَبُ لِمَن نالَ بُغْيَتَهُ وفازَ بِمَطْلُوبِهِ: ابْيَضَّ وجْهُهُ، ومَعْناهُ الِاسْتِبْشارُ والتَّهَلُّلُ، وعِنْدَ التَّهْنِئَةِ بِالسُّرُورِ يَقُولُونَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَيَّضَ وجْهَكَ. ويُقالُ لِمَن وصَلَ إلَيْهِ مَكْرُوهٌ: ارْبَدَّ وجْهُهُ واغْبَرَّ لَوْنُهُ، وتَبَدَّلَتْ صُورَتُهُ. فَعَلى هَذا مَعْنى الآيَةِ: إنَّ المُؤْمِنَ يُرَدُّ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى ما قَدَّمَتْ يَداهُ، فَإنْ كانَ لَكَ مِنَ الحَسَناتِ ابْيَضَّ وجْهُهُ بِمَعْنى اسْتَبْشَرَ بِنِعَمِ اللَّهِ وفَضْلِهِ، وعَلى ضِدِّ ذَلِكَ، إذا رَأى الكافِرُ أعْمالَهُ القَبِيحَةَ مُحْصاةً اسْوَدَّ وجْهُهُ بِمَعْنى شِدَّةِ الحُزْنِ والغَمِّ، وهَذا قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيِّ.
والوَجْهُ الثّانِي: أنَّ هَذا البَياضَ والسَّوادَ يَحْصُلانِ في وُجُوهِ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ، وذَلِكَ لِأنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِيهِما، ولا دَلِيلَ يُوجِبُ تَرْكَ الحَقِيقَةِ، فَوَجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ. ولِأبِي مُسْلِمٍ أنْ يَقُولَ: الدَّلِيلُ دَلَّ عَلى ما قُلْناهُ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى قالَ:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ [عبس: ٣٨] ﴿ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ [عبس: ٣٩] ﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ﴾ [عبس: ٤٠] ﴿تَرْهَقُها قَتَرَةٌ﴾ [عبس: ٤١] فَجَعَلَ الغَبَرَةَ والقَتَرَةَ في مُقابَلَةِ الضَّحِكِ والِاسْتِبْشارِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ المُرادُ بِالغَبَرَةِ والقَتَرَةِ ما ذَكَرْنا مِنَ المَجازِ لَما صَحَّ جَعْلُهُ مُقابِلًا لَهُ، فَعَلِمْنا أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الغَبَرَةِ والقَتَرَةِ والغَمِّ والحُزْنِ حَتّى صَحَّ هَذا التَّقابُلُ - أفادَهُ الرّازِيُّ - .
لَطِيفَةٌ:
(يَوْمَ) مَنصُوبٌ إمّا مَفْعُولٌ لِمُضْمَرٍ خُوطِبَ بِهِ المُؤْمِنُونَ تَحْذِيرًا لَهم عَنْ عاقِبَةِ التَّفَرُّقِ بَعْدَ مَجِيءِ البَيِّناتِ، وتَرْغِيبًا في الِاتِّفاقِ عَلى التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ. أيْ: اذْكُرُوا يَوْمَ ... إلَخْ، أوْ ظَرْفٌ لِلِاسْتِقْرارِ في (لَهم) أوْ لـ (عَظِيمٌ) أوْ لـ (عَذابٌ) .
﴿فَأمّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهم أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكم فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ هَذا تَفْصِيلٌ لِأحْوالِ الفَرِيقَيْنِ بَعْدَ الإشارَةِ إلَيْها إجْمالًا، وتَقْدِيمُ بَيانِ هَؤُلاءِ لِما أنَّ المَقامَ مَقامُ التَّحْذِيرِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ مَعَ ما فِيهِ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَ الإجْمالِ والتَّفْصِيلِ والإفْضاءِ إلى خَتْمِ الكَلامِ بِحُسْنِ حالِ المُؤْمِنِينَ كَما بُدِئَ بِذَلِكَ عِنْدَ الإجْمالِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿(أكَفَرْتُمْ (p-٩٣٤)بَعْدَ إيمانِكم)﴾ عَلى إرادَةِ القَوْلِ، أيْ: فَيُقالُ لَهم ذَلِكَ، والهَمْزَةُ لِلتَّوْبِيخِ والتَّعْجِيبِ مِن حالِهِمْ - أفادَهُ أبُو السُّعُودِ - والمَعْنى: أكَفَرْتُمْ بَعْدَ ما ظَهَرَ لَكم ما يُوجِبُ الإيمانُ، وهو الدَّلائِلُ الَّتِي نَصَبَها اللَّهُ تَعالى عَلى التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ، وما يُناجِيكم بِهِ وِجْدانُكم مِن صِدْقِ هَذِهِ الدَّعْوى وحَقِّيَتِها وشَهادَتِهِ بِصِحَّتِها، كَما قالَ تَعالى فِيما قَبِلَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [آل عمران: ٧٠] فَذَمَّهم عَلى الكُفْرِ بَعْدَ وُضُوحِ الآياتِ، وقالَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿ولا تَكُونُوا كالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ البَيِّناتُ وأُولَئِكَ لَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٠٥]
فَقَوْلُهُ تَعالى هُنا: ﴿أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ﴾ مَحْمُولٌ عَلى ما ذُكِرَ، حَتّى تَصِيرَ هَذِهِ الآيَةُ مُقَرِّرَةً لِما قَبْلَها، وهي عامَّةٌ في حَقِّ كُلِّ الكُفّارِ.
{"ayah":"یَوۡمَ تَبۡیَضُّ وُجُوهࣱ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهࣱۚ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِیمَـٰنِكُمۡ فَذُوقُوا۟ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











