الباحث القرآني

اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١٠٥ ] ﴿ولا تَكُونُوا كالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ البَيِّناتُ وأُولَئِكَ لَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿ولا تَكُونُوا كالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ البَيِّناتُ وأُولَئِكَ لَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ يَنْهى تَعالى عِبادَهُ أنْ يَكُونُوا كاليَهُودِ في افْتِراقِهِمْ مَذاهِبَ، واخْتِلافِهِمْ عَنْ الحَقِّ بِسَبَبِ اتِّباعِ الهَوى، وطاعَةِ النَّفْسِ، والحَسَدِ، حَتّى صارَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنهم يُصَدِّقُ مِنَ الأنْبِياءِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، ويَدْعُو إلى ما ابْتَدَعَهُ في دِينِهِ، فَصارُوا إلى العَداوَةِ والفُرْقَةِ مِن بَعْدِ ما جاءَتْهم الآياتُ الواضِحَةُ، المُبَيِّنَةُ لِلْحَقِّ، المُوجِبَةُ لِلِاتِّفاقِ عَلى كَلِمَةٍ واحِدَةٍ، وهي كَلِمَةُ الحَقِّ، فالنَّهْيُ مُتَوَجِّهٌ إلى المُتَصَدِّينَ لِلدَّعْوَةِ أصالَةً، وإلى أعْقابِهِمْ تَبَعًا. وفي قَوْلِهِ (p-٩٢٣)تَعالى: ﴿وأُولَئِكَ لَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ مِنَ التَّأْكِيدِ والمُبالَغَةِ في وعِيدِ المُتَفَرِّقِينَ، والتَّشْدِيدِ في تَهْدِيدِ المُشَبَّهِينَ بِهِمْ، ما لا يَخْفى. تَنْبِيهاتٌ: اَلْأوَّلُ: ذَكَرَ الفَخْرُ الرّازِيُّ مِن وُجُوهِ قَوْلِهِ تَعالى: (اخْتَلَفُوا) أيْ: بِأنْ صارَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم يَدَّعِي أنَّهُ عَلى الحَقِّ، وأنَّ صاحِبَهُ عَلى الباطِلِ. ثُمَّ قالَ: وأقُولُ إنَّكَ إذا أنْصَفْتَ عَلِمْتَ أنَّ أكْثَرَ عُلَماءِ هَذا الزَّمانِ صارُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. فَنَسْألُ اللَّهَ العَفْوَ والرَّحْمَةَ - انْتَهى كَلامُهُ - وقَوْلُهُ: (هَذا الزَّمانِ) . إشارَةٌ إلى أنَّ هَذا الحالَ لَمْ يَكُنْ في عُلَماءِ السَّلَفِ، وما زالُوا يَخْتَلِفُونَ في الفُرُوعِ وفي الفَتاوى بِحَسَبِ ما قامَ لَدَيْهِمْ مِنَ الدَّلِيلِ، وما أدّاهُ إلَيْهِ اجْتِهادُهم، ولَمْ يُضْلِلْ بَعْضُهم بَعْضًا، ولَمْ يَدَّعِ أحَدُهم أنَّهُ عَلى الصَّوابِ الَّذِي لا يَحْتَمِلُ الخَطَأ وأنَّ مُخالِفَهُ عَلى خَطَأٍ لا يَحْتَمِلُ الصَّوابَ، وإنَّما نَشَأ هَذا مِن جُمُودِ المُقَلِّدَةِ المُتَأخِّرِينَ وتَعَصُّبِهِمْ وظَنِّهِمْ عِصْمَةَ مَذْهَبِهِمْ، فَإنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ. وقَدْ تَفَرَّقَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في البِلادِ، وصارَ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ عِلْمٌ غَيْرَ ما عِنْدَ الآخَرِينَ، وهم عَلى وحْدَتِهِمْ وتُناصُرِهِمْ. اَلثّانِي: قالَ القاشانِيُّ: يَعْنِي بِالآياتِ: الحُجَجَ العَقْلِيَّةَ والشَّرْعِيَّةَ المُوجِبَةَ لِاتِّحادِ الوِجْهَةِ، واتِّفاقِ الكَلِمَةِ، فَإنَّ لِلنّاسِ طَبائِعَ وغَرائِزَ مُخْتَلِفَةً، وأهْواءً مُتَفَرِّقَةً، وعاداتٍ وسِيَرًا مُتَفاوِتَةً، مُسْتَفادَةً مِن أمْزِجَتِهِمْ وأهْوِيَتِهِمْ، ويَتَرَتَّبُ عَلى ذَلِكَ فُهُومٌ مُتَبايِنَةٌ، وأخْلاقٌ مُتَعادِيَةٌ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهم مُقْتَدًى وإمامٌ، تَتَّحِدُ عَقائِدُهم وسِرُّهم وآراؤُهم بِمُتابَعَتِهِ، وتَتَّفِقُ كَلِماتُهم وعاداتُهم وأهْواؤُهم بِمَحَبَّتِهِ وطاعَتِهِ - كانُوا مُهْمَلِينَ مُتَفَرِّقِينَ، فَرائِسَ لِلشَّيْطانِ، كَشَرِيدَةِ الغَنَمِ، تَكُونُ لِلذِّئْبِ. ولِهَذا قالَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلامُ: لا بُدَّ لِلنّاسِ مِن إمامٍ بَرٍّ أوْ فاجِرٍ، ولَمْ يُرْسِلْ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ رَجُلَيْنِ فَصاعِدًا لِشَأْنٍ، إلّا وأمَّرَ أحَدَهُما عَلى الآخَرِ، وأمَرَ الآخَرَ بِطاعَتِهِ (p-٩٢٤)ومُتابَعَتِهِ، لِيَتَّحِدَ الأمْرُ ويَنْتَظِمَ، وإلّا وقَعَ الهَرَجُ والمَرَجُ، واضْطَرَبَ أمْرُ الدِّينِ والدُّنْيا، واخْتَلَّ نِظامُ المَعاشِ والمَعادِ. قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««مَن فارَقَ الجَماعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ لَمْ يَرَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ»» . وقالَ: ««اللَّهُ مَعَ الجَماعَةِ»» . ألا تَرى أنَّ الجَمْعِيَّةَ الإنْسانِيَّةَ إذْ لَمْ تَنْضَبِطْ بِرِئاسَةِ القَلْبِ، وطاعَةِ العَقْلِ - كَيْفَ اخْتَلَّ نِظامُها، وآلَتْ إلى الفَسادِ والتَّفَرُّقِ، المُوجِبِ لِخَسارِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، «ولَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣] خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطًّا، فَقالَ: «هَذا سَبِيلُ الرُّشْدِ، ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وشِمالِهِ خُطُوطًا فَقالَ: هَذِهِ سُبُلٌ، عَلى كُلِّ سَبِيلٍ شَيْطانٌ يَدْعُو إلَيْهِ»» . (p-٩٢٥)اَلثّالِثُ: قالَ شَيْخُ الإسْلامِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، قُدِّسَ سِرُّهُ، في أوَّلِ كِتابِهِ (رَفْعِ المَلامِ عَنْ الأئِمَّةِ الأعْلامَ) . ولْيُعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ أحَدٌ مِنَ الأئِمَّةِ المَقْبُولِينَ عِنْدَ الأُمَّةِ قَبُولًا عامًّا يَعْتَقِدُ مُخالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في شَيْءٍ مِن سُنَّتِهِ، دَقِيقٍ ولا جَلِيلٍ، فَإنَّهم مُتَّفِقُونَ اتِّفاقًا يَقِينِيًّا عَلى وُجُوبِ اتِّباعِ الرَّسُولِ، وعَلى أنَّ كُلَّ أحَدٍ مِنَ النّاسِ يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ ويُتْرَكُ، إلّا الرَّسُولَ ﷺ ولَكِنْ إذا وُجِدَ لِواحِدٍ مِنهم قَوْلٌ، قَدْ جاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِخِلافِهِ، فَلا بُدَّ لَهُ مِن عُذْرٍ في تَرْكِهِ. وجِماعُ الأعْذارِ ثَلاثَةُ أصْنافٍ: أحَدُها: عَدَمُ اعْتِقادِهِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَهُ. اَلثّانِي: عَدَمُ اعْتِقادِهِ أنَّهُ أرادَ تِلْكَ المَسْألَةَ بِذَلِكَ القَوْلِ. اَلثّالِثُ: اعْتِقادُهُ أنَّ ذَلِكَ الحُكْمَ مَنسُوخٌ. وهَذِهِ الأصْنافُ الثَّلاثَةُ تَتَفَرَّعُ إلى أسْبابٍ مُتَعَدِّدَةٍ. ثُمَّ أوْسَعَ المَقالَ في ذَلِكَ. وذَكَرَ - قُدِّسَ سِرُّهُ - في بَعْضِ فَتاوِيهِ، أنَّ السَّلَفَ والأئِمَّةَ الأرْبَعَةَ والجُمْهُورَ يَقُولُونَ: الأدِلَّةُ بَعْضُها أقْوى مِن بَعْضٍ في نَفْسِ الأمْرِ. وعَلى الإنْسانِ أنْ يَجْتَهِدَ ويَطْلُبَ الأقْوى. فَإذا رَأى دَلِيلًا أقْوى مِن غَيْرِهِ، ولَمْ يَرَ ما يُعارِضُهُ، عَمِلَ بِهِ، ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها. وإذا كانَ في الباطِنِ ما هو أرْجَحُ مِنهُ كانَ مُخْطِئًا مَعْذُورًا، ولَهُ أجْرٌ عَلى اجْتِهادِهِ وعَمَلِهِ بِما بُيِّنَ لَهُ رُجْحانُهُ، وخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وذَلِكَ الباطِنُ هو الحُكْمُ، لَكِنْ بِشَرْطِ القُدْرَةِ عَلى مَعْرِفَتِهِ، فَمَن عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ لَمْ يُؤاخَذْ بِتَرْكِهِ، فَإذا أُرِيدَ بِالخَطَأِ الإثْمُ، فَلَيْسَ المُجْتَهِدُ بِمُخْطِئٍ، بَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، مُطِيعٌ لِلَّهِ، فاعِلٌ ما أمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وإذا أُرِيدَ لَهُ عَدَمُ العِلْمِ بِالحَقِّ في نَفْسِ الأمْرِ، فالمُصِيبُ واحِدٌ، ولَهُ أجْرانِ. كَما في المُجْتَهِدِينَ في جِهَةِ الكَعْبَةِ، إذا صَلَّوْا إلى أرْبَعِ جِهاتٍ، فاَلَّذِي أصابَ الكَعْبَةَ واحِدٌ، ولَهُ أجْرانِ لِأنَّ اجْتِهادَهُ وعَمَلَهُ، (p-٩٢٦)كانَ أكْمَلَ مِن غَيْرِهِ، والمُؤْمِنُ القَوِيُّ أحَبُّ إلى اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، ومَن زادَهُ اللَّهُ عِلْمًا وعَمَلًا زادَهُ اللَّهُ أجْرًا بِما زادَهُ مِنَ العِلْمِ والعَمَلِ، قالَ تَعالى: ﴿وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: ٨٣] قالَ مالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ: بِالعِلْمِ، وكَذَلِكَ قالَ في قِصَّةِ يُوسُفَ: ﴿ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ في دِينِ المَلِكِ إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٦] وقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أنَّ جَمِيعَ المُجْتَهِدِينَ إنَّما قالُوا بِعِلْمٍ، واتَّبَعُوا العِلْمَ، وأنَّ الفِقْهَ مِن أجَلِّ العُلُومِ، وأنَّهم لَيْسُوا مِنَ الَّذِينَ لا يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ، لَكِنَّ بَعْضَهم قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَ الآخَرِ، إمّا بِأنْ سَمِعَ ما لَمْ يَسْمَعْ الآخَرُ، وإمّا بِأنْ فَهِمَ ما لَمْ يَفْهَمْ الآخَرُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وداوُدَ وسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٨] ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وكُلا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٩] وهَذِهِ حالُ أهْلِ الِاجْتِهادِ والنَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ، في الأُصُولِ والفُرُوعِ. (p-٩٢٧)ثُمَّ قالَ: وإذا تَدَبَّرَ الإنْسانُ تَنازُعَ النّاسِ وجَدَ عِنْدَ كُلِّ طائِفَةٍ مِنَ العِلْمِ ما لَيْسَ عِنْدَ الأُخْرى، كَما في مَسائِلِ الأحْكامِ. ولَمْ يَسْتَوْعِبْ الحَقَّ إلّا مَن اتَّبَعَ المُهاجِرِينَ والأنْصارَ، وآمَنَ بِما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ كُلُّهُ عَلى وجْهِهِ، وهَؤُلاءِ هم أهْلُ المَرْحَمَةِ الَّذِينَ لا يَخْتَلِفُونَ. انْتَهى. فَعُلِمَ أنَّ اخْتِلافَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ والمُجْتَهِدِينَ في الفُرُوعِ لَيْسَ مِمّا تَشْمَلُهُ الآيَةُ، فَإنَّ المُرادَ مِنها الِاخْتِلافُ عَنْ الحَقِّ، بَعْدَ وُضُوحِهِ، بِرَفْضِهِ، وشَتّانَ ما بَيْنَ الاخْتِلافَيْنِ. ثُمَّ عَلى طالِبِ الحَقِّ أنَّ يَسْتَعْمِلَ نَظَرَهُ فِيما يُؤَثِّرُ مِن هَذِهِ الخِلافِيّاتِ، فَما وجَدَهُ أقْوى دَلِيلًا أخَذَ بِهِ، وإلّا تَرَكَهُ. وحِينَئِذٍ يَكُونُ مِمَّنْ قالَ اللَّهُ تَعالى فِيهِ: ﴿فَبَشِّرْ عِبادِ﴾ [الزمر: ١٧] ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ﴾ [الزمر: ١٨] وإذا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِمّا قَدْ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَلْيَدْعُ بِما رَواهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يَقُولُ - إذا قامَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ - «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرائِيلَ ومِيكائِيلَ وإسْرافِيلَ، فاطِرُ السَّماواتِ والأرْضِ، عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ، أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِما اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإذْنِكَ، إنَّكَ تَهْدِي مَن تَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»» . فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ فِيما رَواهُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««يا عِبادِي كُلُّكم ضالٌّ إلّا مَن هَدَيْتَ، فاسْتَهْدُونِي أهْدِكم»» . انْتَهى. (p-٩٢٨)اَلرّابِعُ: ذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ، هُنا، ما رُوِيَ مِن حَدِيثِ ««اخْتِلافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ»»، ولا يُعْرَفُ لَهُ سَنَدٌ صَحِيحٌ، ورَواهُ الطَّبَرانِيُّ والبَيْهَقِيُّ في (المَدْخَلِ) بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ مَرْفُوعًا. قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: هو مُخالِفٌ لِنُصُوصِ الآياتِ والأحادِيثِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [هود: ١١٨] ﴿إلا مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾ [هود: ١١٩] ونَحْوُهُ قَوْلُهُ ﷺ: ««لا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكم»» وغَيْرُهُ مِنَ الأحادِيثِ الكَثِيرَةِ، واَلَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أنَّ الِاتِّفاقَ خَيْرٌ مِنَ الخِلافِ - انْتَهى - . (p-٩٢٩)وقَدْ رَوى الإمامُ أحْمَدُ وأبُو داوُدَ بِسَنَدِهِما عَنْ أبِي عامِرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيى قالَ: «حَجَجْنا مَعَ مُعاوِيَةَ بْنِ أبِي سُفْيانَ، فَلَمّا قَدِمْنا مَكَّةَ قامَ حِينَ صَلّى صَلاةَ الظُّهْرِ فَقالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «إنَّ أهْلَ الكِتابَيْنِ افْتَرَقُوا في دِينِهِمْ عَلى اثْنَتَيْنِ وسَبْعِينَ مِلَّةً، وإنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلى ثَلاثٍ وسَبْعِينَ مِلَّةً - يَعْنِي: الأهْواءَ - كُلُّها في النّارِ إلّا واحِدَةً، وهي الجَماعَةُ، وإنَّهُ سَيَخْرُجُ في أُمَّتِي أقْوامٌ تُجارى بِهِمْ تِلْكَ الأهْواءُ، كَما يَتَجارى الكَلْبُ بِصاحِبِهِ، لا يَبْقى مِنهُ عِرَقٌ ولا مَفْصِلٌ إلّا دَخَلَهُ؛ واَللَّهِ يا مَعْشَرَ العَرَبِ لَئِنْ لَمَّ تَقُومُوا بِما جاءَ نَبِيُّكم ﷺ لَغَيْرُكم مِنَ النّاسِ أحْرى أنْ لا يَقُومَ بِهِ»» . قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وقَدْ رُوِيَ هَذا الحَدِيثُ مِن طُرُقٍ. انْتَهى. نُبْذَةٌ في مَبْدَأِ الِاخْتِلافِ في هَذِهِ الأُمَّةِ مِن أهْلِ الأهْواءِ: ذَكَرَ الإمامُ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في كِتابِ: (الفُرْقانِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ) أنَّ المُسْلِمِينَ كانُوا في خِلافَةِ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ، وصَدْرًا مِن خِلافَةِ عُثْمانَ في السَّنَةِ الأُولى مِن وِلايَتِهِ مُتَّفِقِينَ لا تَنازُعَ بَيْنِهِمْ، ثُمَّ حَدَثَ في أواخِرَ خِلافَةِ عُثْمانَ أُمُورٌ أوْجَبَتْ نَوْعًا مِنَ التَّفَرُّقِ، وقامَ قَوْمٌ مِن أهْلِ الفِتْنَةِ والظُّلْمِ، فَقَتَلُوا عُثْمانَ فَتَفَرَّقَ المُسْلِمُونَ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمانَ. ولَمّا اقْتَتَلَ المُسْلِمُونَ بِصِفِّينَ واتَّفَقُوا عَلى تَحْكِيمِ حَكَمَيْنِ خَرَجَتْ الخَوارِجُ عَلى أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، وفارَقُوهُ وفارَقُوا جَماعَةَ المُسْلِمِينَ. وحَدَثَ في أيّامِهِ الشِّيعَةُ أيْضًا، لَكِنْ كانُوا مُخْتَفِينَ بِقَوْلِهِمْ لا يُظْهِرُونَهُ لَعَلِيٍّ وشِيعَتِهِ، بَلْ كانُوا ثَلاثَ طَوائِفَ. (p-٩٣٠)طائِفَةٌ: تَقُولُ إنَّهُ إلَهٌ، وهَؤُلاءِ، لَمّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ، أحْرَقَهم بِالنّارِ. والثّانِيَةُ: السّابَّةُ وكانَ قَدْ بَلَغَهُ عَنْ أبِي السَّوْداءِ أنَّهُ كانَ يَسُبُّ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ، فَطَلَبَهُ قِيلَ: إنَّهُ طَلَبَهُ لِيَقْتُلَهُ فَهَرَبَ مِنهُ. والثّالِثَةُ: المُفَضِّلَةُ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَهُ عَلى الشَّيْخَيْنِ، وقَدْ تَواتَرَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّها أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ. ورَوى ذَلِكَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ. ثُمَّ في آخِرِ عَصْرِ الصَّحابَةِ حَدَثَتْ القَدَرِيَّةُ، ثُمَّ حَدَثَتْ المُرْجِئَةُ، ثُمَّ قالَ: وإنَّ النّاسَ في تَرْتِيبِ أهْلِ الأهْواءِ عَلى أقْسامٍ: مِنهم مَن يُرَتِّبُهم عَلى زَمانِ حُدُوثِهِمْ، فَيَبْدَأُ بِالخَوارِجِ، ومِنهم مَن يُرَتِّبُهم بِحَسَبِ خِفَّةِ أمْرِهِمْ وغِلَظِهِ فَيَبْدَأُ بِالمُرْجِئَةِ ويَخْتِمُ بِالجَهْمِيَّةِ، كَما فَعَلَهُ كَثِيرٌ مِن أصْحابِ أحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِهِ، ونَحْوِهِ، وكالخَلاَّلِ، وأبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ وأمْثالِهِما، وكَأبِي الفَرَجِ المَقْدِسِيِّ. وكِلا الطّائِفَتَيْنِ تَخْتِمُ بِالجَهْمِيَّةِ، لِأنَّهم أغْلَظُوا البِدَعَ. وكالبُخارِيِّ في صَحِيحِهِ. فَإنَّهُ بَدَأ بِكِتابِ الإيمانِ والرَّدِّ عَلى المُرْجِئَةِ، وخَتَمَهُ بِكِتابِ التَّوْحِيدِ والرَّدِّ عَلى الزَّنادِقَةِ والجَهْمِيَّةِ. ثُمَّ قالَ قُدِّسَ سِرُّهُ: إنَّ السَّلَفَ كانَ اعْتِصامُهم بِالقُرْآنِ والإيمانِ، فَلَمّا حَدَثَ في الأُمَّةِ ما حَدَثَ مِنَ التَّفَرُّقِ والِاخْتِلافِ، صارَ أهْلُ التَّفَرُّقِ والِاخْتِلافِ شِيَعًا، وعُمْدَتُهم في الباطِنِ لَيْسَتْ عَلى القُرْآنِ والإيمانِ، ولَكِنْ عَلى أُصُولٍ ابْتَدَعَها شُيُوخُهم، عَلَيْها يَعْتَمِدُونَ في التَّوْحِيدِ والصِّفاتِ والقَدَرِيَّةِ والإيمانِ بِالرَّسُولِ وغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ ما ظَنُّوا أنَّهُ يُوافِقُها مِنَ القُرْآنِ احْتَجُّوا بِهِ، وما خالَفَهُما تَأوَّلُوهُ، فَلِهَذا تَجِدُهم إذا احْتَجُّوا بِالقُرْآنِ والحَدِيثِ لَمْ يَعْتَنُوا بِتَحْرِيرِ دِلالَتِهِما، ولَمْ يَسْتَقْصُوا ما في القُرْآنِ مِن ذَلِكَ المَعْنى، إذْ كانَ اعْتِمادُهم في نَفْسِ الأمْرِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ. والآياتُ الَّتِي تُخالِفُهم يَشْرَعُونَ في تَأْوِيلِها شُرُوعَ مَن قَصَدَ رَدِّها كَيْفَ أمْكَنَ. لَيْسَ مَقْصُودُهُ أنْ يَفْهَمَ مُرادَ الرَّسُولِ، بَلْ أنْ يَدْفَعَ مُنازِعَهُ مِنَ الِاحْتِجاجِ بِها. ثُمَّ قالَ - قُدِّسَ سِرُّهُ -: فَعَلى كُلِّ مُؤْمِنٍ أنْ لا يَتَكَلَّمَ في شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ إلّا تَبَعًا لِما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ، ولا يَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ، بَلْ (p-٩٣١)يَنْظُرُ ما قالَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَبَعًا لِقَوْلِهِ، وعِلْمُهُ تَبَعًا لِأمْرِهِ، كَما كانَ الصَّحابَةُ ومَن سَلَكَ سَبِيلَهم مِنَ التّابِعِينِ لَهم بِإحْسانٍ، وأئِمَّةُ المُسْلِمِينَ. فَلِهَذا لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنهم يُعارِضُ النُّصُوصَ بِمَعْقُولِهِ ولا يُوَسْوِسُ دِينًا غَيْرَ ما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وإذا أرادَ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ والكَلامَ فِيهِ، نَظَرَ فِيما قالَهُ اللَّهُ والرَّسُولُ، فَمِنهُ يَتَعَلَّمُ وبِهِ يَتَكَلَّمُ، وفِيهِ يَنْظُرُ ويَتَفَكَّرُ، وبِهِ يَسْتَدِلُّ، فَهَذا أصْلُ أهْلِ السُّنَّةِ. وقالَ - قُدِّسَ سِرُّهُ - في رِسالَتِهِ إلى جَماعَةِ الشَّيْخِ عَدِيِّ بْنِ مُسافِرٍ ما نَصُّهُ: وهَذا التَّفْرِيقُ الَّذِي حَصَلَ مِنَ الأُمَّةِ عُلَمائِها ومَشايِخِها وأُمَرائِها وكُبَرائِها هو الَّذِي أوْجَبَ تَسَلُّطَ الأعْداءِ عَلَيْها، وذَلِكَ بِتَرْكِهِمْ العَمَلَ بِطاعَةِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ومِنَ الَّذِينَ قالُوا إنّا نَصارى أخَذْنا مِيثاقَهم فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ العَداوَةَ والبَغْضاءَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ وسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: ١٤] فَمَتى تَرَكَ النّاسُ بَعْضَ ما أمَرَهم اللَّهُ بِهِ وقَعَتْ بَيْنَهم العَداوَةُ والبَغْضاءُ، وإذا تَفَرَّقَ القَوْمُ فَسَدُوا وهَلَكُوا، وإذا اجْتَمَعُوا صَلَحُوا ومَلَكُوا، فَإنَّ الجَماعَةَ رَحْمَةٌ، والفُرْقَةَ عَذابٌ، وجِماعُ ذَلِكَ في الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنْ المُنْكَرِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿ولْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٤] فَمِنَ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ الأمْرُ بِالِائْتِلافِ والِاجْتِماعِ والنَّهْيُ عَنْ الِاخْتِلافِ والفُرْقَةِ، ومِنَ النَّهْيِ عَنْ المُنْكَرِ: إقامَةُ الحُدُودِ عَلى مَن خَرَجَ مِن شَرِيعَةِ اللَّهِ تَعالى. ثُمَّ قالَ: ويَجِبُ عَلى أُولِي الأمْرِ، وهم عُلَماءُ كُلِّ طائِفَةٍ وأُمَراؤُها ومَشايِخُها أنْ يُقَوِّمُوا عامَّتَهم ويَأْمُرُوهم بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْهم عَنْ المُنْكَرِ، فَيَأْمُرُونَهم بِما أمَرَ اللَّهُ بِهِ ورَسُولُهُ، ويَنْهَوْنَهم عَمّا نَهى اللَّهُ عَنْهُ ورَسُولُهُ ﷺ . وقَوْلُهُ تَعالى: (p-٩٣٢)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب