الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٦٣ - ٦٨] ﴿قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ رَبَّنا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أغْوَيْنا أغْوَيْناهم كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إلَيْكَ ما كانُوا إيّانا يَعْبُدُونَ﴾ ﴿وقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكم فَدَعَوْهم فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهم ورَأوُا العَذابَ لَوْ أنَّهم كانُوا يَهْتَدُونَ﴾ [القصص: ٦٤] ﴿ويَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٦٥] ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهم لا يَتَساءَلُونَ﴾ [القصص: ٦٦] ﴿فَأمّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَعَسى أنْ يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ﴾ [القصص: ٦٧] ﴿ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: ٦٨] ﴿قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ﴾ أيْ: وجَبَ وثَبَتَ مُقْتَضاهُ. وهو لُحُوقُ الوَعِيدِ بِهِمْ. والمُرادُ بِهِمْ، رُؤَساءُ الضَّلالِ، وقادَةُ الكُفْرِ والفَسادِ: ﴿رَبَّنا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أغْوَيْنا﴾ أيْ: أضْلَلْناهم. قالَ أبُو السُّعُودِ: ومُرادُهم بِالإشارَةِ، بَيانُ أنَّهم يَقُولُونَ ما يَقُولُونَ بِمَحْضَرٍ مِنهم. وأنَّهم غَيْرُ قادِرِينَ عَلى إنْكارِهِ ورَدِّهِ: ﴿أغْوَيْناهم كَما غَوَيْنا﴾ أيْ: أضْلَلْناهم بِالوَسْوَسَةِ والتَّسْوِيلِ، كَما ضَلَلْنا بِاخْتِيارِنا، وإيثارِ ما يَفْنى عَلى ما يَبْقى: ﴿تَبَرَّأْنا إلَيْكَ﴾ أيْ: مِنَ الكُفْرِ والشِّرْكِ والمَعاصِي. أوْ مِنهم ومِمّا اخْتارُوهُ: ﴿ما كانُوا إيّانا يَعْبُدُونَ﴾ أيْ: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ (p-٤٧١٩)أهْواءَهم وشَهَواتِهِمْ: ﴿وقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ﴾ [القصص: ٦٤] لِيَشْفَعُوا لَكُمْ: ﴿فَدَعَوْهم فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهم ورَأوُا العَذابَ لَوْ أنَّهم كانُوا يَهْتَدُونَ﴾ [القصص: ٦٤] أيْ: تَمَنَّوْا ذَلِكَ لِيُنْقَذُوا مِنَ العَذابِ العَظِيمِ: ﴿ويَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٦٥] أيِ: الدّاعِينَ إلى الهِدايَةِ وإصْلاحِ الأعْمالِ والأخْلاقِ: ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْباءُ يَوْمَئِذٍ﴾ [القصص: ٦٦] أيْ: فَصارَتِ الأنْباءُ كالعُمْيِ عَلَيْهِمْ لا تَهْتَدِي إلَيْهِمْ. وأصْلُهُ فَعَمُوا عَنِ الأنْباءِ لَكِنَّهُ عُكِسَ مُبالَغَةً. قالَ الشِّهابُ: فَفِيهِ اسْتِعارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ. اسْتُعِيرَ العَمى لِعَدَمِ الِاهْتِداءِ فَهم لا يَهْتَدُونَ لِلْأنْباءِ. ثُمَّ قُلِبَ لِلْمُبالَغَةِ. فَجَعَلَ الأنْباءَ لا تَهْتَدِي إلَيْهِمْ. وضَمِنَ مَعْنى الخَفاءِ. فَعُدِّيَ بِـ(عَلى). فَفِيهِ أنْواعٌ مِنَ البَلاغَةِ. الِاسْتِعارَةُ والقَلْبُ والتَّضْمِينُ. والمُرادُ بِالأنْباءِ ما أجابُوا بِهِ الرُّسُلَ. أوْ ما يَعُمُّها وغَيْرُها مُنَكَّلُ ما يُمْكِنُ الجَوابُ بِهِ: ﴿فَهم لا يَتَساءَلُونَ﴾ [القصص: ٦٦] أيْ: لا يَسْألُ بَعْضُهم بَعْضًا عَنِ الجَوابِ، لِفَرْطِ الدَّهْشَةِ. أوْ لِعِلْمِهِ بِأنَّهُ مِثْلُهُ في العَجْزِ عَنِ الجَوابِ. أوْ لِعَجْزِهِمْ عَنِ النُّطْقِ وكَوْنِهِمْ مَخْتُومًا عَلى أفْواهِهِمْ. ثُمَّ إنَّ هَذا الوَعِيدَ لاحِقٌ لِلْمُصِرِّ: ﴿فَأمّا مَن تابَ﴾ [القصص: ٦٧] أيْ: مِنَ الشِّرْكِ: ﴿وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَعَسى أنْ يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ﴾ [القصص: ٦٧] أيْ: أنْ يُفْلِحَ عِنْدَ اللَّهِ. و(عَسى) مِنَ الكِرامِ تَحْقِيقٌ. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ تَرَجِّي التّائِبِ وطَمَعُهُ. كَأنَّهُ قالَ: فَلْيَطْمَعْ أنْ يُفْلِحَ. قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ﴾ [القصص: ٦٨] أيْ: بِمُقْتَضى مَشِيئَتِهِ وعِنايَتِهِ، ما يُرِيدُ: ﴿ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾ [القصص: ٦٨] أيْ: في ذَلِكَ. بَلِ الخِيَرَةُ لَهُ في أفْعالِهِ وهو أعْلَمُ بِوُجُوهِ الحِكْمَةِ فِيها، لَيْسَ لِأحَدٍ مِن خَلْقِهِ أنْ يَخْتارَ عَلَيْهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الخِيَرَةُ مِنَ التَّخَيُّرِ، كالطِّيَرَةِ مِنَ التَّطَيُّرِ، تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنى المَصْدَرِ وهو التَّخَيُّرُ، وبِمَعْنى المُتَخَيِّرِ. كَقَوْلِهِمْ: مُحَمَّدٌ خِيرَةُ اللَّهِ مِن خَلْقِهِ. والقَصْدُ تَقْرِيرُ انْفِرادِهِ بِالأُلُوهِيَّةِ وحْدَهُ. ولِذا قالَ: ﴿سُبْحانَ اللَّهِ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: ٦٨] مِنَ الأصْنامِ والأنْدادِ الَّتِي لا تَخْلُقُ شَيْئًا ولا تَخْتارُ. تَنْبِيهٌ: لِلْإمامِ ابْنِ القَيِّمِ في مُقَدِّمَةِ (زادِ المَعادِ) مَقالَةٌ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، جَدِيرَةٌ بِأنْ تُؤْثَرَ (p-٤٧٢٠)عَنْهُ. قالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وبَعْدُ. فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى هو المُتَفَرِّدُ بِالخَلْقِ والِاخْتِيارِ مِنَ المَخْلُوقاتِ. قالَ تَعالى: ﴿ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ﴾ [القصص: ٦٨] ولَيْسَ المُرادُ هاهُنا بِالِاخْتِيارِ، الإرادَةَ الَّتِي يُشِيرُ إلَيْها المُتَكَلِّمُونَ بِأنَّهُ الفاعِلُ المُخْتارُ، وهو سُبْحانَهُ كَذَلِكَ. ولَيْسَ المُرادُ بِالِاخْتِيارِ هُنا هَذا المَعْنى. وهَذا الِاخْتِيارُ داخِلٌ في قَوْلِهِ: "يَخْلُقُ ما يَشاءُ" فَإنَّهُ لا يَخْلُقُ إلّا بِاخْتِيارِهِ. وداخِلٌ في قَوْلِهِ تَعالى: "ما يَشاءُ" فَإنَّ المَشِيئَةَ هي الِاخْتِيارُ. وإنَّما المُرادُ بِالِاخْتِيارِ هُنا الِاجْتِباءُ والِاصْطِفاءُ. فَهو اخْتِيارٌ بَعْدَ الخَلْقِ. والِاخْتِيارُ العامُّ اخْتِيارٌ قَبْلَ الخَلْقِ. فَهو أعَمُّ وأسْبَقُ. وهَذا أخَصُّ وهو مُتَأخِّرٌ. فَهو اخْتِيارٌ مِنَ الخَلْقِ والأوَّلُ اخْتِيارٌ لِلْخَلْقِ. وأصَحُّ القَوْلَيْنِ أنَّ الوَقْفَ التّامَّ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ويَخْتارُ﴾ [القصص: ٦٨] ويَكُونُ: ﴿ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾ [القصص: ٦٨] نَفْيًا. أيْ: لَيْسَ هَذا الِاخْتِيارُ إلَيْهِمْ، بَلْ هو إلى الخالِقِ وحْدَهُ. فَكَما أنَّهُ هو المُتَفَرِّدُ بِالخَلْقِ، فَهو المُتَفَرِّدُ بِالِاخْتِيارِ مِنهُ. فَلَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَخْلُقَ ولا يَخْتارَ سِواهُ. فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أعْلَمُ بِمَواقِعِ اخْتِيارِهِ ومَحالِّ رِضاهُ، وما يَصْلُحُ لِلِاخْتِيارِ مِمّا لا يَصْلُحُ لَهُ. وغَيْرُهُ لا يُشارِكُهُ في ذَلِكَ بِوَجْهٍ. وذَهَبَ بَعْضُ مَن لا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ ولا تَحْصِيلَ، إلى أنَّ (ما) في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾ [القصص: ٦٨] مَوْصُولَةٌ وهي مَفْعُولُ (يَخْتارُ) أيْ: ويَخْتارُ الَّذِي لَهُمُ الخِيَرَةُ. وهَذا باطِلٌ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ الصِّلَةَ حِينَئِذٍ تَخْلُو مِنَ العائِدِ. لِأنَّ الخِيَرَةَ مَرْفُوعٌ بِأنَّهُ اسْمُ (كانَ) و(لَهُمْ) خَبَرُهُ. فَيَصِيرُ المَعْنى: ويَخْتارُ الَّذِي كانَ الخِيَرَةُ لَهم. وهَذا التَّرْكِيبُ مُحالٌ مِنَ القَوْلِ. فَإنْ قِيلَ: يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأنْ يَكُونَ العائِدُ مَحْذُوفًا، ويَكُونُ التَّقْدِيرُ: ويَخْتارُ الَّذِي كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ فِيهِ. أيْ: ويَخْتارُ الأمْرَ الَّذِي كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ في اخْتِيارِهِ. قِيلَ: هَذا يَفْسُدُ مِن وجْهٍ آخَرَ. وهو أنَّ هَذا لَيْسَ مِنَ المَواضِعِ الَّتِي يَجُوزُ فِيها حَذْفُ العائِدِ. فَإنَّهُ إنَّما يُحْذَفُ مَجْرُورًا إذا جُرَّ بِحَرْفِ جَرِّ المَوْصُولِ بِمِثْلِهِ، مَعَ اتِّحادِ المَعْنى نَحْوَهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنهُ ويَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٣] ونَظائِرُهُ. ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ جاءَنِي الَّذِي مَرَرْتُ، ورَأيْتُ الَّذِي رَغِبْتُ، ونَحْوَهُ. الثّانِي: أنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذا المَعْنى لَنُصِبَ (الخِيَرَةُ) وشُغِلَ فِعْلُ الصِّلَةِ بِضَمِيرٍ يَعُودُ عَلى المَوْصُولِ. فَكَأنَّهُ يَقُولُ: ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ (p-٤٧٢١)الخِيَرَةُ. أيِ: الَّذِي كانَ هو عَيْنَ الخِيَرَةِ لَهم. وهَذا لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أحَدٌ البَتَّةَ. مَعَ أنَّهُ كانَ وجْهُ الكَلامِ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ. الثّالِثُ: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ يَحْكِي عَنِ الكُفّارِ اقْتِراحَهم في الِاخْتِيارِ وإرادَتَهم أنْ يَكُونَ الخِيَرَةُ لَهم. ثُمَّ يَنْفِي هَذا سُبْحانَهُ عَنْهُمْ، ويُبَيِّنُ تَفَرُّدَهُ بِالِاخْتِيارِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وقالُوا لَوْلا نُـزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] ﴿أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهم مَعِيشَتَهم في الحَياةِ الدُّنْيا ورَفَعْنا بَعْضَهم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهم بَعْضًا سُخْرِيًّا ورَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: ٣٢] فَأنْكَرَ عَلَيْهِمْ سُبْحانَهُ تَخَيُّرَهم عَلَيْهِ. وأخْبَرَ أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِمْ. بَلْ إلى الَّذِي قَسَّمَ بَيْنَهم مَعايِشَهُمُ المُتَضَمِّنَةَ لِأرْزاقِهِمْ ومَدَّدَ آجالَهم. وكَذَلِكَ هو الَّذِي يُقَسِّمُ فَضْلَهُ بَيْنَ أهْلِ الفَضْلِ، عَلى حَسَبِ عِلْمِهِ بِمَواقِعِ الِاخْتِيارِ، ومَن يَصْلُحُ لَهُ مِمَّنْ لا يَصْلُحُ. وهو الَّذِي رَفَعَ بَعْضَهم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ. وقَسَّمَ بَيْنَهم مَعايِشَهم ودَرَجاتِ التَّفْضِيلِ. فَهو القاسِمُ ذَلِكَ وحْدَهُ لا غَيْرُهُ. وهَكَذا هَذِهِ الآيَةُ. بَيَّنَ فِيها انْفِرادَهُ بِالخَلْقِ والِاخْتِيارِ. فاللَّهُ سُبْحانَهُ أعْلَمُ بِمَواقِعِ اخْتِيارِهِ كَما قالَ: ﴿وإذا جاءَتْهم آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤] أيِ: اللَّهُ أعْلَمُ بِالمَحَلِّ الَّذِي يَصْلُحُ لِاصْطِفائِهِ وكَرامَتِهِ وتَخْصِيصِهِ بِالرِّسالَةِ والنُّبُوَّةِ، دُونَ غَيْرِهِ. الرّابِعُ: أنَّهُ نَزَّهَ نَفْسَهُ سُبْحانَهُ عَمّا اقْتَضاهُ شِرْكُهم مِنِ اقْتِراحِهِمْ واخْتِيارِهِمْ فَقالَ: ﴿ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: ٦٨] ولَمْ يَكُنْ شِرْكُهم مُقْتَضِيًا لِإثْباتِ خالِقٍ سِواهُ، حَتّى نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ. فَتَأمَّلْهُ فَإنَّهُ في غايَةِ اللُّطْفِ. الخامِسُ: إنَّ هَذا نَظِيرُ قَوْلِهِ في الحَجِّ: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنهُ ضَعُفَ الطّالِبُ والمَطْلُوبُ﴾ [الحج: ٧٣] ﴿ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: ٧٤] ثُمَّ قالَ: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ (p-٤٧٢٢)المَلائِكَةِ رُسُلا ومِنَ النّاسِ إنَّ اللَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [الحج: ٧٥] ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ [الحج: ٧٦] وهَذا نَظِيرُ قَوْلِهِ في القَصَصِ: ﴿ورَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهم وما يُعْلِنُونَ﴾ [القصص: ٦٩] ونَظِيرُ قَوْلِهِ في الأنْعامِ: ﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤] فَأخْبَرَ في ذَلِكَ كُلِّهِ عَنْ عِلْمِهِ المُتَضَمِّنِ لِتَخْصِيصِهِ مَحالَّ اخْتِيارِهِ، بِما خَصَّصَها بِهِ بِعِلْمِهِ، بِأنَّهُ يَصْلُحُ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ فَتَقْدِيرُ السِّياقِ في هَذِهِ الآياتِ تَجِدُهُ مُتَضَمِّنًا لِهَذا المَعْنى دائِرًا عَلَيْهِ. واللَّهُ أعْلَمُ. السّادِسُ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ قَوْلِهِ: ﴿ويَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٦٥] ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهم لا يَتَساءَلُونَ﴾ [القصص: ٦٦] ﴿فَأمّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَعَسى أنْ يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ﴾ [القصص: ٦٧] ﴿ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ﴾ [القصص: ٦٨] فَكَما خَلَقَهم وحْدَهُ سُبْحانَهُ، اخْتارَ مِنهم مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا، فَكانُوا صَفْوَتَهُ مِن عِبادِهِ، وخِيرَتَهُ مِن خَلْقِهِ، وكانَ هَذا الِاخْتِيارُ راجِعًا إلى حِكْمَتِهِ وعِلْمِهِ سُبْحانَهُ، لِمَن هو أهْلٌ لَهُ. لا إلى اخْتِيارِ هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ واقْتِراحِهِمْ. فَسُبْحانَ اللَّهِ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ. ثُمَّ قالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: (فَصْلٌ) فَإذا تَأمَّلْتَ أحْوالَ هَذا الخَلْقِ رَأيْتَ هَذا الِاخْتِيارَ والتَّخْصِيصَ فِيهِ، دالًّا عَلى رُبُوبِيَّتِهِ تَعالى ووَحْدانِيَّتِهِ وكَمالِ حِكْمَتِهِ وعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ. وأنَّهُ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هُوَ، فَلا شَرِيكَ لَهُ يَخْلُقُ كَخَلْقِهِ، ويَخْتارُ كاخْتِيارِهِ، ويُدَبِّرُ كَتَدْبِيرِهِ. فَهَذا الِاخْتِيارُ والتَّدْبِيرُ والتَّخْصِيصُ، المَشْهُورُ أثَرُهُ في هَذا العالَمِ، مِن أعْظَمِ آياتِ رُبُوبِيَّتِهِ، وأكْبَرُ شَواهِدِ وحْدانِيَّتِهِ، وصِفاتِ كَمالِهِ وصِدْقِ رَسُولِهِ. فَنُشِيرُ مِنهُ إلى شَيْءٍ يَسِيرٍ يَكُونُ مُنَبِّهًا عَلى ما وراءَهُ، دالًّا عَلى ما سِواهُ. فَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ سَبْعًا. فاخْتارَ العُلْيا مِنها فَجَعَلَها مُسْتَقَرَّ المُقَرَّبِينَ مِن مَلائِكَتِهِ واخْتَصَّها بِالقُرْبِ مِن كُرْسِيِّهِ ومِن عَرْشِهِ. وأسْكَنَها مَن شاءَ مِن خَلْقِهِ. فَلَها مَزِيَّةٌ وفَضْلٌ عَلى سائِرِ السَّماواتِ. ولَوْ لَمْ يَكُنْ إلّا قُرْبُها مِنهُ تَبارَكَ وتَعالى. وهَذا التَّفْضِيلُ والتَّخْصِيصُ، مَعَ تَساوِي (p-٤٧٢٣)مادَّةِ السَّماواتِ، مِن أبْيَنِ الأدِلَّةِ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ، وأنَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ. ومِن هَذا تَفْضِيلُهُ سُبْحانَهُ جَنَّةَ الفِرْدَوْسِ عَلى سائِرِ الجِنانِ، وتَخْصِيصُها بِأنْ جَعَلَ عَرْشَهُ سَقْفَها. وفي بَعْضِ الآثارِ: إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ غَرَسَها بِيَدِهِ واخْتارَها لِخِيرَتِهِ مِن خَلْقِهِ. ومِن هَذا اخْتِيارُهُ مِنَ المَلائِكَةِ، المُصْطَفَيْنَ مِنهم عَلى سائِرِهِمْ. كَجِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ وإسْرافِيلَ. وكَذَلِكَ اخْتِيارُهُ سُبْحانَهُ لِلْأنْبِياءِ مِن ولَدِ آدَمَ. واخْتِيارُ الرُّسُلِ مِنهم واخْتِيارُهُ أُولِي العَزْمِ مِنهم. واخْتِيارُهُ مِنهُمُ الخَلِيلَيْنِ إبْراهِيمَ ومُحَمَّدًا صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وسَلَّمَ. ومِن هَذا اخْتِيارُهُ سُبْحانَهُ ولَدَ إسْماعِيلَ مِن أجْناسِ أنْواعِ بَنِي آدَمَ. ثُمَّ اخْتارَ مِنهم بَنِي كِنانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ. ثُمَّ اخْتارَ مِن ولَدِ كِنانَةَ قُرَيْشًا. ثُمَّ اخْتارَ مِن قُرَيْشٍ بَنِي هاشِمٍ. ثُمَّ اخْتارَ مِن بَنِي هاشِمٍ، سَيِّدَ ولَدِ آدَمَ مُحَمَّدًا ﷺ. وكَذَلِكَ اخْتارَ أصْحابَهُ مِن جُمْلَةِ العالَمِينَ. واخْتارَ مِنهُمُ السّابِقِينَ الأوَّلِينَ. واخْتارَ مِنهم أهْلَ بَدْرٍ وأهْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوانِ. واخْتارَ لَهم مِنَ الدِّينِ أكْمَلَهُ، ومِنَ الشَّرائِعِ أفْضَلَها، ومِنَ الأخْلاقِ أزْكاها وأطْيَبَها وأطْهَرَها. واخْتارَ أُمَّتَهُ ﷺ عَلى سائِرِ الأُمَمِ. ومِن هَذا اخْتِيارُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مِنَ الأماكِنِ والبِلادِ خَيْرَها وأشْرَفَها. وهي البَلَدُ الحَرامُ. فَإنَّهُ سُبْحانَهُ اخْتارَهُ لِنَبِيِّهِ، وجَعَلَهُ مَناسِكَ لِعِبادِهِ. وأوْجَبَ عَلَيْهِمُ الإتْيانَ إلَيْهِ مِنَ القُرْبِ والبُعْدِ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. فَلا يَدْخُلُونَهُ إلّا مُتَواضِعِينَ مُتَخَشِّعِينَ مُتَذَلِّلِينَ، كاشِفِي رُؤُوسِهِمْ، مُتَجَرِّدِينَ عَنْ لِباسِ أهْلِ الدُّنْيا. وجَعَلَهُ حَرَمًا آمِنًا لا يُسْفَكُ فِيهِ دَمٌ، ولا تُعَضَّدُ بِهِ شَجَرَةٌ، ولا يُنَفَّرُ لَهُ صَيْدٌ ولا يُخْتَلى خَلاهُ، ولا يُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ لِلتَّمَلُّكِ. بَلْ لِلتَّعْرِيفِ لَيْسَ إلّا. ومِن هَذا تَفْضِيلُهُ بَعْضَ الأيّامِ والشُّهُورِ عَلى بَعْضٍ. فَخَيْرُ الأيّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ. وهو يَوْمُ الحَجِّ الأكْبَرِ كَما في (السُّنَنِ). وأفْضَلُ الشُّهُورِ شَهْرُ رَمَضانَ. وعَشْرُهُ الأخِيرُ أفْضَلُ اللَّيالِي. ولَيْلَةُ القَدْرِ أفْضَلُ مِن ألْفِ شَهْرٍ. ويَوْمُ الجُمُعَةِ أفْضَلُ أيّامِ الأُسْبُوعِ. ويَوْمُ عَرَفَةَ ويَوْمُ النَّحْرِ أفْضَلُ أيّامِ العامِ. انْتَهى مُلَخَّصًا. وقَدْ أوْسَعَ المَقالَ وُجُودُ الِاسْتِدْلالِ. فَرَحِمَهُ اللَّهُ ورَضِيَ عَنْهُ وأرْضاهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿سُبْحانَ اللَّهِ﴾ [القصص: ٦٨] أيْ: تَنْزِيهًا لِلَّهِ الَّذِي لا يُزاحِمُ اخْتِيارَهُ اخْتِيارٌ: ﴿وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: ٦٨]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب