الباحث القرآني

(p-٤٧١٥)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٥٦ - ٥٨] ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ وهو أعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾ ﴿وقالُوا إنْ نَتَّبِعِ الهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِن أرْضِنا أوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهم حَرَمًا آمِنًا يُجْبى إلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَدُنّا ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص: ٥٧] ﴿وكَمْ أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهم لَمْ تُسْكَنْ مِن بَعْدِهِمْ إلا قَلِيلا وكُنّا نَحْنُ الوارِثِينَ﴾ [القصص: ٥٨] ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ﴾ أيْ: لا تَقْدِرُ أنْ تُدْخِلَ في الإسْلامِ كُلَّ مَن أحْبَبْتَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ مِن قَوْمِكَ وغَيْرِهِمْ: ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ أيْ: أنْ يَهْدِيَهُ فَيُدْخِلَهُ في الإسْلامِ بِعِنايَتِهِ: ﴿وهُوَ أعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾ أيِ: القابِلِينَ لِلْهِدايَةِ. لِاطِّلاعِهِ عَلى اسْتِعْدادِهِمْ وكَوْنِهِمْ غَيْرَ مَطْبُوعٍ عَلى قُلُوبِهِمْ. تَنْبِيهٌ: رَوى البُخارِيُّ في (صَحِيحِهِ) في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ عَنْ أبِيهِ قالَ: «لَمّا حَضَرَتْ أبا طالِبٍ الوَفاةُ جاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أبا جَهْلٍ وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ. فَقالَ: أيْ: عَمَّ! قُلْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحاجُّ لَكَ بِها عِنْدَ اللَّهِ. فَقالَ أبُو جَهْلٍ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي أُمَيَّةَ: أتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْرِضُها عَلَيْهِ، (p-٤٧١٦)ويُعِيدانِهِ بِتِلْكَ المَقالَةِ، حَتّى قالَ أبُو طالِبٍ آخِرَ ما كَلَّمَهُمْ: عَلى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ. وأبى أنْ يَقُولَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. قالَ: فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «واللَّهِ! لِأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» . فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ١١٣] وأنْزَلَ اللَّهُ في أبِي طالِبٍ، فَقالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾» قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَكَذا رَواهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ والتِّرْمِذِيُّ أيْضًا مِن حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ كَيْسانَ عَنْ أبِي حازِمٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ. والإمامُ أحْمَدُ مِن حَدِيثِهِ أيْضًا، وهَكَذا قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ عُمَرَ ومُجاهِدٌ والشَّعْبِيُّ وقَتادَةُ: إنَّها نَزَلَتْ في أبِي طالِبٍ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ الإسْلامُ. انْتَهى. وقالَ ابْنُ حَجَرٍ في (فَتْحِ البارِي): لَمْ تَخْتَلِفِ النَّقَلَةُ في أنَّها نَزَلَتْ في أبِي طالِبٍ. انْتَهى. وقَدَّمْنا مِرارًا مَعْنى قَوْلِهِمْ نَزَلَتِ الآيَةُ في كَذا. فانْظُرِ المُقَدِّمَةَ، وغَيْرَ مَوْضِعٍ بَعْدَها. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى مِن تَعَنُّتِهِمْ، شُبْهَةً اسْتَرْوَحَ بِها الحارِثُ بْنُ عامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، فِيما رَواهُ النَّسائِيُّ، قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وقالُوا إنْ نَتَّبِعِ الهُدى مَعَكَ﴾ [القصص: ٥٧] أيْ: ونُخالِفُ العَرَبَ: ﴿نُتَخَطَّفْ مِن أرْضِنا﴾ [القصص: ٥٧] أيْ: مَكَّةَ. فَرَدَّ عَلَيْهِمْ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿أوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهم حَرَمًا آمِنًا﴾ [القصص: ٥٧] أيْ: ألَمْ نَعْصِمْهم مِن عَدُوِّهِمْ ونَجْعَلْ مَكانَهم حَرَمًا ذا أمْنٍ، لِحُرْمَةِ البَيْتِ الحَرامِ، الَّذِي تَتَناجَزُ العَرَبُ حَوْلَهُ وهم آمِنُونَ: ﴿يُجْبى إلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَدُنّا ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص: ٥٧] أيْ: جَهَلَةٌ لا يَتَفَكَّرُونَ. ولَوْ عَلِمُوا أنَّ ذَلِكَ رِزْقٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ، لَعَلِمُوا أنَّ الخَوْفَ والأمْنَ مِن عِنْدِهِ، ولَما خافُوا التَّخَطُّفَ إذْ آمَنُوا بِهِ وخَلَعُوا أنْدادَهُ ﴿وكَمْ أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها﴾ [القصص: ٥٨] أيْ: كَفَرَتْ بِها فَلَمْ تَحْفَظْ حَقَّ اللَّهِ فِيها فَدُمِّرَتْ: ﴿فَتِلْكَ مَساكِنُهم (p-٤٧١٧)لَمْ تُسْكَنْ مِن بَعْدِهِمْ إلا قَلِيلا وكُنّا نَحْنُ الوارِثِينَ﴾ [القصص: ٥٨] أيْ: مِنهم. إذْ لَمْ يَخْلُفْهم أحَدٌ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَهم. ومَوْصُوفٌ (قَلِيلًا) المُسْتَثْنى، إمّا (زَمانٌ) أيْ: إلّا زَمانًا قَلِيلًا، إذْ لا يَسْكُنُها إلّا المارَّةُ يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ. وإمّا (مَكانٌ) أيْ: إلّا مَكانًا قَلِيلًا يَصِحُّ لِسُكْنى البَعْضِ، وانْدَثَرَ الباقِي. أوْ (مَصْدَرٌ) أيْ: سَكَنًا قَلِيلًا مِن شُؤْمِ مَعاصِيهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب