الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٤٩ - ٥٥] ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِن عِنْدِ اللَّهِ هو أهْدى مِنهُما أتَّبِعْهُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ ﴿فَإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فاعْلَمْ أنَّما يَتَّبِعُونَ أهْواءَهم ومَن أضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ [القصص: ٥٠] ﴿ولَقَدْ وصَّلْنا لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص: ٥١] ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِن قَبْلِهِ هم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: ٥٢] ﴿وإذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنّا بِهِ إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّنا إنّا كُنّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ [القصص: ٥٣] ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ويَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ [القصص: ٥٤] (p-٤٧١٢)﴿وإذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وقالُوا لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم سَلامٌ عَلَيْكم لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ﴾ [القصص: ٥٥] ﴿قُلْ﴾ أيْ: لِهَؤُلاءِ الجاحِدِينَ: قَدْ مَضى دَوْرُ الخَوارِقِ الَّتِي تَقْتَرِحُونَها، ونَسَخَ تَعالى مِن تِلْكَ الآياتِ بِما أتى بِخَيْرٍ مِنها، وهو آيَةُ الهِدايَةِ الَّتِي تَصْلُحُ بِها قُلُوبُ العالَمِينَ. والذِّكْرى الَّتِي تَزَعُ النُّفُوسَ عَنِ الشَّرِّ، وتَحْمِلُها عَلى الخَيْرِ. بِحَيْثُ يَظْهَرُ أثَرُها الحَسَنُ في المُؤْمِنِينَ، ويَحِقُّ الشَّقاءُ عَلى الجاحِدِينَ المُعانِدِينَ. فَإنْ يَكُ هَذا سِحْرًا، ولَدَيْكم ما هو أهْدى: ﴿فَأْتُوا بِكِتابٍ مِن عِنْدِ اللَّهِ هو أهْدى مِنهُما﴾ أيْ: مِنَ التَّوْراةِ والقُرْآنِ: ﴿أتَّبِعْهُ﴾ أيْ: ولا أُعانِدُكم مِثْلَ ما تُعانِدُونَنِي: ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ أيْ: في أنَّهُما سِحْرانِ مُخْتَلِقانِ. أوْ في أنَّهُ يُمْكِنُ الإتْيانُ بِما هو أهْدى مِنهُما. قالَ أبُو السُّعُودِ: ومِثْلَ هَذا الشَّرْطِ مِمّا يَأْتِي بِهِ مَن يُدْلِ بِوُضُوحِ حُجَّتِهِ وسُنُوحِ مَحَجَّتِهِ. لِأنَّ الإتْيانَ بِما هو أهْدى مِنَ الكِتابَيْنِ، أمْرٌ بَيِّنُ الِاسْتِحالَةِ. فَيُوَسِّعُ دائِرَةَ الكَلامِ لِلتَّبْكِيتِ والإفْحامِ. انْتَهى. أيْ: لا لِلشَّكِّ والتَّرَدُّدِ. قالَ الشِّهابُ: وهَذا جَوابٌ عَمّا يُقالُ أنَّ عَدَمَ إتْيانِهِمْ بِهِ مَعْلُومٌ. وهَذا كَما يَقُولُ المُدِلُّ: إنْ كُنْتُ صَدِيقَكَ القَدِيمَ، فَعامِلْنِي بِالجَهْلِ. وكَذا في إيرادِ كَلِمَةِ إنَّ مَعَ امْتِناعِ صِدْقِهِمْ، نَوْعُ تَهَكُّمٍ بِهِمْ: ﴿فَإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ﴾ [القصص: ٥٠] أيْ: فَلَمْ يَأْتُوا بِذَلِكَ الكِتابِ، ولَمْ يُتابِعُوا الكِتابَيْنِ: ﴿فاعْلَمْ أنَّما يَتَّبِعُونَ أهْواءَهُمْ﴾ [القصص: ٥٠] أيِ: الزّائِغَةَ مِن غَيْرِ بُرْهانٍ: ﴿ومَن أضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ [القصص: ٥٠] الِاسْتِفْهامُ إنْكارِيٌّ لِلنَّفْيِ. أيْ: لا أحَدَ أضَلُّ مِنهُ. كَيْفَ لا؟ وهو أظْلَمُ الظَّلَمَةِ. بِتَقْدِيمِ هَواهُ عَلى هُدى اللَّهِ. كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ [القصص: ٥٠] أيِ: الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم بِالِانْهِماكِ في اتِّباعِ الهَوى، والإعْراضِ عَنِ الآياتِ الهادِيَةِ إلى الحَقِّ المُبِينِ. (p-٤٧١٣)قالَ الرّازِيُّ: وهَذا مِن أعْظَمِ الدَّلائِلِ عَلى فَسادِ التَّقْلِيدِ، وأنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الحُجَّةِ والِاسْتِدْلالِ. انْتَهى ﴿ولَقَدْ وصَّلْنا لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص: ٥١] أيْ: أنْزَلْنا عَلَيْهِمُ القُرْآنَ مُتَواصِلًا، بَعْضُهُ إثْرَ بَعْضٍ، وعْدًا ووَعِيدًا، وقِصَصًا وعِبَرًا، ومَواعِظَ، حَسْبَما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ والمَصْلَحَةُ إرادَةَ أنْ يَتَذَكَّرُوا فَيُفْلِحُوا. وقُرِئَ (وصَّلْنا) بِالتَّشْدِيدِ والتَّخْفِيفِ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِن قَبْلِهِ﴾ [القصص: ٥٢] أيِ: القُرْآنِ: ﴿هم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: ٥٢] وهم مُؤْمِنُو أهْلِ الكِتابِ وأوْلِياؤُهُمْ: ﴿وإذا يُتْلى عَلَيْهِمْ﴾ [القصص: ٥٣] أيِ: القُرْآنُ: ﴿قالُوا آمَنّا بِهِ إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّنا إنّا كُنّا مِن قَبْلِهِ﴾ [القصص: ٥٣] أيْ: مِن قَبْلِ نُزُولِهِ: ﴿مُسْلِمِينَ﴾ [القصص: ٥٣] أيْ: مُنْقادِينَ لَهُ، لِما عِنْدَنا مِنَ المُبَشِّراتِ بِهِ. أوْ عَلى دِينِ الإسْلامِ، وهو إخْلاصُ الوَجْهِ لَهُ تَعالى بِدُونِ شِرْكٍ: ﴿أُولَئِكَ﴾ [القصص: ٥٤] أيِ: المَوْصُوفُونَ بِما ذُكِرَ مِنَ النُّعُوتِ: ﴿يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ﴾ [القصص: ٥٤] يَعْنِي مَرَّةً عَلى إيمانِهِمْ بِكِتابِهِمْ، ومَرَّةً عَلى إيمانِهِمْ بِالقُرْآنِ: ﴿بِما صَبَرُوا﴾ [القصص: ٥٤] أيْ: بِصَبْرِهِمْ وثَباتِهِمْ عَلى الإيمانَيْنِ. أوْ عَلى الإيمانِ بِالقُرْآنِ قَبْلَ النُّزُولِ وبَعْدَهُ. أوْ عَلى أذى مَن نابَذَهُمْ: ﴿ويَدْرَءُونَ﴾ [القصص: ٥٤] أيْ: يَدْفَعُونَ: ﴿بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ [القصص: ٥٤] أيْ: بِالحِكْمَةِ الطَّيِّبَةِ، ما يَسُوؤُهُمْ: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ [القصص: ٥٤] أيْ: لِلْبُؤَساءِ والفُقَراءِ، وفي سَبِيلِ البِرِّ والخَيْرِ، فِرارًا عَنْ وصْمَةِ الشُّحِّ، وتَنَبُّهًا لِآفاتِهِ. ﴿وإذا سَمِعُوا اللَّغْوَ﴾ [القصص: ٥٥] أيْ: مِنَ الجُهّالِ. وهو كُلُّ ما حَقُّهُ أنْ يُلْغى ويُتْرَكَ، مِنَ العَبَثِ وغَيْرِهِ: ﴿أعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص: ٥٥] أيْ: تَكْرِيمًا لِلنَّفْسِ عَنْ مُلابَسَةِ الأدْنِياءِ، وتَشْرِيفًا لِلسَّمْعِ عَنْ سَقْطِ باطِلِهِمْ: ﴿وقالُوا﴾ [القصص: ٥٥] أيْ: لَهُمْ: ﴿لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [القصص: ٥٥] أيْ: بِطَرِيقِ التَّوْدِيعِ والمُتارَكَةِ؛ وعَنِ الحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَلِمَةُ حِلْمِ المُؤْمِنِينَ: ﴿لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ﴾ [القصص: ٥٥] أيْ: لا نُرِيدُ مُخالَطَتَهم وصُحْبَتَهُمْ، ولا نُرِيدُ مُجازاتَهم بِالباطِلِ عَلى باطِلِهِمْ. قالَ الرّازِيُّ: قالَ قَوْمٌ: نُسِخَ ذَلِكَ بِالأمْرِ بِالقِتالِ. وهو بَعِيدٌ. لِأنَّ تَرْكَ المُسافَهَةِ مَندُوبٌ. وإنْ كانَ القِتالُ واجِبًا. تَنْبِيهٌ: قالَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إنَّها نَزَلَتْ في سَبْعِينَ مِنَ القِسِّيسِينَ. بَعَثَهُمُ النَّجاشِيُّ. (p-٤٧١٤)فَلَمّا قَدِمُوا النَّبِيَّ ﷺ قَرَأ عَلَيْهِمْ: ﴿يس﴾ [يس: ١] ﴿والقُرْآنِ الحَكِيمِ﴾ [يس: ٢] حَتّى خَتَمَها. فَجَعَلُوا يَبْكُونَ وأسْلَمُوا. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ في (السِّيرَةِ): ثُمَّ قَدِمَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهو بِمَكَّةَ، عِشْرُونَ رَجُلًا أوْ قَرِيبٌ مِن ذَلِكَ مِنَ النَّصارى، حِينَ بَلَغَهم خَبَرُهُ مِنَ الحَبَشَةِ. فَوَجَدُوهُ في المَسْجِدِ. فَجَلَسُوا إلَيْهِ وكَلَّمُوهُ وسَألُوهُ. ورِجالٌ مِن قُرَيْشٍ في أنْدِيَتِهِمْ. حَوْلَ الكَعْبَةِ. فَلَمّا فَرَغُوا مِن مُساءَلَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَمّا أرادُوا، دَعاهم إلى اللَّهِ تَعالى وتَلا عَلَيْهِمُ القُرْآنَ. فَلَمّا سَمِعُوا القُرْآنَ فاضَتْ أعْيُنُهم مِنَ الدَّمْعِ. ثُمَّ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وآمَنُوا بِهِ، وصَدَّقُوهُ وعَرَفُوا مِنهُ ما كانَ يُوصَفُ لَهم في كِتابِهِمْ مِن أمْرِهِ. فَلَمّا قامُوا عَنْهُ اعْتَرَضَهم أبُو جَهْلِ بْنُ هِشامٍ في نَفَرٍ مِن قُرَيْشٍ. فَقالُوا لَهُمْ: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ مِن رَكْبٍ. بَعَثَكم مَن وراءَكم مِن أهْلِ دِينِكم تَرْتادُونَ لَهُمْ، لِتَأْتُوهم بِخَيْرِ الرَّجُلِ. فَلَمْ تَطْمَئِنَّ مَجالِسُكم عِنْدَهُ حَتّى فارَقْتُمْ دِينَكم وصَدَّقْتُمُوهُ فِيما قالَ. ما نَعْلَمُ رَكْبًا أحْمَقَ مِنكم. أوْ كَما قالُوا لَهم. فَقالُوا لَهُمْ: سَلامٌ عَلَيْكم. لا نُجاهِلُكم. لَنا ما نَحْنُ عَلَيْهِ، ولَكم ما أنْتُمْ عَلَيْهِ، لَمْ نَأْلُ أنْفُسَنا خَيْرًا. قالَ: ويُقالُ إنَّ النَّفَرَ النَّصارى مِن أهْلِ نَجْرانَ. فاللَّهُ أعْلَمُ أيَّ ذَلِكَ كانَ. قالَ: ويُقالُ، واللَّهُ أعْلَمُ، إنَّ فِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآياتُ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِن قَبْلِهِ هم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: ٥٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ﴾ [القصص: ٥٥] قالَ: وسَألْتُ الزُّهْرِيَّ عَنِ الآياتِ فِيمَن نَزَلَتْ؟ قالَ: ما زِلْتُ أسْمَعُ مِن عُلَمائِنا أنَّهُنَّ نَزَلْنَ في النَّجاشِيِّ وأصْحابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. والآياتُ اللّاتِي في سُورَةِ المائِدَةِ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ مِنهم قِسِّيسِينَ ورُهْبانًا﴾ [المائدة: ٨٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ﴾ [المائدة: ٨٣]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب