الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٤ - ٨] ﴿إنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنّا لَهم أعْمالَهم فَهم يَعْمَهُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهم سُوءُ العَذابِ وهم في الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ﴾ [النمل: ٥] ﴿وإنَّكَ لَتُلَقّى القُرْآنَ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ [النمل: ٦] ﴿إذْ قالَ مُوسى لأهْلِهِ إنِّي آنَسْتُ نارًا سَآتِيكم مِنها بِخَبَرٍ أوْ آتِيكم بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكم تَصْطَلُونَ﴾ [النمل: ٧] ﴿فَلَمّا جاءَها نُودِيَ أنْ بُورِكَ مَن في النّارِ ومَن حَوْلَها وسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [النمل: ٨]
﴿إنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنّا لَهم أعْمالَهم فَهم يَعْمَهُونَ﴾ أيْ: مَدَدْنا لَهم في غَيِّهِمْ، فَهم يَتِيهُونَ في ضَلالِهِمْ. وكانَ هَذا جَزاءً عَلى ما كَذَّبُوهُ بِهِ مِنَ الدّارِ الآخِرَةِ والجَزاءِ عَلى الأعْمالِ كَما قالَ تَعالى: ﴿ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهم كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام: ١١٠] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهم سُوءُ العَذابِ وهم في الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ﴾ [النمل: ٥] أيْ: أشَدُّ النّاسِ (p-٤٦٥٨)خُسْرانًا لِلنَّجاةِ وثَوابِ اللَّهِ ﴿وإنَّكَ لَتُلَقّى القُرْآنَ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ [النمل: ٦] أيْ: لَتُؤْتاهُ وتُلَقَّنَهُ مِن عِنْدِ حَكِيمٍ في أمْرِهِ ونَهْيِهِ، عَلِيمٍ بِالأُمُورِ جَلِيِّها وخَفِيِّها. فَخَبَرُهُ هو الصِّدْقُ المَحْضُ والحِكْمَةُ البالِغَةُ، كَما قالَ: ﴿وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدْلا﴾ [الأنعام: ١١٥] والجُمْلَةُ مُسْتَأْنِفَةٌ، سِيقَتْ بَعْدَ بَيانِ بَعْضِ شُؤُونِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، تَمْهِيدًا لِما يَعْقُبُهُ مِنَ الأنْباءِ الجَلِيلَةِ. وقَدْ بَدَأ مِنها بِما كانَ مِن أمْرِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ واصْطِفائِهِ وإيتائِهِ مِنَ الآياتِ الباهِرَةِ ما أذَلَّ مُعانِدِيهِ، وجَعَلَهم مَثَلَ السَّوْءِ. فَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿إذْ قالَ مُوسى لأهْلِهِ﴾ [النمل: ٧] أيْ: حِينَ قَفَلَ مِن مَدْيَنَ إلى مِصْرَ، وأضَلَّ الطَّرِيقَ: ﴿إنِّي آنَسْتُ نارًا﴾ [النمل: ٧] أيْ: رَأيْتُها: ﴿سَآتِيكم مِنها بِخَبَرٍ﴾ [النمل: ٧] أيْ: عَنِ الطَّرِيقِ: ﴿أوْ آتِيكم بِشِهابٍ قَبَسٍ﴾ [النمل: ٧] أيْ: بِشُعْلَةٍ مُقْتَبَسَةٍ: ﴿لَعَلَّكم تَصْطَلُونَ﴾ [النمل: ٧] أيْ: تَتَدَفَّئُونَ بِهِ: ﴿فَلَمّا جاءَها نُودِيَ أنْ بُورِكَ مَن في النّارِ ومَن حَوْلَها﴾ [النمل: ٨] أيْ: بُورِكَ مَن في مَكانِ النّارِ ومَن حَوْلَ مَكانِها. ومَكانُها البُقْعَةُ الَّتِي حَصَلَتْ فِيها. وتَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ أُبَيٍّ: (تَبارَكَتِ الأرْضُ ومَن حَوْلَها)، وعَنْهُ: بُورِكَتِ النّارُ. والَّذِي بُورِكَتْ لَهُ البُقْعَةُ، وبُورِكَ مَن فِيها وحَوالَيْها، حُدُوثُ أمْرٍ دِينِيٍّ فِيها، وهو تَكْلِيمُ اللَّهِ مُوسى، واسْتِنْباؤُهُ لَهُ، وإظْهارُ المُعْجِزاتِ عَلَيْهِ. ورُبَّ خَيْرٍ يَتَجَدَّدُ في بَعْضِ البِقاعِ، فَيَنْشُرُ اللَّهُ بَرَكَةَ ذَلِكَ الخَيْرِ في أقاصِيها ويَبُثُّ آثارَ يُمْنِهِ في أباعِدِها. فَكَيْفَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الأمْرِ العَظِيمِ الَّذِي جَرى فَـ تِلْكَ البُقْعَةُ المُبارَكَةُ؟ كَذا في (الكَشّافِ).
وقالَ السَّمِينُ: (بارَكَ) يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ. فَلِذَلِكَ بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ: بارَكَكَ اللَّهُ، وبارَكَ عَلَيْكَ، وبارَكَ فِيكَ وبارَكَ لَكَ. والمُرادُ بِـ(مَن) إمّا البارِي تَعالى وهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: مِن قُدْرَتِهِ وسُلْطانِهِ في النّارِ. وقِيلَ المُرادُ بِهِ مُوسى والمَلائِكَةُ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ومَن حَوْلَها﴾ [النمل: ٨] وقِيلَ المُرادُ بِـ(مَن) غَيْرُ العُقَلاءِ. وهو النُّورُ والأمْكِنَةُ الَّتِي حَوْلَها. انْتَهى.
ولِذا قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والظّاهِرُ أنَّهُ عامٌّ في كُلِّ مَن كانَ في تِلْكَ الأرْضِ وفي ذَلِكَ الوادِي (p-٤٦٥٩)وحَوالَيْهِما مِن أرْضِ الشّامِ. قالَ: ولَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ أرْضَ الشّامِ بِالبَرَكاتِ مَوْسُومَةً في قَوْلِهِ: ﴿ونَجَّيْناهُ ولُوطًا إلى الأرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١] وحَقَّتْ أنْ تَكُونَ كَذَلِكَ. فَهي مَبْعَثُ الأنْبِياءِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، ومَهْبِطُ الوَحْيِ إلَيْهِمْ، وكِفاتُهم أحْياءً وأمْواتًا.
ثُمَّ قالَ: ومَعْنى ابْتِداءِ خِطابِ اللَّهِ مُوسى بِذَلِكَ عِنْدَ مَجِيئِهِ، هي بِشارَةٌ لَهُ بِأنَّهُ قَدْ مَضى أمْرٌ عَظِيمٌ تَنْتَشِرُ مِنهُ في أرْضِ الشّامِ كُلِّها البَرَكَةُ. انْتَهى.
وقالَ القُرْطُبِيُّ: هَذا تَحِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِمُوسى، وتَكْرِمَةٌ لَهُ. كَما حَيّا إبْراهِيمَ عَلى ألْسِنَةِ المَلائِكَةِ حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا: "رَحْمَتُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ عَلَيْكم أهْلَ البَيْتِ".
وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: لَمْ تَكُنْ تِلْكَ النّارُ نارًا، وإنَّما كانَتْ نُورًا يَتَوَهَّجُ. وعَنْهُ: هي نُورُ رَبِّ العالَمِينَ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أبِي مُوسى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««إنَّ اللَّهَ لا يَنامُ ولا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنامَ. يَخْفِضُ القِسْطَ ويَرْفَعُهُ. يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهارِ وعَمَلُ النَّهارِ قَبْلَ اللَّيْلِ. حِجابُهُ النُّورُ أوِ النّارُ. لَوْ كَشَفَهُ لَأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أدْرَكَهُ بَصَرُهُ» ثُمَّ قَرَأ أبُو عُبَيْدَةَ: ﴿أنْ بُورِكَ مَن في النّارِ ومَن حَوْلَها﴾ [النمل: ٨]»
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وأصْلُ الحَدِيثِ مُخَرَّجٌ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ: ﴿وسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [النمل: ٨] أيِ: الَّذِي يَفْعَلُ ما يَشاءُ، ولا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِن مَخْلُوقاتِهِ، ولا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ مِن مَصْنُوعاتِهِ، وهو العَلِيُّ العَظِيمُ المُبايِنُ لِجَمِيعِ المَخْلُوقاتِ، ولا يَكْتَنِفُهُ الأرْضُ والسَّماواتُ، بَلْ هو الأحَدُ الصَّمَدُ المُنَزَّهُ عَنْ مُماثَلَةِ المُحْدَثاتِ. قالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
وقَدْ أفادَ أنَّ المَقامَ اقْتَضى التَّنْزِيهَ، دَفْعًا لِإيهامِ ما لا يَلِيقُ مِنَ التَّشْبِيهِ. ثُمَّ إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، أعْلَمَهُ تَعالى بِأنَّهُ هو الَّذِي يُكَلِّمُهُ ويُناجِيهِ، لا مَلَكٌ ولا خَلْقٌ آخَرُ، بَلْ ذاتُهُ العَلِيَّةُ المُسْتَحِقَّةُ لِلْأُلُوهِيَّةِ والنُّعُوتِ القُدْسِيَّةِ، فَقالَ سُبْحانَهُ:
{"ayahs_start":4,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡـَٔاخِرَةِ زَیَّنَّا لَهُمۡ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فَهُمۡ یَعۡمَهُونَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ لَهُمۡ سُوۤءُ ٱلۡعَذَابِ وَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمُ ٱلۡأَخۡسَرُونَ","وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلۡقُرۡءَانَ مِن لَّدُنۡ حَكِیمٍ عَلِیمٍ","إِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهۡلِهِۦۤ إِنِّیۤ ءَانَسۡتُ نَارࣰا سَـَٔاتِیكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ ءَاتِیكُم بِشِهَابࣲ قَبَسࣲ لَّعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ","فَلَمَّا جَاۤءَهَا نُودِیَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِی ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"],"ayah":"إِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهۡلِهِۦۤ إِنِّیۤ ءَانَسۡتُ نَارࣰا سَـَٔاتِیكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ ءَاتِیكُم بِشِهَابࣲ قَبَسࣲ لَّعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق