الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٥٣ - ٥٩] ﴿وأنْجَيْنا الَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾ ﴿ولُوطًا إذْ قالَ لِقَوْمِهِ أتَأْتُونَ الفاحِشَةَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [النمل: ٥٤] (p-٤٦٧٥)﴿أإنَّكم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِن دُونِ النِّساءِ بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [النمل: ٥٥] ﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلا أنْ قالُوا أخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِن قَرْيَتِكم إنَّهم أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النمل: ٥٦] ﴿فَأنْجَيْناهُ وأهْلَهُ إلا امْرَأتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الغابِرِينَ﴾ [النمل: ٥٧] ﴿وأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَساءَ مَطَرُ المُنْذَرِينَ﴾ [النمل: ٥٨] ﴿قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أمّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: ٥٩] ﴿وأنْجَيْنا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يَعْنِي صالِحًا عَلَيْهِ السَّلامُ ومَن مَعَهُ: ﴿وكانُوا يَتَّقُونَ﴾ ﴿ولُوطًا إذْ قالَ لِقَوْمِهِ أتَأْتُونَ الفاحِشَةَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [النمل: ٥٤] أيْ: قُبْحَها ومُضادَّتَها لِحُكْمِهِ تَعالى وحِكْمَتِهِ: ﴿أإنَّكم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِن دُونِ النِّساءِ﴾ [النمل: ٥٥] أيْ: مُتَجاوِزِينَ النِّساءَ اللّاتِي هُنَّ مَحالُّ الشَّهْوَةِ: ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [النمل: ٥٥] أيْ: تَفْعَلُونَ فِعْلَ الجاهِلِينَ سَفَهًا وعَمًى عَنِ العاقِبَةِ: ﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلا أنْ قالُوا أخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِن قَرْيَتِكم إنَّهم أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النمل: ٥٦] أيْ: يَتَنَزَّهُونَ عَنْ أفْعالِنا ويَرَوْنَها رِجْسًا. قالُوهُ اسْتِهْزاءً: ﴿فَأنْجَيْناهُ وأهْلَهُ إلا امْرَأتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الغابِرِينَ﴾ [النمل: ٥٧] أيِ: الباقِينَ في العَذابِ: ﴿وأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا﴾ [النمل: ٥٨] أيْ: هائِلًا غَيْرَ مَعْهُودٍ: ﴿فَساءَ مَطَرُ المُنْذَرِينَ﴾ [النمل: ٥٨] ﴿قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أمّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: ٥٩] قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يَتْلُوَ هَذِهِ الآياتِ النّاطِقَةَ بِالبَراهِينِ عَلى وحْدانِيَّتِهِ وقُدْرَتِهِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وحِكْمَتِهِ. وأنْ يَسْتَفْتِحَ بِتَحْمِيدِهِ، والسَّلامِ عَلى أنْبِيائِهِ والمُصْطَفَيْنَ مِن عِبادِهِ. وفِيهِ تَعْلِيمٌ حَسَنٌ، وتَوْقِيفٌ عَلى أدَبٍ جَمِيلٍ، وبَعْثٍ عَلى التَّيَمُّنِ بِالذِّكْرَيْنِ، والتَّبَرُّكِ بِهِما، والِاسْتِظْهارِ بِمَكانِهِما، عَلى قَبُولِ ما يُلْقى إلى السّامِعِينَ، وإصْغائِهِمْ إلَيْهِ وإنْزالِهِ مِن قُلُوبِهِمُ المَنزِلَةَ الَّتِي يَبْغِيها المُسْمِعُ. ولَقَدْ تَوارَثَ العُلَماءُ والخُطَباءُ والوُعّاظُ كابِرًا عَنْ كابِرٍ هَذا الأدَبَ. فَحَمِدُوا اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ، وصَلَّوْا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أمامَ (p-٤٦٧٦)كُلِّ عِلْمٍ مُفادٍ، وقَبْلَ كُلِّ عِظَةٍ وتَذْكِرَةٍ، وفي مُفْتَتَحِ كُلِّ خُطْبَةٍ. وتَبِعَهُمُ المُتَرَسِّلُونَ. فَأجْرَوْا عَلَيْهِ أوائِلَ كُتُبِهِمْ في الفُتُوحِ والتَّهانِي وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الحَوادِثِ الَّتِي لَها شَأْنٌ. وقِيلَ: هو مُتَّصِلٌ بِما قَبْلَهُ، وأمْرٌ بِالتَّحْمِيدِ عَلى الهالِكِينَ مِن كُفّارِ الأُمَمِ. والصَّلاةُ عَلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وأشْياعِهِمُ النّاجِينَ. ثُمَّ قالَ: مَعْلُومٌ أنْ لا خَيْرَ فِيما أشْرَكُوهُ أصْلًا حَتّى يُوازِنَ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَن هو خالِقُ كُلِّ خَيْرٍ ومالِكُهُ. وإنَّما هو إلْزامٌ لَهم وتَبْكِيتٌ وتَهَكُّمٌ بِحالِهِمْ. وذَلِكَ أنَّهُ آثَرُوا عِبادَةَ الأصْنامِ عَلى عِبادَةِ اللَّهِ. ولا يُؤْثِرُ عاقِلٌ شَيْئًا عَلى شَيْءٍ، إلّا لِداعٍ يَدْعُوهُ إلى إيثارِهِ، مِن زِيادَةِ خَيْرٍ ومَنفَعَةٍ. فَقِيلَ لَهُمْ، مَعَ العِلْمِ بِأنَّهُ لا خَيْرَ فِيما آثَرُوهُ، وأنَّهم لَمْ يُؤْثِرُوهُ لِزِيادَةِ الخَيْرِ، ولَكِنْ هَوًى وعَبَثًا، لِيُنَبِّهُوا عَلى الخَطَأِ المُفْرِطِ، والجَهْلِ المُوَرِّطِ. وإضْلالِهِمُ التَّمْيِيزَ ونَبْذِهِمُ المَعْقُولَ. ولِيَعْلَمُوا أنَّ الإيثارَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ لِلْخَيْرِ الزّائِدِ. ونَحْوَهُ ما حَكاهُ عَنْ فِرْعَوْنَ: ﴿أمْ أنا خَيْرٌ مِن هَذا الَّذِي هو مَهِينٌ﴾ [الزخرف: ٥٢] مَعَ عِلْمِهِ أنَّهُ لَيْسَ لِمُوسى مِثْلُ أنْهارِهِ الَّتِي كانَتْ تَجْرِي تَحْتَهُ. ثُمَّ عَدَّدَ سُبْحانَهُ الخَيْراتِ والمَنافِعَ الَّتِي هي آثارُ رَحْمَتِهِ وفَضْلِهِ، كَما عَدَّدَها في مَوْضِعٍ آخَرَ. ثُمَّ قالَ: ﴿هَلْ مِن شُرَكائِكم مَن يَفْعَلُ مِن ذَلِكم مِن شَيْءٍ﴾ [الروم: ٤٠] لَطِيفَةٌ: قالَ ابْنُ القَيِّمِ في (طَرِيقِ الهِجْرَتَيْنِ) في هَذِهِ الآيَةِ: كَلِمَةُ (السَّلامِ) هُنا تَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ داخِلَةً في حَيِّزِ القَوْلِ فَتَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلى الجُمْلَةِ الخَبَرِيَّةِ، وهِيَ: (الحَمْدُ لِلَّهِ)، ويَكُونُ الأمْرُ بِالقَوْلِ مُتَناوِلًا لِلْجُمْلَتَيْنِ مَعًا. وعَلى هَذا، فَيَكُونُ الوَقْفُ عَلى الجُمْلَةِ الأخِيرَةِ، ويَكُونُ مَحَلُّها النَّصْبُ مَحْكِيَّةً بِالقَوْلِ. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنِفَةً مُسْتَقِلَّةً مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ الطَّلَبِ. وعَلى هَذا فَلا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ. (p-٤٦٧٧)وهَذا التَّقْدِيرُ أرْجَحُ، وعَلَيْهِ يَكُونُ السَّلامُ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وهو المُطابِقُ لِما تَقَدَّمَ مِن سَلامِهِ سُبْحانَهُ عَلى رُسُلِهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وسَلَّمَ. وعَلى التَّقْدِيرِ الأوَّلِ يَكُونُ أمَرَ بِالسَّلامِ عَلَيْهِمْ. ولَكِنْ يُقالُ عَلى هَذا: كَيْفَ يَعْطِفُ الخَبَرَ عَلى الطَّلَبِ مَعَ تَنافُرِ ما بَيْنَهُما. فَلا يَحْسُنُ أنْ يَقُولَ: قُمْ وذَهَبَ زَيْدٌ، ولا اخْرُجْ وقَعَدَ عَمْرٌو. ويُجابُ عَلى هَذا بِأنَّ جُمْلَةَ الطَّلَبِ، قَدْ حُكِيَتْ بِجُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ، ومَعَ هَذا لا يَمْتَنِعُ العَطْفُ فِيهِ بِالخَبَرِ عَلى الجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ لِعَدَمِ تَنافُرِ الكَلامِ فِيهِ وتَبايُنِهِ. وهَذا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا ماذا في السَّماواتِ والأرْضِ وما تُغْنِي الآياتُ والنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ١٠١] فَقَوْلُهُ: ﴿وما تُغْنِي الآياتُ﴾ [يونس: ١٠١] لَيْسَ مَعْطُوفًا بِالقَوْلِ وهو انْظُرُوا بَلْ مَعْطُوفٌ عَلى الجُمْلَةِ الكُبْرى. عَلى أنَّ عَطْفَ الخَبَرِ عَلى الطَّلَبِ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالَ رَبِّ احْكم بِالحَقِّ ورَبُّنا الرَّحْمَنُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: ١١٢] وقَوْلِهِ: ﴿وقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وارْحَمْ وأنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ﴾ [المؤمنون: ١١٨] والمَقْصُودُ أنَّهُ عَلى هَذا القَوْلِ، يَكُونُ اللَّهُ سُبْحانَهُ قَدْ سَلَّمَ عَلى المُصْطَفَيْنَ مِن عِبادِهِ، والرُّسُلُ أفْضَلُهُمُ. انْتَهى. وقَوْلُهُ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب