الباحث القرآني

(p-٤٦٦٠)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٩ - ١٢] ﴿يا مُوسى إنَّهُ أنا اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿وألْقِ عَصاكَ فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأنَّها جانٌّ ولّى مُدْبِرًا ولَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ﴾ [النمل: ١٠] ﴿إلا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النمل: ١١] ﴿وأدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِن غَيْرِ سُوءٍ في تِسْعِ آياتٍ إلى فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ إنَّهم كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ﴾ [النمل: ١٢] ﴿يا مُوسى إنَّهُ أنا اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ وفي إيثارِ هَذِهِ الأسْماءِ الجَلِيلَةِ سِرٌّ بَدِيعٌ. وهو الإشارَةُ الجُمْلِيَّةُ إلى رُوحِ إرْسالِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ. أيْ: أنا اللَّهُ لا تِلْكَ المَعْبُوداتُ الَّتِي عَكَفَ عَلَيْها قَوْمُ فِرْعَوْنَ، العَزِيزُ الغالِبُ القاهِرُ لِكُلِّ عاتٍ مُتَمَرِّدٍ، الحَكِيمُ في البَعْثَةِ والإرْسالِ، والتَّفَضُّلِ والإفْضالِ. ثُمَّ أمَرَهُ تَعالى أنْ يُلْقِيَ عَصاهُ مِن يَدِهِ لِيُرِيَهُ دَلِيلًا واضِحًا عَلى أنَّهُ القادِرُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، بِقَوْلِهِ: ﴿وألْقِ عَصاكَ فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأنَّها جانٌّ﴾ [النمل: ١٠] هو ضَرْبٌ مِنَ الحَيّاتِ، أسْرَعُهُ حَرَكَةً وأكْثَرُهُ اضْطِرابًا: ﴿ولّى﴾ [النمل: ١٠] أيْ: مِنَ الخَوْفِ: ﴿مُدْبِرًا ولَمْ يُعَقِّبْ﴾ [النمل: ١٠] أيْ: لَمْ يَرْجِعْ عَلى عَقِبِهِ مِن شِدَّةِ خَوْفِهِ: ﴿يا مُوسى لا تَخَفْ إنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ﴾ [النمل: ١٠] أيْ: لِحِفْظِي لَهم وعِنايَتِي بِهِمْ وعِصْمَتِي إيّاهم مِمّا يُؤْذِيهِمْ. وفِيهِ تَبْشِيرٌ لَهُ بِاصْطِفائِهِ بِالرِّسالَةِ والنُّبُوَّةِ. وتَشْجِيعٌ لَهُ بِنَزْعِ الخَوْفِ. إذْ لا يَتَمَكَّنُ مِن أداءِ الرِّسالَةِ، ما لَمْ يَزَلْ خَوْفُهُ مِنَ المُرْسَلِ إلَيْهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النمل: ١١] اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ. اسْتُدْرِكَ بِهِ ما عَسى يَخْتَلِجُ في الخُلْدِ مِن نَفْيِ الخَوْفِ عَنْ كُلِّهِمْ. مَعَ أنَّ مِنهم مَن فَرَطَتْ مِنهُ صَغِيرَةٌ ما، مِمّا يَجُوزُ صُدُورُهُ عَنِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ. فَإنَّهم وإنْ صَدَرَ عَنْهم شَيْءٌ مِن ذَلِكَ، فَقَدْ فَعَلُوا عَقِيبَهُ ما يُبْطِلُهُ، ويَسْتَحِقُّونَ بِهِ مِنَ اللَّهِ تَعالى مَغْفِرَةً ورَحْمَةً. وقَدْ قَصَدَ بِهِ التَّعْرِيضَ بِما وقَعَ مِن (p-٤٦٦١)مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، مِن وكْزِهِ القِبْطِيِّ والِاسْتِغْفارِ. قالَهُ أبُو السُّعُودِ. وسَبَقَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ حَيْثُ قالَ: يُوشِكُ أنْ يَقْصِدَ بِهَذا، التَّعْرِيضَ بِما وجَدَ مِن مُوسى. وهو مِنَ التَّعْرِيضاتِ الَّتِي يَلْطُفُ مَأْخَذُها، وسَمّاهُ ظُلْمًا كَما قالَ مُوسى: ﴿رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغْفِرْ لِي﴾ [القصص: ١٦] ثُمَّ أشارَ تَعالى إلى آيَةٍ خارِقَةٍ غَيْرِ العَصا، آتاهُ إيّاها، بِقَوْلِهِ: ﴿وأدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِن غَيْرِ سُوءٍ﴾ [النمل: ١٢] أيْ: آفَةٍ كَبَرَصٍ: ﴿فِي تِسْعِ آياتٍ﴾ [النمل: ١٢] أيْ: غَيْرِها تُؤْتاها، إذا جَحَدَ فِرْعَوْنُ رِسالَتَكَ. وهي ضَرْبُ ماءِ النَّهْرِ بِالعَصا فَيَنْقَلِبُ دَمًا. وإصْعادُ الضَّفادِعِ عَلى أرْضِ مِصْرَ. وضَرْبُ التُّرابِ فَتَمْتَلِئُ الأرْضُ قُمَّلًا. وإرْسالُ الجَرادِ عَلَيْهِمْ. والوَباءُ الشَّدِيدُ. وإصابَةُ أجْسادِهِمْ بِالقُرُوحِ والدَّمامِلِ والبُثُورِ. وإهْلاكُ حَصادِهِمْ بِالبَرْدِ الشَّدِيدِ. وتَغْشِيَتُهم بِظَلامٍ كَثِيفٍ، عَلى ما رُوِيَ، وفِي: "تِسْعٍ" أوْجُهٌ: أحَدُها أنَّها حالٌ ثالِثَةٌ. أيْ: تَخْرُجُ آيَةٌ في تِسْعِ آياتٍ. والثّانِي أنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أيِ: اذْهَبْ في تِسْعٍ. والثّالِثُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: ﴿وألْقِ عَصاكَ﴾ [النمل: ١٠] ﴿وأدْخِلْ يَدَكَ﴾ [النمل: ١٢] أيْ: في جُمْلَةِ تِسْعِ آياتٍ. و(فِي) بِمَعْنى: (مَعَ): ﴿إلى فِرْعَوْنَ﴾ [النمل: ١٢] أيْ: مُرْسَلًا بِها إلى فِرْعَوْنَ: ﴿وقَوْمِهِ إنَّهم كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ﴾ [النمل: ١٢] أيْ: خارِجِينَ عَنِ الحُدُودِ، في الكُفْرِ والعُدْوانِ. وهَذا تَعْلِيلٌ لِلْإرْسالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب