الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٧٥ - ٨١] ﴿قالَ أفَرَأيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ﴾ ﴿أنْتُمْ وآباؤُكُمُ الأقْدَمُونَ﴾ [الشعراء: ٧٦] ﴿فَإنَّهم عَدُوٌّ لِي إلا رَبَّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٧٧] ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨] ﴿والَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ﴾ [الشعراء: ٧٩] ﴿وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٨٠] ﴿والَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ [الشعراء: ٨١] . (p-٤٦٢٢)﴿قالَ أفَرَأيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ﴾ ﴿أنْتُمْ وآباؤُكُمُ الأقْدَمُونَ﴾ [الشعراء: ٧٦] ﴿فَإنَّهم عَدُوٌّ لِي﴾ [الشعراء: ٧٧] أيْ: أفَأبْصَرْتُمْ، أوْ أتَأمَّلْتُمْ فَعَلِمْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهُ وسَلَفُكم. فَإنَّهم بُغَضائِي: ﴿إلا رَبَّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٧٧] أيْ: لَكِنَّ رَبَّ العالَمِينَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإنَّهُ ولِيِّ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، لا أعْبُدُ غَيْرَهُ ثُمَّ بَرْهَنَ عَلى مُوجَبِ قَصْرِ عِبادَتِهِ عَلَيْهِ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨] أيْ: إلى كُلِّ ما يُهِمُّنِي مِن أُمُورِ الدِّينِ والدُّنْيا، فَإنَّهُ تَعالى وحْدَهُ يَهْدِي كُلًّا لِمَ خُلِقَ لَهُ. والمَوْصُولُ صِفَةٌ لِـ(رَبَّ) وجَعْلُهُ مُبْتَدَأً وما بَعْدَهُ خَبَرًا - غَيْرُ حَقِيقٍ بِجَزالَةِ التَّنْزِيلِ. قالَهُ أبُو السُّعُودِ. ﴿والَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ﴾ [الشعراء: ٧٩] أيْ: يَرْزُقُنِي بِما سَخِرَ ويَسَّرَ مِنَ الأسْبابِ السَّماوِيَّةِ والأرْضِيَّةِ، فَساقَ المُزْنَ، وأنْزَلَ الماءَ وأحْيى بِهِ الأرْضَ وأخْرَجَ بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ رِزْقًا لِلْعِبادِ، وأنْزَلَ الماءَ عَذْبًا زُلالًا يَسْقِيهِ مِمّا خَلَقَ أنْعامًا وأناسِيَّ كَثِيرًا. ﴿وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٨٠] أيْ: إذا وقَعْتُ في مَرَضٍ فَإنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى شِفائِي أحَدٌ غَيْرُهُ بِما قَدَّرَهُ مِنَ الأسْبابِ المُوصِلَةِ إلَيْهِ. وإنَّما نَسَبَ المَرَضَ إلى نَفْسِهِ والشِّفاءَ إلى اللَّهِ تَعالى، مَعَ أنَّهُما مِنهُ، لِمُراعاةِ حُسْنِ الأدَبِ مَعَهُ تَعالى. بِتَخْصِيصِهِ بِنِسْبَةِ الشِّفاءِ الَّذِي هو نِعْمَةٌ ظاهِرَةٌ إلَيْهِ تَعالى كَما قالَ الخِضْرُ: ﴿فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها﴾ [الكهف: ٧٩] وقالَ: ﴿فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدَّهُما﴾ [الكهف: ٨٢] وكَقَوْلِ الجِنِّ في آيَةِ: ﴿أشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن في الأرْضِ أمْ أرادَ بِهِمْ رَبُّهم رَشَدًا﴾ [الجن: ١٠] ولِأنَّ كَثِيرًا مِن أسْبابِ المَرَضِ يَحْدُثُ بِتَفْرِيطٍ مِنَ الإنْسانِ في مَطاعِمِهِ ومَشارِبِهِ وغَيْرِ ذَلِكَ. ومِن ثَمَّ قالَتِ الحُكَماءُ: لَوْ قِيلَ لِأكْثَرِ المَوْتى: ما سَبَبُ آجالِكُمْ؟ لَقالُوا: التُّخَمُ. ﴿والَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ [الشعراء: ٨١] فَإنَّهُ هو الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، لا يَقْدِرُ عَلى ذَلِكَ أحَدٌ سِواهُ. فَإنْ قِيلَ إنَّ المَوْتَ قَدْ يَكُونُ بِتَفْرِيطِ الإنْسانِ، وقَدْ أضافَهُ تَعالى إلى نَفْسِهِ، فَما الفَرْقُ بَيْنَ نِسْبَةِ المَوْتِ ونِسْبَةِ المَرَضِ في مُقْتَضى الأدَبِ؟ أُجِيبَ كَما في (الِانْتِصافِ): بِأنَّ المَوْتَ (p-٤٦٢٣)قَدْ عُلِمَ بِهِ بِأنَّهُ قَضاءٌ مَحْتُومٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى عَلى سائِرِ البَشَرِ، وحُكْمٌ عامٌّ لا يَخُصُّ، ولا كَذَلِكَ المَرَضُ فَكَمْ مِن مُعافى مِنهُ قَدْ بَغَتَهُ المَوْتُ؛ فالتَّأسِّي بِعُمُومِ المَوْتِ لَعَلَّهُ يُسْقِطُ أثَرَ كَوْنِهِ بَلاءً، فَيَسُوغُ في الأدَبِ نِسْبَتُهُ إلى اللَّهِ تَعالى. وأمّا المَرَضُ، فَلَمّا كانَ مِمّا يُخَصُّ بِهِ بَعْضُ البَشَرِ دُونَ بَعْضٍ، كانَ بَلاءً مُحَقَّقًا. فاقْتَضى العُلُوُّ في الأدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعالى، أنْ يَنْسُبَهُ الإنْسانُ إلى نَفْسِهِ، بِاعْتِبارِ ذَلِكَ السَّبَبِ الَّذِي لا يَخْلُو مِنهُ. ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ أنَّ كُلَّ ما ذَكَرَهُ مَعَ المَرَضِ، أخْبَرَ عَنْ وُقُوعِهِ بَتًّا وجَزْمًا، لِأنَّهُ أمْرٌ لا بُدَّ مِنهُ. وأمّا المَرَضُ، فَلَمّا يَتَّفِقْ وقَدْ لا، أوْرَدَهُ مَقْرُونًا بِشَرْطِ إذا فَقالَ: ﴿وإذا مَرِضْتُ﴾ [الشعراء: ٨٠] وكانَ مُمْكِنًا أنْ يَقُولَ والَّذِي يُمَرِّضُنِي فَيَشْفِينِي، كَما في غَيْرِهِ فَما عَدَلَ عَنِ المُطابَقَةِ المُجانِسَةِ المَأْثُورَةِ، إلّا لِذَلِكَ. انْتَهى. قالَ أبُو السُّعُودِ: وأمّا الإماتَةُ، فَحَيْثُ كانَتْ مِن مُعْظَمِ خَصائِصِهِ تَعالى كالإحْياءِ، بَدْءًا وإعادَةً، وقَدْ نِيطَتْ أُمُورُ الآخِرَةِ جَمِيعًا بِها وبِما بَعْدَها مِنَ البَعْثِ نَظَمَها في سِمْطٍ واحِدٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ [الشعراء: ٨١] عَلى أنَّ المَوْتَ، لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إلى نَيْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِلْحَياةِ الأبَدِيَّةِ، بِمَعْزِلٍ مِن أنْ يَكُونَ غَيْرَ مَطْمُوعٍ عِنْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب