الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٢٦ - ٢٨] ﴿قالَ رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿قالَ إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكم لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: ٢٧] ﴿قالَ رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما بَيْنَهُما إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الشعراء: ٢٨] ﴿قالَ رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿قالَ إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكم لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: ٢٧] أيْ: لِكَوْنِهِ يَدْعُو إلى خِلافِ ما عَقَلَ عَنِ الآباءِ. ﴿قالَ رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما بَيْنَهُما إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الشعراء: ٢٨] أيْ: شَيْئًا ما، أوْ إنْ كُنْتُمْ مِن أهْلِ العَقْلِ عَلِمْتُمْ أنَّ الأمْرَ كَما قُلْتُهُ. وفِيهِ إيذانٌ بِغايَةِ وُضُوحِ الأمْرِ، بِحَيْثُ لا يُشْتَبَهُ عَلى مَن لَهُ عَقْلٌ في الجُمْلَةِ، وتَلْوِيحٌ بِأنَّهم بِمَعْزِلٍ مِن دائِرَةِ العَقْلِ، وإنَّهُمُ المُتَّصِفُونَ بِما رَمَوْهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِهِ مِنَ الجُنُونِ. تَنْبِيهٌ: ذَهَبَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ فِرْعَوْنَ كانَ مِنَ المُعَطِّلَةِ، لا يُقِرُّ بِخالِقٍ، ولا يَعْتَرِفُ بِمَعْبُودٍ (p-٤٦١١)لِظاهِرِ قَوْلِهِ: ﴿ما عَلِمْتُ لَكم مِن إلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨] وأنَّ قَوْمَهُ كانُوا لا يُؤَلِّهُونَ سِواهُ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ومَن زَعَمَ مِن أهْلِ المَنطِقِ أنَّ هَذا سُؤالٌ عَنِ الماهِيَّةِ فَقَدْ غَلِطَ. فَإنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِالصّانِعِ، حَتّى يَسْألَ عَنِ الماهِيَّةِ، بَلْ كانَ جاحِدًا لَهُ بِالكُلِّيَّةِ فِيما يَظْهَرُ. انْتَهى. وقَدَّمْنا أنَّهُ حَقَّقَ الِاكْتِشافَ الصَّحِيحَ والتّارِيخَ الوَثِيقَ، أنَّهُ كانَ مِنَ الوَثَنِيِّينَ الغالِينَ. وأنَّ لَهُ ولِقَوْمِهِ عِدَّةَ مَعْبُودِينَ عُلْوِيِّينَ وسُفْلِيِّينَ. وعَلَيْهِ فَمَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ما عَلِمْتُ لَكم مِن إلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨] أيْ: مُطاعٍ عَظِيمٍ، وكانُوا لا يَتَحاشَوْنَ مِن إطْلاقِ الإلَهِ عَلى الجَبّارِ المُسَيْطِرِ. فَبَقِيَ سُؤالُهُ بِما يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عَلى نَهْجِ القاعِدَةِ المَنطِقِيَّةِ، مِن طَلَبِ الِاكْتِناهِ، وتَعَجُّبِهِ مِن جَوابِهِ، ثُمَّ رَمْيِهِ بِالجُنُونِ، ثانِيًا، لِعُدُولِهِ عَنِ الكُنْهِ إلى الأثَرِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِتَعْرِفَهُ مِن جِهَةِ وحْدَتِهِ في رُبُوبِيَّتِهِ الَّتِي ادَّعاها مُوسى، وأنَّ تَعَجُّبَهُ لِما شاهَدَ مِنَ الجِدِّ في الدَّعْوَةِ والثَّباتِ عَلَيْها، والصَّدْعِ بِما يُؤْلِمُ عَظَمَتَهُ، ويَغْمِزُ جَبَرُوتَهُ؛ وهَذا هو الَّذِي أذْهَبُ إلَيْهِ، فَإنَّ القَوْمَ بِمَعْزِلٍ عَنْ أنْ يَعْجَبُوا لِكَوْنِ الجَوابِ كانَ بِالرَّسْمِ لا بِالحَدِّ، إذْ هو اصْطِلاحٌ لِفِئَةٍ خاصَّةٍ، ومَعَ هَذا فالنَّظْمُ يَحْتَمِلُهُ ولا يَأْباهُ. وقَدْ عَوَّلَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِن أهْلِ النَّظَرِ، ولا بَأْسَ بِأنْ نَأْثُرَ شَيْئًا مِن لَطائِفِهِمْ فِيهِ. قالَ الرّازِيُّ: السُّؤالُ بِـ(ما) طَلَبٌ لِتَعْرِيفِ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ. وتَعْرِيفُ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ إمّا أنْ يَكُونَ بِنَفْسِ تِلْكَ الحَقِيقَةِ، أوْ بِشَيْءٍ مِن أجْزائِها، أوْ بِأمْرٍ خارِجٍ عَنْها، أوْ بِما يَتَرَكَّبُ مِنَ الدّاخِلِ والخارِجِ. أمّا تَعْرِيفُها بِنَفْسِها فَمُحالٌ؛ لِأنَّ المُعَرَّفَ مَعْلُومٌ قَبْلَ المُعَرِّفِ. فَلَوْ عُرِّفَ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ لَزِمَ أنْ يَكُونَ مَعْلُومًا قَبْلَ أنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وهو مُحالٌ. وأمّا تَعْرِيفُها بِالأُمُورِ الدّاخِلِيَّةِ فِيها، فَهاهُنا في حَقِّ واجِبِ الوُجُودِ مُحالٌ، لِأنَّ التَّعْرِيفَ بِالأُمُورِ الدّاخِلَةِ، لا يُمْكِنُ إلّا إذا كانَ المُعَرَّفُ مُرَكَّبًا، وواجِبُ الوُجُودِ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا؛ لِأنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ، فَهو مُحْتاجٌ إلى كُلِّ واحِدٍ مِن أجْزائِهِ. وكُلُّ واحِدٍ مِن أجْزائِهِ فَهو غَيْرُهُ؛ فَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُحْتاجٌ إلى غَيْرِهِ. وكُلُّ ما احْتاجَ إلى غَيْرِهِ فَهو مُمْكِنٌ لِذاتِهِ. وكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهو مُمْكِنٌ، فَما لَيْسَ بِمُمْكِنٍ يَسْتَحِيلُ أنْ (p-٤٦١٢)يَكُونَ مُرَكَّبًا. فَواجِبُ الوُجُودِ لَيْسَ بِمُرَكَّبٍ، وإذا لَمْ يَكُنْ مُرَكَّبًا اسْتَحالَ تَعْرِيفُهُ بِأجْزائِهِ. ولَمّا بَطَلَ هَذانِ القِسْمانِ، ثَبَتَ أنَّهُ لا يُمْكِنُ تَعْرِيفُ ماهِيَّةِ واجِبِ الوُجُودِ، إلّا بِلَوازِمِهِ وآثارِهِ. ثُمَّ إنَّ اللَّوازِمَ قَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً، وقَدْ تَكُونُ جَلِيَّةً. ولا يَجُوزُ تَعْرِيفُ الماهِيَّةِ بِاللَّوازِمِ الخَفِيَّةِ، بَلْ لا بُدَّ مِن تَعْرِيفِها بِاللَّوازِمِ الجَلِيَّةِ. وأظْهَرَ آثارَ ذاتِ واجِبِ الوُجُودِ وهو هَذا العالَمُ المَحْسُوسُ، وهو السَّماواتُ والأرْضُ وما بَيْنَهُما. فَقَدْ ثَبَتَ أنَّهُ لا جَوابَ البَتَّةَ لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ: ﴿وما رَبُّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٢٣] إلّا ما قالَهُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وهو أنَّهُ رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما. فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ [الشعراء: ٢٤] فَمَعْناهُ إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بِاسْتِنادِ هَذِهِ المَحْسُوساتِ إلى مَوْجُودِ واجِبِ الوُجُودِ، فاعْرِفُوا أنَّهُ لا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهُ إلّا بِما ذَكَرْتُهُ. لِأنَّكم لَمّا سَلَّمْتُمُ انْتِهاءَ هَذِهِ المَحْسُوساتِ إلى الواجِبِ لِذاتِهِ، وثَبَتَ أنَّ الواجِبَ لِذاتِهِ فَرْدٌ مُطْلَقٌ، وثَبَتَ أنَّ الفَرْدَ المُطْلَقَ لا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهُ إلّا بِآثارِهِ. وثَبَتَ أنَّ تِلْكَ الآثارَ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ أظْهَرَ آثارِهِ وأبْعَدَها عَنِ الخَفاءِ، وما ذاكَ إلّا السَّماواتُ والأرْضُ وما بَيْنَهُما. فَإنْ أيْقَنْتُمْ بِذَلِكَ لَزِمَكم أنْ تَقْطَعُوا بِأنَّهُ لا جَوابَ عَنْ ذَلِكَ السُّؤالِ، إلّا هَذا الجَوابُ. ولَمّا ذَكَرَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ هَذا الجَوابَ الحَقَّ، قالَ فِرْعَوْنُ لِمَن حَوْلَهُ: ﴿ألا تَسْتَمِعُونَ﴾ [الشعراء: ٢٥] وإنَّما ذَكَرَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ مِن جَوابِ مُوسى، يَعْنِي أنا أطْلُبُ مِنهُ الماهِيَّةَ، وخُصُوصِيَّةَ الحَقِيقَةِ، وهو يُجِيبُنِي بِالفاعِلِيَّةِ والمُؤَثِّرِيَّةِ. وتَمامُ الإشْكالِ أنَّ تَعْرِيفَ الماهِيَّةِ بِلَوازِمِها، لا يُفِيدُ الوُقُوفَ عَلى نَفْسِ تِلْكَ الماهِيَّةِ، وذَلِكَ لِأنّا إذا قُلْنا في الشَّيْءِ أنَّهُ الَّذِي يَلْزَمُهُ اللّازِمُ الفُلانِيُّ، فَهَذا المَذْكُورُ، إمّا أنْ يَكُونَ مُعَرَّفًا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ أمْرًا ما يَلْزَمُهُ ذَلِكَ اللّازِمُ. أوْ لِخُصُوصِيَّةِ تِلْكَ الماهِيَّةِ الَّتِي عَرَضَتْ لَها هَذِهِ المَلْزُومِيَّةُ والأوَّلُ مُحالٌ. لِأنَّ كَوْنَهُ أمْرًا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ اللّازِمُ جَعَلْناهُ كاشِفًا. فَلَوْ كانَ المَكْشُوفُ هو هَذا القَدْرَ لَزِمَ كَوْنُ الشَّيْءِ مُعَرِّفًا لِنَفْسِهِ، وهو مُحالٌ. والثّانِي مُحالٌ، لِأنَّ العِلْمَ بِأنَّهُ أمْرٌ ما، يُلْزِمُهُ اللّازِمَ الفُلانِيَّ، لا يُفِيدُ العِلْمُ بِخُصُوصِيَّةِ تِلْكَ الماهِيَّةِ المُلْزِمَةِ، لِأنَّهُ لا يَمْتَنِعُ في العَقْلِ اشْتِراكُ (p-٤٦١٣)الماهِيّاتِ المُخْتَلِفَةِ في لَوازِمَ مُتَساوِيَةٍ. فَثَبَتَ أنَّ التَّعْرِيفَ بِالوَصْفِ الخارِجِيِّ، لا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ نَفْسِ الحَقِيقَةِ فَلَمْ يَكُنْ كَوْنُهُ رَبًّا لِلسَّمَواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما جَوابًا عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وما رَبُّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٢٣] فَأجابَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنْ قالَ: ﴿قالَ رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ وكَأنَّهُ عَدَلَ عَنِ التَّعْرِيفِ بِخالِقِيَّةِ السَّماءِ والأرْضِ، إلى التَّعْرِيفِ بِكَوْنِهِ تَعالى خالِقًا لَنا ولِآبائِنا. وذَلِكَ لِأنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَعْتَقِدَ أحَدٌ أنَّ السَّماواتِ والأرَضِينَ، واجِبَةٌ لِذَواتِها، فَهي غَنِيَّةٌ عَنِ الخالِقِ والمُؤَثِّرِ. ولَكِنْ لا يُمْكِنُ أنْ يَعْتَقِدَ العاقِلُ في نَفْسِهِ وأبِيهِ وأجْدادِهِ، كَوْنَهم واجِبِينَ لِذَواتِهِمْ. لِما أنَّ المُشاهَدَةَ دَلَّتْ عَلى أنَّهم وُجِدُوا بَعْدَ العَدَمِ، ثُمَّ عَدِمُوا بَعْدَ الوُجُودِ، وما كانَ كَذَلِكَ اسْتَحالَ أنْ يَكُونَ واجِبًا لِذاتِهِ. وما لَمْ يَكُنْ واجِبًا لِذاتِهِ، اسْتَحالَ وُجُودُهُ إلّا لِمُؤَثِّرٍ. فَكانَ التَّعْرِيفُ بِهَذا الأثَرِ أظْهَرَ، فَلِهَذا عَدَلَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الكَلامِ الأوَّلِ، إلَيْهِ. فَقالَ فِرْعَوْنُ: ﴿إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكم لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: ٢٧] يَعْنِي المَقْصُودَ مِن سُؤالِ (ما) طَلَبُ الماهِيَّةِ، وخُصُوصِيَّةُ الحَقِيقَةِ. والتَّعْرِيفُ بِهَذِهِ الآثارِ الخارِجِيَّةِ لا يُفِيدُ البَتَّةَ تِلْكَ الخُصُوصِيَّةَ، فَهَذا الَّذِي يَدَّعِي الرِّسالَةَ مَجْنُونٌ، لا يَفْهَمُ السُّؤالَ فَضْلًا عَنْ أنْ يُجِيبَ عَنْهُ. فَقالَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿قالَ رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما بَيْنَهُما إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الشعراء: ٢٨] فَعَدَلَ إلى طَرِيقٍ ثالِثٍ أوْضَحَ مِنَ الثّانِي، وذَلِكَ لِأنَّهُ أرادَ بِالمَشْرِقِ طُلُوعَ الشَّمْسِ وظُهُورَ النَّهارِ، وأرادَ بِالمَغْرِبِ غُرُوبَ الشَّمْسِ وزَوالَ النَّهارِ، والأمْرُ ظاهِرٌ في أنَّ هَذا التَّدْبِيرَ المُسْتَمِرَّ عَلى الوَجْهِ العَجِيبِ، لا يَتِمُّ إلّا بِتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الشعراء: ٢٨] فَكَأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: إنْ كُنْتَ مِنَ العُقَلاءِ، عَرَفْتَ أنَّهُ لا جَوابَ عَنْ سُؤالِكَ، إلّا ما ذَكَرْتُ، لِأنَّكَ طَلَبْتَ مِنِّي تَعْرِيفَ حَقِيقَتِهِ بِنَفْسِ حَقِيقَتِهِ. وقَدْ ثَبَتَ أنَّهُ لا يُمْكِنُ تَعْرِيفُ حَقِيقَتِهِ بِنَفْسِ حَقِيقَتِهِ ولا بِأجْزاءِ حَقِيقَتِهِ. فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ أُعَرِّفَ حَقِيقَتَهُ بِآثارِ حَقِيقَتِهِ. وأنا قَدْ عَرَّفْتُ حَقِيقَتَهُ بِآثارِ حَقِيقَتِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ أنَّ كُلَّ مَن كانَ عاقِلًا، يَقْطَعُ بِأنَّهُ لا جَوابَ عَنْ هَذا السُّؤالِ إلّا ما ذَكَرْتُهُ. ثُمَّ قالَ الرّازِيُّ: وقَدْ بَيَّنّا في سُورَةِ الأنْعامِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهُوَ القاهِرُ (p-٤٦١٤)فَوْقَ عِبادِهِ﴾ [الأنعام: ١٨] أنَّ حَقِيقَةَ الإلَهِ سُبْحانَهُ مِن حَيْثُ هي هي غَيْرُ مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ، انْتَهى. وقالَ الإمامُ ابْنُ حَزْمٍ في (المِلَلِ والنِّحَلِ) في الكَلامِ في المائِيَّةِ: ذَهَبَ طَوائِفُ مِنَ المُعْتَزِلَةِ إلى أنَّ اللَّهَ تَعالى لا مائِيَّةَ لَهُ. وذَهَبَ أهْلُ السُّنَّةِ وضِرارُ بْنُ عَمْرٍو، إلى أنَّ لِلَّهِ تَعالى مائِيَّةً. قالَ ضِرارٌ: لا يَعْلَمُها غَيْرُهُ. قالَ ابْنُ حَزْمٍ: والَّذِي نَقُولُ بِهِ، وبِاللَّهِ تَعالى التَّوْفِيقُ، أنَّ لَهُ مائِيَّةً هي إنِيَّتُهُ نَفْسُها، وإنَّهُ لا جَوابَ لِمَن سَألَ: ما هو البارِئُ، إلّا ما أجابَ بِهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ؛ إذْ سَألَهُ فِرْعَوْنُ: ﴿وما رَبُّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٢٣] ونَقُولُ إنَّهُ لا جَوابَ هاهُنا لا في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى ولا عِنْدَنا، إلّا ما أجابَ بِهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. لِأنَّ اللَّهَ تَعالى حَمِدَ ذَلِكَ مِنهُ وصَدَقَ فِيهِ. ولَوْ لَمْ يَكُنْ جَوابًا صَحِيحًا تامًّا لا نَقْصَ فِيهِ، لَما حَمِدَهُ اللَّهُ تَعالى. ثُمَّ قالَ: هَهُنا نَقِفُ ولا نَعْلَمُ أكْثَرَ. ولا هَهُنا أيْضًا شَيْءٌ غَيْرُ هَذا، إلّا ما عَلَّمَنا رَبُّنا تَعالى، مِن سائِرِ أسْمائِهِ، كالعَلِيمِ والقَدِيرِ والمُؤْمِنِ والمُهَيْمِنِ وسائِرِ أسْمائِهِ. قالَ تَعالى: ﴿ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠] إذْ كُلُّ ما أحاطَ بِهِ العِلْمُ فَهو مُتَناهٍ مَحْدُودٌ وهَذا مَنفِيٌّ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وواجِبٌ في غَيْرِهِ، لِوُقُوعِ العَدَدِ المُحاطِ بِهِ في أعْراضِ كُلِّ ما دُونِهِ تَعالى، ولا يُحاطُ بِما لا حُدُودَ لَهُ ولا عَدَدَ لَهُ. فَصَحَّ يَقِينًا أنَّنا نَعْلَمُ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ حَقًّا، ولا نُحِيطُ بِهِ عِلْمًا. انْتَهى مُلَخَّصًا. ولَمّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ تِلْكَ المَقالاتِ المَبْنِيَّةَ عَلى أساسِ الحِكَمِ البالِغَةِ، وشاهَدَ شِدَّةَ حَزْمِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وقُوَّةَ عَزْمِهِ عَلى دَعْوَتِهِ، عَدَلَ عَنْ خُطَّةِ الإنْصافِ إلى الِاعْتِسافِ، بِقَوْلِهِ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب