الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٦٨ - ٧٠] ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثامًا﴾ ﴿يُضاعَفْ لَهُ العَذابُ يَوْمَ القِيامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا﴾ [الفرقان: ٦٩] (p-٤٥٩١)﴿إلا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلا صالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: ٧٠] . ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ﴾ أيْ: لا يُشْرِكُونَ بِعِبادَةِ رَبِّهِمْ أحَدًا، فالدُّعاءُ بِمَعْنى العِبادَةِ: ﴿ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ﴾ أيْ: حَرَّمَها بِمَعْنى حَرَّمَ قَتْلَها. ومِنهُ الوَأْدُ وغَيْرُهُ: ﴿إلا بِالحَقِّ﴾ أيِ: المُزِيلِ لِحُرْمَتِها وعِصْمَتِها: ﴿ولا يَزْنُونَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ أيْ: ما ذُكِرَ مِن هَذِهِ القَبائِحِ العِظامِ: ﴿يَلْقَ أثامًا﴾ أيْ: يَجِدُ في الآخِرَةِ جَزاءَ إثْمِهِ: ﴿يُضاعَفْ لَهُ العَذابُ يَوْمَ القِيامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا﴾ [الفرقان: ٦٩] أيْ: ذَلِيلًا مُحْتَقَرًا جامِعًا لِعَذابَيِ الجِسْمِ والرُّوحِ: ﴿إلا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلا صالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: ٧٠] أيْ: لِمَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا. قالَ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وفي ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى صِحَّةِ تَوْبَةِ القاتِلِ. ولا تَعارُضَ بَيْنَ هَذِهِ وآيَةِ النِّساءِ: ﴿ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ [النساء: ٩٣] الآيَةَ، فَإنَّ هَذِهِ، وإنْ كانَتْ مَدَنِيَّةً، إلّا أنَّها مُطْلَقَةٌ. فَتُحْمَلُ عَلى مَن لَمْ يَتُبْ. لِأنَّ هَذِهِ مُقَيَّدَةٌ بِالتَّوْبَةِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ١١٦] الآيَةَ، وقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِصِحَّةِ تَوْبَةِ القاتِلِ. كَما ذُكِرَ مُقَرَّرًا مِن قِصَّةِ الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ رَجُلٍ ثُمَّ تابَ فَقَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأحادِيثِ. ثُمَّ قالَ: وفي مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ [الفرقان: ٧٠] قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهم بَدَّلُوا مَكانَ عَمَلِ السَّيِّئاتِ بِعَمَلِ الحَسَناتِ. قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في هَذِهِ الآيَةِ: هُمُ المُؤْمِنُونَ. كانُوا مِن قَبْلِ إيمانِهِمْ عَلى السَّيِّئاتِ، فَرَغِبَ اللَّهُ بِهِمْ عَنِ السَّيِّئاتِ. فَحَوَّلَهم إلى الحَسَناتِ، فَأبْدَلَهم مَكانَ السَّيِّئاتِ الحَسَناتِ. وكَذا قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أبْدَلَهُمُ اللَّهُ بِعِبادَةِ الأوْثانِ عِبادَةَ الرَّحْمَنِ، (p-٤٥٩٢)وأبْدَلَهم بِقِتالِ المُسْلِمِينَ قِتالَ المُشْرِكِينَ. وأبْدَلَهم بِنِكاحِ المُشْرِكاتِ نِكاحَ المُؤْمِناتِ. وكَذا قالَ الحَسَنُ: أبْدَلَهم بِالعَمَلِ السَّيِّئِ العَمَلَ الصّالِحَ، وأبْدَلَهم بِالشِّرْكِ إخْلاصًا، وبِالفُجُورِ إحْصانًا، وبِالكُفْرِ إسْلامًا. القَوْلُ الثّانِي: إنَّ تِلْكَ السَّيِّئاتِ الماضِيَةَ تَنْقَلِبُ بِنَفْسِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، حَسَناتٍ. وما ذاكَ إلّا أنَّهُ كُلَّما تَذَكَّرَ ما مَضى، نَدِمَ واسْتَرْجَعَ واسْتَغْفَرَ. فَيَنْقَلِبُ الذَّنْبُ طاعَةً بِهَذا الِاعْتِبارِ. انْتَهى. ولِابْنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في (طَرِيقِ الهِجْرَتَيْنِ ") في هَذا المَقامِ بَسْطٌ حَسَنٌ وتَناظُرٌ مُتْقَنٌ، لا بَأْسَ بِإيرادِهِ، لِعِظَمِ فائِدَتِهِ. قالَ رَحِمَهُ اللَّهُ (بَعْدَ شَرْحِهِ لِحَدِيثِ فَرَحِ اللَّهِ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ ما مِثالُهُ ): وها هُنا مَسْألَةٌ، هَذا المَوْضِعُ أخَصُّ المَواقِعِ بِبَيانِها. وهي أنَّ التّائِبَ إذا تابَ إلى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا، فَهَلْ تُمْحى تِلْكَ السَّيِّئاتُ وتَذْهَبُ، لا لَهُ ولا عَلَيْهِ، أوْ إذا مُحِيَتْ أُثْبِتَ لَهُ مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ ؟ هَذا مِمّا اخْتَلَفَ النّاسُ فِيهِ، مِنَ المُفَسِّرِينَ وغَيْرِهِمْ، قَدِيمًا وحَدِيثًا. فَقالَ الزَّجّاجُ: لَيْسَ يُجْعَلُ مَكانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةُ لَكِنْ يُجْعَلُ مَكانَ السَّيِّئَةِ التَّوْبَةُ، والحَسَنَةُ مَعَ التَّوْبَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُجْعَلُ أعْمالُهم، بَدَلَ مَعاصِيهِمُ الأُولى طاعَةً. فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِرَحْمَةِ اللَّهِ إيّاهم، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُبَيْرٍ وابْنُ زَيْدٍ والحَسَنُ. ورَدَّ عَلى مَن قالَ هو في يَوْمِ القِيامَةِ. قالَ: وقَدْ ورَدَ حَدِيثٌ في كِتابِ مُسْلِمٍ مِن طَرِيقِ أبِي ذَرٍّ يَقْتَضِي أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ يَوْمَ القِيامَةِ، يَجْعَلُ لِمَن يُرِيدُ المَغْفِرَةَ لَهُ مِنَ المُوَحِّدِينَ، بَدَلَ سَيِّئاتِهِ حَسَناتٍ. وذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ والطَّبَرِيُّ. وهَذا تَأْوِيلُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ في هَذِهِ الآيَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهو مَعْنى كَرَمِ العَفْوِ. انْتَهى. وسَيَأْتِي ذِكْرُ الحَدِيثِ والكَلامِ عَلَيْهِ. وقالَ الثَّعْلَبِيُّ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُرَيْجٍ والضَّحّاكُ وابْنُ زَيْدٍ: ﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ [الفرقان: ٧٠] يُبْدِلُهُمُ اللَّهُ تَقْبِيحَ أعْمالِهِمْ في الشِّرْكِ، مَحاسِنَ الأعْمالِ في الإسْلامِ. فَيُبْدِلُهم بِالشِّرْكِ وبِقَتْلِ المُؤْمِنِينَ، قَتْلَ المُشْرِكِينَ. وبِالزِّنى، عِفَّةً وإحْصانًا. (p-٤٥٩٣)وقالَ آخَرُونَ: يَعْنِي يُبْدِلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ الَّتِي عَمِلُوها في حالِ إسْلامِهِمْ، حَسَناتٍ يَوْمَ القِيامَةِ وأصْلُ القَوْلَيْنِ، أنَّ هَذا التَّبْدِيلَ هَلْ هو في الدُّنْيا أوْ يَوْمَ القِيامَةِ ؟ فَمَن قالَ إنَّهُ في الدُّنْيا، قالَ: هو تَبْدِيلُ الأعْمالِ القَبِيحَةِ والإراداتِ الفاسِدَةِ بِأضْدادِها. وهي حَسَناتٌ، وهَذا تَبْدِيلٌ حَقِيقَةً. والَّذِينَ نَصَرُوا هَذا القَوْلَ احْتَجُّوا بِأنَّ السَّيِّئَةَ تَنْقَلِبُ حَسَنَةً، بَلْ غايَتُها أنْ تُمْحى وتُكَفَّرَ ويَذْهَبُ أثَرُها، فَأمّا أنْ تَنْقَلِبَ حَسَنَةً فَلا. فَإنَّها لَمْ تَكُنْ طاعَةً، وإنَّما كانَتْ بَغِيضَةً مَكْرُوهَةً لِلرَّبِّ، فَكَيْفَ تَنْقَلِبُ مَحْبُوبَةً مَرْضِيَّةً ؟ قالُوا: وأيْضًا فالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ القُرْآنُ إنَّما هو تَكْفِيرُ السَّيِّئاتِ ومَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ، كَقَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وكَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا﴾ [آل عمران: ١٩٣] وقَوْلِهِ: ﴿ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ﴾ [الشورى: ٢٥] وقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: ٥٣] والقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِن ذَلِكَ وفي الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ قَتادَةَ عَنْ صَفْوانَ بْنِ مُحْرِزٍ قالَ: قالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ في النَّجْوى ؟ قالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ««يُدْنى المُؤْمِنُ يَوْمَ القِيامَةِ مِن رَبِّهِ حَتّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيُقَرِّرَهُ بِذُنُوبِهِ فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ ! أعْرِفُ قالَ: فَإنِّي قَدْ سَتَرْتُها عَلَيْكَ في الدُّنْيا، وأنا أغْفِرُها لَكَ اليَوْمَ. فَيُعْطى صَحِيفَةَ حَسَناتِهِ»» . وأمّا الكُفّارُ والمُنافِقُونَ فَيُنادى بِهِمْ عَلى رُؤُوسِ الأشْهادِ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. فَهَذا الحَدِيثُ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ، والَّذِي تَضَمَّنَ العِنايَةَ بِهَذا العَبْدِ، إنَّما فِيهِ سَتْرُ ذُنُوبِهِ عَلَيْهِ في الدُّنْيا ومَغْفِرَتُها لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ. ولَمْ يَقُلْ لَهُ: وأعْطَيْتُكَ بِكُلِّ سَيِّئَةٍ مِنها حَسَنَةً. فَدَلَّ عَلى أنَّ غايَةَ السَّيِّئاتِ مَغْفِرَتُها وتَجاوُزُ اللَّهِ عَنْها. (p-٤٥٩٤)وقَدْ قالَ اللَّهُ في حَقِّ الصّادِقِينَ: ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهم أسْوَأ الَّذِي عَمِلُوا ويَجْزِيَهم أجْرَهم بِأحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر: ٣٥] فَهَؤُلاءِ خِيارُ الخَلْقِ. وقَدْ أخْبَرَ عَنْهم أنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْهم سَيِّئاتِ أعْمالِهِمْ ويَجْزِيهِمْ بِأحْسَنِ ما يَعْمَلُونَ. وأحْسَنُ ما عَمِلُوا إنَّما هو الحَسَناتُ لا السَّيِّئاتُ، فَدَلَّ عَلى أنَّ الجَزاءَ بِالحُسْنى إنَّما يَكُونُ عَلى الحَسَناتِ وحْدَها. وأمّا السَّيِّئاتُ، أنْ تُلْغى ويَبْطُلَ أثَرُها. قالُوا: وأيْضًا، فَلَوِ انْقَلَبَتِ السَّيِّئاتُ أنْفُسُها حَسَناتٍ في حَقِّ التّائِبِ، لَكانَ أحْسَنَ حالًا مِنَ الَّذِي لَمْ يَرْتَكِبُ مِنها شَيْئًا. وأكْثَرُ حَسَناتٍ مِنهُ، لِأنَّهُ إذا أساءَ شارَكَهُ في حَسَناتِهِ الَّتِي فَعَلَها وامْتازَ عَنْهُ بِتِلْكَ السَّيِّئاتِ، ثُمَّ انْقَلَبَتْ لَهُ حَسَناتٌ تَرْجُحُ عَلَيْهِ. وكَيْفَ يَكُونُ صاحِبُ السَّيِّئاتِ أرْجَحَ مِن لا سَيِّئَةَ لَهُ ؟ قالُوا: وأيْضًا فَكَما أنَّ العَبْدَ، إذا فَعَلَ حَسَناتٍ ثُمَّ أتى بِما يُحْبِطُها، فَإنَّها لا تَنْقَلِبُ سَيِّئاتٍ يُعاقَبُ عَلَيْها، بَلْ يَبْطُلُ أثَرُها ويَكُونُ لا لَهُ ولا عَلَيْهِ، وتَكُونُ عُقُوبَتُهُ عَدَمَ تَرَتُّبِ ثَوابِهِ عَلَيْها. فَهَكَذا مَن فَعَلَ سَيِّئاتٍ ثُمَّ تابَ مِنها، فَإنَّها لا تَنْقَلِبُ حَسَناتٍ فَإنْ قُلْتُمْ: وهَكَذا التّائِبُ يَكُونُ ثَوابُهُ عَدَمَ تَرَتُّبِ العُقُوبَةِ عَلى سَيِّئاتِهِ، لَمْ نُنازِعْكم في هَذا. ولَيْسَ هَذا مَعْنى الحَسَنَةِ فَإنَّ الحَسَنَةَ تَقْتَضِي ثَوابًا وُجُوُدِيًّا. واحْتَجَّتِ الطّائِفَةُ الأُخْرى الَّتِي قالَتْ: هو تَبْدِيلُ السَّيِّئَةِ بِالحَسَنَةِ حَقِيقَةً يَوْمَ القِيامَةِ، بِأنْ قالَتْ: حَقِيقَةُ التَّبْدِيلِ إثْباتُ الحَسَنَةِ مَكانَ السَّيِّئَةِ. وهَذا إنَّما يَكُونُ في السَّيِّئَةِ المُحَقَّقَةِ. وهي الَّتِي قَدْ فُعِلَتْ ووَقَعَتْ. فَإذا بُدِّلَتْ حَسَنَةً كانَ مَعْناهُ أنَّها مُحِيَتْ وأُثْبِتَ مَكانَها حَسَنَةٌ. قالُوا: ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ [الفرقان: ٧٠] فَأضافَ السَّيِّئاتِ إلَيْهِمْ، لِكَوْنِهِمْ باشَرُوها واكْتَسَبُوها. ونَكَّرَ الحَسَناتِ ولَمْ يُضِفْها إلَيْهِمْ، لِأنَّها مِن غَيْرِ صُنْعِهِمْ وكَسْبِهِمْ، بَلْ هي مُجَرَّدُ فَضْلِ اللَّهِ وكَرَمِهِ قالُوا: وأيْضًا، فالتَّبْدِيلُ في الآيَةِ إنَّما هو فِعْلُ اللَّهِ لا فِعْلُهم فَإنَّهُ أخْبَرَ أنَّهُ هو يُبَدِّلُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، ولَوْ كانَ المُرادُ ما ذَكَرْتُمْ لَأضافَ التَّبْدِيلَ إلَيْهِمْ. فَإنَّهم هُمُ الَّذِينَ يُبَدِّلُونَ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ والأعْمالُ إنَّما تُضافُ إلى فاعِلِها وكاسِبِها، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ [البقرة: ٥٩] وأمّا ما كانَ مِن غَيْرِ الفاعِلِ، فَإنَّهُ يَجْعَلُهُ مِن تَبْدِيلِهِ هو، كَما قالَ تَعالى: ﴿وبَدَّلْناهم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾ [سبإ: ١٦] فَلَمّا أخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ هو الَّذِي يُبَدِّلُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، دَلَّ عَلى أنَّهُ شَيْءٌ فَعَلَهُ هو سُبْحانَهُ بِسَيِّئاتِهِمْ، لا أنَّهم فَعَلُوهُ مِن تِلْقاءِ (p-٤٥٩٥)أنْفُسِهِمْ. وإنْ كانَ سَبَبُهُ مِنهم وهو التَّوْبَةُ والإيمانُ والعَمَلُ الصّالِحُ. قالُوا: ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما رَواهُ (مُسْلِمٌ) في صَحِيحِهِ عَنْ أبِي ذَرٍّ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««إنِّي لَأعْلَمُ آخِرَ أهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا الجَنَّةَ. وآخِرَ أهْلِ النّارِ خُرُوجًا مِنها. رَجُلٌ يُؤْتى بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُقالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغارَ ذُنُوبِهِ وارْفَعُوا عَنْهُ كِبارَها. فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغارُ ذُنُوبِهِ. فَيُقالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذا وكَذا، كَذا وكَذا. وعَمِلْتَ يَوْمَ كَذا وكَذا، كَذا وكَذا فَيَقُولُ: نَعَمْ. لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُنْكِرَ، وهو مُشْفِقٌ مِن كِبارِ ذُنُوبِهِ أنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ فَيُقالُ لَهُ: فَإنَّ لَكَ مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً»» قالُوا: وهَؤُلاءِ هُمُ الأبْدالُ في الحَقِيقَةِ. فَإنَّهم إنَّما سُمُّوا أبْدالًا لِأنَّهم بَدَّلُوا أعْمالَهُمُ السَّيِّئَةَ، بِالأعْمالِ الحَسَنَةِ، فَبَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمُ الَّتِي عَمِلُوا حَسَناتٍ. قالُوا: وأيْضًا فالجَزاءُ مِن جِنْسِ العَمَلِ. فَكَما بَدَّلُوا هم أعْمالَهُمُ السَّيِّئَةَ بِالحَسَنَةِ، بَدَّلَها اللَّهُ مِن صُحُفِ الحَفَظَةِ، حَسَناتٍ جَزاءً وِفاقًا. قالَتِ الطّائِفَةُ الأُولى: كَيْفَ يُمْكِنُكُمُ الِاحْتِجاجُ بِحَدِيثِ أبِي ذَرٍّ، عَلى صِحَّةِ قَوْلِكم، وهو صَرِيحٌ في أنَّ هَذا الَّذِي قَدْ بُدِّلَتْ سَيِّئاتُهُ حَسَناتٍ، قَدْ عُذِّبَ عَلَيْها في النّارِ، حَتّى كانَ آخِرَ أهْلِها خُرُوجًا مِنها فَهَذا قَدْ عُوقِبَ عَلى سَيِّئاتِهِ. فَزالَ أثَرُها بِالعُقُوبَةِ. فَبُدِّلَ مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ مِنها حَسَنَةً. وهَذا حُكْمُ غَيْرِ ما نَحْنُ فِيهِ. فَإنَّ الكَلامَ في التّائِبِ مِنَ السَّيِّئاتِ، لا فِيمَن ماتَ مُصِرًّا عَلَيْها غَيْرَ تائِبٍ. فَأيْنَ أحَدُهُما مِنَ الآخَرِ ؟ قالُوا: وأمّا ما ذَكَرْتُمْ مِن أنَّ التَّبْدِيلَ هو إثْباتُ الحَسَنَةِ مَكانَ السَّيِّئَةِ، فَحَقٌّ. وكَذَلِكَ نَقُولُ: إنَّ الحَسَنَةَ المُفَعْوِلَةَ صارَتْ في مَكانِ السَّيِّئَةِ، الَّتِي لَوْلا الحَسَنَةُ لَحَلَّتْ مَحَلَّها. قالُوا: وأمّا احْتِجاجُكم بِإضافَةِ السَّيِّئاتِ إلَيْهِمْ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ هي السَّيِّئاتُ الواقِعَةُ وتَنْكِيرُ الحَسَناتِ وهو يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ حَسَناتٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ، فَهو حَقٌّ بِلا رَيْبٍ. ولَكِنْ مِن أيْنَ يَبْقى أنْ يَكُونَ فَضْلُ اللَّهِ بِها، مُقارِنًا لِكَسْبِهِمْ إيّاها بِفَضْلِهِ ؟ . قالُوا: وأمّا قَوْلُكم إنَّ التَّبْدِيلَ مُضافٌ إلى اللَّهِ لا إلَيْهِمْ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّهُ هو الَّذِي بَدَّلَها مِنَ الصُّحُفِ، لِأنَّهم هُمُ الَّذِينَ بَدَّلُوا الأعْمالَ بِأضْدادِها، فَهَذا لا دَلِيلَ لَكم. فَإنَّ اللَّهَ خالِقُ (p-٤٥٩٦)أفْعالِ العِبادِ. فَهو المُبَدِّلُ لِلسَّيِّئاتِ حَسَناتٍ خَلْقًا وتَكْوِينًا، وهُمُ المُبَدِّلُونَ لَها فِعْلًا وكَسْبًا. قالُوا: وأمّا احْتِجاجُكم بِأنَّ الجَزاءَ مِن جِنْسِ العَمَلِ، فَكَما بَدَّلُوا سَيِّئاتِ أعْمالِهِمْ بِحَسَناتِهِمْ أبْدَلَها اللَّهُ كَذَلِكَ في صُحُفِ الأعْمالِ. فَهَذا حَقٌّ، وبِهِ نَقُولُ، وإنَّهُ بُدِّلَتِ السَّيِّئاتُ الَّتِي كانَتْ مُهَيَّأةً ومُعَدَّةً أنْ تَحُلَّ في الصُّحُفِ، بِحَسَناتٍ جُعِلَتْ مَوْضِعَها. فَهَذا مُنْتَهى إقْدامِ الطّائِفَتَيْنِ، ومَحَطُّ نَظَرِ الفَرِيقَيْنِ. وإلَيْكَ أيُّها المُنْصِفُ الحُكْمُ بَيْنَهُما. فَقَدْ أدْلى كُلٌّ مِنهُما بِحُجَّتِهِ، وأقامَ بَيِّنَتَهُ. والحَقُّ لا يَعْدُوهُما ولا يَتَجاوَزُهُما. فَأرْشَدَ اللَّهُ مَن أعانَ عَلى هُدًى، فَنالَ بِهِ دَرَجَةَ الدّاعِينَ إلى اللَّهِ، القائِمِينَ بِبَيانِ حُجَجِهِ ودِينِهِ. أوْ عَذَرَ طالِبًا مُنْفَرِدًا في طَرِيقِ مَطْلَبِهِ، قَدِ انْقَطَعَ رَجاؤُهُ مِن رَفِيقٍ في الطَّرِيقِ. فَغايَةُ أُمْنِيَّتِهِ أنْ يُخَلّى بَيْنَهُ وبَيْنَ سَيْرِهِ، وألّا يُقْطَعَ عَلَيْهِ طَرِيقُهُ. فَمَن رُفِعَ لَهُ مِثْلُ هَذا العَلَمِ ولَمْ يُشَمِّرْ إلَيْهِ، فَقَدْ رَضِيَ بِالدُّونِ. وحَصَلَ عَلى صَفْقَةِ المَغْبُونِ. ومَن شَمَّرَ إلَيْهِ ورامَ ألّا يُعارِضَهُ مُعارِضٌ، ولا يَتَصَدّى لَهُ مُمانِعٌ، فَقَدْ مَنّى نَفْسَهُ المُحالَ، وإنْ صَبَرَ عَلى لَأْوائِها وشِدَّتِها، فَهو واللَّهِ الفَوْزُ المُبِينُ، والحَظُّ الجَزِيلُ وما تَوْفِيقِي إلّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ. فالصَّوابُ، إنْ شاءَ اللَّهُ في هَذِهِ المَسْألَةِ، أنْ يُقالَ: لا رَيْبَ أنَّ الذَّنَبَ نَفْسَهُ لا يَنْقَلِبُ حَسَنَةً. والحَسَنَةُ إنَّما هي أمْرٌ وُجُودِيٌّ يَقْتَضِي ثَوابًا ولِهَذا كانَ تارِكُ المَنهِيّاتِ إنَّما يُثابُ عَلى كَفِّ نَفْسِهِ وحَبْسِها عَنْ مُوافَقَةِ المَنهِيِّ. وذَلِكَ الكَفُّ والحَبْسُ أمْرٌ وُجُودِيٌّ وهو مُتَعَلَّقُ الثَّوابِ. وأمّا مَن لَمْ يَخْطُرْ بِبالِهِ الذَّنْبُ أصْلًا، ولَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، فَهَذا كَيْفَ يُثابُ عَلى تَرْكِهِ ؟ ولَوْ أُثِيبَ مِثْلُ هَذا عَلى تَرْكِ هَذا الذَّنْبِ، لَكانَ مُثابًا عَلى تَرْكِ ذُنُوبِ العالِمِ الَّتِي لا تَخْطُرُ بِبالِهِ وذَلِكَ أضْعافُ حَسَناتِهِ بِما لا يُحْصى فَإنَّ التَّرْكَ مُسْتَصْحَبٌ مَعَهُ، والمَتْرُوكُ لا يَنْحَصِرُ ولا يَنْضَبِطُ، فَهَلْ يُثابُ عَلى ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ وهَذا مِمّا لا يُتَوَهَّمُ. وإذا كانَتِ الحَسَنَةُ لا بُدَّ أنْ تَكُونَ أمْرًا وُجُودِيًّا، فالتّائِبُ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي عَمِلَها، قَدْ قارَنَ كُلَّ ذَنْبٍ مِنها، نَدَمًا عَلَيْهِ، وكَفَّ نَفْسَهُ عَنْهُ، وعَزَمَ عَلى تَرْكِ مُعاوَدَتِهِ. وهَذِهِ حَسَناتٌ بِلا رَيْبٍ. وقَدْ مَحَتِ التَّوْبَةُ أثَرَ الذَّنْبِ، وخَلَّفَهُ هَذا النَّدَمَ والعَزْمَ، وهو حَسَنَةٌ، قَدْ بُدِّلَتْ تِلْكَ السَّيِّئَةُ حَسَنَةً. وهَذا مَعْنى قَوْلِ بَعْضِ (p-٤٥٩٧)المُفَسِّرِينَ: يُجْعَلُ مَكانَ السَّيِّئَةِ التَّوْبَةُ والحَسَنَةُ مَعَ التَّوْبَةِ. فَإذا كانَتْ كُلُّ سَيِّئَةٍ مِن سَيِّئاتِهِ قَدْ تابَ مِنها، فَتَوْبَتُهُ مِنها حَسَنَةٌ حَلَّتْ مَكانَها. فَهَذا مَعْنى التَّبْدِيلِ. لا أنَّ السَّيِّئَةَ نَفْسَها تَنْقَلِبُ حَسَنَةً. وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ في هَذِهِ الآيَةِ: يُعْطِيهِمْ بِالنَّدَمِ عَلى كُلِّ سَيِّئَةٍ أساءُوها حَسَنَةً. وعَلى هَذا، فَقَدْ زالَ بِحَمْدِ اللَّهِ الإشْكالُ. واتَّضَحَ الصَّوابُ. وظَهَرَ أنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنَ الطّائِفَتَيْنِ ما خَرَجَتْ عَنْ مُوجِبِ العِلْمِ والحُجَّةِ. وأمّا حَدِيثُ أبِي ذَرٍّ، وإنْ كانَ التَّبْدِيلُ فِيهِ حَقُّ المُصِرِّ الَّذِي عُذِّبَ عَلى سَيِّئاتِهِ، فَهو يَدُلُّ بِطَرِيقِ الأوْلى عَلى حُصُولِ التَّبْدِيلِ لِلتّائِبِ المُقْلِعِ النّادِمِ عَلى سَيِّئاتِهِ. فَإنَّ الذُّنُوبَ الَّتِي عُذِّبَ عَلَيْها المُصِرُّ، لَمّا أزالَ أثَرَها بِالعُقُوبَةِ، بَقِيَتْ كَأنْ لَمْ تَكُنْ، فَأعْطاهُ اللَّهُ مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ مِنها حَسَنَةً، لِأنَّ ما حَصَلَ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ النَّدَمِ المُفْرِطِ عَلَيْها، مَعَ العُقُوبَةِ، لا يَقْتَضِي زَوالَ أثَرِهِ وتَبْدِيلَها حَسَناتٍ. فَزَوالُ أثَرِها بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، أعْظَمُ مِن زَوالِ أثَرِها بِالعُقُوبَةِ. فَإذا بُدِّلَتْ بَعْدَ زَوالِها بِالعُقُوبَةِ، حَسَناتٍ، فَلَأنْ تُبَدَّلُ بَعْدَ زَوالِها بِالتَّوْبَةِ حَسَناتٍ، أوْلى وأحْرى. وتَأْثِيرُ التَّوْبَةِ في هَذا المَحْوِ والتَّبْدِيلِ أقْوى مِن تَأْثِيرِ العُقُوبَةِ. لِأنَّ التَّوْبَةَ فِعْلٌ اخْتِيارِيٌّ أتى بِهِ العَبْدُ طَوْعًا ومَحَبَّةً لِلَّهِ وفَرَقًا مِنهُ، وأمّا العُقُوبَةُ، فالتَّكْفِيرُ بِها مِن جِنْسِ التَّفْكِيرِ بِالمَصائِبِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِغَيْرِ اخْتِيارِهِ، بَلْ يَفْعَلُ اللَّهُ. ولا رَيْبَ أنَّ تَأْثِيرَ الأفْعالِ الِاخْتِيارِيَّةِ الَّتِي يُحِبُّها اللَّهُ ويَرْضاها في مَحْوِ الذُّنُوبِ، أعْظَمُ مِن تَأْثِيرِ المَصائِبِ الَّتِي تَنالُهُ بِغَيْرِ اخْتِيارِهِ. انْتَهى كَلامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ. وقَوْلُهُ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب