الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٣٥] ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ المِصْباحُ في زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ (p-٤٥٢٤)مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ ولَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورُ عَلى نُورُ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مِن يَشاءُ ويَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثالَ لِلنّاسِ واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ .
﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ: مُنَوِّرُهُما بِالكَواكِبِ وما يَفِيضُ عَنْها مِنَ الأنْوارِ. فَهو مَجازٌ مِن إطْلاقِ الأثَرِ عَلى مُؤَثِّرِهِ. كَما يُطْلَقُ السَّبَبُ عَلى مُسَبِّبِهِ. أوْ مُدَبِّرِهِما، مِن قَوْلِهِمْ لِلرَّئِيسِ الفائِقِ في التَّدْبِيرِ: (نُورُ القَوْمِ ) لِأنَّهم يَهْتَدُونَ بِهِ في الأُمُورِ فَيَكُونُ مَجازًا. أوِ اسْتِعارَةً اسْتُعِيرَ (النُّورُ ) بِمَعْنى: المُنَوِّرِ، لِلْمُدَبِّرِ، لِعَلاقَةِ المُشابَهَةِ في حُصُولِ الِاهْتِداءِ. أوْ مُوجِدُهُما فَإنَّ النُّورَ ظاهِرٌ بِذاتِهِ مُظْهِرٌ لِغَيْرِهِ - كَما قالَهُ الغَزالِيُّ - فَيَكُونُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ تَعالى مَجازًا مُرْسَلًا بِاعْتِبارِ لازِمِ مَعْناهُ.
قالَ أبُو السُّعُودِ: وعَبَّرَ عَنِ المُنَوِّرِ بِالنُّورِ، تَنْبِيهًا عَلى قُوَّةِ التَّنْوِيرِ وشِدَّةِ التَّأْثِيرِ. وإيذانًا بِأنَّهُ تَعالى ظاهِرٌ بِذاتِهِ، وكُلُّ ما سِواهُ ظاهِرٌ بِإظْهارِهِ. كَما أنَّ النُّورَ نَيِّرٌ بِذاتِهِ وما عَداهُ مُسْتَنِيرٌ بِهِ. وأُضِيفَ النُّورُ إلى: ﴿السَّماواتِ والأرْضِ﴾ لِلدَّلالَةِ عَلى سِعَةِ إشْراقِهِ. أوِ المُرادُ بِهِما العالَمُ كُلُّهُ: ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ أيْ: صِفَةُ نُورِهِ العَجِيبَةُ الشَّأْنِ. قالَ أبُو السُّعُودِ: أيْ: نُورُهُ الفائِضُ مِنهُ تَعالى عَلى الأشْياءِ المُسْتَنِيرَةِ بِهِ وهو القُرْآنُ المُبِينُ. كَما يُعْرِبُ عَنْهُ ما قَبْلَهُ مِن وصْفِ آياتِهِ بِالإنْزالِ والتَّبْيِينِ. وقَدْ صَرَّحَ بِكَوْنِهِ نُورًا أيْضًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْـزَلْنا إلَيْكم نُورًا مُبِينًا﴾ [النساء: ١٧٤] وبِهِ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، والحَسَنُ، وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى: ﴿كَمِشْكاةٍ﴾ أيْ: كَصِفَةِ كُوَّةٍ - طاقَةٍ - غَيْرِ نافِذَةٍ في الجِدارِ، في الإنارَةِ والتَّنْوِيرِ: ﴿فِيها مِصْباحٌ﴾ أيْ: سِراجٌ ضَخْمٌ ثاقِبٌ - شَدِيدُ الإضاءَةِ - وقِيلَ: المِشْكاةُ الأُنْبُوبَةُ في وسَطِ القِنْدِيلِ، والمِصْباحُ الفَتِيلَةُ المُشْتَعِلَةُ: ﴿المِصْباحُ في زُجاجَةٍ﴾ أيْ: قِنْدِيلٍ مِنَ الزُّجاجِ الصّافِي الأزْهَرِ: ﴿الزُّجاجَةُ كَأنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ أيْ: مُتَلَأْلِئٌ وقّادٌ شَبِيهٌ بِالدُّرِّ في صَفائِهِ وزُهْرَتِهِ: ﴿يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ﴾ أيْ: كَثِيرَةِ المَنافِعِ، بِأنْ رُوِيَتْ فَتِيلَتُهُ بِزَيْتِها: ﴿زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ﴾ (p-٤٥٢٥)أيْ لا شَرْقِيَّةٍ تَقَعُ عَلَيْها الشَّمْسُ وقْتَ الشُّرُوقِ فَقَطْ، ولا غَرْبِيَّةٍ تَقَعُ عَلَيْها عِنْدَ الغُرُوبِ. ولا تُصِيبُها في الغَداةِ بَلْ في مَكانٍ عَلَيْها الشَّمْسُ مُشْرِقَةٌ مِن أوَّلِ طُلُوعِها إلى آخِرِ غُرُوبِها. كَصَحْراءَ أوْ رَأْسِ جَبَلٍ. فَزَيْتُها أضْوَأُ: ﴿يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ ولَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ﴾ أيْ: يَكادُ يُضِيءُ بِنَفْسِهِ مِن غَيْرِ نارٍ لِصَفائِهِ ولَمَعانِهِ: ﴿نُورٌ عَلى نُورٍ﴾ أيْ: ذَلِكَ النُّورُ الَّذِي عَبَّرَ بِهِ عَنِ القُرْآنِ، ومُثِّلَتْ صِفَتُهُ العَجِيبَةُ بِما فُضِّلَ عَنْ صِفَةِ المِشْكاةِ. نُورٌ عَظِيمٌ كائِنٌ عَلى نُورٍ كَذَلِكَ. فَـ(نُورٌ ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والجارُّ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ صِفَةٌ لَهُ مُؤَكِّدَةٌ لِما أفادَهُ التَّنْكِيرُ مِنَ الفَخامَةِ، والجُمْلَةُ فَذْلَكَةٌ لِلتَّمْثِيلِ، وتَصْرِيحٌ لِما حَصَلَ مِنهُ، وتَمْهِيدٌ لِما يَعْقُبُهُ. ولَيْسَ مَعْنى: ﴿نُورٌ عَلى نُورٍ﴾ نُورٌ واحِدٌ فَوْقَ آخَرَ مِثْلِهِ، ولا مَجْمُوعُ نُورَيْنِ اثْنَيْنِ فَقَطْ، بَلْ هو عِبارَةٌ عَنْ نُورٍ مُتَضاعِفٍ كَتَضاعُفِ ما مُثِّلَ بِهِ مِن نُورِ المِشْكاةِ بِما ذُكِرَ. فَإنَّ المِصْباحَ إذا كانَ في مَكانٍ مُتَضايِقٍ كالمِشْكاةِ، كانَ أضْوَأ لَهُ وأجْمَعَ لِنُورِهِ. بِخِلافِ المَكانِ الواسِعِ، فَإنَّ الضَّوْءَ يَنْبَثُّ فِيهِ ويَنْتَشِرُ. والقِنْدِيلُ أعْوَنُ شَيْءٍ عَلى زِيادَةِ الإنارَةِ. وكَذَلِكَ الزَّيْتُ وصَفاؤُهُ. ولَيْسَ وراءَ هَذِهِ المَراتِبِ مِمّا يَزِيدُ نُورَها إشْراقًا، مَرْتَبَةً أُخْرى عادَةً ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشاءُ﴾ أيْ: لِهَذا النُّورِ الثّاقِبِ العَظِيمِ الشَّأْنِ، بِأنْ يُوَفِّقَهم لِلْإيمانِ بِهِ وفَهْمِ دَلائِلِ حَقِّيَّتِهِ.
قالَ أبُو السُّعُودِ: وإظْهارُهُ في مَقامِ الإضْمارِ. لِزِيادَةِ تَقْرِيرِهِ، وتَأْكِيدِ فَخامَتِهِ الذّاتِيَّةِ بِفَخامَتِهِ الإضافِيَّةِ النّاشِئَةِ مِن إضافَتِهِ إلى ضَمِيرِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ويَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثالَ لِلنّاسِ﴾ أيْ: لِيَدْنُوَ لَهُمُ المَعْقُولُ مِنَ المَحْسُوسِ، تَوْضِيحًا وبَيانًا. ولِذَلِكَ مَثَّلَ نُورَهُ المُعَبَّرَ عَنْهُ بِالقُرْآنِ، بِنُورِ المِشْكاةِ: ﴿واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أيْ: فَلا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ وفِيهِ وعْدٌ ووَعِيدٌ. لِأنَّ عِلْمَهُ تَعالى، عِبارَةٌ عَنْ مَجازاتِهِ في أمْثالِ هَذِهِ الآيِ.
تَنْبِيهٌ:
هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ - آيَةُ النُّورِ - مِنَ الآياتِ الَّتِي صُنِّفَتْ فِيها مُصَنَّفاتٌ خاصَّةٌ. مِنها (مِشْكاةُ الأنْوارِ ") لِلْإمامِ الغَزالِيِّ، وقَدْ نَقَلَ عَنْهُ الرّازِيُّ في (تَفْسِيرِهِ ") هُنا جُمْلَةً سابِغَةَ الذَّيْلِ. ورَأيْتُ (p-٤٥٢٦)لِلْإمامِ ابْنِ القَيِّمِ في كِتابِهِ (الجُيُوشِ الإسْلامِيَّةِ ") ما يَجْمُلُ إيرادُهُ، تَعْزِيزًا لِلْمَقامِ واسْتِظْهارًا بِزِيادَةِ العِلْمِ.
قالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: سَمّى اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى نَفْسَهُ نُورًا وجَعَلَ كِتابَهُ نُورًا ورَسُولَهُ ﷺ نُورًا ودِينَهُ نُورًا. واحْتَجَبَ عَنْ خَلْقِهِ بِالنُّورِ وجَعَلَ دارَ أوْلِيائِهِ نُورًا يَتَلَأْلَأُ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ وقَدْ فُسِّرَ بِكَوْنِهِ مُنَوِّرَ السَّماواتِ والأرْضِ، وهادِيَ أهْلِ السَّماواتِ والأرْضِ. فَبِنُورِهِ اهْتَدى أهْلُ السَّماواتِ والأرْضِ. وهَذا إنَّما هو فِعْلُهُ. وإلّا فالنُّورُ الَّذِي هو مِن أوْصافِهِ قائِمٌ بِهِ. ومِنهُ اشْتُقَّ لَهُ اسْمُ النُّورِ الَّذِي هو أحَدُ الأسْماءِ الحُسْنى. والنُّورُ يُضافُ إلَيْهِ سُبْحانَهُ عَلى أحَدِ وجْهَيْنِ. إضافَةَ صِفَةٍ إلى مَوْصُوفِها، وإضافَةَ مَفْعُولٍ إلى فاعِلِهِ. فالأوَّلُ كَقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وأشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّها﴾ [الزمر: ٦٩] فَهَذا إشْراقُها يَوْمُ القِيامَةِ بِنُورِهِ تَعالى، إذا جاءَ لِفَصْلِ القَضاءِ. ومِنهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في الدُّعاءِ المَشْهُورِ: ««أعُوذُ بِنُورِ وجْهِكَ الكَرِيمِ أنْ تُضِلَّنِي لا إلَهَ إلّا أنْتَ»» . وفي الأثَرِ الآخَرِ: ««أعُوذُ بِوَجْهِكَ - أوْ بِنُورِ وجْهِكَ - الَّذِي أشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُماتُ»» . فَأخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ . أنَّ الظُّلُماتِ أشْرَقَتْ لِنُورِ وجْهِ اللَّهِ. كَما أخْبَرَ تَعالى أنَّ الأرْضَ تُشْرِقُ يَوْمَ القِيامَةِ بِنُورِهِ.
وفِي (مُعْجَمٍ الطَّبَرانِيِّ ") و(السُّنَّةِ ") لَهُ و(كِتابِ عُثْمانَ الدّارِمِيِّ ") وغَيْرِها، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قالَ: لَيْسَ عِنْدَ رَبِّكم لَيْلٌ ولا نَهارٌ، نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ مِن نُورِ وجْهِهِ. وهَذا الَّذِي قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أقْرَبُ إلى تَفْسِيرِ الآيَةِ، مِن قَوْلِ مَن فَسَّرَها بِأنَّهُ هادِي أهْلِ السَّماواتِ والأرْضِ. وأمّا مَن فَسَّرَها بِأنَّهُ مُنَوِّرُ السَّماواتِ والأرْضِ، فَلا تَنافِيَ بَيْنَهُ وبَيْنَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ. والحَقُّ أنَّهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ بِهَذِهِ الِاعْتِباراتِ كُلِّها. وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وغَيْرِهِ مِن حَدِيثِ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «قامَ فِينا رَسُولُ اللَّهِ (p-٤٥٢٧)ﷺ بِخَمْسِ كَلِماتٍ فَقالَ: «إنَّ اللَّهَ لا يَنامُ، ولا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ ويَرْفَعُهُ، ويُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهارِ، وعَمَلُ النَّهارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ. حِجابُهُ النُّورُ. لَوْ كَشَفَهُ لَأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجْهِهِ ما انْتَهى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِن خَلْقِهِ»» . وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ ؟ قالَ: «نُورٌ، أنّى أراهُ»» فَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى يَقُولُ: مَعْناهُ كانَ ثَمَّةَ نُورٌ، وحالَ دُونَ رُؤْيَتِهِ نُورٌ، فَأنّى أراهُ ؟ قالَ: ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ في بَعْضِ الألْفاظِ الصَّحِيحَةِ: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ ؟ فَقالَ: رَأيْتُ نُورًا. وقَدْ أعْضَلَ أمْرُ هَذا الحَدِيثِ عَلى كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ حَتّى صَحَّفَهُ بَعْضُهم فَقالَ: نُورانِيٌّ أراهُ. عَلى أنَّها ياءُ النَّسَبِ، والكَلِمَةُ كَلِمَةٌ واحِدَةٌ. وهَذا خَطَأٌ لَفْظًا ومَعْنى. وإنَّما أوْجَبَ لَهم هَذا الإشْكالَ والخَطَأ أنَّهم لَمّا اعْتَقَدُوا أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأى رَبَّهُ وكانَ قَوْلُهُ: ««أنّى أراهُ»» كالإنْكارِ لِلرُّؤْيَةِ، حارُوا في الحَدِيثِ، ورَدَّهُ بَعْضُهم بِاضْطِرابِ لَفْظِهِ، وكُلُّ هَذا عُدُولٌ عَنْ مُوجِبِ الدَّلِيلِ. وقَدْ حَكى عُثْمانُ بْنُ سَعِيدٍ الدّارِمِيُّ في كِتابِ (الرُّؤْيَةِ ") لَهُ إجْماعَ الصَّحابَةِ عَلى أنَّهُ لَمْ يَرَ رَبَّهُ لَيْلَةَ المِعْراجِ. وبَعْضُهُمُ اسْتَثْنى ابْنَ عَبّاسٍ فِيمَن قالَ ذَلِكَ. وشَيْخُنا يَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِخِلافٍ في الحَقِيقَةِ. فَإنَّ ابْنَ عَبّاسٍ لَمْ يَقُلْ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وعَلَيْهِ اعْتَمَدَ أحْمَدُ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ حَيْثُ قالَ: إنَّهُ ﷺ رَآهُ عَزَّ وجَلَّ. ولَمْ يَقُلْ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ. ولَفْظُ أحْمَدَ لَفْظُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. ويَدُلُّ عَلى صِحَّتِهِ ما قالَ شَيْخُنا في مَعْنى حَدِيثِ أبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَوْلُهُ ﷺ في الحَدِيثِ الآخَرِ: ««حِجابُهُ النُّورُ»» فَهَذا النُّورُ، واللَّهُ أعْلَمُ. النُّورُ المَذْكُورُ في حَدِيثِ أبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ««رَأيْتُ نُورًا»» .
ثُمَّ قالَ ابْنُ القَيِّمِ: وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ﴾ هَذا مَثَلٌ لِنُورِهِ في قَلْبِ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ. كَما قالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وغَيْرُهُ: وقَدِ اخْتُلِفَ في الضَّمِيرِ في (نُورِهِ ) فَقِيلَ: هو النَّبِيُّ ﷺ . أيْ: مَثَلُ نُورِ مُحَمَّدٍ ﷺ . وقِيلَ: مُفَسِّرُهُ المُؤْمِنُ. أيْ: مَثَلُ نُورِ المُؤْمِنِ.
(p-٤٥٢٨)والصَّحِيحُ أنْ يَعُودَ عَلى اللَّهِ تَعالى. والمَعْنى: مَثَلُ نُورِ اللَّهِ سُبْحانَهُ في قَلْبِ عَبْدِهِ. وأعْظَمُ عِبادِهِ نَصِيبًا مِن هَذا النُّورِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ . فَهَذا، مَعَ ما تَضَمَّنَهُ عَوْدُ الضَّمِيرِ المَذْكُورِ - وهو وجْهُ الكَلامِ - يَتَضَمَّنُ التَّقادِيرَ الثَّلاثَةَ، وهو أتَمُّ لَفْظًا ومَعْنًى. وهَذا النُّورُ يُضافُ إلى اللَّهِ تَعالى. إذْ هو مُعْطِيهِ لِعَبْدِهِ وواهِبُهُ إيّاهُ. ويُضافُ إلى العَبْدِ. إذْ هو مَحَلُّهُ وقابِلُهُ. فَيُضافُ إلى الفاعِلِ والقابِلِ. ولِهَذا النُّورِ فاعِلٌ وقابِلٌ، ومَحَلٌّ وحامِلٌ، ومادَّةٌ. وقَدْ تَضَمَّنَتِ الآيَةُ ذِكْرَ هَذِهِ الأُمُورِ كُلِّها عَلى وجْهِ التَّفْصِيلِ. فالفاعِلُ وهو اللَّهُ تَعالى مُفِيضُ الأنْوارِ. الهادِي لِنُورِهِ مَن يَشاءُ. والقابِلُ: العَبْدُ المُؤْمِنُ. والمَحَلُّ: قَلْبُهُ. والحامِلُ: هِمَّتُهُ وعَزِيمَتُهُ وإرادَتُهُ. والمادَّةُ: قَوْلُهُ وعَمَلُهُ. وهَذا التَّشْبِيهُ العَجِيبُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الآيَةُ، فِيهِ مِنَ الأسْرارِ والمَعانِي وإظْهارِ تَمامِ نِعْمَتِهِ عَلى عَبْدِهِ المُؤْمِنِ، بِما أنالَهُ مِن نُورِهِ، ما تَقَرُّ بِهِ عُيُونُ أهْلِهِ وتَبْتَهِجُ بِهِ قُلُوبُهم. وفي هَذا التَّشْبِيهِ لِأهْلِ المَعانِي طَرِيقَتانِ: إحْداهُما: طَرِيقَةُ التَّشْبِيهِ المُرَكَّبِ وهي أقْرَبُ مَأْخَذًا وأسْلَمُ مِنَ التَّكَلُّفِ. وهي أنْ تُشَبِّهَ الجُمْلَةُ بِرُمَّتِها بِنُورِ المُؤْمِنِ، مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِتَفْصِيلِ كُلِّ جُزْءٍ مِن أجْزاءِ المُشَبَّهِ، ومُقابَلَتُهُ بِجُزْءٍ مِنَ المُشَبَّهِ بِهِ. وعَلى هَذا عامَّةُ أمْثالِ القُرْآنِ. فَتَأمَّلْ صِفَةَ المِشْكاةِ، وهي كُوَّةٌ تُنَفَّذُ لِتَكُونَ أجْمَعَ لِلضَّوْءِ، وقَدْ وُضِعَ فِيها مِصْباحٌ، ذَلِكَ المِصْباحُ داخِلُ زُجاجَةٍ تُشْبِهُ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ في صَفائِها وحُسْنِها. ومادَّتُهُ مِن أصْفى الأدْهانِ وأتَمِّها وقُودًا، مِن زَيْتِ شَجَرَةٍ في وسَطِ القِراحِ، لا شَرْقِيَّةٌ ولا غَرْبِيَّةٌ، بِحَيْثُ تُصِيبُها الشَّمْسُ في إحْدى طَرَفَيِ النَّهارِ، بَلْ هي في وسَطِ القِراحِ، مَحْمِيَّةٌ بِأطْرافِهِ تُصِيبُها الشَّمْسُ أعْدَلَ إصابَةٍ، والآفاتُ إلى الأطْرافِ دُونَها. فَمِن شِدَّةِ إضاءَةِ زَيْتِها وصَفائِها وحُسْنِها، يَكادُ يُضِيءُ مِن غَيْرِ أنْ تَمَسَّهُ نارٌ. فَهَذا المَجْمُوعُ المُرَكَّبُ هو مَثَلُ نُورِ اللَّهِ تَعالى الَّذِي وضْعِهِ في قَلْبِ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ وخَصَّهُ بِهِ. والطَّرِيقَةُ الثّانِيَةُ، طَرِيقَةُ التَّشْبِيهِ المُفَصَّلِ. فَقِيلَ: المِشْكاةُ صَدْرُ المُؤْمِنِ، والزُّجاجَةُ قَلْبُهُ. شَبَّهَ قَلْبَهُ بِالزُّجاجَةِ لِرِقَّتِها وصَفائِها وصَلابَتِها. وكَذَلِكَ قَلْبُ المُؤْمِنِ. فَإنَّهُ قَدْ جَمَعَ الأوْصافَ الثَّلاثَةَ. فَهو يَرْحَمُ ويُحْسِنُ ويَتَحَنَّنُ ويُشْفِقُ عَلى الخَلْقِ بِرِقَّتِهِ وبِصَفائِهِ. تَتَجَلّى فِيهِ صُوَرُ الحَقائِقِ والعُلُومِ عَلى ما هي عَلَيْهِ. ويَتَباعَدُ الكَدَرُ والدَّرَنُ والوَسَخُ بِحَسَبِ ما فِيهِ مِنَ الصَّفاءِ. وبِصَلابَتِهِ يَشْتَدُّ في أمْرِ اللَّهِ تَعالى، ويَتَصَلَّبُ (p-٤٥٢٩)فِي ذاتِ اللَّهِ تَعالى، ويَغْلُظُ عَلى أعْداءِ اللَّهِ تَعالى. ويَقُومُ بِالحَقِّ لِلَّهِ تَعالى. وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعالى القُلُوبَ كالآنِيَةِ، كَما قالَ بَعْضُ السَّلَفِ: القُلُوبُ آنِيَةُ اللَّهِ في أرْضِهِ فَأحَبُّها إلَيْهِ أرَقُّها وأصْلَبُها وأصْفاها. والمِصْباحُ هو نُورُ الإيمانِ في قَلْبِهِ. والشَّجَرَةُ المُبارَكَةُ هي شَجَرَةُ الوَحْيِ المُتَضَمِّنَةُ لِلْهُدى ودِينِ الحَقِّ. وهي مادَّةُ المِصْباحِ الَّتِي يَتَّقِدُ مِنها. والنُّورُ عَلى النُّورِ، نُورُ الفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ، والإدْراكِ الصَّحِيحِ، ونُورُ الوَحْيِ والكِتابِ. فَيَنْضافُ أحَدُ النُّورَيْنِ إلى الآخَرِ، فَيَزْدادُ العَبْدُ نُورًا عَلى نُورٍ. ولِهَذا يَكادُ يَنْطِقُ بِالحَقِّ والحِكْمَةِ، قَبْلَ أنْ يَسْمَعَ ما فِيهِ بِالأثَرِ. ثُمَّ يَبْلُغُهُ الأثَرُ بِمِثْلِ ما وقَعَ في قَلْبِهِ ونَطَقَ بِهِ. فَيَتَّفِقُ عِنْدَهُ شاهِدُ العَقْلِ والشَّرْعِ والفِطْرَةِ والوَحْيِ. فَيُرِيهِ عَقْلُهُ وفِطْرَتُهُ وذَوْقُهُ الَّذِي جاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ هو الحَقَّ لا يَتَعارَضُ عِنْدَهُ العَقْلُ والنَّقْلُ البَتَّةَ. بَلْ يَتَصادَقانِ ويَتَوافَقانِ. فَهَذا عَلامَةُ النُّورِ عَلى النُّورِ. انْتَهى. وقَوْلُهُ تَعالى:
{"ayah":"۞ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةࣲ فِیهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِی زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبࣱ دُرِّیࣱّ یُوقَدُ مِن شَجَرَةࣲ مُّبَـٰرَكَةࣲ زَیۡتُونَةࣲ لَّا شَرۡقِیَّةࣲ وَلَا غَرۡبِیَّةࣲ یَكَادُ زَیۡتُهَا یُضِیۤءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارࣱۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورࣲۚ یَهۡدِی ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ وَیَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَـٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق