الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٢٦] ﴿الخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ والخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ والطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ والطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمّا يَقُولُونَ لَهم مَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ . ﴿الخَبِيثاتُ﴾ أيْ: مِنَ النِّساءِ: ﴿لِلْخَبِيثِينَ﴾ أيْ: مِنَ الرِّجالِ: ﴿والخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ والطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ والطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ﴾ أيْ: بِحَيْثُ لا يَكادُ يَتَجاوَزُ كُلُّ واحِدٍ إلى غَيْرِهِ. و(الطَّيِّبُ ): ضِدُّ الخَبِيثِ وهو الأفْضَلُ مِن كُلِّ شَيْءٍ والأحْسَنُ والأجْوَدُ. قالَ أبُو السُّعُودِ: وحَيْثُ كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أطْيَبَ الأطْيَبِينَ، وخِيرَةَ الأوَّلِينَ والآخَرِينَ، تَبَيَّنَ كَوْنُ الصِّدِّيقَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مِن أطْيَبِ الطَّيِّباتِ بِالضَّرُورَةِ. واتَّضَحَ بُطْلانُ ما قِيلَ في حَقِّها مِنَ الخُرافاتِ، (p-٤٤٦٨)حَسْبَما نَطَقَ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمّا يَقُولُونَ لَهم مَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ وهو الجَنَّةُ. وبِهَذِهِ الآيَةِ تَمَّ نَبَأُ أهْلِ الإفْكِ. واعْلَمْ أنَّ ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الآياتُ مِنَ الأحْكامِ والفَوائِدِ والمَطالِبِ والآدابِ، لا تَفِي بِها مُجَلَّداتٌ. إلّا أنّا نُشِيرُ إلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، نَقْتَبِسُهُ مِن أهَمِّ المُراجِعِ، تَتْمِيمًا لِما أجْمَلْناهُ في تَأْوِيلِها. فالأوَّلُ: أنَّ نَبَأ الإفْكِ كانَ في غَزْوَةِ المُرَيْسِيعِ (تَصْغِيرُ مَرْسُوعٍ، بِئْرٌ أوْ ماءٌ لِخُزاعَةَ ) وكانَتْ في شَعْبانَ سَنَةَ خَمْسٍ. وسَبَبُها أنَّهُ ﷺ بَلَغَهُ أنَّ الحارِثَ بْنَ أبِي ضِرارٍ، سَيِّدَ بَنِي المُصْطَلِقِ سارَ في قَوْمِهِ ومَن قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ العَرَبِ يُرِيدُ حَرْبَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَن مَعَهُ مِن أصْحابِهِ. وخَرَجَ مَعَهم جَماعَةٌ مِنَ المُنافِقِينَ لَمْ يَخْرُجُوا في غَزاةٍ قَبْلَها، فَأغارَ عَلَيْهِمْ، فَسَبى ذَرارِيهِمْ وأمْوالَهم. وكانَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَدْ خَرَجَتْ مَعَهُ، عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، في هَذِهِ الغَزْوَةِ، بِقُرْعَةٍ أصابَتْها وكانَتْ تِلْكَ عادَتُهُ مَعَ نِسائِهِ. فَلَمّا رَجَعُوا مِنَ الغَزْوَةِ، نَزَلُوا في بَعْضِ المَنازِلِ. فَخَرَجَتْ عائِشَةُ لِحاجَتِها فَفَقَدَتْ عِقْدًا لِأُخْتِها كانَتْ أعارَتْها إيّاهُ. فَرَجَعَتْ تَلْتَمِسُهُ في المَوْضِعِ الَّذِي فَقَدَتْهُ فِيهِ في وقْتِها. فَجاءَ النَّفَرُ الَّذِينَ كانُوا يُرَحِّلُونَ هَوْدَجَها، فَظَنُّوها فِيهِ، فَحَمَلُوا الهَوْدَجَ، ولا يُنْكِرُونَ خِفَّتَهُ، لِأنَّها رَضِيَ اللَّهُ عَنْها كانَتْ فَتِيَّةَ السِّنِّ لَمْ يَغْشِها اللَّحْمُ الَّذِي كانَ يُثْقِلُها. وأيْضًا، فَإنَّ النَّفَرَ لَمّا تَساعَدُوا عَلى حَمْلِ الهَوْدَجِ، لَمْ يُنْكِرُوا خِفَّتَهُ. ولَوْ كانَ الَّذِي حَمَلَهُ واحِدًا أوِ اثْنَيْنِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِما الحالُ. فَرَجَعَتْ عائِشَةُ إلى مَنزِلِهِمْ وقَدْ أصابَتِ العِقْدَ، فَإذا لَيْسَ لَها داعٍ ولا مُجِيبٌ. فَقَعَدَتْ في المَنزِلِ، وظَنَّتْ أنَّهم سَيَفْقِدُونَها فَيَرْجِعُونَ في طَلَبِها واللَّهُ غالِبٌ عَلى أمْرِهِ، يُدَبِّرُ الأمْرَ فَوْقَ عَرْشِهِ كَما يَشاءُ فَغَلَبَتْها عَيْناها فَنامَتْ فَلَمْ تَسْتَيْقِظْ إلّا بِقَوْلِ صَفْوانَ بْنِ المُعَطَّلِ (بِفَتْحِ الطّاءِ المَشْدُودَةِ سَلْمى ذَكْوانِيٌّ صَحابِيٌّ فاضِلٌ مُتَقَدِّمُ الإسْلامِ ): إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ. زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وكانَ صَفْوانُ قَدْ عَرَّسَ في أُخْرَياتِ الجَيْشِ لِأنَّهُ كانَ كَثِيرَ النَّوْمِ كَما جاءَ عَنْهُ في صَحِيحِ أبِي حاتِمٍ وفي السُّنَنِ. فَلَمّا رَآها عَرَفَها. وكانَ يَراها قَبْلَ نُزُولِ الحِجابِ. فاسْتَرْجَعَ وأناخَ راحِلَتَهُ، فَقَرَّبَها إلَيْها، فَرَكِبَتْها. وما كَلَّمَها كَلِمَةً واحِدَةً. ولَمْ (p-٤٤٦٩)تَسْمَعْ مِنهُ إلّا اسْتِرْجاعَهُ. ثُمَّ سارَ بِها يَقُودُها حَتّى قَدِمَ بِها، وقَدْ نَزَلَ الجَيْشُ في نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَلَمّا رَأى ذَلِكَ النّاسُ تَكَلَّمَ كُلٌّ مِنهم بِشاكِلَتِهِ وما يَلِيقُ بِهِ. ووَجَدَ الخَبِيثُ عَدُوُّ اللَّهِ ابْنُ أُبَيٍّ مُتَنَفَّسًا. فَتَنَفَّسَ مِن كَرْبِ النِّفاقِ والحَسَدِ الَّذِي بَيْنَ ضُلُوعِهِ. فَجَعَلَ يَسْتَحْكِي الإفْكَ ويَسْتَوْشِيهِ ويُشِيعُهُ ويُذِيعُهُ ويَجْمَعُهُ ويُفَرِّقُهُ. وكانَ أصْحابُهُ يَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ. فَلَمّا قَدِمُوا المَدِينَةَ أفاضَ أهْلُ الإفْكِ في الحَدِيثِ، ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ ساكِتٌ لا يَتَكَلَّمُ. ثُمَّ اسْتَشارَ أصْحابَهُ في فِراقِها، فَأشارَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنْ يُفارِقَها ويَأْخُذَ غَيْرَها، تَلْوِيحًا لا تَصْرِيحًا. وأشارَ عَلَيْهِ أُسامَةُ وغَيْرُهُ بِإمْساكِها، وألّا يَلْتَفِتَ إلى كَلامِ الأعْداءِ. فَعَلِيٌّ، لَمّا رَأى أنَّ ما قِيلَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، أشارَ بِتَرْكِ الشَّكِّ والرِّيبَةِ إلى اليَقِينِ، لِيَتَخَلَّصَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الهَمِّ والغَمِّ الَّذِي لَحِقَهُ مِن كَلامِ النّاسِ فَأشارَ بِحَسْمِ الدّاءِ. وأُسامَةُ لَمّا عَلِمَ حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَها ولِأبِيها، وعَلِمَ مِن عِفَّتِها وبَراءَتِها وحَصانَتِها ودِيانَتِها، ما هي فَوْقَ ذَلِكَ وأعْظَمَ مِنهُ، وعَرَفَ مِن كَرامَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلى رَبِّهِ ومَنزِلَتِهِ عِنْدَهُ ودِفاعِهِ عَنْهُ؛ أنَّهُ لا يَجْعَلُ رَبَّةَ بَيْتِهِ وحَبِيبَتَهُ، مِنَ النِّساءِ وبِنْتَ صِدِّيقِهِ بِالمَنزِلِ الَّذِي أنْزَلَها بِهِ أرْبابُ الإفْكِ. وأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أكْرَمُ عَلى رَبِّهِ وأعَزُّ عَلَيْهِ مِن أنْ يَجْعَلَ تَحْتَهُ امْرَأةً بَغِيًّا. وعَلِمَ أنَّ الصِّدِّيقَةَ حَبِيبَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أكْرَمُ عَلى رَبِّها مِن أنْ يَبْتَلِيَها بِالفاحِشَةِ وهي تَحْتَ رَسُولِهِ. ومَن قَوِيَتْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ ومَعْرِفَةُ رَسُولِهِ وقَدْرُهُ عِنْدَ اللَّهِ في قَلْبِهِ - قالَ كَما قالَ أبُو أيُّوبَ وغَيْرُهُ مِن ساداتِ الصَّحابَةِ، لَمّا سَمِعُوا ذَلِكَ: ﴿سُبْحانَكَ هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١٦] وتَأمَّلْ ما في تَسْبِيحِهِمْ لِلَّهِ وتَنْزِيهِهِمْ لَهُ في ذَلِكَ المَقامِ، مِنَ المَعْرِفَةِ بِهِ وتَنْزِيهِهِ عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ أنْ يَجْعَلَ لِرَسُولِهِ وخَلِيلِهِ وأكْرَمِ الخَلْقِ عَلَيْهِ، امْرَأةً خَبِيثَةً بَغِيًّا. فَمَن ظَنَّ بِهِ سُبْحانَهُ هَذا الظَّنَّ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ السُّوءَ. وعَرَفَ أهْلُ المَعْرِفَةِ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ، أنَّ المَرْأةَ الخَبِيثَةَ لا تَلِيقُ إلّا بِمِثْلِها. كَما قالَ تَعالى: ﴿الخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ﴾ فَقَطَعُوا قَطْعًا لا يَشُكُّونَ فِيهِ، أنَّ هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ وفِرْيَةٌ ظاهِرَةٌ. فَإنْ قِيلَ: فَما بالُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَوَقَّفَ في أمْرِها وسَألَ عَنْها وبَحَثَ واسْتَشارَ وهو أعْرَفُ بِاللَّهِ وبِمَنزِلَتِهِ عِنْدَهُ فِيما يَلِيقُ بِهِ. وهَلّا قالَ: سُبْحانَكَ هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ، كَما قالَهُ فُضَلاءُ الصَّحابَةِ ؟ (p-٤٤٧٠)فالجَوابُ: أنَّ هَذا مِن تَمامِ الحِكَمِ الباهِرَةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ القِصَّةَ سَبَبًا لَها، وامْتِحانًا وابْتِلاءً لِرَسُولِهِ ﷺ ولِجَمِيعِ الأُمَّةِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. لِيَرْفَعَ بِهَذِهِ القِصَّةِ أقْوامًا ويَضَعَ بِها آخَرِينَ. ويَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وإيمانًا، ولا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إلّا خَسارًا. واقْتَضى تَمامُ الِامْتِحانِ والِابْتِلاءِ أنْ حَبَسَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الوَحْيَ شَهْرًا في شَأْنِها. لا يُوحِي إلَيْهِ في ذَلِكَ بِشَيْءٍ لِيُتِمَّ حِكْمَتَهُ الَّتِي قَدَّرَها وقَضاها، ويَظْهَرَ عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ، ويَزْدادَ المُؤْمِنُونَ الصّادِقُونَ إيمانًا وثَباتًا عَلى العَدْلِ والصِّدْقِ وحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وأهْلِ بَيْتِهِ والصِّدِّيقِينَ مِن عِبادِهِ. ويَزْدادَ المُنافِقُونَ إفْكًا ونِفاقًا. ويَظْهَرَ لِلرَّسُولِ ولِلْمُؤْمِنِينَ سَرائِرُهم، ولِتَتِمَّ العُبُودِيَّةُ المُرادَّةُ مِنَ الصِّدِّيقَةِ وأبِيها. وتَتِمَّ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، ولِتَشْدُدَ الفاقَةُ والرَّغْبَةُ مِنها ومِن أبِيها، والِافْتِقارُ إلى اللَّهِ، والذُّلُّ لَهُ، وحُسْنُ الظَّنِّ بِهِ، والرَّجاءُ لَهُ. ولِيَنْقَطِعَ رَجاؤُها مِنَ المَخْلُوقِينَ، وتَيْأسَ مِن حُصُولِ النُّصْرَةِ والفَرَجِ عَلى يَدِ أحَدٍ مِنَ الخَلْقِ. ولِهَذا وقَّتَ لِهَذا المَقامِ حَقَّهُ، لَمّا قالَ لَها أبُوها: قُومِي إلَيْهِ، وقَدْ أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَراءَتَها، قالَتْ: واللَّهِ ! لا أقُومُ إلَيْهِ ولا أحْمَدُ إلّا اللَّهَ الَّذِي أنْزَلَ بَراءَتِي. وأيْضًا، فَكانَ مِن حِكْمَةِ حَبْسِ الوَحْيِ شَهْرًا، أنَّ القَضِيَّةَ نَضِجَتْ وتَمَخَّضَتْ واسْتَشْرَفَتْ قُلُوبُ المُؤْمِنِينَ أعْظَمَ اسْتِشْرافٍ، إلى ما يُوحِيهِ اللَّهُ إلى رَسُولِهِ فِيها. وتَطَلَّعَتْ إلى ذَلِكَ غايَةَ التَّطَلُّعِ. فَوافى الوَحْيُ أحْوَجَ ما كانَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأهْلُ بَيْتِهِ، والصِّدِّيقُ، وأهْلُهُ وأصْحابُهُ، والمُؤْمِنُونَ. فَوَرَدَ عَلَيْهِمْ وُرُودَ الغَيْثِ عَلى الأرْضِ، أحْوَجَ ما كانَتْ إلَيْهِ. فَوَقَعَ مِنهم أعْظَمَ مَوْقِعٍ وألْطَفَهُ. وسُرُّوا بِهِ أتَمَّ السُّرُورِ، وحَصَلَ لَهم بِهِ غايَةُ الهَناءِ. فَلَوْ أطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلى حَقِيقَةِ الحالِ مِن أوَّلِ وهْلَةٍ، وأنْزَلَ الوَحْيَ عَلى الفَوْرِ بِذَلِكَ، لَفاتَتْ هَذِهِ الحِكَمُ وأضْعافُها، بَلْ أضْعافُ أضْعافِها. وأيْضًا فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أحَبَّ أنْ يُظْهِرَ مَنزِلَةَ رَسُولِهِ وأهْلِ بَيْتِهِ عِنْدَهم، وكَرامَتَهُ عَلَيْهِ. وأنْ يُخْرِجَ رَسُولَهُ عَنْ هَذِهِ القَضِيَّةِ ويَتَوَلّى هو بِنَفْسِهِ الدِّفاعَ والمُنافَحَةَ عَنْهُ، والرَّدَّ عَلى أعْدائِهِ، (p-٤٤٧١)وذَمَّهم وعَيْبَهم بِأمْرٍ لا يَكُونُ لَهُ فِيهِ عَمَلٌ ولا يُنْسَبُ إلَيْهِ، بَلْ يَكُونُ هو وحْدَهُ المُتَوَلِّيَ لِذَلِكَ، الثّائِرَ لِرَسُولِهِ وأهْلِ بَيْتِهِ. وأيْضًا فَإنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ هو المَقْصُودَ بِالأذى. والَّتِي رُمِيَتْ زَوْجَتُهُ فَلَمْ يَكُنْ يَلِيقُ أنْ يَشْهَدَ بِبَراءَتِها. مَعَ عِلْمِهِ، أوْ ظَنِّهِ الظَّنَّ المُقارِبَ لِلْعِلْمِ بِبَراءَتِها، ولَمْ يَظُنَّ بِها سُوءًا قَطُّ، وحاشاهُ وحاشاها. ولِذَلِكَ لَمّا اسْتَعْذَرَ مِن أهْلِ الإفْكِ، قالَ: ««مَن يَعْذُرُنِي في رَجُلٍ بَلَغَنِي أذاهُ في أهْلِي ؟ واللَّهِ ! ما عَلِمْتُ عَلى أهْلِي إلّا خَيْرًا. ولَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا ما عَلِمْتُ عَلَيْهِ إلّا خَيْرًا. وما كانَ يَدْخُلُ عَلى أهْلِي إلّا مَعِي»» فَكانَ عِنْدَهُ مِنَ القَرائِنِ الَّتِي تَشْهَدُ بِبَراءَةِ الصِّدِّيقَةِ أكْثَرَ مِمّا عِنْدَ المُؤْمِنِينَ. لَكِنْ لِكَمالِ صَبْرِهِ وثَباتِهِ ورِفْقِهِ وحُسْنِ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ، وثِقَتِهِ بِهِ، وفّى مَقامَ الصَّبْرِ والثَّباتِ وحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ حَقَّهُ. حَتّى جاءَ الوَحْيُ بِما أقَرَّ عَيْنَهُ وسَرَّ قَلْبَهُ وعَظَّمَ قَدْرَهُ وظَهَرَ لِأُمَّتِهِ احْتِفالُ رَبِّهِ بِهِ واعْتِناؤُهُ بِشَأْنِهِ. ولَمّا جاءَ الوَحْيُ بِبَراءَتِها أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَن صَرَّحَ بِالإفْكِ، فَحُدُّوا ثَمانِينَ ثَمانِينَ. ولَمْ يُحَدَّ الخَبِيثُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، مَعَ أنَّهُ رَأْسُ الإفْكِ. فَقِيلَ: لِأنَّ الحُدُودَ تَخْفِيفٌ عَنْ أهْلِها وكَفّارَةٌ. والخَبِيثُ لَيْسَ أهْلًا لِذَلِكَ. ولَقَدْ وعَدَهُ اللَّهُ بِالعَذابِ العَظِيمِ في الآخِرَةِ، فَيَكْفِيهِ ذَلِكَ عَنِ الحَدِّ. وقِيلَ: بَلْ كانَ يَسْتَوْشِي الحَدِيثَ ويَجْمَعُهُ ويَحْكِيهِ، ويُخْرِجُهُ في قَوالِبَ مَن لا يُنْسَبُ إلَيْهِ وقِيلَ: الحَدُّ لا يَثْبُتُ إلّا بِالإقْرارِ أوْ بَيِّنَةٍ. وهو لَمْ يُقِرَّ بِالقَذْفِ ولا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ أحَدٌ فَإنَّهُ إنَّما كانَ يَذْكُرُ مِن أصْحابِهِ ولَمْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ. ولَمْ يَكُنْ يَذْكُرُهُ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ. وقِيلَ: حَدُّ القَذْفِ حَقُّ الآدَمِيِّ، لا يُسْتَوْفى إلّا بِمُطالَبَتِهِ: وإنْ قِيلَ إنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ فَلا بُدَّ مِن مُطالَبَةِ المَقْذُوفِ وعائِشَةُ لَمْ تُطالِبْ بِهِ ابْنَ أُبَيٍّ. وقِيلَ: بَلْ تَرَكَ حَدَّهُ لِمَصْلَحَةٍ هي أعْظَمُ مِن إقامَتِهِ. كَما تَرَكَ قَتْلَهُ مَعَ ظُهُورِ نِفاقِهِ وتَكَلُّمِهِ بِما يُوجِبُ قَتْلَهُ مِرارًا. وهي تَأْلِيفُ قَوْمِهِ وعَدَمُ تَنْفِيرِهِمْ عَنِ الإسْلامِ. فَإنَّهُ كانَ مُطاعًا فِيهِمْ رَئِيسًا عَلَيْهِمْ. فَلَمْ يُؤْمَن إثارَةُ فِتْنَةٍ في حَدِّهِ، ولَعَلَّهُ تُرِكَ لِهَذِهِ الوُجُوهِ كُلِّها. فَجُلِدَ مِسَطَحُ بْنُ أُثاثَةَ وحَسّانُ بْنُ ثابِتٍ وحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ. وهَؤُلاءِ مِنَ المُؤْمِنِينَ الصّادِقِينَ، تَطْهِيرًا لَهم وتَكْفِيرًا. وتُرِكَ عَدُوُّ اللَّهِ ابْنُ أُبَيٍّ إذًا فَلَيْسَ هو مِن أهْلِ ذاكَ (p-٤٤٧٢)- هَذا ما أفادَهُ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ في (زادِ المَعادِ ") وهو خُلاصَةُ الرِّواياتِ في هَذا البابِ. ثُمَّ قالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: ومَن تَأمَّلَ قَوْلَ الصِّدِّيقَةِ، وقَدْ نَزَلَتْ بَراءَتُها، فَقالَ لَها أبُوها: قُومِي إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَتْ: واللَّهِ ! لا أقُومُ إلَيْهِ ولا أحْمَدُ إلّا اللَّهَ - عَلِمَ مَعْرِفَتَها وقُوَّةَ إيمانِها وتَوْلِيَتَها النِّعْمَةَ لِرَبِّها. وإفْرادَهُ بِالحَمْدِ في ذَلِكَ المَقامِ، وتَجْدِيدَها التَّوْحِيدَ، وقُوَّةَ جَأْشِها وإدْلالِها بِبَراءَةِ ساحَتِها، وأنَّها لَمْ تَفْعَلْ ما يُوجِبُ قِيامَها في مَقامِ الرّاغِبِ في الصُّلْحِ الطّالِبِ لَهُ. ولِثِقَتِها بِمَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَها، قالَتْ ما قالَتْ. إدْلالًا لِلْحَبِيبِ عَلى حَبِيبِهِ، ولا سِيَّما في مِثْلِ هَذا المَقامِ الَّذِي هو أحْسَنُ مَقاماتِ الإدْلالِ، فَوَضَعَتْهُ مَوْضِعَهُ. ولِلَّهِ ! ما كانَ أحَبَّها إلَيْهِ حِينَ قالَتْ: لا أحْمَدُ إلّا اللَّهَ فَإنَّهُ هو الَّذِي أنْزَلَ بَراءَتِي. ولِلَّهِ ! ذَلِكَ الثَّباتُ والرَّزانَةُ مِنها، وهو أحَبُّ شَيْءٍ إلَيْها، ولا صَبْرَ لَها عَنْهُ، وقَدْ تَنَكَّرَ قَلْبُ حَبِيبِها لَها شَهْرًا. ثُمَّ صادَفَتِ الرِّضاءَ مِنهُ والإقْبالَ، فَلَمْ تُبادِرْ إلى القِيامِ إلَيْهِ، والسُّرُورِ بِرِضاهُ وقُرْبِهِ، مَعَ شِدَّةِ مَحَبَّتِها لَهُ. وهَذا غايَةُ الثَّباتِ والقُوَّةِ. انْتَهى. * * * وطُرُقُ حَدِيثِ الإفْكِ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ عائِشَةَ وعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وأُمِّ رُومانَ وابْنِ عَبّاسٍ وأبِي هُرَيْرَةَ وأبِي اليُسْرِ. ورَواهُ مِنَ التّابِعِينَ عَشَرَةٌ كَما في (فَتْحِ البارِي ") وذَلِكَ في المَسانِيدِ والصِّحاحِ والسُّنَنِ وغَيْرِها. ما بَيْنَ مُطَوَّلٍ ومُوجَزٍ. ومِنَ الثّانِي ما أخْرَجَهُ الإمامُ أحْمَدُ عَنْ أُمِّ رُومانَ قالَتْ: «بَيْنا أنا عِنْدَ عائِشَةَ، إذْ دَخَلَتْ عَلَيْها امْرَأةٌ مِنَ الأنْصارِ فَقالَتْ: فَعَلَ اللَّهُ بِابْنِها وفَعَلَ. فَقالَتْ عائِشَةُ: ولِمَ ؟ قالَتْ: إنَّهُ كانَ فِيمَن حَدَّثَ الحَدِيثَ قالَتْ: وأيُّ حَدِيثٍ ؟ قالَتْ كَذا وكَذا. قالَتْ: وقَدْ بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ؟ قالَتْ نَعَمْ، وبَلَغَ أبا بَكْرٍ ؟ قالَتْ: نَعَمْ. فَخَرَّتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مَغْشِيًّا عَلَيْها. فَما أفاقَتْ وإلّا وعَلَيْها حُمّى بِنافِضٍ. قالَتْ: فَقُمْتُ فَدَثَّرْتُها. قالَتْ: فَجاءَ النَّبِيُّ ﷺ قالَ: فَما شَأْنُ هَذِهِ ؟ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ أخَذَتْها حُمّى بِنافِضٍ. قالَ: فَلَعَلَّهُ في حَدِيثٍ تُحُدِّثَ بِهِ ؟ قالَتْ: فاسْتَوَتْ عائِشَةُ قاعِدَةً، فَقالَتْ: واللَّهِ لَئِنْ حَلَفْتُ لَكم لا تُصَدِّقُونِي، (p-٤٤٧٣)ولَئِنْ اعْتَذَرْتُ إلَيْكم لا تَعْذُرُونِي. فَمَثَلِي ومَثَلُكم كَمَثَلِ يَعْقُوبَ وبَنِيهِ حِينَ قالَ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللَّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ﴾ [يوسف: ١٨] قالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وأنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَها. فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ومَعَهُ أبُو بَكْرٍ. فَدَخَلَ فَقالَ: يا عائِشَةُ ! إنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أنْزَلَ عُذْرَكِ. فَقالَتْ: بِحَمْدِ اللَّهِ لا بِحَمْدِكَ. فَقالَ لَها أبُو بَكْرٍ: تَقُولِينَ هَذا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ؟ قالَتْ: نَعَمْ. قالَتْ: وكانَ فِيمَن حَدَّثَ هَذا الحَدِيثَ رَجُلٌ يَعُولُهُ أبُو بَكْرٍ. فَحَلَفَ ألّا يَصِلَهُ. فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنكم والسَّعَةِ﴾ [النور: ٢٢] إلى آخِرِ الآيَةِ. فَقالَ أبُو بَكْرٍ: بَلى، فَوَصَلَهُ» . تَفَرَّدَ بِهِ البُخارِيُّ. المَطْلَبُ الثّانِي: قالَ في (الإكْلِيلِ ") في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ جاءُوا بِالإفْكِ﴾ [النور: ١١] نَزَلَتْ في بَراءَةِ عائِشَةَ مِمّا قُذِفَتْ بِهِ، فاسْتَدَلَّ بِها الفُقَهاءُ عَلى أنَّ قاذِفَها يُقْتَلُ لِتَكْذِيبِهِ لِنَصِّ القُرْآنِ قالَ العُلَماءُ: قَذْفُ عائِشَةَ كُفْرٌ. لِأنَّ اللَّهَ سَبَّحَ نَفْسَهُ عِنْدَ ذِكْرِهِ. فَقالَ: ﴿سُبْحانَكَ هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١٦] كَما سَبَّحَ نَفْسَهُ عِنْدَ ذِكْرِ ما وصَفَهُ بِهِ المُشْرِكُونَ مِنَ الزَّوْجَةِ والوَلَدِ. وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بِأنْفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ [النور: ١٢] تَحْرِيمُ ظَنِّ السُّوءِ، وأنَّهُ لا يُحْكَمُ بِالظَّنِّ. وأنَّ مَن عُرِفَ بِالصَّلاحِ لا يَعْدِلُ بِهِ عَنْهُ لِخَبَرِ مُخْبِرٍ. وأنَّ القاذِفَ مُكَذَّبٌ شَرْعًا، ما لَمْ يَأْتِ بِالشُّهَداءِ. وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ﴾ [النور: ١٩] الآيَةَ، الحَثُّ عَلى سَتْرِ المُؤْمِنِ وعَدَمِ هَتْكِهِ. أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ خالِدِ بْنِ مَعْدانَ، قالَ: مَن حَدَّثَ بِما أبْصَرَتْ عَيْناهُ وسَمِعَتْ أُذُناهُ فَهو مِنَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا، وأخْرَجَ عَنْ عَطاءٍ قالَ: مَن أشاعَ الفاحِشَةَ فَعَلَيْهِ النَّكالُ وإنْ كانَ صادِقًا. (p-٤٤٧٤)وأخْرَجَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي زَكَرِيّا، أنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: هو الرَّجُلُ يُتَكَلَّمُ عِنْدَهُ في الرَّجُلِ، فَيَشْتَهِي ذَلِكَ ولا يُنْكِرُ عَلَيْهِ. وفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنكم والسَّعَةِ﴾ [النور: ٢٢] الآيَةَ. النَّهْيُ عَنِ الحَلِفِ ألّا يَفْعَلَ خَيْرًا، وأنَّ مَن حَلَفَ عَلى يَمِينٍ فَرَأى غَيْرَها خَيْرًا مِنها، يُسْتَحَبُّ لَهُ الحِنْثُ. وفِيهِ الأمْرُ بِالعَفْوِ والصَّفْحِ. واسْتَدَلَّ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ [النور: ٢٣] الآيَةَ، نَزَلَتْ في أزْواجِ النَّبِيِّ ﷺ خاصَّةً، يُقْتَلُ قاذِفُهُنَّ، إذا لَمْ يُذْكَرْ لَهُ تَوْبَةٌ، كَما ذَكَرْتُ في قاذِفِ غَيْرِهِنَّ في أوَّلِ السُّورَةِ انْتَهى. وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّها خاصَّةٌ بِعائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، والصَّحِيحُ أنَّ الآيَةَ عامَّةٌ لِكُلِّ المُؤْمِناتِ، ويَدْخُلُ فِيهِنَّ أُمَّهاتُ المُؤْمِنِينَ دُخُولًا أوَّلِيًّا، لا سِيَّما مَن كانَتْ سَبَبَ نُزُولِها، وهي عائِشَةُ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وقَدْ أجْمَعَ العُلَماءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ قاطِبَةً، عَلى أنَّ مَن سَبَّها بَعْدَ هَذا الَّذِي ذُكِرَ في هَذِهِ الآيَةِ، فَإنَّهُ كافِرٌ لِأنَّهُ مُعانِدٌ لِلْقُرْآنِ. وفي بَقِيَّةِ أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ قَوْلانِ: أصَحُّهُما: أنَّهُنَّ كَهي. واللَّهُ أعْلَمُ. الثّالِثُ: قالَ الإمامُ ابْنُ تَيْمِيَةَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ﴾ الآيَةَ أخْبَرَ تَعالى أنَّ النِّساءَ الخَبِيثاتِ لِلرِّجالِ الخَبِيثِينَ. فَلا تَكُونُ خَبِيثَةٌ لِطَيِّبٍ. فَإنَّهُ خِلافُ الحَصْرِ. وأخْبَرَ أنَّ الطَّيِّبِينَ لِلطَّيِّباتِ فَلا يَكُونُ طَيِّبٌ لِخَبِيثَةٍ، فَإنَّهُ خِلافُ الحَصْرِ. إذْ قَدْ ذَكَرَ أنَّ جَمِيعَ الخَبِيثاتِ لِلْخَبِيثِينَ. فَلا يَبْقى خَبِيثَةٌ لِطَيِّبٍ ولا طَيِّبٌ لِخَبِيثَةٍ. وأخْبَرَ أنَّ جَمِيعَ الطَّيِّباتِ لِلطَّيِّبِينَ. فَلا يَبْقى طَيِّبَةٌ لِخَبِيثٍ. فَجاءَ الحَصْرُ مِنَ الجانِبَيْنِ، مُوافِقًا لِقَوْلِهِ: ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً﴾ [النور: ٣] الآيَةَ. ولِهَذا قالَ مَن قالَ مِنَ السَّلَفِ: ما بَغَتِ امْرَأةُ نَبِيٍّ قَطُّ، فَإنَّ السُّورَةَ نَزَلَ صَدْرُها بِسَبَبِ أهْلِ الإفْكِ. ولِهَذا لَمّا صارَتْ شُبْهَةً، اسْتَشارَ النَّبِيُّ ﷺ (p-٤٤٧٥)فِي طَلاقِها. إذْ لا يَصْلُحُ لَهُ أنْ تَكُونَ امْرَأتُهُ غَيْرَ طَيِّبَةٍ، وقَدْ رُوِيَ أنَّهُ: ««لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ دَيُّوثٌ»» وهو الَّذِي يُقِرُّ السُّوءَ في أهْلِهِ، ولِهَذا كانَتِ الغَيْرَةُ عَلى الزِّنى مِمّا يُحِبُّها اللَّهُ وأمَرَ بِها. حَتّى قالَ النَّبِيُّ ﷺ: ««أتَعْجَبُونَ مِن غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ لَأنا أغْيَرُ مِنهُ، واللَّهُ أغْيَرُ مِنِّي»»، مِن أجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ. ولِهَذا أذِنَ اللَّهُ لِلْقاذِفِ إذا كانَ زَوْجًا، أنْ يُلاعِنَ، لِأجْلِ ما أُمِرَ بِهِ مِنَ الغَيْرَةِ، ولِأنَّها أفْسَدَتْ فِراشَهُ، وإنْ حَبِلَتْ مِنَ الزِّنى، فَعَلَيْهِ اللِّعانُ، لِئَلّا يَلْحَقَ بِهِ مَن لَيْسَ مِنهُ. ومَضَتِ السُّنَّةُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُما، سَواءٌ حَصَلَتِ الفُرْقَةُ بِالتَّلاعُنِ أوْ بِحاكِمٍ أوْ عِنْدَ انْقِضاءِ لِعانِ الزَّوْجِ. لِأنَّ أحَدَهُما مَلْعُونٌ أوْ خَبِيثٌ. فاقْتِرانُهُما يَقْتَضِي مُقارَنَةَ الخَبِيثِ لِلطَّيِّبِ. وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ عِمْرانَ في النّاقَةِ الَّتِي لَعَنَتْها المَرْأةُ، أنَّهُ أمَرَ فَأُخِذَ ما عَلَيْها وأُرْسِلَتْ. وقالَ: ««لا تَصْحَبُنا ناقَةٌ مَلْعُونَةٌ»» . ولَمّا اجْتازَ بِدِيارِ ثَمُودَ قالَ: ««لا تَدْخُلُوا عَلى هَؤُلاءِ المُعَذَّبِينَ إلّا أنْ تَكُونُوا باكِينَ. لِئَلّا يُصِيبَكم ما أصابَهم»» . فَنَهى عَنْ عُبُورِ دِيارِهِمْ إلّا عَلى وجْهِ الخَوْفِ المانِعِ مِنَ العَذابِ. وهَكَذا السُّنَّةُ في مُقارَنَةِ الظّالِمِينَ والزُّناةِ وأهْلِ البِدَعِ والفُجُورِ وسائِرِ المَعاصِي. لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ أنْ يُقارِنَهم ويُخالِطَهم إلّا عَلى وجْهٍ يَسْلَمُ بِهِ مِن عَذابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وأقَلُّ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ مُنْكِرًا لِظُلْمِهِمْ، ماقِتًا لَهم شانِئًا ما هم فِيهِ بِحَسَبِ الإمْكانِ. كَما في قَوْلِهِ: ««مَن رَأى مِنكم مُنْكَرًا لِظُلْمِهِمْ، فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ إلَخْ»» . وقالَ تَعالى: ﴿وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأتَ فِرْعَوْنَ﴾ [التحريم: ١١] الآيَةَ، وكَذَلِكَ ما ذَكَرَهُ عَنْ يُوسُفَ وعَمَلِهِ لِصاحِبِ مِصْرَ لِقَوْمٍ كُفّارٍ. وذَلِكَ أنَّ مُقارَنَةَ الكُفّارِ إنَّما يَفْعَلُها المُؤْمِنُ في مَوْضِعَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ (p-٤٤٧٦)يَكُونَ مُكْرَهًا عَلَيْها. الثّانِي: أنْ يَكُونَ في ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ، راجِحَةٌ عَلى مَفْسَدَةِ المُقارَنَةِ، أوْ أنْ يَكُونَ في تَرْكِها مَفْسَدَةٌ راجِحَةٌ في دِينِهِ فَيَدْفَعُ أعْظَمَ المَفْسَدَيْنِ بِاحْتِمالِ أدْناهُما، وتَحْصُلُ المَصْلَحَةُ الرّاجِحَةُ بِاحْتِمالِ المَفْسَدَةِ المَرْجُوحَةِ. وفي الحَقِيقَةِ: المُكْرَهُ هو مَن يَدْفَعُ الفَسادَ بِاحْتِمالِ أدْناهُما. وهو الأمْرُ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ قالَ تَعالى: ﴿إلا مَن أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ﴾ [النحل: ١٠٦] وقالَ تَعالى: ﴿ولا تُكْرِهُوا فَتَياتِكم عَلى البِغاءِ﴾ [النور: ٣٣] وقالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسِهِمْ﴾ [النساء: ٩٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿غَفُورًا﴾ [النساء: ٩٩] وقالَ: ﴿وما لَكم لا تُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والوِلْدانِ﴾ [النساء: ٧٥] فَقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى النَّهْيِ عَنْ مُناكَحَةِ الزّانِي، والمُناكَحَةُ نَوْعٌ خاصٌّ مِنَ المُصاحَبَةِ. والمُناكَحَةُ في أصْلِ اللُّغَةِ المُجامَعَةُ. فَقُلُوبُهُما تَجْتَمِعُ إذا عُقِدَ النِّكاحُ بَيْنَهُما، ويَصِيرُ بَيْنَهُما مِنَ التَّعاطُفِ ما لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ. حَتّى يُثْبِتَ ذَلِكَ حُرْمَةَ المُصاهَرَةِ في غَيْرِ الرَّبِيبَةِ، بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ في التَّوارُثِ وعِدَّةِ الوَفاةِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وأوْسَطُ ذَلِكَ اجْتِماعُهُما خالِيَيْنِ في مَكانٍ واحِدٍ، وهو المُعاشَرَةُ المُقَرِّرَةُ لِلصَّداقِ، كَما أفْتى بِهِ الخُلَفاءُ. وآخِرُ ذَلِكَ اجْتِماعُ المُباضَعَةِ. وهَذا، وإنِ اجْتَمَعَ بِدُونِ عَقْدِ نِكاحٍ، فَهو اجْتِماعٌ ضَعِيفٌ، بَلِ اجْتِماعُ القُلُوبِ أعْظَمُ مِن مُجَرَّدِ اجْتِماعِ البَدَنَيْنِ بِالسِّفاحِ ودَلَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ﴾ عَلى ذَلِكَ مِن جِهَةِ المَعْنى ومِن جِهَةِ اللَّفْظِ ودَلَّ أيْضًا عَلى النَّهْيِ عَنْ مُقارَنَةِ الفُجّارِ ومُزاوِجَتِهِمْ، كَما دَلَّ عَلى هَذا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ. مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأزْواجَهُمْ﴾ [الصافات: ٢٢] أيْ: نُظَراءَهم وأشْباهَهم. والزَّواجُ أعَمُّ مِنَ النِّكاحِ المَعْرُوفِ. قالَ تَعالى: ﴿أوْ يُزَوِّجُهم ذُكْرانًا وإناثًا﴾ [الشورى: ٥٠] وقالَ: ﴿مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: ٥] وقالَ: ﴿وإذا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ [التكوير: ٧] وقالَ: ﴿ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ﴾ [الذاريات: ٤٩] وقالَ: ﴿وخَلَقْناكم أزْواجًا﴾ [النبإ: ٨] (p-٤٤٧٧). وقالَ: ﴿إنَّ مِن أزْواجِكم وأوْلادِكم عَدُوًّا لَكُمْ﴾ [التغابن: ١٤] وإنْ كانَ في الآيَةِ نَصٌّ في الزَّوْجَةِ الَّتِي هي الصّاحِبَةُ وفي الوَلَدِ مِنها. فَمَعْنى ذَلِكَ: في كُلِّ مُشابِهٍ ومُقارَنٍ في كُلِّ نَوْعٍ وتابِعٍ: ﴿وقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ﴾ [الإسراء: ١١١] ﴿تَبارَكَ الَّذِي نَـزَّلَ الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان: ١] الآيَتَيْنِ. فالمُصاحَبَةُ والمُصاهَرَةُ والمُؤاخاةُ لا تَجُوزُ إلّا مَعَ طاعَةِ اللَّهِ عَلى مُرادِ اللَّهِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ الحَدِيثُ الَّذِي في السُّنَنِ ««لا تُصاحِبْ إلّا مُؤْمِنًا. ولا يَأْكُلْ طَعامَكَ إلّا تَقِيٌّ»» وفِيها ««المَرْءُ عَلى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أحَدُكم مَن يُخالِلْ»» وفي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ ««إذا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكم فَلْيَجْلِدْها الحَدَّ» إلى قَوْلِهِ «ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَبِعْها ولَوْ بِضَفِيرٍ»» والضَّفِيرُ الحَبْلُ وهَذا أمْرٌ بِبَيْعِها ولَوْ بِأدْنى ما يُقابِلُهُ. قالَ أحْمَدُ: إنْ لَمْ يَبِعْها كانَ تارِكًا لِأمْرِ النَّبِيِّ ﷺ . والإماءُ اللّاتِي يَفْعَلْنَ هَذا، يَكُونُ عامَّتُهُنَّ لِلْخِدْمَةِ. فَكَيْفَ بِأمَةِ التَّمَتُّعِ ؟ وإذا وجَبَ إخْراجُ الأمَةِ الزّانِيَةِ عَنْ مِلْكِهِ، فَكَيْفَ بِالزَّوْجَةِ الزّانِيَةِ ؟ والعَبْدُ نَظِيرُ الأمَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ﷺ: «لَعَنَ اللَّهُ مَن آوى مُحْدِثًا» فَهَذا يُوجِبُ لَعْنَةَ كُلِّ مَن آوى مُحْدِثًا. (p-٤٤٧٨)سَواءٌ كانَ إحْداثُهُ بِالزِّنى أوِ السَّرِقَةِ، أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وسَواءٌ كانَ الإيواءُ بِمِلْكِ اليَمِينِ، أوْ نِكاحٍ، أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لِأنَّ أقَلَّ ما فِيهِ تَرْكُ إنْكارِ المُنْكَرِ. والمُؤْمِنُ يَحْتاجُ إلى امْتِحانِ مَن يُرِيدُ أنْ يُصاحِبَهُ ويُقارِنَهُ، بِالنِّكاحِ وغَيْرِهِ. قالَ تَعالى: ﴿إذا جاءَكُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فامْتَحِنُوهُنَّ﴾ [الممتحنة: ١٠] وكَذَلِكَ المَرْأةُ الَّتِي زَنى بِها رَجُلٌ، فَإنَّهُ لا يَتَزَوَّجُها إلّا بَعْدَ التَّوْبَةِ في الأصَحِّ. كَما دَلَّ عَلَيْهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ والآثارُ. لَكِنْ إذا أرادَ أنْ يَمْتَحِنَها. هَلْ هي صَحِيحَةُ التَّوْبَةِ ؟ فَقالَ ابْنُ عُمَرَ: يُراوِدُها. فَإنْ أجابَتْهُ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُها. وإنْ لَمْ تُجِبْهُ فَقَدْ تابَتْ. ونَصَّ عَلَيْهِ أحْمَدُ. وقِيلَ: هَذا فِيهِ طَلَبُ الفاحِشَةِ. وقَدْ تَنْقُضُ التَّوْبَةَ. وقَدْ تَأْمُرُهُ نَفْسُهُ بِتَحْقِيقِ ذَلِكَ. ويُزَيِّنُ لَهُ الشَّيْطانُ، لا سِيَّما إنْ كانَ يُحِبُّها وتُحِبُّهُ، وقَدْ ذاقَتْهُ وذاقَها. ومَن قالَ بِالأوَّلِ قالَ: الأمْرُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ امْتِحانُها، لا يَكُونُ أمْرًا بِما نَهى اللَّهُ عَنْهُ. ويُمْكِنُهُ أنْ لا يَطْلُبَ الفاحِشَةَ بَلْ يُعَرِّضُ. والتَّعْرِيضُ لِلْحاجَةِ جائِزٌ بَلْ واجِبٌ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ. وأمّا نَقْضُها، فَإذا جازَ أنْ تَنْقُضَ لِلتَّوْبَةِ مَعَهُ، جازَ أنْ تَنْقُضَها مَعَ غَيْرِهِ والمَقْصُودُ أنْ تَكُونَ مُمْتَنِعَةً مِمَّنْ يُراوِدُها. وأمّا تَزْيِينُ الشَّيْطانِ لَهُ الفِعْلَ. فَهَذا داخِلٌ في كُلِّ أمْرٍ يَفْعَلُهُ الإنْسانُ مِنَ الخَيْرِ يَجِدُ فِيهِ مِحْنَةً. فَإذا أرادَ المُؤْمِنُ أنْ يُصاحِبَ أحَدًا، وقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ الفُجُورُ، وقِيلَ إنَّهُ تابَ، أوْ كانَ ذَلِكَ مَقُولًا صِدْقًا أوْ كَذِبًا، فَإنَّهُ يَمْتَحِنُهُ بِما يَظْهَرُ بِهِ بِرُّهُ وفُجُورُهُ، وكَذَلِكَ إذا أرادَ أنْ يُوَلِّيَ أحَدًا وِلايَةً، امْتَحَنَهُ، كَما أمَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ غُلامَهُ أنْ يَمْتَحِنَ ابْنَ أبِي مُوسى، لَمّا أعْجَبَهُ سَمْتُهُ. فَقالَ لَهُ: قَدْ عَلِمْتَ مَكانِي عِنْدَ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ. فَكَمْ تُعْطِينِي إذا أشَرْتُ عَلَيْهِ بِوِلايَتِكَ ؟ فَبَذَلَ لَهُ مالًا عَظِيمًا. فَعَلِمَ أنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْوِلايَةِ. وكَذَلِكَ في المُعامَلاتِ. وكَذَلِكَ الصِّبْيانُ والمَمالِيكُ الَّذِينَ عُرِفُوا، أوْ قِيلَ عَنْهُمُ الفُجُورُ، وأرادَ الرَّجُلُ أنْ يَشْتَرِيَهُ فَإنَّهُ يَمْتَحِنُهُ. ومَعْرِفَةُ أحْوالِ النّاسِ تارَةً تَكُونُ بِشَهاداتِ النّاسِ، وتارَةً بِالجَرْحِ والتَّعْدِيلِ، وتارَةً بِالِاخْتِبارِ والِامْتِحانِ. * * * ثُمَّ قالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وكَما عَظَّمَ اللَّهُ الفاحِشَةَ، عَظَّمَ ذِكْرَها بِالباطِلِ - وهو القَذْفُ. فَقالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم (p-٤٤٧٩)ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤] الآيَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ رَمْيَ الرَّجُلِ امْرَأتَهُ وما أمَرَ فِيهِ مِنَ التَّلاعُنِ. ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ أهْلِ الإفْكِ وبَيَّنَ ما في ذَلِكَ مِنَ الخَيْرِ لِلْمَقْذُوفِ، وما فِيهِ مِنَ الإثْمِ لِلْقاذِفِ، وما يَجِبُ عَلى المُؤْمِنِينَ إذا سَمِعُوا ذَلِكَ أنْ يَظُنُّوا بِإخْوانِهِمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ الخَيْرَ، ويَقُولُونَ: هَذا إفْكٌ مُبِينٌ. لِأنَّ دَلِيلَهُ كَذِبٌ ظاهِرٌ. ثُمَّ أخْبَرَ أنَّهُ قَوْلٌ بِلا حُجَّةٍ فَقالَ: ﴿لَوْلا جاءُوا عَلَيْهِ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الكاذِبُونَ﴾ [النور: ١٣] ثُمَّ أخْبَرَ أنَّهُ لَوْلا فَضْلُهُ عَلَيْهِمْ ورَحْمَتُهُ لَعَذَّبَهم بِما تَكَلَّمُوا بِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِألْسِنَتِكم وتَقُولُونَ بِأفْواهِكم ما لَيْسَ لَكم بِهِ عِلْمٌ﴾ [النور: ١٥] فَهَذا بَيانٌ لِسَبَبِ العَذابِ. وهو تَلَقِّي الباطِلِ بِالألْسِنَةِ، والقَوْلُ بِالأفْواهِ. وهُما نَوْعانِ مُحَرَّمانِ: القَوْلُ بِالباطِلِ والقَوْلُ بِلا عِلْمٍ. ثُمَّ قالَ سُبْحانَهُ: ﴿ولَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذا سُبْحانَكَ هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١٦] فالأوَّلُ تَحْضِيضٌ عَلى الظَّنِّ الحَسَنِ، وهَذا نَهْيٌ لَهم عَنِ التَّكَلُّمِ بِالقَذْفِ. فَفي الأوَّلِ قَوْلُهُ: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ﴾ [الحجرات: ١٢] وقَوْلُهُ ﷺ: ««إيّاكم والظَّنَّ فَإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ»» وقَوْلُهُ: ﴿ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بِأنْفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ [النور: ١٢] دَلِيلٌ عَلى حُسْنِ مِثْلِ هَذا الظَّنِّ الَّذِي أمَرَ اللَّهُ بِهِ. وفِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ لِعائِشَةَ: ««ما أظُنُّ فُلانًا وفُلانًا يَعْرِفانِ مِن دِينِنا شَيْئًا»» ؟ فَهَذا يَقْتَضِي جَوازَ بَعْضِ الظَّنِّ، كَما احْتَجَّ البُخارِيُّ بِذَلِكَ، لَكِنَّ مَعَ العِلْمِ بِما عَلَيْهِ المَرْءُ المُسْلِمُ مِنَ الإيمانِ الرّادِعِ لَهُ عَنْ فِعْلِ الفاحِشَةِ، يَجِبُ أنْ يَظُنَّ بِهِ الخَيْرَ دُونَ الشَّرِّ. وفي الآيَةِ نَهْيٌ عَنْ تَلَقِّي مِثْلِ هَذا بِاللِّسانِ، ونَهْيٌ عَنْ قَوْلِ الإنْسانِ ما لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقْفُ (p-٤٤٨٠)ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: ٣٦] واللَّهُ جَعَلَ في فِعْلِ الفاحِشَةِ والقَذْفِ مِنَ العُقُوبَةِ، ما لَمْ يَجْعَلْهُ في شَيْءٍ مِنَ المَعاصِي. لِأنَّهُ جَعَلَ فِيهِ الرَّجْمَ وقَدْ رُجِمَ قَوْمُ لُوطٍ إذْ كانُوا هم أوَّلَ مَن فَعَلَ فاحِشَةَ اللِّواطِ. وجَعَلَ العُقُوبَةَ عَلى القاذِفِ بِها ثَمانِينَ جَلْدَةً، والرَّمْيُ بِغَيْرِها فِيهِ الِاجْتِهادُ. ويَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِ العُلَماءِ أنْ يَبْلُغَ الثَّمانِينَ، كَما قالَ عَلِيٌّ: لا أُوتى بِأحَدٍ يُفَضِّلُنِي عَلى أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ إلّا جَلَدْتُهُ حَدَّ المُفْتَرِي. وكَما قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: إذا شَرِبَ هَذى وإذا هَذى افْتَرى. وحَدُّ الشُّرْبِ ثَمانُونَ، وحَدُّ المُفْتَرِي ثَمانُونَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا لَهم عَذابٌ ألِيمٌ في الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ [النور: ١٩] وهَذا ذَمٌّ لِمَن يُحِبُّ ذَلِكَ. وذَلِكَ يَكُونُ بِاللَّقَبِ فَقَطْ، ويَكُونُ مَعَ ذَلِكَ بِاللِّسانِ والجَوارِحِ. وهو ذَمٌّ لِمَن يَتَكَلَّمُ بِها أوْ يُخْبِرُ بِها. مَحَبَّةً لِوُقُوعِها في المُؤْمِنِينَ، إمّا حَسَدًا أوْ بُغْضًا، أوْ مَحَبَّةً لِلْفاحِشَةِ. فَكُلُّ مَن أحَبَّ فِعْلَها، ذَكَرَها. وكَرِهَ العُلَماءُ الغَزَلَ مِنَ الشِّعْرِ الَّذِي يُرَغِّبُ فِيها. وكَذَلِكَ ذِكْرُها غَيْبَةَ مُحَرَّمٍ، سَواءٌ كانَ بِنَظْمٍ أوْ نَثْرٍ. وكَذَلِكَ التَّشْبِيهُ بِمَن يَفْعَلُها، مَنهِيٌّ عَنْها مِثْلَ الأمْرِ بِها. فَإنَّ الفِعْلَ يُطْلَبُ بِالأمْرِ تارَةً وبِالإخْبارِ تارَةً. فَهَذانِ الأمْرانِ لِلْفَجَرَةِ الزُّناةِ واللُّوطِيَّةِ، مِثْلَ ذِكْرِ قِصَصِ الأنْبِياءِ والصّالِحِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ. أُولَئِكَ يَعْتَبِرُونَ مِنَ الغَيْرَةِ بِهِمْ، وهَؤُلاءِ مِنَ الِاغْتِرارِ يَعْتَبِرُونَ. فَإنَّ أهْلَ الكُفْرِ والفُسُوقِ والعِصْيانِ يَذْكُرُونَ مِن قِصَصِ أشْباهِهِمْ ما يَكُونُ بِهِ لَهم فِيهِ قُدْوَةٌ. ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ﴾ [لقمان: ٦] الآيَةَ. قِيلَ: أرادَ الغِناءَ. وقِيلَ: أرادَ قِصَصَ مُلُوكِ الكُفّارِ. وبِالجُمْلَةِ كُلُّ ما رَغَّبَ النُّفُوسَ في الطّاعَةِ ونَهاها عَنِ المَعْصِيَةِ، فَهو مِنَ الطّاعَةِ. وما رَغَّبَ في المَعْصِيَةِ ونَهى عَنِ الطّاعَةِ، فَهو مِنَ المَعْصِيَةِ، فَأمّا ذِكْرُ الفاحِشَةِ وأهْلِها بِما يَجِبُ أوْ يُسْتَحَبُّ في الشَّرِيعَةِ، مِثْلَ النَّهْيِ عَنْها وعَنْهم، والذَّمُّ لَها ولَهم وذِكْرُ أهْلِها مُطْلَقًا حَيْثُ يُسَوِّغُ ذَلِكَ في وُجُوهِهِمْ ومَغِيبِهِمْ - فَهَذا حَسَنٌ يَجِبُ تارَةً ويُسْتَحَبُّ أُخْرى. كَما قَصَّ اللَّهُ قِصَصَ المُؤْمِنِينَ والفُجّارِ لِيَعْتَبِرُوا بِالأمْرَيْنِ. وقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ (p-٤٤٨١)عَنْ أنْبِيائِهِ وعِبادِهِ الصّالِحِينَ، مِن ذِكْرِ الفاحِشَةِ وعَلائِقِها عَلى وجْهِ الذَّمِّ ما فِيهِ عِبْرَةٌ. فَقالَ تَعالى: ﴿ولُوطًا إذْ قالَ لِقَوْمِهِ أتَأْتُونَ الفاحِشَةَ﴾ [الأعراف: ٨٠] إلَخْ. في مَواضِعَ، وهَذا فِيهِ مِنَ التَّوْبِيخِ ما فِيهِ، ولَيْسَ مِن بابِ القَذْفِ واللَّمْزِ. ثُمَّ تَوَعَّدُوهُ بِإخْراجِهِ مِنَ القَرْيَةِ. وهَذا حالُ أهْلِ الفُجُورِ، إذا كانَ بَيْنَهم مَن يَنْهاهم طَلَبُوا إخْراجَهُ. وقَدْ عاقَبَ اللَّهُ عَلى الفاحِشَةِ اللُّوطِيَّةِ بِما أرادُوا أنْ يَقْصِدُوا بِهِ أهْلَ التَّقْوى. حَيْثُ أمَرَ بِنَفْيِ الزّانِي والمُخَنَّثِ. فَمَضَتِ السُّنَّةُ، بِنَفْيِ هَذا وهَذا. وهو سُبْحانَهُ وتَعالى أخْرَجَ المُتَّقِينَ مِن بَيْنِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ العَذابِ. وكَذَلِكَ ما ذَكَرَهُ تَعالى في قِصَّةِ يُوسُفَ في قَوْلِهِ: ﴿وراوَدَتْهُ الَّتِي هو في بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ﴾ [يوسف: ٢٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إنَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ [يوسف: ٣٤] وما ذَكَرَهُ بَعْدَهُ مِن قَوْلِ يُوسُفَ: ﴿ما بالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ﴾ [يوسف: ٥٠] وهَذا مِن بابِ الِاعْتِبارِ الَّذِي يُوجِبُ النُّفُورَ عَنِ المَعْصِيَةِ والتَّمَسُّكَ بِالتَّقْوى. وكَذَلِكَ ما بَيَّنَهُ في آخِرِها بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَقَدْ كانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الألْبابِ﴾ [يوسف: ١١١] الآيَةَ، ومَعَ هَذا، فَمِنَ النّاسِ مَن يُحِبُّ سَماعَها لِما فِيهِ مَن ذِكْرِ العِشْقِ وما يَتَعَلَّقُ بِهِ، لِمَحَبَّتِهِ لِذَلِكَ ولِرَغْبَتِهِ في الفاحِشَةِ، حَتّى إنَّ مِنهم مَن يُسْمِعُها النِّساءَ لِمَحَبَّتِهِمْ لِلسُّوءِ، ولا يَخْتارُونَ أنْ يَسْمَعُوا ما في سُورَةِ النُّورِ مِنَ العُقُوبَةِ والنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. حَتّى قالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّ ما حَصَّلْتُهُ مِن سُورَةِ يُوسُفَ أنْفَقْتُهُ في سُورَةِ النُّورِ. وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿ونُنَـزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ولا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إلا خَسارًا﴾ [الإسراء: ٨٢] وقالَ: ﴿وإذا ما أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنهم مَن يَقُولُ أيُّكم زادَتْهُ هَذِهِ إيمانًا﴾ [التوبة: ١٢٤] الآياتِ. فَكُلُّ أحَدٍ يُحِبُّ سَماعَ ذَلِكَ لِتَحَرِّيكِ المَحَبَّةِ المَذْمُومَةِ، ويَبْغُضُ سَماعَ ذَلِكَ إعْراضًا عَنْ دَفْعِ هَذِهِ المَحَبَّةِ، فَهو مَذْمُومٌ ومِن هَذا ذِكْرُ أحْوالِ الكُفّارِ والفُجّارِ وغَيْرُ ذَلِكَ مِمّا فِيهِ تَرْغِيبٌ في المَعْصِيَةِ وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ومِنهُ سَماعُ كَلامِ أهْلِ البِدَعِ، والنَّظَرُ (p-٤٤٨٢)فِي كُتُبِهِمْ لِمَن يَضُرُّهُ ذَلِكَ، فَهَذا البابُ تَجْتَمِعُ فِيهِ الشُّبُهاتُ والشَّهَواتُ. واللَّهُ تَعالى ذَمَّ هَؤُلاءِ في مِثْلِ قَوْلِهِ:﴿يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: ١١٢] وقَوْلِهِ: ﴿والشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٤] وقَوْلِهِ: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكم عَلى مَن تَنَـزَّلُ الشَّياطِينُ﴾ [الشعراء: ٢٢١] وما بَعْدَها، وقَوْلِهِ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ﴾ [لقمان: ٦] وقَوْلِهِ: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرًا تَهْجُرُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٧] وقَوْلِهِ: ﴿وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا﴾ [الأعراف: ١٤٦] وقَوْلِهِ: ﴿وإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَن في الأرْضِ﴾ [الأنعام: ١١٦] ومِثْلُ هَذا في القُرْآنِ كَثِيرٌ، فَأهْلُ المَعاصِي كَثِيرٌ في العالَمِ، بَلْ هم أكْثَرُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَن في الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ١١٦] الآيَةَ، وفي النُّفُوسِ مِنَ الشُّبُهاتِ المَذْمُومَةِ والشَّهَواتِ قَوْلًا وعَمَلًا ما يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ، وأهْلُها يَدْعُونَ النّاسَ إلَيْها ويَقْهَرُونَ مَن يَعْصِيهِمْ، ويُزَيِّنُونَها لِمَن يُطِيعُهم. فَهم أعْداءُ الرُّسُلِ وأنْدادُهم. فالرُّسُلُ يَدْعُونَ إلى الطّاعَةِ بِالرَّغْبَةِ والرَّهْبَةِ. ويُجاهِدُونَهم عَلَيْها. ويَنْهَوْنَ عَنِ المَعاصِي ويُحَذِّرُونَ مِنها بِالرَّغْبَةِ والرَّهْبَةِ. ويُجاهِدُونَ مَن يَفْعَلُها. قالَ تَعالى: ﴿المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ بَعْضُهم مِن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنْكَرِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ﴾ [التوبة: ٦٧] الآيَةَ، ثُمَّ قالَ: ﴿والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ [التوبة: ٧١] الآيَةَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ الطّاغُوتِ﴾ [النساء: ٧٦] ومِثْلُ هَذا في القُرْآنِ كَثِيرٌ واللَّهُ سُبْحانَهُ قَدْ أمَرَنا بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ. والأمْرُ بِالشَّيْءِ مَسْبُوقٌ بِمَعْرِفَتِهِ، فَمَن لا يَعْلَمُ المَعْرُوفَ لا يُمْكِنُهُ الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ. والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ مَسْبُوقٌ بِمَعْرِفَتِهِ، فَمَن لا يَعْلَمُهُ لا يُمْكِنُهُ النَّهْيُ عَنْهُ. * * * وقَدْ أوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنا فِعْلَ المَعْرُوفِ وتَرْكَ المُنْكَرِ. فَإنَّ حُبَّ الشَّيْءِ وفِعْلَهُ، وبُغْضَ ذَلِكَ وتَرْكَهُ (p-٤٤٨٣)لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ العِلْمِ بِهِما، حَتّى يَصِحَّ القَصْدُ إلى فِعْلِ المَعْرُوفِ وتَرْكِ المُنْكَرِ. فَإنَّ ذَلِكَ مَسْبُوقٌ بِعِلْمِهِ، فَمَن لَمْ يَعْلَمِ الشَّيْءَ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنهُ حُبٌّ لَهُ ولا بُغْضٌ، ولا فِعْلٌ ولا تَرْكٌ. لَكِنَّ فِعْلَ الشَّيْءِ والأمْرَ بِهِ يَقْتَضِي أنْ يَعْلَمَهُ عِلْمًا مُفَصَّلًا يُمْكِنُ مَعَهُ فِعْلُهُ والأمْرُ بِهِ إذا أُمِرَ بِهِ مُفَصَّلًا. ولِهَذا أوْجَبَ اللَّهُ عَلى الإنْسانِ مَعْرِفَةَ ما أُمِرَ بِهِ مِنَ الواجِباتِ مِثْلَ صِفَةِ الصَّلاةِ والصِّيامِ والحَجِّ والجِهادِ والأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ. فَإذا أُمِرَ بِأوْصافٍ فَلا بُدَّ مِنَ العِلْمِ بِثُبُوَتِها. فَكَما أنّا لا نَكُونُ مُطِيعِينَ إذا عَلِمْنا عَدَمَ الطّاعَةِ، فَلا نَكُونُ مُطِيعِينَ إذا لَمْ نَعْلَمْ وُجُودَها. بَلِ الجَهْلُ بِوُجُودِها كالعِلْمِ بِعَدَمِها. وكُلٌّ مِنهُما مَعْصِيَةٌ. فَإنَّ الجَهْلَ بِالتَّساوِي كالعِلْمِ بِالتَّفاضُلِ في بَيْعِ الأمْوالِ الرِّبَوِيَّةِ. وأمّا مَعْرِفَةُ ما يَتْرُكُهُ ويَنْهى عَنْهُ فَقَدْ يَكْتَفِي بِمَعْرِفَتِهِ في بَعْضِ المَواضِعِ مُجْمَلًا. فَإنَّ الإنْسانَ يَحْتاجُ إلى مَعْرِفَةِ المُنْكَرِ وإنْكارِهِ. وقَدْ يَحْتاجُ إلى الحُجَجِ المُبَيِّنَةِ لِذَلِكَ. وإلى الجَوابِ عَمّا يُعارِضُ بِهِ أصْحابَها، وإلى دَفْعِ أهْوائِهِمْ. وذَلِكَ يَحْتاجُ إلى إرادَةٍ جازِمَةٍ وقُدْرَةٍ عَلى ذَلِكَ. ولا يَكُونُ ذَلِكَ إلّا بِالصَّبْرِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿والعَصْرِ﴾ [العصر: ١] ﴿إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ﴾ [العصر: ٢] ﴿إلا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وتَواصَوْا بِالحَقِّ وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ٣] وأوَّلُ ذَلِكَ أنْ تُذْكَرَ الأقْوالُ والأفْعالُ عَلى وجْهِ الذَّمِّ لَها والنَّهْيِ عَنْها. وبَيانُ ما فِيها مِنَ الفَسادِ. فَإنَّ الإنْكارَ بِالقَلْبِ واللِّسانِ، قَبْلَ الإنْكارِ بِاليَدِ، وهَذِهِ طَرِيقَةُ القُرْآنِ فِيما يَذْكُرُهُ تَعالى عَنِ الكُفّارِ والعُصاةِ، كَما أنَّ فِيما يَذْكُرُهُ أهْلُ العِلْمِ والإيمانِ عَلى وجْهِ المَدْحِ والحُبِّ وبَيانِ مَنفَعَتِهِ والتَّرْغِيبِ فِيهِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَدًا﴾ [مريم: ٨٨] ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا﴾ [مريم: ٨٩] الآياتِ. وهَذا كَثِيرٌ جِدًّا. فالَّذِي يُحِبُّ أقْوالَهم وأفْعالَهم هو مِنهم. إمّا كافِرٌ إمّا فاجِرٌ. ولَيْسَ مِنهم مَن هو بِعَكْسِهِ. ولَكِنْ لا يُثابُ عَلى مُجَرَّدِ عَدَمِ ذَلِكَ. وإنَّما يُثابُ عَلى قَصْدِهِ لِتَرْكِ ذَلِكَ وإرادَتِهِ، وذَلِكَ مَسْبُوقٌ بِالعِلْمِ بِقُبْحِ ذَلِكَ وبُغْضِهِ لِلَّهِ. وهَذا العِلْمُ والقَصْدُ والبُغْضُ هو مِنَ الإيمانِ الَّذِي يُثابُ عَلَيْهِ، وهو أدْنى الإيمانِ، كَما قالَ ﷺ: «مَن رَأى مِنكم مُنْكَرًا» إلى قَوْلِهِ: (p-٤٤٨٤)«وذَلِكَ أضْعَفُ الإيمانِ» وتَغْيِيرُ القَلْبِ يَكُونُ بِالبُغْضِ لِذَلِكَ وكَراهَتِهِ، وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ العِلْمِ بِهِ وبِقُبْحِهِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الإنْكارُ بِاللِّسانِ ثُمَّ يَكُونُ بِاليَدِ. والنَّبِيُّ ﷺ قالَ: ««وذَلِكَ أضْعَفُ الإيمانِ»» فِيمَن رَأى المُنْكَرَ. فَأمّا إذا رَآهُ ولَمْ يَعْلَمْ أنَّهُ مُنْكَرٌ. ولَمْ يَكْرَهْهُ، لَمْ يَكُنْ هَذا الإيمانُ مَوْجُودًا في القَلْبِ في حالِ وُجُودِهِ ورُؤْيَتِهِ، بِحَيْثُ يَجِبُ بُغْضُهُ وكَراهَتُهُ، والعِلْمُ بِقُبْحِهِ يُوجِبُ جِهادَ الكُفّارِ والمُنافِقِينَ إذا وُجِدُوا. وإذا لَمْ يَكُنِ المُنْكَرُ مَوْجُودًا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ ويُثابُ مَن أنْكَرَهُ عِنْدَ وُجُودِهِ، ولا يُثابُ مَن لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ حَتّى يُنْكِرَهُ وكَذَلِكَ ما يَدْخُلُ في ذَلِكَ مِنَ الأقْوالِ والأفْعالِ والمُنْكَراتِ، قَدْ يُعْرِضُ عَنْها كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ، إعْراضَهم عَنْ جِهادِ الكُفّارِ والمُنافِقِينَ. وعَنِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ. فَهَؤُلاءِ وإنْ كانُوا مِنَ المُهاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا السَّيِّئاتِ، فَلَيْسُوا مِنَ المُجاهِدِينَ الَّذِينَ يُجاهِدُونَ في إزالَتِها. حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، فَتَدَبَّرْ هَذا فَإنَّهُ كَثِيرًا ما يَجْتَمِعُ في كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ هَذانِ الأمْرانِ: بُغْضُ الكُفْرِ وأهْلِهِ، وبُغْضُ الفُجُورِ وأهْلِهِ، وبُغْضُ نَهْيِهِمْ وجِهادِهِمْ، كَما يُحِبُّ المَعْرُوفَ وأهْلَهُ، ولا يُحِبُّ أنْ يَأْمُرَ بِهِ، ولا يُجاهِدَ عَلَيْهِ بِالنَّفْسِ والمالِ. وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وجاهَدُوا بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ﴾ [الحجرات: ١٥] وقالَ تَعالى: ﴿قُلْ إنْ كانَ آباؤُكم وأبْناؤُكم وإخْوانُكم وأزْواجُكم وعَشِيرَتُكم وأمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكم مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهادٍ في سَبِيلِهِ﴾ [التوبة: ٢٤] الآيَةَ. قالَ: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهم أوْ أبْناءَهم أوْ إخْوانَهم أوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة: ٢٢] وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ، بَلْ أكْثَرُهم، كَراهَتُهم لِلْجِهادِ عَلى المُنْكَراتِ أعْظَمُ مِن كَراهَتِهِمْ لِلْمُنْكَراتِ، ولا سِيَّما إذا كَثُرَتِ المُنْكَراتُ وقَوِيَتْ فِيها الشُّبُهاتُ والشَّهَواتُ. فَرُبَّما مالُوا إلَيْها تارَةً وعَنْها أُخْرى. فَتَكُونُ نَفْسُ أحَدِهِمْ لَوّامَةً بَعْدَ أنْ كانَتْ أمّارَةً. (p-٤٤٨٥) ثُمَّ إذا ارْتَقى إلى الحالِ الأعْلى في هَجْرِ السَّيِّئاتِ، وصارَتْ نَفْسُهُ مُطَمْئِنَةً، تارِكًا لِلْمُنْكَراتِ والمَكْرُوهاتِ، لا تُحِبُّ الجِهادَ ومُصابَرَةَ العَدُوِّ عَلى ذَلِكَ، واحْتِمالِ ما يُؤْذِيهِ مِنَ الأقْوالِ والأفْعالِ فَإنَّ هَذا شَيْءٌ آخَرُ داخِلٌ في قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ قِيلَ لَهم كُفُّوا أيْدِيَكُمْ﴾ [النساء: ٧٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ [النساء: ٨٥] والشَّفاعَةُ: الإعانَةُ. إذِ المُعِينُ قَدْ صارَ شَفِيعًا لِلْمُعانِ. فَكُلُّ مَن أعانَ عَلى بِرٍّ أوْ تَقْوى كانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنهُ. ومَن أعانَ عَلى الإثْمِ والعُدْوانِ كانَ لَهُ كِفْلٌ مِنهُ. وهَذا حالُ النّاسِ فِيما يَفْعَلُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ وألْسِنَتِهِمْ وأيْدِيهِمْ، مِنَ الإعانَةِ عَلى البِرِّ والتَّقْوى والإعانَةِ عَلى الإثْمِ والعُدْوانِ، ومِن ذَلِكَ الجِهادُ بِالنَّفْسِ والمالِ عَلى ذَلِكَ مِنَ الجانِبَيْنِ. كَما قالَ تَعالى قَبْلَ ذَلِكَ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: ٧١] إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: ٧٦] ومِن ها هُنا يَظْهَرُ الفَرْقُ في السَّمْعِ والبَصَرِ مِنَ الإيمانِ وآثارِهِ والكُفْرِ وآثارِهِ. والفَرْقُ بَيْنَ المُؤْمِنِ وبَيْنَ الكافِرِ الفاجِرِ. فَإنَّ المُؤْمِنِينَ يَسْمَعُونَ إقْبالَ أهْلِ الإيمانِ فَيَشْهَدُونَ رُؤْيَتَهم عَلى وجْهِ العِلْمِ والمَعْرِفَةِ والمَحَبَّةِ والتَّعْظِيمِ لَهم ولِأخْبارِهِمْ وآثارِهِمْ، كَرُؤْيَةِ الصَّحابَةِ النَّبِيَّ ﷺ وسَمِعِهِمْ لِما بَلَّغَهم عَنِ اللَّهِ. والكافِرُ والمُنافِقُ يَسْمَعُ ويَرى عَلى وجْهِ البُغْضِ والجَهْلِ كَما قالَ تَعالى: ﴿وإنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأبْصارِهِمْ لَمّا سَمِعُوا الذِّكْرَ﴾ [القلم: ٥١] الآيَةَ. وقالَ: ﴿فَإذا أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيها القِتالُ رَأيْتَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ﴾ [محمد: ٢٠] وقالَ: ﴿ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وما كانُوا يُبْصِرُونَ﴾ [هود: ٢٠] وقالَ: ﴿فَعَمُوا وصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وصَمُّوا كَثِيرٌ مِنهُمْ﴾ [المائدة: ٧١] وقالَ تَعالى في حَقِّ المُؤْمِنِينَ: ﴿والَّذِينَ إذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا (p-٤٤٨٦)عَلَيْها صُمًّا وعُمْيانًا﴾ [الفرقان: ٧٣] وقالَ في حَقِّ الكُفّارِ: ﴿فَما لَهم عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩] والآياتُ في هَذا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وكَذَلِكَ النَّظَرُ إلى زِينَةِ الدُّنْيا فِتْنَةٌ. قالَ تَعالى: ﴿ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنا بِهِ أزْواجًا مِنهم زَهْرَةَ الحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهم فِيهِ﴾ [طه: ١٣١] وفي آخِرِ الحِجْرِ. وقَوْلُهُ: ﴿فَلا تُعْجِبْكَ أمْوالُهم ولا أوْلادُهُمْ﴾ [التوبة: ٥٥] وقالَ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِن أبْصارِهِمْ﴾ [النور: ٣٠] الآيَةَ، وقالَ: ﴿ولا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهم تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [الكهف: ٢٨] الآيَةَ، وقالَ: ﴿أفَلا يَنْظُرُونَ إلى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية: ١٧] الآياتِ، وقالَ: ﴿قُلِ انْظُرُوا ماذا في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [يونس: ١٠١] الآيَةَ، وقالَ: ﴿أفَلَمْ يَرَوْا إلى ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ﴾ [سبإ: ٩] الآيَةَ. وكَذَلِكَ قالَ الشَّيْطانُ: ﴿إنِّي أرى ما لا تَرَوْنَ﴾ [الأنفال: ٤٨] وقالَ: ﴿فَلَمّا تَراءى الجَمْعانِ﴾ [الشعراء: ٦١] الآياتِ. وقالَ: ﴿إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ في مَنامِكَ قَلِيلا﴾ [الأنفال: ٤٣] الآياتِ. فالنَّظَرُ إلى مَتاعِ الدُّنْيا عَلى وجْهِ المَحَبَّةِ والتَّعْظِيمِ لَها ولِأهْلِها، مَنهِيٌّ عَنْهُ. والنَّظَرُ إلى المَخْلُوقاتِ العُلْوِيَّةِ والسُّفْلِيَّةِ عَلى وجْهِ الِاعْتِبارِ مَأْمُورٌ بِهِ. وأمّا رُؤْيَةُ ذَلِكَ عِنْدَ الجِهادِ والأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ لِدَفْعٍ شَرِّ أُولَئِكَ، فَمَأْمُورٌ بِهِ. وكَذَلِكَ رُؤْيَةُ الِاعْتِبارِ شَرْعًا في الجُمْلَةِ. فالعَيْنُ الواحِدَةُ يُنْظَرُ إلَيْها تارَةً نَظَرًا مَأْمُورًا بِهِ. إمّا لِلِاعْتِبارِ وإمّا لِبُغْضِ ذَلِكَ. والنَّظَرُ إلَيْهِ لِبُغْضِ الجِهادِ مَنهِيٌّ عَنْهُ. وكَذَلِكَ المُوَلّاةُ والمُعاداةُ. وقَدْ يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ فِتْنَةٌ بِنَظَرِ مَنهِيٍّ عَنْهُ، وهو يَظُنُّ أنَّهُ نَظْرَةُ عِبْرَةٍ. وقَدْ يُؤْمَرُ بِالجِهادِ فَيَظُنُّ أنَّ ذَلِكَ نَظَرُ فِتْنَةٍ، كالَّذِينِ قالَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿ومِنهم مَن يَقُولُ ائْذَنْ لِي ولا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: ٤٩] فَإنَّها نَزَلَتْ في الجَدِّ بْنِ قَيْسٍ لَمّا أمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ أنْ يَتَجَهَّزَ لِغَزْوِ الرُّومِ فَقالَ: إنِّي مُغْرَمٌ بِالنِّساءِ وأخافُ الفِتْنَةَ بِنِساءِ الرُّومِ. فَهَذا ونَحْوُهُ مِمّا يَكُونُ بِاللِّسانِ مِنَ القَوْلِ. وأمّا (p-٤٤٨٧)ما يَكُونُ مِنَ الفِعْلِ بِالجَوارِحِ، فَكُلُّ عَمَلٍ يَتَضَمَّنُ مَحَبَّةَ أنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا، داخِلٌ في هَذا. بَلْ يَكُونُ عَذابُهُ أشَدَّ. فَإنَّ اللَّهَ قَدْ تَوَعَّدَ بِالعَذابِ عَلى مُجَرَّدِ المَحَبَّةِ. وهَذِهِ قَدْ لا يَقْتَرِنُ بِها قَوْلٌ ولا فِعْلٌ. فَكَيْفَ إذا اقْتَرَنَ ؟ بَلْ عَلى الإنْسانِ أنْ يَبْغَضَ ما أبْغَضَهُ اللَّهُ تَعالى مِن فِعْلِ الفاحِشَةِ والقَذْفِ بِها وإشاعَتِها في الَّذِينَ آمَنُوا. ومَن رَضِيَ عَمَلَ قَوْمٍ حُشِرَ مَعَهم. كَما حُشِرَتِ امْرَأةُ لُوطٍ مَعَهم. ولَمْ تَكُنْ تَفْعَلُ فاحِشَةَ اللِّواطِ. فَإنَّهُ لا يَقَعُ مِنَ المَرْأةِ. ولَكِنْ لَمّا رَضِيَتْ فِعْلَهم، عَمَّها مَعَهُمُ العَذابُ. فَمِن هَذا البابِ قِيلَ: مَن أعانَ عَلى الفاحِشَةِ وإشاعَتِها، مِثْلَ القَوّادِ. لِما يَحْصُلُ لَهُ مِن رِياسَةٍ أوْ سُؤْدُدٍ أوْ سُحْتٍ يَأْكُلُهُ. وكَذَلِكَ أهْلُ الصِّناعاتِ الَّتِي تُنْفِقُ، مِثْلَ المُغَنِّينَ وشَرَبَةِ الخَمْرِ وضَمانِ الجِهاتِ السُّلْطانِيَّةِ وغَيْرِها، فَإنَّهم يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا. فَإنَّها إذا شاعَتْ تَمَكَّنُوا مِن أغْراضِهِمْ مِنَ الرِّياسَةِ والمالِ وفِعْلِ الفاحِشَةِ وتَمَكَّنُوا مِن دَفْعِ مَن يُنْكِرُها، بِخِلافِ ما إذا كانَتْ قَلِيلَةً. ولا خِلافَ بَيْنِ المُسْلِمِينَ أنَّ ما يَدْعُوا إلى مَعْصِيَةِ اللَّهِ ويَنْهى عَنْ طاعَتِهِ، مَنهِيٌّ عَنْهُ مُحَرَّمٌ. كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ ولَذِكْرُ اللَّهِ أكْبَرُ﴾ [العنكبوت: ٤٥] أيْ: ما فِيها مِن ذِكْرِ اللَّهِ وطاعَتِهِ وامْتِثالِ أمْرِهِ أكْبَرُ مِن ذَلِكَ. وقالَ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ: ﴿ويَصُدَّكم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ﴾ [المائدة: ٩١] أيْ: يُوقِعُكم ذَلِكَ في مَعْصِيَتِهِ الَّتِي هي العَداوَةُ والبَغْضاءُ، وهَذا مِن أعْظَمِ المُنْكَراتِ الَّتِي تَنْهى عَنْهُ الصَّلاةُ، والخَمْرُ تَدْعُو إلى الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ، كَما هو الواقِعُ. فَإنَّ شارِبَ الخَمْرِ تَدْعُوهُ نَفْسُهُ إلى الجِماعِ حَلالًا كانَ أوْ حَرامًا. فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لَمْ يَذْكُرِ الجِماعَ، لِأنَّ الخَمْرَ لا يَدْعُو إلى الحَرامِ بِعَيْنِهِ مِنَ الجِماعِ. والسُّكْرُ يُزِيلُ العَقْلَ الَّذِي يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الحَلالِ والحَرامِ. والعَقْلُ الصَّحِيحُ يَنْهى عَنْ مُواقَعَةِ الحَرامِ. ولِهَذا يُكْثِرُ شارِبُ الخَمْرِ مِن مُواقَعَةِ الفَواحِشِ. ما لا يُكْثِرُ مِن غَيْرِها، حَتّى رُبَّما يَقَعُ عَلى ابْنَتِهِ وابْنِهِ ومَحارِمِهِ. وقَدْ يَسْتَغْنِي بِالحَلالِ إذا أمْكَنَهُ. ويَدْعُو شُرْبُ الخَمْرِ (p-٤٤٨٨)إلى أكْلِ أمْوالِ النّاسِ بِالسَّرِقَةِ والمُحارَبَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ. لِأنَّهُ يَحْتاجُ إلى الخَمْرِ وما يَسْتَتْبِعُهُ مِن مَأْكُولٍ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن فَواحِشَ وغِناءٍ. وشُرْبُ الخَمْرِ يُظْهِرُ أسْرارَ الرِّجالِ، حَتّى يَتَكَلَّمَ شارِبُهُ بِما في باطِنِهِ وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ إذا أرادُوا اسْتِفْهامَ ما في قُلُوبِ الرِّجالِ مِنَ الأسْرارِ، سَقَوْهُمُ الخَمْرَ، ورُبَّما يَشْرَبُونَ مَعَهم ما لا يَسْكَرُونَ بِهِ. وأيْضًا فالخَمْرُ تَصُدُّ الإنْسانَ عَنْ عِلْمِهِ وتَدْبِيرِهِ. فَجَمِيعُ الأُمُورِ الَّتِي تَصُدُّ عَنْها وتُوقِعُها مِنَ المَفاسِدِ داخِلٌ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَصُدَّكم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ﴾ [المائدة: ٩١] وكَذَلِكَ إيقاعُ العَداوَةِ والبَغْضاءِ هو مُنْتَهى قَصْدِ الشَّيْطانِ ولِهَذا قالَ النَّبِيُّ ﷺ: ««ألا أُنَبِّئُكم بِأفْضَلَ مِن دَرَجَةِ الصَّلاةِ والصِّيامِ والصَّدَقَةِ والأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ» قالُوا بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ؛ قالَ: «إصْلاحُ ذاتِ البَيْنِ. فَإنَّ فَسادَ ذاتِ البَيْنِ هي الحالِقَةُ. لا أقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ ولَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ»» وقَدْ ذَكَرْنا في غَيْرِ هَذا أنَّ الفَواحِشَ والظُّلْمَ وغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ يُوقِعُ العَداوَةَ والبَغْضاءَ وأنَّ كُلَّ عَداوَةٍ أوْ بَغْضاءَ فَأصْلُها مِنَ المَعْصِيَةِ والشَّيْطانُ يَأْمُرُ بِالمَعْصِيَةِ لِيُوقِعَ فِيما هو أعْظَمُ مِنها ولا يَرْضى إلّا بِغايَةِ ما قَدَرَ عَلى ذَلِكَ. وأيْضًا فالعَداوَةُ والبَغْضاءُ شَرٌّ مَحْضٌ، لا يُحِبُّهُما عاقِلٌ. بِخِلافِ المَعاصِي فَإنَّ فِيها لَذَّةً. والنُّفُوسُ تُرِيدُها، والشَّيْطانُ يَدْعُو إلَيْها، لِيُوقِعَها في شَرٍّ لا تَهْواهُ. واللَّهُ سُبْحانَهُ قَدْ بَيَّنَ ما يُرِيدُ الشَّيْطانُ بِالخَمْرِ والمَيْسِرِ، ولَمْ يَذْكُرْ ما يُرِيدُهُ الإنْسانُ. ثُمَّ قالَ في سُورَةِ النُّورِ: ﴿لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ومَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ والمُنْكَرِ﴾ [النور: ٢١] وكَذَلِكَ في البَقَرَةِ نَهى عَنِ اتِّباعِ خُطُواتِهِ، وهو اتِّباعُ أمْرِهِ بِالِاقْتِداءِ والِاتِّباعِ. وأخْبَرَ أنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والسُّوءِ والقَوْلِ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ. وقالَ فِيها: ﴿الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكم بِالفَحْشاءِ﴾ [البقرة: ٢٦٨] فَذَكَرَ أنَّ الشَّيْطانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ وبَعْدَ هَذا: ﴿واللَّهُ يَعِدُكم مَغْفِرَةً مِنهُ وفَضْلا﴾ [البقرة: ٢٦٨] وقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ (p-٤٤٨٩)والإحْسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبى ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ﴾ [النحل: ٩٠] وقالَ عَنْ نَبِيِّهِ: ﴿يَأْمُرُهم بِالمَعْرُوفِ ويَنْهاهم عَنِ المُنْكَرِ﴾ [الأعراف: ١٥٧] الآيَةَ، وقالَ عَنْ أُمَّتِهِ: ﴿ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٤] ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ فَتارَةً يَخُصُّ اسْمَ المُنْكَرِ بِالنَّهْيِ، وتارَةً يَقْرِنُهُ بِالفَحْشاءِ، وتارَةً يَقْرِنُ مَعَهُما البَغْيَ. وكَذَلِكَ المَعْرُوفُ، تارَةً يَخُصُّهُ بِالأمْرِ، وتارَةً يَقْرِنُ بِهِ غَيْرَهُ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِن نَجْواهم إلا مَن أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ﴾ [النساء: ١١٤] الآيَةَ، وذَلِكَ أنَّ الأسْماءَ قَدْ يَكُونُ عُمُومُها وخُصُوصُها بِحَسَبِ الإفْرادِ والتَّرْكِيبِ. كَلَفْظِ (الفَقِيرِ والمِسْكِينِ ) . إذا عُرِفَ هَذا فاسْمُ المُنْكَرِ يَعُمُّ كُلَّ ما كَرِهَهُ اللَّهُ ونَهى عَنْهُ. واسْمُ المَعْرُوفِ يَعُمُّ كُلَّ ما يُحِبُّهُ اللَّهُ ويَرْضاهُ. وإذا قُرِنَ المُنْكَرُ بِالفَحْشاءِ، فالفَحْشاءُ مَبْناها عَلى المَحَبَّةِ. والمُنْكَرُ هو الَّذِي تُنْكِرُهُ القُلُوبُ. فَقَدْ يُظَنُّ أنَّ ما في الفاحِشَةِ مِنَ المَحَبَّةِ يُخْرِجُها عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ. فَإنَّ الفاحِشَةَ وإنْ كانَتْ مِمّا تُنْكِرُهُ القُلُوبُ فَإنَّها تَشْتَهِيها النُّفُوسُ. وكَذَلِكَ البَغْيُ، قُرِنَ بِها لِأنَّهُ أبْعَدُ عَنْ مَحَبَّةِ النُّفُوسِ. ولِهَذا كانَ جِنْسُ عَذابِ صاحِبِهِ أعْظَمَ مِن جِنْسِ عَذابِ صاحِبِ الفَحْشاءِ. ومَنشَؤُهُ مِن قُوَّةِ الغَضَبِ. ولِكُلٍّ مِنَ النُّفُوسِ لَذَّةٌ بِحُصُولِ مَطْلُوبِها. فالفَواحِشُ والبَغْيُ مَقْرُونانِ بِالمُنْكَرِ. وأمّا الإشْراكُ والقَوْلُ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ، فَإنَّهُ مُنْكَرٌ مَحْضٌ. لَيْسَ في النُّفُوسِ مَيْلٌ إلَيْهِما. بَلْ إنَّما يَكُونانِ عَنْ عِنادٍ وظُلْمٍ. فَهُما مُنْكَرٌ مَحْضٌ بِالفِطْرَةِ: ﴿ومَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ والمُنْكَرِ﴾ [النور: ٢١] سَواءٌ كانَ الضَّمِيرُ عائِدًا إلى الشَّيْطانِ أوْ إلى المُتَّبِعِ. فَإنَّ مَن أتى ذَلِكَ، فَإنْ كانَ الشَّيْطانُ أمَرَهُ فَهو مُتَّبِعُهُ عابِدٌ لَهُ. وإنْ كانَ الآتِي هو الآمِرُ. فالأمْرُ بِالفِعْلِ أبْلَغُ مِن فِعْلِهِ. فَمَن أمَرَ بِها غَيْرَهُ رَضِيَها لِنَفْسِهِ. * * * ومِنَ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ اسْتِماعُ العَبْدِ مَزامِيرَ الشَّيْطانِ. والمُغَنِّي هو مُؤَذِّنُهُ الَّذِي يَدْعُو إلى طاعَتِهِ فَإنَّ الغِناءَ رُقْيَةُ الزِّنى. وكَذَلِكَ مِنَ اتِّباعِ خُطُواتِ الشَّيْطانِ، القَوْلُ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ. كَحالِ أهْلِ (p-٤٤٩٠)البِدَعِ والفُجُورِ وكَثِيرٍ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ مُؤاخاةَ النِّساءِ والمُرْدِ وإحْضارَهم في سَماعِ الغِناءِ ودَعْوى مَحَبَّةِ صُوَرِهِمْ لِلَّهِ وغَيْرِ ذَلِكَ، مِمّا فُتِنَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ فَصارُوا ضالِّينَ مُضِلِّينَ. ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ نَهى المَظْلُومَ بِالقَذْفِ، أنْ يَمْنَعَ ما يَنْبَغِي فِعْلُهُ مِنَ الإحْسانِ إلى القَرابَةِ والمَساكِينِ وأهْلِ التَّوْبَةِ. وأمَرَهُ بِالعَفْوِ. فَإنَّهُ كَما يُحِبُّ أنْ يُغْفَرَ لَهُ فَلْيَغْفِرْ، ولا رَيْبَ أنَّ صِلَةَ الأرْحامِ واجِبَةٌ، وإيتاءَ المَساكِينِ واجِبٌ، ومَعُونَةَ المُهاجِرِينَ واجِبَةٌ، فَلا يَجُوزُ تَرْكُ ما يَجِبُ مِنَ الإحْسانِ إلى لِلْإنْسانِ بِمُجَرَّدِ ظُلْمِهِ: كَما لا يَمْنَعُ مِيراثَهُ وحَقَّهُ مِنَ الصَّدَقاتِ والفَيْءِ، بِمُجَرَّدِ ذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ وقَدْ يَمْنَعُ مِن ذَلِكَ لِبَعْضِ الذُّنُوبِ. وفِي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى وُجُوبِ الصِّلَةِ والنَّفَقَةِ وغَيْرِها لِذَوِي الأرْحامِ الَّذِينَ لا يَرِثُونَ بِفَرْضٍ ولا تَعْصِيبٍ. فَإنَّهُ قَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنْ عائِشَةَ في قِصَّةِ الإفْكِ، أنَّ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَلَفَ ألّا يُنْفِقَ عَلى مِسْطَحِ بْنِ أثاثَةَ، وكانَ أحَدَ الخائِضِينَ في الإفْكِ في شَأْنِ عائِشَةَ. وكانَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتَ خالَةِ أبِي بَكْرٍ. وقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ مِن ذَوِي القُرْبى الَّذِينَ نَهى عَنْ تَرْكِ إيتائِهِمْ. والنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. فَإذا لَمْ يَجُزِ الحَلِفُ عَلى تَرْكِ الفِعْلِ، كانَ الفِعْلُ واجِبًا، لِأنَّ الحَلِفَ عَلى تَرْكِ الجائِزِ جائِزٌ. انْتَهى كَلامُ ابْنِ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى. الرّابِعُ: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْ فَلَيْتَ القُرْآنَ كُلَّهُ وفَتَّشْتَ عَمّا أُعِدَّ بِهِ العُصاةُ، لَمْ تَرَ اللَّهَ تَعالى قَدْ غَلَّظَ في شَيْءٍ تَغْلِيظَهُ في إفْكِ عائِشَةَ، رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْها، ولا أنْزِلَ مِنَ الآياتِ القَوارِعِ المَشْحُونَةِ بِالوَعِيدِ الشَّدِيدِ والعِتابِ البَلِيغِ والزَّجْرِ العَنِيفِ واسْتِعْظامِ ما رُكِّبَ مِن ذَلِكَ واسْتِفْظاعِ ما أقْدَمَ عَلَيْهِ - ما أنْزَلَ فِيهِ، عَلى طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ وأسالِيبَ مُفْتَنَّةٍ. كُلُّ واحِدٍ مِنها (p-٤٤٩١)كانَ في بابِهِ ولَمْ يُنْزِلْ إلّا هَذِهِ الثَّلاثَ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ﴾ [النور: ٢٣] إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُوَ الحَقُّ المُبِينُ﴾ [النور: ٢٥] لَكَفى بِها. حَيْثُ جَعَلَ القَذْفَةَ مَلْعُونِينَ في الدّارَيْنِ جَمِيعًا. وتَوَعَّدَهم بِالعَذابِ العَظِيمِ في الآخِرَةِ. وبِأنَّ ألْسِنَتَهم وأيْدِيَهم وأرْجُلَهم تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِما أفَكُوا وبَهِتُوا. وأنَّهُ يُوَفِّيهِمْ جَزاءَهُمُ الحَقَّ الواجِبَ الَّذِي هم أهْلُهُ، حَتّى يَعْلَمُوا عِنْدَ ذَلِكَ، أنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ المُبِينُ. فَأوْجَزَ في ذَلِكَ وأشْبَعَ وفَصَّلَ وأجْمَلَ وأكَّدَ وكَرَّرَ، بِما لَمْ يَقَعْ في وعِيدِ المُشْرِكِينَ، عَبْدَةِ الأوْثانِ، إلّا ما هو دُونَهُ في الفَظاعَةِ. وما ذَلِكَ إلّا لِأمْرٍ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ كانَ بِالبَصْرَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ. وكانَ يَسْألُ عَنْ تَفْسِيرِ القُرْآنِ. حَتّى سَألَ عَنْ هَذِهِ الآياتِ فَقالَ: مَن أذْنَبَ ذَنْبًا ثُمَّ تابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، إلّا مَن خاضَ في أمْرِ عائِشَةَ، وهَذِهِ مِنهُ مُبالَغَةٌ وتَعْظِيمٌ لِأمْرِ الإفْكِ. ولَقَدْ بَرَّأ اللَّهُ تَعالى أرْبَعَةً بِأرْبَعَةٍ: بَرَّأ يُوسُفَ بِلِسانِ الشّاهِدِ: ﴿وشَهِدَ شاهِدٌ مِن أهْلِها﴾ [يوسف: ٢٦] وبَرَّأ مُوسى مِن قَوْلِ اليَهُودِ فِيهِ، بِالحَجَرِ الَّذِي ذَهَبَ بِثَوْبِهِ. وبَرَّأ مَرْيَمَ بِإنْطاقِ ولَدِها حِينَ نادى في حِجْرِها: ﴿إنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ [مريم: ٣٠] وبَرَّأ عائِشَةَ بِهَذِهِ الآياتِ العِظامِ في كِتابِهِ المُعْجِزِ المَتْلُوِّ عَلى وجْهِ الدَّهْرِ، مِثْلَ هَذِهِ التَّبْرِئَةِ بِهَذِهِ المُبالَغاتِ. فانْظُرْ كَمْ بَيْنَها وبَيْنَ تَبْرِئَةِ أُولَئِكَ ؟ وما ذاكَ إلّا لِإظْهارِ عُلُوِّ مَنزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، والتَّنْبِيهِ عَلى إنافَةِ مَحَلِّ سَيِّدِ ولَدِ آدَمَ وخِيرَةِ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ وحُجَّةِ اللَّهِ عَلى العالَمِينَ. ومَن أرادَ أنْ يَتَحَقَّقَ عَظَمَةَ شَأْنِهِ ﷺ وتَقَدُّمَ قَدَمِهِ وإحْرازَهُ لِقَصَبِ السَّبْقِ دُونَ كُلِّ سابِقٍ فَلْيَتَلَقَّ ذَلِكَ مِن آياتِ الإفْكِ. ولِيَتَأمَّلْ كَيْفَ غَضِبَ اللَّهُ لَهُ في حُرْمَتِهِ، وكَيْفَ بالَغَ في نَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْ حِجابِهِ. (p-٤٤٩٢)(فَإنْ قُلْتَ ): إنْ كانَتْ عائِشَةُ هي المُرادَةُ، فَكَيْفَ قِيلَ: المُحْصَناتُ ؟ (قُلْتُ ): فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ يُرادَ بِالمُحْصَناتِ أزْواجُ الرَّسُولِ ﷺ وأنْ يُخَصَّصْنَ بِأنَّ مَن قَذَفَهُنَّ، فَهَذا الوَعِيدُ لاحِقٌ بِهِ. وإذا أرَدْنَ عائِشَةَ كُبْراهُنَّ مَنزِلَةً وقُرْبَةً عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، كانَتِ المُرادَةُ أوَّلًا. والثّانِي: أنَّها أُمُّ المُؤْمِنِينَ، فَجُمِعَتْ. إرادَةً لَها ولِبَناتِها مِن نِساءِ الأُمَّةِ المَوْصُوفاتِ بِالإحْصانِ والغَفْلَةِ والإيمانِ انْتَهى. قالَ النّاصِرُ: والأظْهَرُ أنَّ المُرادَ عُمُومُ المُحْصَناتِ والمَقْصُودُ بِذِكْرِهِنَّ عَلى العُمُومِ، وعِيدُ مَن وقَعَ في عائِشَةَ، عَلى أبْلَغِ الوُجُوهِ، لِأنَّهُ إذا كانَ هَذا وعِيدُ قاذِفِ آحادِ المُؤْمِناتِ، فَما الظَّنُّ بِوَعِيدِ مَن قَذَفَ سَيِّدَتَهُنَّ وزَوْجَ سَيِّدِ البَشَرِ ﷺ ؟ عَلى أنَّ تَعْمِيمَ الوَعِيدِ أبْلَغُ وأفْظَعُ مِن تَخْصِيصِهِ. هَذا ومَعْنى قَوْلِ زُلَيْخا: ﴿ما جَزاءُ مَن أرادَ بِأهْلِكَ سُوءًا إلا أنْ يُسْجَنَ أوْ عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٥] فَعَمَّمَتْ أرادَتْ يُوسُفَ، تَهْوِيلًا عَلَيْهِ وإرْجافًا. والمَعْصُومُ مَن عَصَمَهُ اللَّهُ تَعالى. انْتَهى. الخامِسُ: قالَ الإمامُ ابْنُ تَيْمِيَةَ في (مِنهاجِ السُّنَّةِ ") ذَهَبَ كَثِيرٌ مِن أهْلِ السُّنَّةِ إلى أنَّ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أفْضَلُ نِسائِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ واحْتَجُّوا بِما في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أبِي مُوسى وعَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ««فَضْلُ عائِشَةَ عَلى النِّساءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلى سائِرِ الطَّعامِ»» . والثَّرِيدُ هو أفْضَلُ الأطْعِمَةِ، لِأنَّهُ خُبْزٌ ولَحْمٌ. كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎إذا ما الخُبْزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ فَذاكَ أمانَةُ اللَّهِ الثَّرِيدُ وذَلِكَ أنَّ البُرَّ أفْضَلُ الأقْواتِ. واللَّحْمَ أفْضَلُ الإدامِ، كَما في الحَدِيثِ الَّذِي رَواهُ (p-٤٤٩٣)ابْنُ قُتَيْبَةَ وغَيْرُهُ. عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ««سَيِّدُ إدامِ أهْلِ الدُّنْيا والآخِرَةِ اللَّحْمُ»» فَإذا كانَ اللَّحْمُ سَيِّدَ الإدامِ، والبُرُّ سَيِّدَ الأقْواتِ، ومَجْمُوعُهُما الثَّرِيدُ، كانَ الثَّرِيدُ أفْضَلَ الطَّعامِ. وقَدْ صَحَّ مِن غَيْرِ وجْهٍ عَنِ الصّادِقِ المَصْدُوقِ أنَّهُ قالَ: ««فَضْلُ عائِشَةَ عَلى النِّساءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلى الطَّعامِ»» وفي الصَّحِيحِ «عَنْ عَمْرِو بْنِ العاصِ قالَ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ! أيُّ النِّساءِ أحَبُّ إلَيْكَ ؟ قالَ: «عائِشَةُ» قُلْتُ: ومِنَ الرِّجالِ ؟ قالَ: «أبُوها» قُلْتُ: ثُمَّ مَن ؟ قالَ: «عُمَرُ، وسَمّى رِجالًا»» . وهَؤُلاءِ يَقُولُونَ: قَوْلُهُ ﷺ لِخَدِيجَةَ: ««ما أبْدَلَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنها»»: إنْ صَحَّ مَعْناهُ ما أبْدَلَنِي خَيْرًا لِي مِنها: فَإنَّ خَدِيجَةَ نَفَعَتْهُ في أوَّلِ الإسْلامِ نَفْعًا لَمْ يَقُمْ غَيْرُها فِيهِ مَقامَها. فَكانَتْ خَيْرًا لَهُ مِن هَذا الوَجْهِ لِكَوْنِها نَفَعَتْهُ وقْتَ الحاجَةِ، وعائِشَةُ صَحِبَتْهُ في آخِرِ النُّبُوَّةِ وكَمالِ الدِّينِ. فَحَصَلَ لَها مِنَ العِلْمِ والإيمانِ ما لَمْ يَحْصُلْ لِمَن لَمْ يُدْرِكْ إلّا أوَّلَ النُّبُوَّةِ. فَكانَتْ أفْضَلَ لِهَذِهِ الزِّيادَةِ فَإنَّ الأُمَّةَ انْتَفَعَتْ بِها أكْثَرَ مِمّا انْتَفَعَتْ بِغَيْرِها، وبَلَغَتْ مِنَ العِلْمِ والسِّنِّ ما لَمْ يَبْلُغْهُ غَيْرُها فَخَدِيجَةُ كانَ خَيْرُها مَقْصُورًا عَلى نَفْسِ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ تُبَلِّغْ عَنْهُ شَيْئًا، ولَمْ تَنْتَفِعْ بِها الأُمَّةُ كَما انْتَفَعُوا بِعائِشَةَ، ولِأنَّ الدِّينَ لَمْ يَكُنْ قَدْ كَمُلَ حَتّى تُعَلِّمَهُ، ويَحْصُلَ لَها مِن كَمالاتِهِ ما حَصَلَ لِمَن عَلِمَ وآمَنَ بِهِ بَعْدَ كَمالِهِ، ومَعْلُومٌ أنَّ مَنِ اجْتَمَعَ هَمُّهُ عَلى شَيْءٍ واحِدٍ، كانَ أبْلَغَ فِيهِ مِمَّنْ تَفَرَّقَ هَمُّهُ في أعْمالٍ مُتَنَوِّعَةٍ. فَخَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها خَيْرٌ لَهُ مِن هَذا الوَجْهِ. لَكِنَّ أنْواعَ البِرِّ لَمْ تُحْصَرْ في ذَلِكَ. ألا تَرى أنَّ مَن كانَ مِنَ الصَّحابَةِ أعْظَمَ إيمانًا، وأكْثَرَ جِهادًا بِنَفْسِهِ ومالِهِ. كَحَمْزَةَ وعَلِيٍّ وسَعْدِ بْنِ مُعاذٍ وأُسِيدِ بْنِ حُضَيْرٍ وغَيْرِهِمْ، هم أفْضَلُ مَن كانَ يَخْدِمُ النَّبِيَّ ﷺ ويَنْفَعُهُ في نَفْسِهِ أكْثَرَ مِنهم. كَأبِي رافِعٍ وأنَسِ بْنِ مالِكٍ وغَيْرِهِما. وفي الجُمْلَةِ، الكَلامُ في تَفْضِيلِ عائِشَةَ وخَدِيجَةَ لَيْسَ هَذا مَوْضِعَ اسْتِقْصائِهِ. لَكِنَّ المَقْصُودَ هُنا أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلى تَعْظِيمِ عائِشَةَ ومَحَبَّتِها، وإنَّ نِساءَهُ ﷺ أُمَّهاتُ المُؤْمِنِينَ (p-٤٤٩٤)اللَّواتِي ماتَ عَنْهُنَّ، كانَتْ عائِشَةُ أحَبَّهُنَّ إلَيْهِ وأعْظَمَهُنَّ حُرْمَةً عِنْدَ المُسْلِمِينَ. وقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ «أنَّ النّاسَ كانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَداياهم يَوْمَ عائِشَةَ، لِما يَعْلَمُونَ مِن مَحَبَّتِهِ إيّاها» . حَتّى «أنَّ نِساءَهُ غِرْنَ مِن ذَلِكَ. وأرْسَلْنَ إلَيْهِ فاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها تَقُولُ لَهُ: نِساؤُكَ يَسْألْنَكَ العَدْلَ في ابْنَةِ أبِي قُحافَةَ: فَقالَ لِفاطِمَةَ: «أيْ: بُنَيَّةُ أما تُحِبِّينَ ما أُحِبُّ» ؟ قالَتْ: بَلى. قالَ: «فَأحِبِّي هَذِهِ»»، الحَدِيثُ في الصَّحِيحَيْنِ وفي الصَّحِيحَيْنِ أيْضًا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ««يا عائِشَةُ ! هَذا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلامَ» قالَتْ: وعَلَيْهِ السَّلامُ ورَحْمَةُ اللَّهِ. تَرى ما لا نَرى» . ووَهَبَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ يَوْمَها لِعائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، بِإذْنِهِ ﷺ . «وكانَ في مَرَضِهِ الَّذِي ماتَ فِيهِ يَقُولُ: «أيْنَ أنا اليَوْمَ» ؟ اسْتِبْطاءً لِيَوْمِ عائِشَةَ» . ثُمَّ اسْتَأْذَنَ نِساءَهُ أنْ يُمَرَّضَ في بَيْتِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فَمَرِضَ (p-٤٤٩٥)فِيهِ. وفي بَيْتِها تُوَفِّيَ بَيْنَ سَحْرِها ونَحْرِها وفي حِجْرِها. وكانَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مُبارَكَةً عَلى أُمَّتِهِ. حَتّى قالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، لَمّا أنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ بِسَبَبِها: ما هي بِأوَّلِ بَرَكَتِكم يا آلَ أبِي بَكْرٍ. ما نَزَلَ بِكِ أمْرٌ قَطُّ تَكْرَهِينَهُ إلّا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ بَرَكَةً. وقَدْ كانَتْ نَزَلَتْ آيَةُ بَراءَتِها قَبْلَ ذَلِكَ، لَمّا رَماها أهْلُ الإفْكِ. فَبَرَّأها اللَّهُ مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ، وجَعَلَها مِنَ الصَّيِّناتِ. وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. انْتَهى. * * * وأغْرَبَ الإمامُ ابْنُ حَزْمٍ، فَذَهَبَ إلى أنَّ أفْضَلَ النّاسِ بَعْدَ الأنْبِياءِ، نِساؤُهُ ﷺ . مَعْلُومٌ أنَّ عائِشَةَ فُضْلاهُنَّ، وقَدْ أسْهَبَ في ذَلِكَ في كِتابِهِ (المِلَلِ ") فارْجِعْ إلَيْهِ. السّادِسُ: قالَ القاشانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: إنَّما عَظَّمَ تَعالى أمْرَ الإفْكِ وغَلَّظَ في الوَعِيدِ عَلَيْهِ، بِما لَمْ يُغَلِّظْ في غَيْرِهِ مِنَ المَعاصِي، وبالَغَ في العِقابِ عَلَيْهِ بِما لَمْ يُبالِغْ بِهِ في بابِ الزِّنى وقَتْلِ النَّفْسِ المُحَرَّمَةِ، لِأنَّ عِظَمَ الرَّذِيلَةِ وكِبَرَ المَعْصِيَةِ، إنَّما يَكُونُ عَلى حَسَبِ القُوَّةِ الَّتِي هي مَصْدَرُها. وتَتَفاوَتُ حالُ الرَّذائِلِ في حَجْبِ صاحِبِها عَنِ الحَضْرَةِ الإلَهِيَّةِ والأنْوارِ القُدُسِيَّةِ، وتَوْرِيطِهِ في المَهالِكِ الهُيُولانِيَّةِ، والمُهاوِي الظُّلْمانِيَّةِ، عَلى حَسَبِ تَفاوُتِ مَبادِئِها، فَكُلَّما كانَتِ القُوَّةُ الَّتِي هي مَصْدَرُها ومَبْدَؤُها أشْرَفَ. كانَتِ الرَّذِيلَةُ الصّادِرَةُ مِنها أرْدَأ. وبِالعَكْسِ لِأنَّ الرَّذِيلَةَ ما قابَلَ الفَضِيلَةَ. فَلَمّا كانَتِ الفَضِيلَةُ أشْرَفَ، كانَ ما يُقابِلُها مِنَ الرَّذِيلَةِ أخَسَّ، والإفْكُ رَذِيلَةُ القُوَّةِ الغَضَبِيَّةِ. (p-٤٤٩٦)فَبِحَسَبِ شَرَفِ الأُولى عَلى الباقِيَتَيْنِ، تَزْدادُ رَداءَةُ رَذِيلَتِها. وذَلِكَ أنَّ الإنْسانَ إنَّما يَكُونُ بِالأُولى إنْسانًا، وتَرَقِّيهِ إلى العالَمِ العَلَوِيِّ، وتَوَجُّهُهُ إلى الجانِبِ الإلَهِيِّ وتَحْصِيلُهُ لِلْمَعارِفِ والكَمالاتِ، واكْتِسابُهُ لِلْخَيْراتِ والسَّعاداتِ - إنَّما يَكُونُ بِها. فَإذا فَسَدَتْ بِغَلَبَةِ الشَّيْطَنَةِ عَلَيْها، واحْتَجَبَتْ عَنِ النُّورِ بِاسْتِيلاءِ الظُّلْمَةِ، حَصَلَتِ الشَّقاوَةُ العُظْمى، وحَقَّتِ العُقُوبَةُ بِالنّارِ. وهو الرَّيْنُ والحِجابُ الكُلِّيُّ. ألا تَرى أنَّ الشَّيْطَنَةَ المُغْوِيَةَ لِلْآدَمِيِّ أبْعَدُ عَنِ الحَضْرَةِ الآلِهِيَّةِ، مَنِ السَّبُعِيَّةِ والبَهِيمِيَّةِ ؟ وأبْعَدُ بِما لا يَقْدُرُ قَدْرَهُ، فالإنْسانُ بِرُسُوخِ رَذِيلَتِهِ النُّطْفِيَّةِ يَصِيرُ شَيْطانًا، وبِرُسُوخِ الرَّذِيلَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ، يَصِيرُ حَيَوانًا كالبَهِيمَةِ أوِ السَّبُعِ، وكُلُّ حَيَوانٍ أرْجى صَلاحًا، وأقْرَبُ فَلاحًا مِنَ الشَّيْطانِ. ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكم عَلى مَن تَنَـزَّلُ الشَّياطِينُ﴾ [الشعراء: ٢٢١] ﴿تَنَـزَّلُ عَلى كُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ﴾ [الشعراء: ٢٢٢] ونَهى ها هُنا عَنِ اتِّباعِ خُطُواتِ الشَّيْطانِ. فَإنَّ ارْتِكابَ مِثْلِ هَذِهِ الفَواحِشِ لا يَكُونُ إلّا بِمُتابَعَتِهِ ومُطاوَعَتِهِ، وصاحِبُهُ يَكُونُ مِن جُنُودِهِ وأتْباعِهِ، فَيَكُونُ أخَسَّ مِنهُ وأذَلَّ، مَحْرُومًا مِن فَضْلِ اللَّهِ الَّذِي هو نُورُ هِدايَتِهِ، مَحْجُوبًا مِن رَحْمَتِهِ الَّتِي هي إفاضَةُ كَمالٍ وسَعادَةٍ، مَلْعُونًا في الدُّنْيا والآخِرَةِ، مَمْقُوتًا مِنَ اللَّهِ والمَلائِكَةِ. تَشْهَدُ عَلَيْهِ جَوارِحُهُ بِتَبَدُّلِ صُوَرِها وتَشَوُّهِ مَنظَرِها. خَبِيثَ الذّاتِ والنَّفْسِ. مُتَوَرِّطًا في الرِّجْسِ. فَإنَّ مِثْلَ هَذِهِ الخَبائِثِ لا تَصْدُرُ إلّا مِنَ الخَبِيثِينَ. كَما قالَ تَعالى: ﴿الخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ﴾ وأمّا الطَّيِّبُونَ المُنَزَّهُونَ عَنِ الرَّذائِلِ، فَإنَّما تَصْدُرُ عَنْهُمُ الطَّيِّباتُ والفَضائِلُ. انْتَهى. السّابِعُ: في سِرِّ قَرْنِ الزِّنى بِالشِّرْكِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً﴾ [النور: ٣] وتَحْقِيقُ القَوْلِ في الآيَةِ. قالَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ في (إغاثَةِ اللَّهْفانِ "): نَجاسَةُ الزِّنى واللِّواطَةِ أغْلَظُ مِن غَيْرِها مِنَ النَّجاساتِ. مِن جِهَةِ أنَّها تُفْسِدُ القَلْبَ وتُضْعِفُ تَوْحِيدَهُ جِدًّا. ولِهَذا أحْظى النّاسِ بِهَذِهِ النَّجاسَةِ، أكْثَرُهم شِرْكًا. فَكُلَّما كانَ الشِّرْكُ في العَبْدِ أغْلَبَ. (p-٤٤٩٧)كانَتْ هَذِهِ النَّجاسَةُ والخَبائِثُ فِيهِ أكْثَرَ، وكُلَّما كانَ أعْظَمَ إخْلاصًا، كانَ مِنها أبْعَدَ، كَما قالَ تَعالى عَنْ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشاءَ إنَّهُ مِن عِبادِنا المُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: ٢٤] فَإنَّ عِشْقَ الصُّوَرِ المُحَرَّمَةِ نَوْعُ تَعَبُّدٍ لَها. بَلْ هو مِن أعْلى أنْواعِ التَّعَبُّدِ. ولا سِيَّما إذِ اسْتَوْلى عَلى القَلْبِ وتَمَكَّنَ مِنهُ، صارَ تَتَيُّمًا. والتَّتَيُّمُ التَّعَبُّدُ. فَيَصِيرُ العاشِقُ عابِدًا لِمَعْشُوقِهِ. وكَثِيرًا ما يَغْلِبُ حُبُّهُ وذِكْرُهُ والشَّوْقُ إلَيْهِ والسَّعْيُ في مَرْضاتِهِ وإيثارُ مَحابِّهِ، عَلى حُبِّ اللَّهِ وذِكْرِهِ والسَّعْيِ في مَرْضاتِهِ، بَلْ كَثِيرًا ما يَذْهَبُ ذَلِكَ مِن قَلْبِ العاشِقِ بِالكُلِّيَّةِ ويَصِيرُ مُتَعَلِّقًا بِمَعْشُوقِهِ مِنَ الصُّوَرِ. كَما هو مُشاهَدٌ فَيَصِيرُ المَعْشُوقُ هو إلَهُهُ مِن دُونِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. يُقَدِّمُ رِضاهُ وحُبَّهُ عَلى رِضا اللَّهِ وحُبِّهِ. ويَتَقَرَّبُ إلَيْهِ ما لا يَتَقَرَّبُ إلى اللَّهِ. ويُنْفِقُ في مَرْضاتِهِ ما لا يُنْفِقُهُ في مَرْضاةِ اللَّهِ. ويَتَجَنَّبُ سُخْطَهُ ما لا يَتَجَنَّبُ مِن سُخْطِ اللَّهِ تَعالى. فَيَصِيرُ آثَرَ عِنْدَهُ مِن رَبِّهِ حُبًّا وخُضُوعًا وذُلًّا وسَمْعًا وطاعَةً، ولِهَذا كانَ العِشْقُ والشِّرْكُ مُتَلازِمَيْنِ، وإنَّما حَكى اللَّهُ سُبْحانَهُ العِشْقَ عَنِ المُشْرِكِينَ مِن قَوْمِ لُوطٍ، وعَنِ امْرَأةِ العَزِيزِ، وكانَتْ إذْ ذاكَ مُشْرِكَةً، فَكُلَّما قَوِيَ شِرْكُ العَبْدِ بُلِيَ بِعِشْقِ الصُّوَرِ وكُلَّما قَوِيَ تَوْحِيدُهُ صُرِفَ ذَلِكَ عَنْهُ. والزِّنى واللِّواطَةُ كَمالُ لَذَّتِهِ، إمّا يَكُونُ مِنَ العِشْقِ. ولا يَخْلُو صاحِبُهُما مِنهُ. وإنَّما لِتَنَقُّلِهِ مِن مَحَلٍّ إلى مَحَلٍّ، لا يَبْقى عِشْقُهُ مَقْصُورًا عَلى مَحَلٍّ واحِدٍ. بَلْ يَنْقَسِمُ عَلى سِهامٍ كَثِيرَةٍ لِكُلِّ مَحْبُوبٍ نَصِيبٌ مِن تَألُّهِهِ وتَعَبُّدِهِ. فَلَيْسَ في الذُّنُوبِ أفْسَدُ لِلْقَلْبِ والدِّينِ مِن هاتَيْنِ الفاحِشَتَيْنِ. ولَهُما خاصِّيَّةٌ في تَبْعِيدِ القَلْبِ مِنَ اللَّهِ، فَإنَّهُما مِن أعْظَمِ الخَبائِثِ فَإذا انْصَبَغَ القَلْبُ بِهِما بَعُدَ مِمَّنْ هو طَيِّبٌ لا يَصْعَدُ إلَيْهِ إلّا طَيِّبٌ. وكُلَّما ازْدادَ خُبْثًا ازْدادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا. ولِهَذا قالَ المَسِيحُ، فِيما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ في (كِتابِ الزُّهْدِ ") لا يَكُونُ البَطّالُونَ مِنَ الحُكَماءِ. ولا يَلِجُ الزُّناةُ مَلَكُوَتَ السَّماءِ. ولَمّا كانَتْ هَذِهِ حالَ الزِّنى كانَ قَرِيبًا لِلشِّرْكِ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلا زانٍ أوْ مُشْرِكٌ وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلى المُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٣] والصَّوابُ القَوْلُ بِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُحْكَمَةٌ. يُعْمَلُ بِها لَمْ يَنْسَخْها شَيْءٌ. وهي مُشْتَمِلَةٌ عَلى خَبَرٍ وتَحْرِيمٍ. ولَمْ يَأْتِ مَنِ ادَّعى نَسْخَها بِحُجَّةٍ البَتَّةَ. (p-٤٤٩٨)والَّذِي أشْكَلَ مِنها عَلى كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ، واضِحٌ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعالى. فَإنَّهم أشْكَلَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ: ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً﴾ [النور: ٣] هَلْ هو خَبَرٌ أوْ نَهْيٌ أوْ إباحَةٌ ؟ فَإنْ كانَ خَبَرًا فَقَدْ رَأيْنا كَثِيرًا مِنَ الزُّناةِ يَنْكِحُ عَفِيفَةً. وإنْ كانَ نَهْيًا فَيَكُونُ قَدْ نَهى الزّانِيَ أنْ يَتَزَوَّجَ إلّا بِزانِيَةٍ أوْ مُشْرِكَةٍ، فَيَكُونُ نَهْيًا لَهُ عَنْ نِكاحِ المُؤْمِناتِ العَفائِفِ. وإباحَةً لَهُ نِكاحَ المُشْرِكاتِ والزَّوانِي، واللَّهُ سُبْحانَهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ قَطْعًا. فَلَمّا أشْكَلَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وطَلَبُوا لِلْآيَةِ وجْهًا يَصِحُّ حَمْلُها عَلَيْهِ. فَقالَ بَعْضُهم: المُرادُ مِنَ النِّكاحِ الوَطْءُ والزِّنى. فَكَأنَّهُ قالَ: الزّانِي لا يَزْنِي إلّا بِزانِيَةٍ أوْ مُشْرِكَةٍ. وهَذا فاسِدٌ. فَإنَّهُ لا فائِدَةَ فِيهِ. ويُصانُ كَلامُ اللَّهِ تَعالى عَنْ حَمْلِهِ عَلى مِثْلِ ذَلِكَ. فَإنَّهُ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ الزّانِيَ لا يَزْنِي إلّا بِزانِيَةٍ. فَأيُّ فائِدَةٍ في الإخْبارِ بِذَلِكَ. ولَمّا رَأى الجُمْهُورُ فَسادَ هَذا التَّأْوِيلِ أعْرَضُوا عَنْهُ، ثُمَّ قالَتْ طائِفَةٌ: هَذا عامُّ اللَّفْظِ خاصُّ المَعْنى. والمُرادُ بِهِ رَجُلٌ واحِدٌ وامْرَأةٌ واحِدَةٌ. وهي عَناقُ وصاحِبُها، فَإنَّهُ أسْلَمَ واسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في نِكاحِها فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. وهَذا أيْضًا فاسِدٌ. فَإنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ المُعَيَّنَةَ، وإنْ كانَتْ سَبَبَ النُّزُولِ، فالقُرْآنُ لا يُقْتَصَرُ بِهِ عَلى مَحالِّ أسْبابِهِ. ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الِاسْتِدْلالُ بِهِ عَلى غَيْرِها. وقالَتْ طائِفَةٌ: بَلِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وأنْكِحُوا الأيامى مِنكُمْ﴾ [النور: ٣٢] وهَذا أفْسَدُ مِنَ الكُلِّ. فَإنَّهُ لا تَعارُضَ بَيْنَ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ. ولا تُناقِضُ إحْداهُما الأُخْرى. بَلْ أمَرَ سُبْحانَهُ بِإنْكاحِ الأيامى، وحَرَّمَ نِكاحَ الزّانِيَةِ، كَما حَرَّمَ نِكاحَ المُعْتَدَّةِ والمُحَرَّمَةِ وذَواتِ المَحارِمِ. فَأيْنَ النّاسِخُ والمَنسُوخُ في هَذا ؟ (فَإنْ قِيلَ ): فَما وجْهُ الآيَةِ ؟ قِيلَ: وجْهُها، واللَّهُ أعْلَمُ. أنَّ المُتَزَوِّجَ أُمِرَ أنْ يَتَزَوَّجَ المُحْصَنَةَ العَفِيفَةَ، وإنَّما أُبِيحَ لَهُ نِكاحُ المَرْأةِ بِهَذا الشَّرْطِ. كَما ذَكَرَ ذَلِكَ سُبْحانَهُ في سُورَتَيِ النِّساءِ والمائِدَةِ. والحُكْمُ المُعَلَّقُ عَلى الشَّرْطِ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفائِهِ. والإباحَةُ قَدْ عُلِّقَتْ عَلى شَرْطِ الإحْصانِ، فَإذا انْتَفى الإحْصانُ انْتَفَتِ الإباحَةُ المَشْرُوطَةُ بِهِ. (p-٤٤٩٩)فالمُتَزَوِّجُ إمّا أنْ يَلْتَزِمَ حُكْمَ اللَّهِ وشَرْعَهُ الَّذِي شَرَعَهُ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ، أوْ لا يَلْتَزِمُهُ. فَإنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ فَهو مُشْرِكٌ لا يَرْضى بِنِكاحِهِ إلّا مَن هو مُشْرِكٌ مِثْلُهُ، وإنِ التَزَمَهُ وخالَفَهُ، ونَكَحَ ما حُرِّمَ عَلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ إنْكاحٌ. فَيَكُونُ زانِيًا، فَظَهَرَ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿لا يَنْكِحُ إلا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً﴾ [النور: ٣] وتَبَيَّنَ غايَةَ البَيانِ. وكَذَلِكَ حُكْمُ المَرْأةِ. وكَما أنَّ هَذا الحُكْمَ هو مُوجَبُ القُرْآنِ وصَرِيحُهُ، فَهو مُوجَبُ الفِطْرَةِ ومُقْتَضى العَقْلِ. فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ حَرَّمَ عَلى عَبْدِهِ أنْ يَكُونَ قَرْنانًا دَيُّوثًا زَوْجَ بَغِيٍّ. فَإنَّ اللَّهَ تَعالى فَطَرَ النّاسَ عَلى اسْتِقْباحِ ذَلِكَ واسْتِهْجانِهِ. ولِهَذا إذا بالَغُوا في سَبِّ الرَّجُلِ قالُوا: (زَوْجُ قَحْبَةٍ )، فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلى المُسْلِمِ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. فَظَهَرَتْ حِكْمَةُ التَّحْرِيمِ وبانَ مَعْنى الآيَةِ. واللَّهُ المُوَفِّقُ. ومِمّا يُوَضِّحُ التَّحْرِيمَ، وأنَّهُ هو الَّذِي يَلِيقُ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الكامِلَةِ، أنَّ هَذِهِ الجِنايَةَ مِنَ المَرْأةِ تَعُودُ بِفَسادِ فِراشِ الزَّوْجِ، وفَسادِ النَّسَبِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعالى بَيْنَ النّاسِ لِتَمامِ مَصالِحِهِمْ. وعَدُّوهُ مِن جُمْلَةِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، فالزِّنى يُفْضِي إلى اخْتِلاطِ المِياهِ واشْتِباهِ الأنْسابِ. فَمِن مَحاسِنِ الشَّرِيعَةِ تَحْرِيمُ نِكاحِ الزّانِيَةِ حَتّى تَتُوبَ وتُسْتَبْرَأُ. وأيْضًا، فَإنَّ الزّانِيَةَ خَبِيثَةٌ، كَما تَقَدَّمَ بَيانُهُ واللَّهُ سُبْحانَهُ جَعَلَ النِّكاحَ سَبَبًا لِلْمَوَدَّةِ والرَّحْمَةِ، والمَوَدَّةُ خالِصُ الحُبِّ، فَكَيْفَ تَكُونُ الخَبِيثَةُ مَوْدُودَةً لِلطَّيِّبِ، زَوْجًا لَهُ ؟ والزَّوْجُ سُمِّيَ زَوْجًا مِنَ الِازْدِواجِ فالزَّوْجانِ، الِاثْنانِ المُتَشابِهانِ والمُنافَرَةُ ثابِتَةٌ بَيْنَ الطَّيِّبِ والخَبِيثِ شَرْعًا وقَدْرًا. فَلا يَحْصُلُ مَعَها الِازْدِواجُ والتَّراحُمُ والتَّوادُّ. فَلَقَدْ أحْسَنَ كُلَّ الإحْسانِ مَن ذَهَبَ إلى هَذا المَذْهَبِ، ومَنَعَ الرَّجُلَ أنْ يَكُونَ زَوْجَ قَحْبَةٍ. فَأيْنَ هَذا مِن قَوْلِ مَن جَوَّزَ أنْ يَتَزَوَّجَها ويَطَأها اللَّيْلَةَ، وقَدْ وطِئَها الزّانِي البارِحَةَ ؟ وقالَ: ماءُ الزّانِي لا حُرْمَةَ لَهُ. فَهَبْ أنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ، فَماءُ الزَّوْجِ لَهُ حُرْمَةٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ اجْتِماعُهُ مَعَ ماءِ الزّانِي في رَحِمٍ واحِدٍ، والمَقْصُودُ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ سَمّى الزَّوانِيَ والزُّناةَ خَبِيثِينَ وخَبِيثاتٍ. وجِنْسُ هَذا الفِعْلِ قَدْ شُرِعَتْ فِيهِ الطَّهارَةُ، وإنْ كانَ حَلالًا. وسُمِّيَ فاعِلُهُ جُنُبًا لِبُعْدِهِ عَنْ قِراءَةِ القُرْآنِ وعَنِ الصَّلاةِ وعَنِ المَساجِدِ. فَمُنِعَ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ حَتّى يَتَطَهَّرَ بِالماءِ. فَكَذَلِكَ إذا كانَ حَرامًا يَبْعُدُ القَلْبُ عَنِ اللَّهِ تَعالى وعَنِ الدّارِ الآخِرَةِ. بَلْ يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الإيمانِ، حَتّى يُحْدِثَ طُهْرًا. (p-٤٥٠٠)كامِلًا بِالتَّوْبَةِ. وطُهْرًا لِبَدَنِهِ بِالماءِ. وقَوْلُ اللُّوطِيَّةِ: ﴿أخْرِجُوهم مِن قَرْيَتِكم إنَّهم أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٨٢] مِن جِنْسِ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ في أصْحابِ الأُخْدُودِ: ﴿وما نَقَمُوا مِنهم إلا أنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ [البروج: ٨] وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إلا أنْ آمَنّا بِاللَّهِ وما أُنْـزِلَ إلَيْنا وما أُنْـزِلَ مِن قَبْلُ﴾ [المائدة: ٥٩] وهَكَذا المُشْرِكُ إنَّما يَنْقِمُ عَلى المُوَحِّدِ تَجْرِيدَهُ لِلتَّوْحِيدِ، وأنَّهُ لا يَشُوبُهُ بِالإشْراكِ، وهَكَذا المُبْتَدِعُ إنَّما يَنْقِمُ عَلى السُّنِّيِّ تَجْرِيدَهُ مُتابَعَةَ الرَّسُولِ وأنَّهُ لَمْ يَشُبْها بِآراءِ الرِّجالِ ولا بِشَيْءٍ مِمّا خالَفَها، فَصَبَرَ المُوَحِّدُ المُتَّبِعُ لِلرَّسُولِ، عَلى ما يَنْقِمُهُ عَلَيْهِ أهْلُ الشِّرْكِ والبِدْعَةِ، خَيْرٌ لَهُ وأنْفَعُ، وأسْهَلُ عَلَيْهِ، مِن صَبْرِهِ عَلى ما يَنْقِمُهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ، عَلَيْهِ مِن مُوافَقَةِ أهْلِ الشِّرْكِ والبِدْعَةِ. ؎إذا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الصَّبْرِ، فاصْطَبِرْ عَلى الحَقِّ. ذاكَ الصَّبْرُ تُحْمَدُ عُقْباهُ لَطِيفَةٌ: كَتَبَ ابْنُ القاضِي شَرَفُ الدِّينِ ابْنُ المُقْرِي، صاحِبُ (الرَّوْضِ ") إلى أبِيهِ، وقَدْ قَطَعَ نَفَقَتَهُ: ؎لا تَقْطَعَنْ عادَةَ بِرٍّ، ولا ∗∗∗ تَجْعَلْ عِتابَ المَرْءِ في رِزْقِهِ ؎فَإنَّ أمْرَ الإفْكِ مِن مِسْطَحٍ ∗∗∗ يَحُطُّ قَدْرَ النَّجْمِ مِن أُفْقِهِ ؎وقَدْ جَرى مِنهُ الَّذِي قَدْ جَرى ∗∗∗ وعُوَتِبَ الصِّدِّيقُ في حَقِّهِ فَأجابَهُ أبُوهُ شَرَفُ الدِّينِ بِقَوْلِهِ: ؎قَدْ يُمْنَعُ المُضْطَرُّ مِن مَيْتَةٍ ∗∗∗ إذا عَصى بِالسَّيْرِ في طُرْقِهِ ؎لِأنَّهُ يَقْوى عَلى تَوْبَةٍ ∗∗∗ تُوجِبُ إيصالًا إلى رِزْقِهِ ؎لَوْ لَمْ يَتُبْ مِن ذَنْبِهِ مِسْطَحٌ ∗∗∗ ما عُوَتِبَ الصِّدِّيقُ في حَقِّهِ ولِما فَضَّلَ تَعالى الزَّواجِرَ عَنِ الزِّنى، وعَنْ رَمْيِ العَفائِفِ عَنْهُ. بَيَّنَ مِنَ الزَّواجِرِ ما عَسى يُؤَدِّي (p-٤٥٠١)إلى أحَدِهِما. وذَلِكَ في مُخالَطَةِ الرِّجالِ بِالنِّساءِ، ودُخُولِهِمْ عَلَيْهِنَّ، وفي أوْقاتِ الخَلَواتِ، وفي تَعْلِيمِ الآدابِ الجَمِيلَةِ، فَقالَ سُبْحانَهُ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب