الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٥٤] ﴿ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهم وإنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ .
﴿ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ أيْ: بِالِانْقِيادِ، والخَشْيَةِ. والضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ أوْ لِلَّهِ تَعالى: ﴿وإنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلى (p-٤٣٥٤)صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أيْ: إلى طَرِيقِ الحَقِّ والِاسْتِقامَةِ، فَلا تَزِلُّ أقْدامُهم بِقَبُولِ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ولا تَقْبَلُ قُلُوبُهم إلّا ما يُلْقِي الرَّحْمَنُ، لِصَفائِها. هَذا هو الصَّوابُ في تَفْسِيرِ الآيَةِ. ولَها نَظائِرُ تُظْهِرُ المُرادَ مِنها كَما أشَرْنا إلَيْهِ، لَوِ احْتاجَتْ إلى نَظِيرٍ. ولَكِنَّها بَيِّنَةٌ بِنَفْسِها، غَنِيَّةٌ عَنِ التَّطْوِيلِ في التَّأْوِيلِ، لَوْلا ما أحْوَجَ المُحَقِّقِينَ إلى رَدِّ ما دَسَّهُ بَعْضُ الرُّواةِ هُنا مِنَ الأباطِيلِ. ونَحْنُ نَسُوقُ ما قِيلَ فِيها مِن ذَلِكَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُ بِنَقْدِ المُحَقِّقِينَ، لِئَلّا يَبْقى في نَفْسِ الواقِفِ حاجَةٌ.
قالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: قِيلَ: إنَّ السَّبَبَ الَّذِي مِن أجْلِهِ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أنَّ الشَّيْطانَ كانَ ألْقى عَلى لِسانِهِ، في بَعْضِ ما يَتْلُوهُ مِمّا أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ، ما لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ عَلَيْهِ. فاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ واغْتَمَّ بِهِ، فَسَلّاهُ اللَّهُ مِمّا بِهِ مِن ذَلِكَ، بِهَذِهِ الآياتِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَن قالَ ذَلِكَ. فَأسْنَدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ ومُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ وغَيْرِهِما؛ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَلَسَ في نادٍ مِن أنْدِيَةِ قُرَيْشٍ، كَثِيرٍ أهْلُهُ، فَتَمَنّى يَوْمَئِذٍ ألّا يَأْتِيَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ فَيَنْفِرُوا عَنْهُ. فَأنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: { ﴿والنَّجْمِ إذا هَوى﴾ [النجم: ١] ﴿ما ضَلَّ صاحِبُكم وما غَوى﴾ [النجم: ٢] }، فَقَرَأها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتّى إذا بَلَغَ: { ﴿أفَرَأيْتُمُ اللاتَ والعُزّى﴾ [النجم: ١٩] ﴿ومَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرى﴾ [النجم: ٢٠] }، ألْقى عَلَيْهِ الشَّيْطانُ كَلِمَتَيْنِ: تِلْكَ الغَرانِيقُ العُلى وإنَّ شَفاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجى. فَتَكَلَّمَ بِها، ثُمَّ مَضى فَقَرَأ السُّورَةَ كُلَّها. فَسَجَدَ في آخِرِ السُّورَةِ وسَجَدَ القَوْمُ جَمِيعًا مَعَهُ ورَضُوا بِما تَكَلَّمَ بِهِ.
قالا: فَلَمّا أمْسى أتاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ السُّورَةَ. فَلَمّا بَلَغَ الكَلِمَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ قالَ: ما جِئْتُكَ بِهاتَيْنِ. فَحَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ . فَأنْزَلَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى عَلَيْهِ يُعَزِّيهِ: ﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ﴾ [الحج: ٥٢] الآيَةَ» .
وقالَ القاضِي عِياضٌ في (الشِّفا "): اعْلَمْ أنَّ لَنا في الكَلامِ عَلى مُشْكِلِ هَذا الحَدِيثِ مَأْخَذَيْنِ: أحَدُهُما في تَوْهِينِ أصْلِهِ، والثّانِي عَلى تَسْلِيمِهِ.
(p-٤٣٥٥)أمّا المَأْخَذُ الأوَّلُ، فَيَكْفِيكَ أنَّ هَذا لَمْ يُخَرِّجْهُ أحَدٌ مِن أهْلِ الصِّحَّةِ، ولا رَواهُ ثِقَةٌ بِسَنَدٍ سَلِيمٍ مُتَّصِلٍ. وإنَّما أُولِعَ بِهِ وبِمِثْلِهِ المُفَسِّرُونَ والمُؤَرِّخُونَ المُولَعُونَ بِكُلِّ غَرِيبٍ، المُتَلَقِّفُونَ مِنَ الصُّحُفِ كُلَّ صَحِيحٍ وسَقِيمٍ. وصَدَقَ القاضِي بَكْرُ بْنُ العَلاءِ المالِكِيُّ حَيْثُ قالَ: لَقَدْ بُلِيَ النّاسُ بِبَعْضِ أهْلِ الأهْواءِ والتَّفاسِيرِ. وتَعَلَّقَ بِذَلِكَ المُلْحِدُونَ مَعَ ضَعْفِ بَعْضِ نَقَلَتِهِ، واضْطِرابِ رِواياتِهِ، وانْقِطاعِ إسْنادِهِ، واخْتِلافِ كَلِماتِهِ. ومَن حُكِيَتْ عَنْهُ هَذِهِ الحِكايَةُ مِنَ المُفَسِّرِينَ والتّابِعِينَ، لَمْ يُسْنِدْها أحَدٌ مِنهم ولا رَفَعَها إلى صاحِبٍ. وأكْثَرُ الطُّرُقِ عَنْهم فِيها، واهِيَةٌ ضَعِيفَةٌ، والمَرْفُوعُ فِيهِ حَدِيثُ شُعْبَةَ عَنْ أبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ فِيما أحْسَبُ (الشَّكُّ في الحَدِيثِ ): أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ بِمَكَّةَ، وذَكَرَ القِصَّةَ.
قالَ أبُو بَكْرٍ البَزّارُ: هَذا الحَدِيثُ لا نَعْلَمُهُ يُرْوى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِإسْنادٍ مُتَّصِلٍ، يَجُوزُ ذِكْرُهُ إلّا هَذا، ولَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ شُعْبَةَ إلّا أُمَيَّةُ بْنُ خالِدٍ. وغَيْرُهُ يُرْسِلُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وإنَّما يُعْرَفُ عَنِ الكَلْبِيِّ، عَنْ أبِي صالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. فَقَدْ بَيَّنَ لَكَ أبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّهُ لا يُعْرَفُ مِن طَرِيقٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ سِوى هَذا. وفِيهِ مِنَ الضَّعْفِ ما نَبَّهَ عَلَيْهِ، مَعَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِيما ذَكَرْناهُ، الَّذِي لا يُوثَقُ بِهِ ولا حَقِيقَةَ مَعَهُ. وأمّا حَدِيثُ الكَلْبِيِّ فَما لا تَجُوزُ الرِّوايَةُ عَنْهُ ولا ذِكْرُهُ، لِقُوَّةِ ضَعْفِهِ وكَذِبِهِ، كَما أشارَ إلَيْهِ البَزّارُ رَحِمَهُ اللَّهُ: والَّذِي مِنهُ في الصَّحِيحِ؛ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأ سُورَةَ (والنَّجْمِ ) وهو بِمَكَّةَ. فَسَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ والمُشْرِكُونَ والإنْسُ والجِنُّ» .
هَذا تَوْهِينُهُ مِن طَرِيقِ النَّقْلِ.
وأمّا مِن جِهَةِ المَعْنى فَقَدْ قامَتِ الحُجَّةُ وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى عِصْمَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، ونَزاهَتِهِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الرَّذِيلَةِ. إمّا مِن تَمَنِّيهِ أنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذا مِن مَدْحِ غَيْرِ اللَّهِ وهو كُفْرٌ، أوْ أنْ يَتَسَوَّرَ عَلَيْهِ الشَّيْطانُ ويُشَبِّهَ عَلَيْهِ القُرْآنَ حَتّى يَجْعَلَ فِيهِ ما لَيْسَ مِنهُ، حَتّى يُنَبِّهَهُ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِما السَّلامُ. وذَلِكَ كُلُّهُ مُمْتَنِعٌ في حَقِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ. أوْ يَقُولُ ذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ مِن (p-٤٣٥٦)قِبَلِ نَفْسِهِ عَمْدًا، وذَلِكَ كُفْرٌ. أوْ سَهْوًا وهو مَعْصُومٌ مِن هَذا كُلِّهِ. ووَجْهٌ ثانٍ - وهو اسْتِحالَةُ هَذِهِ القِصَّةِ نَظَرًا وعُرْفًا. وذَلِكَ أنَّ الكَلامَ، لَوْ كانَ كَما رُوِيَ، بَعِيدُ الِالتِئامِ، مُتَناقِضُ الأقْسامِ مُمْتَزِجُ المَدْحِ بِالذَّمِّ، مُتَخاذِلُ التَّأْلِيفِ. ولَمّا كانَ النَّبِيُّ ﷺ ولا مَن بِحَضْرَتِهِ مِنَ المُسْلِمِينَ وصَنادِيدِ المُشْرِكِينَ، مِمَّنْ يَخْفى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وهَذا لا يَخْفى عَلى أدْنى مُتَأمِّلٍ. فَكَيْفَ بِمَن رَجَحَ حِلْمُهُ، واتَّسَعَ في بابِ البَيانِ ومَعْرِفَةِ فَصِيحِ الكَلامِ عِلْمُهُ ؟ ووَجْهٌ ثالِثٌ - أنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِن عادَةِ المُنافِقِينَ ومُعانِدِي المُشْرِكِينَ وضَعَفَةِ القُلُوبِ والجَهَلَةِ مِنَ المُسْلِمِينَ، نُفُورُهم مِن أوَّلِ وهْلَةٍ، وتَخْلِيطُ العَدُوِّ عَلى النَّبِيِّ ﷺ لِأقَلِّ فِتْنَةٍ، وتَعْيِيرُهُمُ المُسْلِمِينَ والشَّماتُ بِهِمُ الفَيْنَةَ بَعْدَ الفَيْنَةِ. وارْتِدادُ مَن في قَلْبِهِ مُرَضٌ مِمَّنْ أظْهَرَ الإسْلامَ لِأدْنى شُبْهَةٍ. ولَمْ يَحْكِ أحَدٌ في هَذِهِ القِصَّةِ شَيْئًا سِوى هَذِهِ الرِّوايَةِ الضَّعِيفَةِ الأصْلِ. ولَوْ كانَ ذَلِكَ لَوَجَدَتْ قُرَيْشٌ بِها عَلى المُسْلِمِينَ الصَّوْلَةَ. ولَأقامَتْ بِها اليَهُودُ عَلَيْهِمُ الحُجَّةَ. كَما فَعَلُوهُ مُكابَرَةً في قِصَّةِ الإسْراءِ حَتّى كانَتْ في ذَلِكَ لِبَعْضِ الضُّعَفاءِ رِدَّةٌ. وكَذَلِكَ ما رُوِيَ في قِصَّةِ القَضِيَّةِ. ولا فِتْنَةَ أعْظَمَ مِن هَذِهِ البَلِيَّةِ لَوْ وُجِدَتْ. ولا تَشْغِيبَ لِلْمُعادِي حِينَئِذٍ أشَدَّ مِن هَذِهِ الحادِثَةِ لَوْ أمْكَنَتْ. فَما رُوِيَ عَنْ مُعانِدٍ فِيها كَلِمَةٌ. ولا عَنْ مُسْلِمٍ بِسَبَبِها بِنْتُ شَفَةٍ. فَدَلَّ عَلى بُطْلانِها، واجْتِثاثِ أصْلِها. ولا شَكَّ في إدْخالِ بَعْضِ شَياطِينِ الإنْسِ والجِنِّ، عَلى بَعْضِ مُغَفَّلِي المُحَدِّثِينَ، لِيُلَبِّسَ بِهِ عَلى ضُعَفاءِ المُسْلِمِينَ.
ووَجْهٌ رابِعٌ - ذَكَرَ الرُّواةُ لِهَذِهِ القَضِيَّةِ أنَّ فِيها نَزَلَتْ: ﴿وإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ﴾ [الإسراء: ٧٣] الآيَتَيْنِ. وهاتانِ الآيَتانِ تَرُدّانِ الخَبَرَ الَّذِي رَوَوْهُ. لِأنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ أنَّهم كادُوا يَفْتِنُونَهُ حَتّى يَفْتَرِيَ، وأنَّهُ لَوْلا أنْ ثَبَّتَهُ لَكادَ يَرْكَنُ إلَيْهِمْ. فَمَضْمُونُ هَذا ومَفْهُومُهُ، أنَّ اللَّهَ تَعالى عَصَمَهُ مِن أنْ يَفْتَرِيَ، وثَبَّتَهُ حَتّى لَمْ يَرْكَنْ إلَيْهِمْ قَلِيلًا، فَكَيْفَ كَثِيرًا ؟ وهم يَرْوُونَ في أخْبارِهِمُ الواهِيَةِ أنَّهُ زادَ عَلى الرُّكُونِ والِافْتِراءِ بِمَدْحِ آلِهَتِهِمْ. وهَذا ضِدَّ مَفْهُومِ الآيَةِ، ويُضَعِّفُ الحَدِيثَ، لَوْ صَحَّ، فَكَيْفَ ولا صِحَّةَ لَهُ ؟ وأمّا المَأْخَذُ الثّانِي فَهو مَبْنِيٌّ عَلى تَسْلِيمِ الحَدِيثِ، لَوْ صَحَّ. وقَدْ أعاذَنا اللَّهُ مِن صِحَّتِهِ. ولَكِنْ عَلى كُلِّ حالٍ فَقَدْ أجابَ عَنْ ذَلِكَ (p-٤٣٥٧)أئِمَّةُ المُسْلِمِينَ بِأجْوِبَةٍ مِنها الغَثُّ والسَّمِينُ. فَمِنها ما رَواهُ قَتادَةُ ومُقاتِلٌ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أصابَتْهُ سِنَةٌ عِنْدَ قِراءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ. فَجَرى هَذا الكَلامُ عَلى لِسانِهِ بِحُكْمِ النَّوْمِ. وهَذا لا يَصِحُّ. إذْ لا يَجُوزُ عَلى النَّبِيِّ ﷺ مِثْلُهُ في حالَةٍ مِن أحْوالِهِ. ولا يَخْلُقُهُ اللَّهُ عَلى لِسانِهِ ولا يَسْتَوْلِي الشَّيْطانُ عَلَيْهِ في نَوْمٍ ولا يَقَظَةٍ، لِعِصْمَتِهِ في هَذا البابِ مِن جَمِيعِ العَمْدِ والسَّهْوِ. وقَدْ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ««إنَّ عَيْنَيَّ تَنامانِ ولا يَنامُ قَلْبِي»» . وفي حَدِيثِ الكَلْبِيِّ؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَدَّثَ نَفْسَهُ، فَقالَ ذَلِكَ الشَّيْطانُ عَلى لِسانِهِ. وفي رِوايَةِ ابْنِ شِهابٍ عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قالَ: ومِنها لَمّا أُخْبِرَ بِذَلِكَ قالَ: إنَّما ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطانِ. وكُلُّ هَذا لا يَصِحُّ أنْ يَقُولَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لا سَهْوًا ولا قَصْدًا. ولا يَتَقَوَّلُهُ الشَّيْطانُ عَلى لِسانِهِ. وقِيلَ: لَعَلَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَهُ أثْناءَ تِلاوَتِهِ، عَلى تَقْدِيرِ التَّقْرِيرِ والتَّوْبِيخِ لِلْكُفّارِ. كَقَوْلِ إبْراهِيمَ: ﴿هَذا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٦] عَلى أحَدِ التَّأْوِيلاتِ. وكَقَوْلِهِ: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهم هَذا﴾ [الأنبياء: ٦٣] بَعْدَ السَّكْتِ وبَيانِ الفَصْلِ بَيْنَ الكَلامَيْنِ. ثُمَّ رَجَعَ إلى تِلاوَتِهِ. وهَذا مُمْكِنٌ مَعَ بَيانِ الفَصْلِ وقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلى المُرادِ، وأنَّهُ لَيْسَ مِنَ المَتْلُوِّ. وهو أحَدُ ما ذَكَرَهُ القاضِي أبُو بَكْرٍ.
ومِمّا يَظْهَرُ في تَأْوِيلِهِ، إنْ سَلَّمْنا القِصَّةَ، أنْ يُرادَ بِالغَرانِيقِ المَلائِكَةُ. ورَجاءُ الشَّفاعَةِ مِنَ المَلائِكَةِ صَحِيحٌ. فَلَمّا تَأوَّلَهُ المُشْرِكُونَ عَلى أنَّ المُرادَ بِها آلِهَتُهم. ولَبَّسَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ ذَلِكَ وزَيَّنَهُ في قُلُوبِهِمْ، وألْقاهُ إلَيْهِمْ، نَسَخَ اللَّهُ ما ألْقى الشَّيْطانُ وأحْكَمَ آياتِهِ ورَفَعَ تِلاوَةَ تِلْكَ اللَّفْظَتَيْنِ. انْتَهى كَلامُ القاضِي مُلَخَّصًا.
وقالَ أبُو بَكْرٍ الباقِلّانِيُّ: وقِيلَ كانَ ﷺ يُرَتِّلُ القُرْآنَ، فارْتَصَدَهُ الشَّيْطانُ في سَكْتَةٍ (p-٤٣٥٨)مِنَ السَّكَتاتِ. ونَطَقَ بِتِلْكَ الكَلِماتِ، مُحاكِيًا نَغْمَتَهُ. بِحَيْثُ سَمِعَهُ مَن دَنا إلَيْهِ، فَظَنَّها مِن قَوْلِهِ تَعالى وأشاعَها.
قالَ: وهَذا أحْسَنُ الوُجُوهِ. ويُؤَيِّدُهُ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن تَفْسِيرِ (تَمَنّى ) بِـ(تَلا ) وكَذا اسْتَحْسَنَ ابْنُ العَرَبِيِّ هَذا التَّأْوِيلَ. وقالَ قَبْلَهُ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَصٌّ في بَراءَةِ النَّبِيِّ ﷺ ما نُسِبَ إلَيْهِ، وأنَّ الشَّيْطانَ زادَهُ في قَوْلِهِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، لا أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَهُ.
قالَ: وقَدْ سَبَقَ إلى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ فَصَوَّبَ هَذا المَعْنى وحَوَّمَ عَلَيْهِ. واسْتِحْسانُ ابْنِ العَرَبِيِّ ذَلِكَ، عَلى فَرْضِ صِحَّةِ القِصَّةِ، وإلّا فَقَدَ قالَ: ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ في ذَلِكَ رِواياتٍ كَثِيرَةً باطِلَةً لا أصْلَ لَها. وقالَ تَقِيُّ الدِّينَ بْنُ تَيْمِيَةَ: في الآيَةِ قَوْلانِ والمَأْثُورُ عَنِ السَّلَفِ يُوافِقُ القُرْآنَ بِذَلِكَ. والَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ مِنَ المُتَأخِّرِينَ طَعَنُوا فِيما يُنْقَلُ مِنَ الزِّيادَةِ في سُورَةِ النَّجْمِ بِقَوْلِهِ: (تِلْكَ الغَرانِيقُ العُلى وإنَّ شَفاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجى ) . وقالُوا: إنَّ هَذا لَمْ يَثْبُتْ. ومَن عَلِمَ أنَّهُ ثَبَتَ قالَ: هَذا ألْقاهُ الشَّيْطانُ في مَسامِعِهِمْ، ولَمْ يَلْفِظْ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ . ولَكِنَّ السُّؤالَ وارِدٌ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ أيْضًا.
وقالُوا في قَوْلِهِ: ﴿إلا إذا تَمَنّى ألْقى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: ٥٢] هو حَدِيثُ النَّفْسِ وأمّا الَّذِينَ قَرَّرُوا ما نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ، فَقالُوا: هَذا مَنقُولٌ نَقْلًا ثابِتًا لا يُمْكِنُ القَدْحُ فِيهِ وقالُوا: الآثارُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ مَعْرُوفَةٌ ثابِتَةٌ في كُتُبِ التَّفْسِيرِ والحَدِيثِ. والقُرْآنُ يُوافِقُ ذَلِكَ. فَإنَّ نَسْخَ اللَّهِ لِما يُلْقِي الشَّيْطانُ، وإحْكامَهُ آياتِهِ، إنَّما يَكُونُ لِرَفْعِ ما وقَعَ في آياتِهِ، وتَمْيِيزِ الحَقِّ عَنِ الباطِلِ حَتّى لا تَخْتَلِطَ آياتُهُ بِغَيْرِها. وجَعْلُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينِ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والقاسِيَةِ قُلُوبُهم، إنَّما يَكُونُ ذَلِكَ ظاهِرًا يَسْمَعُهُ النّاسُ، لا باطِنًا في النَّفْسِ. والفِتْنَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَذا النَّوْعِ مِنَ النَّسْخِ، مِن جِنْسِ الفِتْنَةِ الَّتِي تَحْصُلُ بِالنَّوْعِ الآخَرِ مِنَ النَّسْخِ. وهَذا النَّوْعُ أدَلُّ عَلى صِدْقِ الرَّسُولِ ﷺ، وبُعْدِهِ عَنِ الهَوى، مِن ذَلِكَ النَّوْعِ. فَإنَّهُ إذا كانَ يَأْمُرُ بِأمْرٍ ثُمَّ يَأْمُرُ بِخِلافِهِ وكِلاهُما مِن عِنْدِ اللَّهِ، وهو مُصَدَّقٌ في ذَلِكَ، فَإذا قالَ عَنْ نَفْسِهِ أنَّ الثّانِيَ هو الَّذِي (p-٤٣٥٩)مِن عِنْدِ اللَّهِ وهو النّاسِخُ، وإنَّ ذَلِكَ المَرْفُوعَ الَّذِي نَسَخَهُ اللَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، كانَ أدَلَّ عَلى اعْتِمادِهِ لِلصِّدْقِ وقَوْلِ الحَقِّ. وهَذا كَما قالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: لَوْ كانَ مُحَمَّدٌ كاتِمًا شَيْئًا مِنَ الوَحْيِ لَكَتَمَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿وتُخْفِي في نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ وتَخْشى النّاسَ واللَّهُ أحَقُّ أنْ تَخْشاهُ﴾ [الأحزاب: ٣٧] ألا تَرى أنَّ الَّذِي يُعَظِّمُ نَفْسَهُ بِالباطِلِ يُرِيدُ أنْ يَنْصُرَ كُلَّ ما قالَهُ ولَوْ كانَ خَطَأً. فَبَيانُ الرَّسُولِ ﷺ أنَّ اللَّهَ أحْكَمَ آياتِهِ ونَسَخَ ما ألْقاهُ الشَّيْطانُ، هو أدَلُّ عَلى تَحَرِّيهِ لِلصِّدْقِ وبَراءَتِهِ مِنَ الكَذِبِ. وهَذا هو المَقْصُودُ بِالرِّسالَةِ. فَإنَّهُ الصّادِقُ المَصْدُوقُ ﷺ تَسْلِيمًا. انْتَهى.
وفِي كَلامِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ نَظَرٌ مِن وُجُوهٍ:
أوَّلًا: دَعْواهُ أنَّ المَأْثُورَ يُوافِقُ القُرْآنَ. فَإنَّهُ ذَهابٌ إلى أنَّ الإلْقاءَ إلْقاءٌ في الآياتِ. ولا تَدُلُّ الآيَةُ عَلَيْهِ، لا مُطابَقَةً ولا التِزامًا. بَلِ القَوْلُ بِذَلِكَ يُنافِي التَّنْزِيلَ والوَحْيَ مُنافاةَ النّارِ لِلْماءِ، كَما سَتَراهُ.
وثانِيًا: دَعْواهُ أنَّ تِلْكَ الرِّوايَةَ نَقْلُها ثابِتٌ لا يُمْكِنُ القَدْحُ فِيهِ. فَقَدْ قَدَحَ فِيها مَن لا يُحْصى مِنَ المُتَقَدِّمِينَ والمُتَأخِّرِينَ. ويَكْفِي أنَّ تِلْمِيذَهُ الحافِظَ ابْنَ كَثِيرٍ قالَ: قَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ ها هُنا قِصَّةَ الغَرانِيقِ. وما كانَ مِن رُجُوعِ كَثِيرٍ مِنَ المُهاجِرَةِ إلى أرْضِ الحَبَشَةِ، ظَنًّا مِنهم أنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ أسْلَمُوا. ولَكِنَّها مِن طُرُقٍ كُلُّها مُرْسَلَةٌ. ولَمْ أرَها مُسْنَدَةً مِن وجْهٍ صَحِيحٍ. وتَعْدادُ طُرُقِها، بَعْدَ ضَعْفِ أصْلِها، لا يُفِيدُ. وهَذِهِ شُبْهَةٌ يَعْتَمِدُها كَثِيرٌ مِنَ الواقِفِينَ مَعَ الرِّواياتِ. يَظُنُّونَ أنَّ الضَّعِيفَ بِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يَقْوى. والحالُ أنَّ الضَّعِيفَ ضَعِيفٌ كَيْفَما جاءَ. وقَدْ سَرَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ لِلْحافِظِ ابْنِ حَجَرٍ. فَأخَذَ يُقَوِّي بَعْضَ طُرُقِها ويُصَحِّحُها مِن جِهَةِ الإسْنادِ. كَما سَتَمُرُّ بِكَ مُناقَشَتُهُ. ولَوْ كانَ لَها أدْنى رائِحَةٍ مِنَ الصِّحَّةِ لَأخْرَجَها البُخارِيُّ مُعَلَّقَةً أوْ مَوْقُوفَةً، أوْ أرْبابُ السُّنَنِ.
(p-٤٣٦٠)وثالِثًا: اعْتِرافُهُ بِأنَّ السُّؤالَ وارِدٌ عَلى تَقْدِيرِ ثُبُوَتِها، وإلْقاءِ الشَّيْطانِ ذَلِكَ في مَسامِعِهِمْ، مِمّا يُبَرْهِنُ أنَّ فِيها مَغامِزَ تَنْبِذُها العُقُولُ، كَما نَبَذَتْها صِحَّةُ النُّقُولِ.
* * *
فَصْلٌ
وقالَ الفَخْرُ الرّازِيُّ في (تَفْسِيرِهِ "): هَذِهِ الرِّوايَةُ باطِلَةٌ مَوْضُوعَةٌ، عِنْدَ أهْلِ التَّحْقِيقِ. واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالقُرْآنِ والسُّنَّةِ والمَعْقُولِ. أمّا القُرْآنُ فَوُجُوهٌ:
أحَدُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاوِيلِ﴾ [الحاقة: ٤٤] ﴿لأخَذْنا مِنهُ بِاليَمِينِ﴾ [الحاقة: ٤٥] ﴿ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنهُ الوَتِينَ﴾ [الحاقة: ٤٦]
وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿قُلْ ما يَكُونُ لِي أنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِي إنْ أتَّبِعُ إلا ما يُوحى إلَيَّ﴾ [يونس: ١٥]
وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿وما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى﴾ [النجم: ٣] ﴿إنْ هو إلا وحْيٌ يُوحى﴾ [النجم: ٤]
ورابِعُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وإذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا﴾ [الإسراء: ٧٣] وكَلِمَةُ كادَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مَعْناها أنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ.
وخامِسُها: قَوْلُهُ: ﴿ولَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا﴾ [الإسراء: ٧٤] وكَلِمَةُ لَوْلا تُفِيدُ انْتِفاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفاءِ غَيْرِهِ. فَدَلَّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الرُّكُونَ القَلِيلَ لَمْ يَحْصُلْ.
وسادِسُها: إلى قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ﴾ [الفرقان: ٣٢]
وسابِعُها: قَوْلُهُ: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى﴾ [الأعلى: ٦]
وأمّا السُّنَّةُ فَهي ما رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، أنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ القِصَّةِ فَقالَ: هَذا وضْعٌ مِنَ الزَّنادِقَةِ. وصَنَّفَ فِيهِ كِتابًا.
(p-٤٣٦١)وقالَ الإمامُ أبُو بَكْرٍ أحْمَدُ بْنُ الحُسَيْنِ البَيْهَقِيُّ: هَذِهِ القِصَّةُ غَيْرُ ثابِتَةٍ مِن جِهَةِ النَّقْلِ. ثُمَّ أخَذَ يَتَكَلَّمُ في أنَّ رُواةَ هَذِهِ القِصَّةِ مَطْعُونٌ فِيهِمْ. وأيْضًا فَقَدْ رَوىالبُخارِيُّ في صَحِيحِهِ «أنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ قَرَأ سُورَةَ (والنَّجْمِ ) وسَجَدَ فِيها المُسْلِمُونَ والمُشْرِكُونَ والإنْسُ والجِنُّ» . ولَيْسَ فِيهِ حَدِيثُ الغَرانِيقِ. ورُوِيَ هَذا الحَدِيثُ مِن طُرُقٍ كَثِيرَةٍ ولَيْسَ فِيها البَتَّةَ حَدِيثُ الغَرانِيقِ.
وأمّا المَعْقُولُ فَمِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ مَن جَوَّزَ عَلى الرَّسُولِ ﷺ تَعْظِيمَ الأوْثانِ، فَقَدْ كَفَرَ لِأنَّ مِنَ المَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أنَّ أعْظَمَ سَعْيِهِ كانَ في نَفْيِ الأوْثانِ.
وثانِيها: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ يُمْكِنُهُ في أوَّلِ الأمْرِ أنْ يُصَلِّيَ ويَقْرَأ القُرْآنَ عِنْدَ الكَعْبَةِ آمِنًا أذى المُشْرِكِينَ لَهُ طُولَ دَعَوْتِهِ. حَتّى كانُوا رُبَّما مَدُّوا أيْدِيَهم إلَيْهِ. وإنَّما كانَ يُصَلِّي، إذا لَمْ يَحْضُرُوها، لَيْلًا، أوْ في أوْقاتِ خَلْوَةٍ. وذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهم.
وثالِثُها: أنَّ مُعاداتَهم لِلرَّسُولِ كانَتْ أعْظَمَ مِن أنْ يُقِرُّوا بِهَذا القَدْرِ مِنَ القِراءَةِ، دُونَ أنْ يَقِفُوا عَلى حَقِيقَةِ الأمْرِ. فَكَيْفَ أجْمَعُوا عَلى أنَّهُ عَظَّمَ آلِهَتَهم حَتّى خَرُّوا سُجَّدًا ؟ مَعَ أنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عِنْدَهم مُوافَقَتُهُ لَهم.
ورابِعُها: قَوْلُهُ: ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ﴾ [الحج: ٥٢] وذَلِكَ لِأنَّ إحْكامَ الآياتِ بِإزالَةِ ما يُلْقِيهِ الشَّيْطانُ عَنِ الرَّسُولِ، أقْوى مِن نَسْخِهِ بِهَذِهِ الآياتِ الَّتِي تَبْقى الشُّبْهَةُ مَعَها. فَإذا أرادَ اللَّهُ إحْكامَ الآياتِ، لِئَلّا يَلْتَبِسَ ما لَيْسَ بِقُرْآنٍ قُرْآنًا، فَبِأنْ يَمْنَعَ الشَّيْطانُ مِن ذَلِكَ أصْلًا، أوْلى.
وخامِسُها: وهو أقْوى الوُجُوهِ، أنّا لَوْ جَوَّزْنا ذَلِكَ ارْتَفَعَ الأمانُ عَنْ شَرْعِهِ. وجَوَّزْنا (p-٤٣٦٢)فِي كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأحْكامِ والشَّرائِعِ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، ويَبْطُلُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْـزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧] فَإنَّهُ لا فَرْقَ في العَقْلِ بَيْنَ النُّقْصانِ عَنِ الوَحْيِ، وبَيْنَ الزِّيادَةِ فِيهِ. فَبِهَذِهِ الوُجُوهِ عَرَفْنا عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ، أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ مَوْضُوعَةٌ.
أكْثَرُ ما في البابِ أنَّ جَمْعًا مِنَ المُفَسِّرِينَ ذَكَرَها. لَكِنَّهم ما بَلَغُوا حَدَّ التَّواتُرِ. وخَبَرُ الواحِدِ لا يُعارِضُ الدَّلائِلَ النَّقْلِيَّةَ والعَقْلِيَّةَ المُتَواتِرَةَ.
ثُمَّ أطالَ الرّازِيُّ في تَفْصِيلِ المَباحِثِ. ونَقَلَ عَنْ أبِي مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيِّ ما تَوَسَّعَ بِهِ البَحْثُ فانْظُرْهُ إنْ شِئْتَ.
فَصْلٌ
وكَتَبَ الأُسْتاذُ الإمامُ مُفْتِي مِصْرَ، الشَّيْخُ مُحَمَّدُ عَبْدُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ في هَذِهِ الآيَةِ مَقالَةً بَدِيعِيَّةً، نَقْتَبِسُ مِنها شَذَراتٍ.
قالَ: يَعْلَمُ كُلُّ ناظِرٍ في كِتابِنا الإلَهِيِّ (القُرْآنِ ") ما رَفَعَ الإسْلامُ مِن شَأْنِ الأنْبِياءِ والمُرْسَلِينَ، والمَنزِلَةِ الَّتِي أحَلَّهم مِن حَيْثُ هم حَمَلَةُ الوَحْيِ وقُدْوَةُ البَشَرِ، في الفَضائِلِ وصالِحِ الأعْمالِ. وتَنْزِيهُهُ إيّاهم عَمّا رَماهم بِهِ أعْداؤُهم وما نَسَبَهُ إلَيْهِمُ المُعْتَقِدُونَ بِأدْيانِهِمْ. ولا يَخْفى عَلى أحَدٍ مِن أهْلِ النَّظَرِ، في هَذا الدِّينِ القَوِيمِ، أنَّهُ قَدْ قَرَّرَ عِصْمَةَ الرُّسُلِ كافَّةً مِنَ الزَّلَلِ في التَّبْلِيغِ، والزَّيْغِ عَنِ الوُجْهَةِ الَّتِي وجَّهَ اللَّهُ وُجُوهَهم نَحْوَها مِن قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ. وخَصَّ خاتَمَهم مُحَمَّدًا ﷺ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَزايا فُصِّلَتْ في ثَنايا الكِتابِ العَزِيزِ. وعِصْمَةُ الرُّسُلِ في التَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ، أصْلٌ مِن أُصُولِ الإسْلامِ. شَهِدَ بِهِ الكِتابُ وأيَّدَتْهُ السُّنَّةُ، وأجْمَعَتْ عَلَيْهِ الأُمَّةُ. وما خالَفَ فِيهِ بَعْضُ الفِرَقِ، فَإنَّما هو في غَيْرِ الإخْبارِ عَنِ اللَّهِ وإبْلاغِ وحْيِهِ إلى خَلْقِهِ. ذَلِكَ الأصْلُ الَّذِي اعْتَمَدَتْ عَلَيْهِ الأدْيانُ، حَقٌّ لا يَرْتابُ فِيهِ مِلِّيٌّ يَفْهَمُ ما مَعْنى الدِّينِ. ومَعَ ذَلِكَ لَمْ يُعْدَمِ الباطِلُ فِيهِ أعْوانًا يَعْمَلُونَ عَلى هَدْمِهِ وتُوهِيَنِ رُكْنِهِ. أُولَئِكَ عُشّاقُ الرُّواةِ (p-٤٣٦٣)وعَبَدَةُ النَّقْلِ. نَظَرُوا نَظْرَةً في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ﴾ [الحج: ٥٢] وفِيما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما مِن أنَّ تَمَنّى بِمَعْنى قَرَأ والأُمْنِيَّةُ القِراءَةُ ) فَعَمِيَ عَلَيْهِمْ وجْهُ التَّأْوِيلِ، عَلى فَرْضِ صِحَّةِ الرِّوايَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، فَذَهَبُوا يَطْلُبُونَ ما بِهِ يَصِحُّ التَّأْوِيلُ في زَعْمِهِمْ. فَقَيَّضَ لَهم مَن يَرْوِي في ذَلِكَ أحادِيثَ تَخْتَلِفُ طُرُقُها وتَتَبايَنُ ألْفاظُها وتَتَّفِقُ في أنَّ النَّبِيَّ ﷺ عِنْدَما بَلَغَ مِنهُ أذى المُشْرِكِينَ ما بَلَغَ، وأعْرَضُوا عَنْهُ، وجَفاهُ قَوْمُهُ وعَشِيرَتُهُ، لِعَيْبِهِ أصْنامَهم وزِرايَتِهِ عَلى آلِهَتِهِمْ، أخَذَهُ الضَّجَرُ مِن إعْراضِهِمْ. ولِحِرْصِهِ عَلى إسْلامِهِمْ تَمَنّى ألّا يَنْزِلَ عَلَيْهِ ما يُنَفِّرُهم، لَعَلَّهُ يَتَّخِذُ ذَلِكَ طَرِيقًا إلى اسْتِمالَتِهِمْ. فاسْتَمَرَّ بِهِ ما تَمَنّاهُ حَتّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ (والنَّجْمِ ) إلى آخِرِ ما رَواهُ ابْنُ جَرِيرٍ أوَّلًا. وقَدْ شايَعَهُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، وفي طِباعِ النّاسِ إلْفُ الغَرِيبِ، والتَّهافُتُ عَلى العَجِيبِ. فَوَلِعُوا بِهَذِهِ التَّفاسِيرِ، ونَسُوا ما رَآهُ جُمْهُورُ المُحَقِّقِينَ في تَأْوِيلِها. وذَهَبَ إلَيْهِ الأئِمَّةُ في بَيانِها.
جاءَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ: وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ في: ﴿إذا تَمَنّى ألْقى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: ٥٢] إذا حَدَّثَ ألْقى الشَّيْطانُ في حَدِيثِهِ فَيُبْطِلُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ويُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ. ويُقالُ: (أُمْنِيَّتُهُ قِراءَتُهُ ): ﴿إلا أمانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] يَقْرَؤُونَ ولا يَكْتُبُونَ. انْتَهى.
فَتَراهُ حَكى تَفْسِيرَ الأُمْنِيَّةِ بِالقِراءَةِ بِلَفْظٍ (يُقالُ ) بَعْدَما فَسَّرَها بِالحَدِيثِ رِوايَةً عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وهَذا يَدُلُّ عَلى المُغايَرَةِ بَيْنَ التَّفْسِيرَيْنِ. فَما يَدَّعِيهِ الشُّرّاحُ أنَّ الحَدِيثَ في رَأْيِ ابْنِ عَبّاسٍ بِمَعْنى التِّلاوَةِ يُخالِفُ ظاهِرَ العِبارَةِ. ثُمَّ حِكايَةُ تَفْسِيرِ الأُمْنِيَّةِ بِمَعْنى القِراءَةِ بِلَفْظٍ (يُقالُ ) يُفِيدُ أنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَهُ. وسَيَأْتِي أنَّ المُرادَ بِالحَدِيثِ حَدِيثُ النَّفْسِ.
وقالَ صاحِبُ الإبْرِيزِ: إنَّ تَفْسِيرَ (تَمَنّى ) بِمَعْنى: (قَرَأ )، و(الأُمْنِيَّةُ ) بِمَعْنى: (القِراءَةِ ) مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في نُسْخَةِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. ورَواها عَلِيُّ بْنُ صالِحٍ كاتِبُ اللَّيْثِ عَنْ مُعاوِيَةَ بْنِ صالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقَدْ عُلِمَ ما لِلنّاسِ (p-٤٣٦٤)فِي ابْنِ أبِي صالِحٍ كاتِبِ اللَّيْثِ، وأنَّ المُحَقِّقِينَ عَلى تَضْعِيفِهِ. انْتَهى.
وهَذا ما في الرِّوايَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وهي أصْلُ هَذِهِ الفِتْنَةِ وقَدْ رَأيْتُ أنَّ المُحَقِّقِينَ يُضَعِّفُونَ راوِيَها. وأمّا قِصَّةُ الغَرانِيقِ، فَمَعَ ما فِيها مِنَ الِاخْتِلافِ، فَقَدْ طَعَنَ فِيها غَيْرُ واحِدٍ مِنَ الأئِمَّةِ، حَتّى قالَ ابْنُ إسْحاقَ: إنَّها مِن وضْعِ الزَّنادِقَةِ. كَما تَقَدَّمَ عَنِ الرّازِيِّ، ونَحْوَهُ عَنِ القاضِي عِياضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، مِن وهَنِها وسُقُوطِها مِن عِدَّةِ أوْجُهٍ.
وأمّا ما ذَكَرَهُ ابْنُ حَجْرٍ مِن أنَّ القِصَّةَ رُوِيَتْ مُرْسَلَةً مِن طُرُقٍ عَلى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وأنَّهُ يَحْتَجُّ بِها مَن يَرى الِاحْتِجاجَ بِالمُرْسَلِ، فَقَدْ ذَهَبَ عَلَيْهِ كَما قالَ في الإبْرِيزِ؛ أنَّ العِصْمَةَ مِنَ العَقائِدِ الَّتِي يُطْلَبُ فِيها اليَقِينُ. فالحَدِيثُ الَّذِي يُرِيدُ خَرْمَها ونَقْضَها، لا يَقْبَلُ عَلى أيِّ وجْهٍ جاءَ. وقَدْ عَدَّ الأُصُولِيُّونَ الخَبَرَ الَّذِي يَكُونُ عَلى تِلْكَ الصِّفَةِ، مِنَ الأخْبارِ الَّتِي يَجِبُ القَطْعُ بِكَذِبِها. هَذا لَوْ فُرِضَ اتِّصالُ الحَدِيثِ، فَما ظَنُّكَ بِالمَراسِيلِ ؟ وإنَّما الخِلافُ في الِاحْتِجاجِ بِالمُرْسَلِ وعَدَمِ الِاحْتِجاجِ بِهِ، فِيما هو مِن قَبِيلِ الأعْمالِ وفُرُوعِ الأحْكامِ، لا في أُصُولِ العَقائِدِ ومَعاقِدِ الإيمانِ بِالمُرْسَلِ وما جاءُوا بِهِ. فَهي هَفْوَةٌ مِنَ ابْنِ حَجَرٍ يَغْفِرُها اللَّهُ لَهُ.
هَذا ما قالَهُ الأئِمَّةُ، جَزاهُمُ اللَّهُ خَيْرًا، في بَيانِ فَسادِ هَذِهِ القِصَّةِ، وأنَّها لا أصْلَ لَها. ولا عِبْرَةَ بِرَأْيِ مَن خالَفَهم. فَلا يُعْتَدُّ بِذِكْرِها في بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وإنْ بَلَغَ أرْبابُها مِنَ الشُّهْرَةِ ما بَلَغُوا. وشُهْرَةُ المُبْطِلِ في بَطَلِهِ، لا تَنْفُخُ القُوَّةَ في قَوْلِهِ. ولا تُحْمَلُ عَلى الأخْذِ بِرَأْيِهِ.
ثُمَّ قالَ الأُسْتاذُ رَحِمَهُ اللَّهُ: والآنَ أرْجِعُ إلى تَفْسِيرِ الآياتِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي تَحْتَمِلُها ألْفاظُها وتَدُلُّ عَلَيْهِ عِباراتُها. واللَّهُ أعْلَمُ:
لا يَخْفى عَلى كُلِّ مَن يَفْهَمُ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ، وقَرَأ شَيْئًا مِنَ القُرْآنِ، أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ﴾ [الحج: ٥٢] الآياتِ، يَحْكِي قَدَرًا قُدِّرَ لِلْمُرْسَلِينَ كافَّةً، لا يَعْدُونَهُ ولا يَقِفُونَ دُونَهُ. ويَصِفُ شَنْشَنَةً عُرِفَتْ فِيهِمْ، وفي أُمَمِهِمْ. فَلَوْ صَحَّ ما قالَ أُولَئِكَ المُفَسِّرُونَ لَكانَ المَعْنى: أنَّ جَمِيعَ الأنْبِياءِ والمُرْسَلِينَ قَدْ سُلِّطَ الشَّيْطانُ عَلَيْهِمْ فَخَلَّطَ في الوَحْيِ المُنَزَّلِ (p-٤٣٦٥)إلَيْهِمْ. ولَكِنَّهُ بَعْدَ هَذا الخَلْطِ يَنْسَخُ اللَّهُ كَلامَ الشَّيْطانِ ويُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ إلَخْ، وهَذا مِن أقْبَحِ ما يَتَصَوَّرُ مُتَصَوِّرٌ في اخْتِصاصِ اللَّهِ تَعالى لِأنْبِيائِهِ، واخْتِيارِهِمْ مِن خاصَّةِ أوْلِيائِهِ ! فَلْنَدَعْ هَذا الهَذَيانَ، ولْنَعُدْ إلى ما نَحْنُ بِصَدَدِهِ.
* * *
ذَكَرَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ حالًا مِن أحْوالِ الأنْبِياءِ والمُرْسَلِينَ قَبْلَهُ، لِيُبَيِّنَ لَهُ سُنَّتَهُ فِيهِمْ. وذَلِكَ بَعْدَ أنْ قالَ: ﴿وإنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْمُ نُوحٍ وعادٌ وثَمُودُ﴾ [الحج: ٤٢] إلى آخِرِ الآياتِ ثُمَّ قالَ: ﴿قُلْ يا أيُّها النّاسُ إنَّما أنا لَكم نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الحج: ٤٩] ﴿فالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهم مَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الحج: ٥٠] ﴿والَّذِينَ سَعَوْا في آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولَئِكَ أصْحابُ الجَحِيمِ﴾ [الحج: ٥١] ﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ﴾ [الحج: ٥٢] إلَخْ، فالقَصَصُ السّابِقُ كانَ في تَكْذِيبِ الأُمَمِ لِأنْبِيائِهِمْ. ثُمَّ تَبِعَهُ الأمْرُ الإلَهِيُّ بِأنْ يَقُولَ النَّبِيُّ ﷺ لِقَوْمِهِ: إنَّنِي لَمْ أُرْسَلْ إلَيْكم إلّا لِأُنْذِرَكم بِعاقِبَةِ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ، ولِأُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ بِالنَّعِيمِ. وأمّا الَّذِينَ يَسْعَوْنَ في الآياتِ والأدِلَّةِ الَّتِي أُقِيمُها عَلى الهُدى وطُرُقِ السَّعادَةِ، لِيُحَوِّلُوا عَنْها الأنْظارَ ويَحْجُبُوها عَنِ الأبْصارِ، ويُفْسِدُوا أثَرَها الَّذِي أُقِيمَتْ لِأجْلِهِ، ويُعاجِزُوا بِذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ والمُؤْمِنِينَ، أيْ: يُسابِقُوهم لِيُعْجِزُوهم ويُسْكِتُوهم عَنِ القَوْلِ بِذَلِكَ. وذَلِكَ بِلَعِبِهِمْ بِالألْفاظِ وتَحْوِيلِها عَنْ مَقْصِدِ قائِلِها، كَما يَقَعُ عادَةً مِن أهْلِ الجَدَلِ والمُماحَكَةِ - هَؤُلاءِ الضّالُّونَ المُضِلُّونَ هم أصْحابُ الجَحِيمِ. وأعْقَبَ ذَلِكَ بِما يُفِيدُ أنَّ ما ابْتُلِيَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ المُعاجَزَةِ في الآياتِ، قَدِ ابْتُلِيَ بِهِ الأنْبِياءُ السّابِقُونَ. فَلَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ في أُمَّةٍ إلّا كانَ لَهُ خُصُومٌ يُؤْذُونَهُ بِالتَّأْوِيلِ والتَّحْرِيفِ، ويُضادُّونَ أمانِيَهُ، ويَحُولُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما يَبْتَغِي، بِما يُلْقُونَ في سَبِيلِهِ مِنَ العَثَراتِ. فَعَلى هَذا المَعْنى الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ ما لَقِيَهُ الأنْبِياءُ جَمِيعًا، يَجِبُ أنْ تُفَسَّرَ الآيَةُ. وذَلِكَ يَكُونُ عَلى وجْهَيْنِ:
(p-٤٣٦٦)الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ (تَمَنّى ) بِمَعْنى: (قَرَأ ) و(الأُمْنِيَّةُ ) بِمَعْنى: (القِراءَةِ ) وهو مَعْنى قَدْ يَصِحُّ. وقَدْ ورَدَ اسْتِعْمالُ اللَّفْظِ فِيهِ؛ قالَ حَسّانُ بْنُ ثابِتٍ في عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما:
؎تَمَنّى كِتابَ اللَّهِ أوَّلَ لَيْلِهِ * * وآخِرَهُ لاقى حِمامَ المَقادِرِ
وقالَ آخَرُ:
؎تَمَنّى كِتابَ اللَّهِ أوَّلَ لَيْلِهِ * * ∗∗∗ تَمَنِّيَ داوُدَ الزَّبُورَ عَلى رِسْلِ
غَيْرَ أنَّ الإلْقاءَ لا يَكُونُ عَلى المَعْنى الَّذِي ذَكَرُوهُ، بَلْ عَلى المَعْنى المَفْهُومِ مِن قَوْلِكَ: (ألْقَيْتُ في حَدِيثِ فُلانٍ )، إذا أدْخَلْتَ فِيهِ ما رُبَّما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، ولا يَكُونُ قَدْ أرادَهُ. أوْ نَسَبْتَ إلَيْهِ ما لَمْ يَقُلْهُ تَعَلُّلًا بِأنَّ ذَلِكَ الحَدِيثَ يُؤَدِّي إلَيْهِ. وذَلِكَ مِن عَمَلِ المُعاجِزِينَ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ أنْفُسَهم لِمُحارَبَةِ الحَقِّ، يَتَّبِعُونَ الشُّبْهَةَ، ويَسْعَوْنَ وراءَ الرِّيبَةِ، فالإلْقاءُ بِهَذا المَعْنى دَأبُهم، ونِسْبَةُ الإلْقاءِ إلى الشَّيْطانِ لِأنَّهُ مُثِيرُ الشُّبُهاتِ بِوَساوِسِهِ، مُفْسِدُ القُلُوبِ بِدَسائِسِهِ، وكُلُّ ما يَصْدُرُ مِن أهْلِ الضَّلالِ يَصِحُّ أنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ. ويَكُونُ المَعْنى: وما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِن رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إلّا إذا حَدَّثَ قَوْمَهُ عَنْ رَبِّهِ، أوْ تَلا وحْيًا أُنْزِلَ إلَيْهِ في هُدًى لَهم، قامَ في وجْهِهِ مُشاغِبُونَ، يُحَوِّلُونَ ما يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ عَنِ المُرادِ مِنهُ. ويَتَقَوَّلُونَ عَلَيْهِ ما لَمْ يَقُلْهُ، ويَنْشُرُونَ ذَلِكَ بَيْنَ النّاسِ، لِيُبْعِدُوهم عَنْهُ، ويَعْدِلُوا بِهِمْ عَنْ سَبِيلِهِ، ثُمَّ يُحِقُّ اللَّهُ الحَقَّ ويُبْطِلُ الباطِلَ. وما زالَ الأنْبِياءُ يَصْبِرُونَ عَلى ما كُذِّبُوا وأُوذُوا، ويُجاهِدُونَ في الحَقِّ، ولا يَعْتَدُّونَ بِتَعْجِيزِ المُعَجِّزِينَ، ولا بِهَزْءِ المُسْتَهْزِئِينَ إلى أنْ يَظْهَرَ الحَقُّ بِالمُجاهِدَةِ، ويَنْتَصِرَ عَلى الباطِلِ بِالمُجالَدَةِ. فَيَنْسَخُ اللَّهُ تِلْكَ الشُّبَهَ ويَجْتَثُّها مِن أُصُولِها، ويُثْبِتُ آياتِهِ ويُقَرِّرُها. وقَدْ وضَعَ اللَّهُ هَذِهِ السُّنَّةَ في النّاسِ لِيَتَمَيَّزَ الخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ، فَيَفْتَتِنُ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وهم ضُعَفاءُ العُقُولِ، بِتِلْكَ الشُّبَهِ والوَساوِسِ، فَيَنْطَلِقُونَ وراءَها. ويَفْتَتِنُ بِها القاسِيَةُ قُلُوبُهم مِن أهْلِ العِنادِ والمُجاحَدَةِ، فَيَتَّخِذُونَها سَنَدًا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْها في جَدَلِهِمْ. ثُمَّ يَتَمَحَّصُ الحَقُّ عِنْدَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ، ويُخْلِصُ لَهم بَعْدَ وُرُودِ كُلِّ شُبْهَةٍ عَلَيْهِ، فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَيُصَدِّقُونَ بِهِ، فَتُخْبِتُ وتَطْمَئِنُّ لَهُ قُلُوبُهم. والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ هُمُ الَّذِينَ رُزِقُوا قُوَّةَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ البُرْهانِ القاطِعِ الَّذِي (p-٤٣٦٧)يَسْتَقِرُّ بِالعَقْلِ في قَرارَةِ اليَقِينِ. وبَيْنَ المُغالَطاتِ وضُرُوبِ السَّفْسَطَةِ الَّتِي تَطِيشُ بِالفَهْمِ، وتَطِيرُ بِهِ مَعَ الوَهْمِ، وتَأْخُذُ بِالعَقْلِ تارَةً ذاتَ الشِّمالِ وأُخْرى ذاتَ اليَمِينِ. وسَواءٌ أرْجَعْتَ الضَّمِيرَ في (أنَّهُ الحَقُّ ) إلى ما جاءَتْ بِهِ الآياتُ المُحْكَماتُ مِنَ الهُدى الإلَهِيِّ أوْ إلى القُرْآنِ، وهو أجَلُّها، فالمَعْنى مِنَ الصِّحَّةِ عَلى ما يَراهُ أهْلُ التَّمْكِينِ. هَؤُلاءِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا. وهُمُ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ. ولَمْ يَجْعَلْ لِلْوَهْمِ عَلَيْها سُلْطانًا، فَيَحِيدُ بِهِمْ عَنْ ذَلِكَ النَّهْجِ القَوِيمِ. وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا وهم ضُعَفاءُ العُقُولِ ومَرْضى القُلُوبِ، أوْ أهْلُ العِنادِ وزُعَماءُ الباطِلِ وقُساةُ الطِّباعِ، الَّذِينَ لا تَلِينُ أفْئِدَتُهم ولا تَبَشُّ لِلْحَقِّ قُلُوبُهم فَأُولَئِكَ لا يَزالُونَ في رَيْبٍ في الحَقِّ أوِ الكِتابِ. لا تَسْتَقِرُّ عُقُولُهم عَلَيْهِ، ولا يَرْجِعُونَ في مُتَصَرِّفاتِ شُؤُونِهِمْ إلَيْهِ. حَتّى تَأْتِيَ ساعَةُ هَلاكِهِمْ بَغْتَةً، فَيُلاقُوا حِسابَهم عِنْدَ رَبِّهِمْ. أوْ إنِ امْتَدَّ بِهِمُ الزَّمَنُ، ومادَّهُمُ الأجَلُ، فَسَيُصِيبُهم عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. يَوْمَ حَرْبٍ يُسامُونَ فِيهِ سُوءَ العَذابِ، القَتْلَ أوِ الأسْرَ. ويُقْذَفُونَ إلى مَطارِحِ الذُّلِّ وقَراراتِ الشَّرِّ. فَلا يَنْتِجُ لَهم مِن ذَلِكَ اليَوْمِ خَيْرٌ ولا بَرَكَةٌ، بَلْ يُسْلَبُونَ ما كانَ لَدَيْهِمْ ويُساقُونَ إلى مَصارِعِ الهَلَكَةِ. وهَذا هو العُقْمُ في أتَمِّ مَعانِيهِ وأشْأمِ دَرَجاتِهِ. ما أقْرَبَ هَذِهِ الآياتِ في مَغازِيها، إلى قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ: ﴿هُوَ الَّذِي أنْـزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا وما يَذَّكَّرُ إلا أُولُو الألْبابِ﴾ [آل عمران: ٧] وقَدْ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهم أمْوالُهم ولا أوْلادُهم مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وأُولَئِكَ هم وقُودُ النّارِ﴾ [آل عمران: ١٠] ثُمَّ قالَ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وبِئْسَ المِهادُ﴾ [آل عمران: ١٢] إلَخْ الآياتِ. (p-٤٣٦٨)وكَأنَّ إحْدى الطّائِفَتَيْنِ مِنَ القُرْآنِ شَرْحٌ لِلْأُخْرى. فالَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ هُمُ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والقاسِيَةُ قُلُوبُهم. والرّاسِخُونَ في العِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ، وهَؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ. فَيَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا، فَتُخْبِتُ لَهُ قُلُوبُهم، وإنَّ اللَّهَ لَهادِيهِمْ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ يُفْتَتَنُونَ بِالتَّأْوِيلِ، ويَشْتَغِلُونَ بِقالَ وقِيلَ بِما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ويَصْرِفُهم عَنْ مَرامِي البَيانِ، ويَمِيلُ بِهِمْ عَنْ مَحَجَّةِ الفُرْقانِ. وما يَتَّكِئُونَ عَلَيْهِ مِنَ الأمْوالِ والأوْلادِ، لَنْ يُغْنِيَ عَنْهم مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. فَسَتُوافِيهِمْ آجالُهم، وتَسْتَقْبِلُهم أعْمالُهم. فَإنْ لَمْ يُوافِهِمُ الأجَلُ عَلى فِراشِهِمْ. فَسَيُغْلَبُونَ في هِراشِهِمْ. وهَذِهِ سُنَّةُ جَمِيعِ الأنْبِياءِ مَعَ أُمَمِهِمْ، وسَبِيلُ الحَقِّ مَعَ الباطِلِ مِن يَوْمِ أنْ رَفَعَ اللَّهُ الإنْسانَ إلى مَنزِلَةٍ يُمَيِّزُ فِيها بَيْنَ سَعادَتِهِ وشَقائِهِ، وبَيْنَ ما يَحْفَظُهُ وما يَذْهَبُ بِبَقائِهِ. وكَما لا مَدْخَلَ لِقِصَّةِ الغَرانِيقِ في آياتِ آلِ عِمْرانَ، لا مَدْخَلَ لَها في آياتِ سُورَةِ الحَجِّ، هَذا هو الوَجْهُ الأوَّلُ في تَفْسِيرِ الآياتِ: ﴿وما أرْسَلْنا﴾ [الحج: ٥٢] إلى آخِرِها، عَلى تَقْدِيرِ أنَّ (تَمَنّى ) بِمَعْنى: (قَرَأ ) وأنَّ (الأُمْنِيَّةَ ) بِمَعْنى: (القِراءَةِ ) واللَّهُ أعْلَمُ.
الوَجْهُ الثّانِي: في تَفْسِيرِ الآياتِ: أنَّ التَّمَنِّيَ عَلى مَعْناهُ المَعْرُوفِ. وكَذَلِكَ الأُمْنِيَّةُ. وهي أُفْعُولَةٌ بِمَعْنى المُنْيَةِ. وجَمْعُها: أمانِيُّ كَما هو مَشْهُورٌ. قالَ أبُو العَبّاسِ أحْمَدُ بْنُ يَحْيى: التَّمَنِّي حَدِيثُ النَّفْسِ بِما يَكُونُ وبِما لا يَكُونُ. قالَ: والتَّمَنِّي سُؤالُ الرَّبِّ. وفي الحَدِيثِ: ««إذا تَمَنّى أحَدُكم فَلْيَتَكَثَّرْ فَإنَّما يَسْألُ رَبَّهُ»» وفي رِوايَةٍ: (فَلْيُكْثِرْ ) . قالَ ابْنُ الأثِيرِ: (التَّمَنِّي ) تَشَهِّي حُصُولِ الأمْرِ المَرْغُوبِ فِيهِ، وحَدِيثُ النَّفْسِ بِما يَكُونُ وبِما لا يَكُونُ. وقالَ أبُو بَكْرٍ: تَمَنَّيْتُ الشَّيْءَ إذا قَدَّرْتُهُ وأحْبَبْتُ أنْ يَصِيرَ إلَيَّ. وكُلُّ ما قِيلَ في مَعْنى التَّمَنِّي عَلى هَذا الوَجْهِ، فَهو يَرْجِعُ إلى ما ذَكَرْناهُ ويَتْبَعُهُ مَعْنى الأُمْنِيَّةِ. ما أرْسَلَ اللَّهُ مِن رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ لِيَدْعُوَ قَوْمًا إلى هَدْيٍ جَدِيدٍ، أوْ شَرْعٍ سابِقٍ شَرَعَهُ لَهم، ويَحْمِلُهم عَلى التَّصْدِيقِ بِكِتابٍ جاءَ بِهِ نَفْسُهُ إنْ كانَ رَسُولًا؛ أوْ جاءَ بِهِ غَيْرُهُ إنْ كانَ نَبِيًّا بُعِثَ لِيَحْمِلَ النّاسَ عَلى اتِّباعِ مَن سَبَقَهُ، إلّا ولَهُ أُمْنِيَّةٌ في قَوْمِهِ. وهي أنْ يَتَّبِعُوهُ (p-٤٣٦٩)ويَنْحازُوا إلى ما يَدْعُوهم إلَيْهِ، ويَسْتَشْفُوا مِن دائِهِمْ بِدَوائِهِ، ويَعْصُوا أهْواءَهم بِإجابَةِ نِدائِهِ. وما مِن رَسُولٍ أرْسَلَ إلّا وقَدْ كانَ أحْرَصَ عَلى إيمانِ أُمَّتِهِ. وتَصْدِيقِهِمْ بِرِسالَتِهِ، مِنهُ عَلى طَعامِهِ الَّذِي يَطْعَمُ، وشَرابِهِ الَّذِي يَشْرَبُ، وسَكَنِهِ الَّذِي يَسْكُنُ إلَيْهِ. ويَغْدُو عَنْهُ ويَرُوحُ عَلَيْنا. وقَدْ كانَ نَبِيُّنا ﷺ مِن ذَلِكَ في المَقامِ الأعْلى، والمَكانِ الأسْمى. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذا الحَدِيثِ أسَفًا﴾ [الكهف: ٦] وقالَ: ﴿وما أكْثَرُ النّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: ١٠٣] وقالَ: ﴿أفَأنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٩٩] وفي الآياتِ ما يَطُولُ سَرْدُهُ، مِمّا يَدُلُّ عَلى أمانِيهِ ﷺ المُتَعَلِّقَةِ بِهِدايَةِ قَوْمِهِ، وإخْراجِهِمْ مِن ظُلُماتِ ما كانُوا فِيهِ، إلى نُورِ ما جاءَ بِهِ. وما مِن رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إلّا إذا تَمَنّى هَذِهِ الأُمْنِيَّةَ السّامِيَةَ، ألْقى الشَّيْطانُ في سَبِيلِهِ العَثَراتِ، وأقامَ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَقْصِدِهِ العَقَباتِ. ووَسْوَسَ في صُدُورِ النّاسِ. وسَلَبَهُمُ الِانْتِفاعَ بِما وُهِبُوا مِن قُوَّةِ العَقْلِ والإحْساسِ، فَثارُوا في وجْهِهِ، وصَدُّوهُ عَنْ قَصْدِهِ، وعاجَزُوهُ حَتّى لَقَدْ يُعْجِزُونَهُ، وجادَلُوهُ بِالسِّلاحِ والقَوْلِ حَتّى لَقَدْ يَقْهَرُونَهُ. فَإذا ظَهَرُوا عَلَيْهِ، والدَّعْوَةُ في بِدايَتِها، وسَهُلَ عَلَيْهِمْ إيذاؤُهُ وهو قَلِيلُ الأتْباعِ ضَعِيفُ الأنْصارِ، ظَنُّوا الحَقَّ مِن جانِبِهِمْ، وكانَ فِيما ألْقَوْهُ مِنَ العَوائِقِ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما عَمَدَ إلَيْهِ، فِتْنَةً لَهم.
غَلَبَتْ سُنَّةُ اللَّهِ في أنْ يَكُونَ الرُّسُلُ مِن أواسِطِ قَوْمِهِمْ، أوْ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ فِيهِمْ، لِيَكُونَ العامِلُ في الإذْعانِ بِالحَقِّ مَحْضَ الدَّلِيلِ وقُوَّةَ البُرْهانِ. ولِيَكُونَ الِاخْتِيارُ المُطْلَقُ هو الحامِلُ لِمَن يُدْعى إلَيْهِ عَلى قَبُولِهِ. ولِكَيْلا يُشارِكَ الحَقُّ الباطِلَ في وسائِلِهِ، أوْ يُشارِكَهُ في نَصْبِ شِراكِهِ وحَبائِلِهِ. أنْصارُ الباطِلِ في كُلِّ زَمانٍ، هم أهْلُ الأنَفَةِ والقُوَّةِ والجاهِ والِاعْتِزازِ بِالأمْوالِ والأوْلادِ والعَشِيرَةِ والأعْوانِ والغُرُورِ بِالزَّخارِفِ. والزَّهْوِ بِكَثْرَةِ المَعَـــــارِفِ. (p-٤٣٧٠)وتِلْكَ الخِصالُ إنَّما تَجْتَمِعُ كُلُّها أوْ بَعْضُها في الرُّؤَساءِ وذَوِي المَكانَةِ مِنَ النّاسِ فَتُذْهِلُهم عَنْ أنْفُسِهِمْ، وتَصْرِفُ نَظَرَهم عَنْ سَبِيلِ رُشْدِهِمْ. فَإذا دَعا إلى الحَقِّ داعٍ، عَرَفَتْهُ القُلُوبُ النَّقِيَّةُ مِن أوَضارِ هَذِهِ الفَواتِنِ، وفَزِعَتْ إلَيْهِ النُّفُوسُ الصّافِيَةُ والعُقُولُ المُسْتَعِدَّةُ لِقَبُولِهِ، بِخُلُوصِها مِن هَذِهِ الشَّواغِلِ. وقَلَّما تُوجَدُ إلّا عِنْدَ الضُّعَفاءِ وأهْلِ المَسْكَنَةِ فَإذا التَفَّ هَؤُلاءِ حَوْلَ الدّاعِي وظافَرُوهُ عَلى دَعْوَتِهِ، قامَ أُولَئِكَ المَغْرُورُونَ يَقُولُونَ: ﴿ما نَراكَ إلا بَشَرًا مِثْلَنا وما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلا الَّذِينَ هم أراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وما نَرى لَكم عَلَيْنا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكم كاذِبِينَ﴾ [هود: ٢٧] فَإذا اسْتَدْرَجَهُمُ اللَّهُ عَلى سُنَّتِهِ، وجَعَلَ الجِدالَ بَيْنَهم وبَيْنَ المُؤْمِنِينَ سِجالًا، افْتَتَنَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مِن أشْياعِهِمْ، وافْتَتَنُوا هم بِما أصابُوا مِنَ الظَّفَرِ في دِفاعِهِمْ. ولَكِنَّ اللَّهَ غالِبٌ عَلى أمْرِهِ. فَيَمْحَقُ ما ألْقاهُ الشَّيْطانُ مِن هَذِهِ الشُّبُهاتِ، ويَرْفَعُ هَذِهِ المَوانِعَ وتِلْكَ العَقَباتِ، ويَهُبُّ السُّلْطانُ لِآياتِهِ فَيُحْكِمُها ويُثَبِّتُ دَعائِمَها، ويُنْشِئُ مِن ضَعْفِ أنْصارِها قُوَّةً، ويَخْلُفُ لَهم مِن ذِلَّتِهِمْ عَزَّةً، وتَكُونُ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا وكَلِمَةُ الشَّيْطانِ هي السُّفْلى: ﴿فَأمّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ في الأرْضِ﴾ [الرعد: ١٧] وفي حِكايَةِ هَذِهِ السُّنَّةِ الإلَهِيَّةِ الَّتِي أقامَ عَلَيْها الأنْبِياءَ والمُرْسَلِينَ، تَسْلِيَةٌ لِنَبِيِّنا ﷺ عَمّا كانَ يُلاقِي مِن قَوْمِهِ، ووَعَدَ لَهُ بِأنَّهُ سَيُكْمِلُ لَهُ دِينَهُ، ويُتِمُّ عَلَيْهِ وعَلى المُؤْمِنِينَ نِعْمَتَهُ، مَعَ اسْتِلْفاتِهِمْ إلى سِيرَةِ مَن سَبَقَهم: { ﴿أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وهم لا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ٢] ﴿ولَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ٣] }، ﴿أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمّا يَأْتِكم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكم مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ والضَّرّاءُ وزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ ألا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: ٢١٤]
هَذا هو التَّأْوِيلُ الثّانِي في مَعْنى الآيَةِ. يَدُلُّ عَلَيْهِ ما سَبَقَ مِنَ الآياتِ، ويُرْشِدُ إلى سِياقِ (p-٤٣٧١)القَصَصِ السّابِقِ في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْمُ نُوحٍ﴾ [الحج: ٤٢] إلَخْ. وأنْتَ تَرى أنَّ قِصَّةَ الغَرانِيقِ لا تَتَّفِقُ مَعَ هَذا المَعْنى الصَّحِيحِ.
وهُناكَ تَأْوِيلٌ ثالِثٌ ذَكَرَهُ صاحِبُ الإبْرِيزِ وإنِّي أنْقُلُهُ بِحُرُوفِهِ وما هو بِالبَعِيدِ عَنْ هَذا بِكَثِيرٍ قالَ: (بَعْدَ ذِكْرِ أمانِيِّ الأنْبِياءِ في أُمَمِهِمْ، وطَمَعِهِمْ في إيمانِهِمْ، وشَأْنُ نَبِيِّنا ﷺ في ذَلِكَ، عَلى نَحْوٍ يَقْرُبُ مِمّا ذَكَرْناهُ في الوَجْهِ الثّانِي ):
ثُمَّ إنَّ الأُمَّةَ تَخْتَلِفُ كَما قالَ تَعالى: ﴿ولَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنهم مَن آمَنَ ومِنهم مَن كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٣] فَأمّا مَن كَفَرَ فَقَدْ ألْقى إلَيْهِ الشَّيْطانُ الوَساوِسَ القادِحَةَ لَهُ في الرِّسالَةِ، المُوجِبَةَ لِكُفْرِهِ. وكَذا المُؤْمِنُ أيْضًا لا يَخْلُو أيْضًا مِن وساوِسَ، لِأنَّها لازِمَةٌ لِلْإيمانِ بِالغَيْبِ في الغالِبِ، وإنَّ كانَتْ تَخْتَلِفُ في النّاسِ بِالقِلَّةِ والكَثْرَةِ، وبِحَسَبِ المُتَعَلِّقاتِ إذا تَقَرَّرَ هَذا فَمَعْنى (تَمَنّى ): أنَّهُ يَتَمَنّى لَهُمُ الإيمانَ ويُحِبُّ لَهُمُ الخَيْرَ والرُّشْدَ والصَّلاحَ والنَّجاحَ، فَهَذِهِ أُمْنِيَّةُ كُلِّ رَسُولٍ ونَبِيٍّ. وإلْقاءُ الشَّيْطانِ فِيها، يَكُونُ بِما يُلْقِيهِ في قُلُوبِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ مِنَ الوَساوِسِ المُوجِبَةِ لِكُفْرِ بَعْضِهِمْ، ويَرْحَمُ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ فَيَنْسَخُ ذَلِكَ مِن قُلُوبِهِمْ، ويُحْكِمُ فِيها الآياتِ الدّالَّةَ عَلى الوَحْدانِيَّةِ والرِّسالَةِ، ويُبْقِي ذَلِكَ عَزَّ وجَلَّ في قُلُوبِ المُنافِقِينَ والكافِرِينَ لِيَفْتَتِنُوا بِهِ. فَخَرَجَ مِن هَذا أنَّ الوَساوِسَ تُلْقى أوَّلًا في قُلُوبِ الفَرِيقَيْنِ مَعًا، غَيْرَ أنَّها لا تَدُومُ عَلى المُؤْمِنِينَ وتَدُومُ عَلى الكافِرِينَ. انْتَهى.
وأنْتَ إذا نَظَرْتَ بَيْنَ هَذا التَّفْسِيرِ وبَيْنَ ما سَبَقَهُ، تَتَبَيَّنُ الأحَقَّ بِالتَّرْجِيحِ. ولَوْ صَحَّ ما قالَهُ نَقَلَةُ قِصَّةِ الغَرانِيقِ لارْتَفَعَتِ الثِّقَةُ بِالوَحْيِ وانْتَقَضَ الِاعْتِمادُ عَلَيْهِ، كَما قالَهُ القاضِي البَيْضاوِيُّ وغَيْرُهُ. ولَكانَ الكَلامُ في النّاسِخِ كالكَلامِ في المَنسُوخِ. يَجُوزُ أنْ يُلْقِيَ فِيهِ الشَّيْطانُ ما يَشاءُ، ولانَهْدَمَ أعْظَمُ رُكْنٍ لِلشَّرائِعِ الإلَهِيَّةِ وهو العِصْمَةُ. وما يُقالُ في المَخْرَجِ عَنْ ذَلِكَ، يَنْفِرُ مِنهُ الذَّوْقُ ولا يَنْظُرُ إلَيْهِ العَقْلُ عَلى أنَّ وصْفَ العَرَبِ لِآلِهَتِهِمْ بِأنَّها الغَرانِيقُ العُلى لَمْ يَرِدْ لا في نَظْمِهِمْ ولا في خُطَبِهِمْ. ولَمْ يُنْقَلْ عَنْ أحَدٍ أنَّ ذَلِكَ الوَصْفَ كانَ جارِيًا عَلى ألْسِنَتِهِمْ. إلّا ما جاءَ في مُعْجَمِ ياقُوَتٍ غَيْرَ مُسْنَدٍ (p-٤٣٧٢)ولا مَعْرُوفٍ بِطْرِيقٍ صَحِيحٍ. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ القِصَّةَ مِنَ اخْتِراعِ الزَّنادِقَةِ، كَما قالَ ابْنُ إسْحاقَ. ورُبَّما كانَتْ مَنشَأً ما أوْرَدَهُ ياقُوَتٌ. ولا يَخْفى أنَّ الغُرْنُوقَ والغِرْنِيقَ لَمْ يُعْرَفْ في اللُّغَةِ إلّا اسْمًا لِطائِرٍ مائِيٍّ أسْوَدَ أوْ أبْيَضَ. أوْ هو اسْمُ الكُرْكِيِّ أوْ طائِرٌ يُشْبِهُهُ والغِرْنِيقُ (بِالضَّمِّ وكَزُنْبُورٍ وقِنْدِيلٍ وسَمَوْألٍ وفِرْدَوْسٍ وقِرْطاسٍ وعُلابِطَ ) مَعْناهُ: الشّابُّ الأبْيَضُ الجَمِيلُ. وتُسَمّى الخَصْلَةُ مِنَ الشَّعَرِ المُفَتَّلَةِ: (الغُرْنُوقُ )، كَما يُسَمّى بِهِ ضَرْبٌ مِنَ الشَّجَرِ. ويُطْلَقُ الغُرْنُوقُ والغَرانِيقُ عَلى ما يَكُونُ في أصْلِ العَوْسَجِ اللَّيِّنِ النَّباتِ. ويُقالُ: (لُمَّةٌ غُرانِقَةٌ ) و(غُرانِقِيَّةٌ ): أيْ: ناعِمَةٌ تُفَيِّئُها الرِّيحُ. أوِ الغُرْنُوقُ النّاعِمُ المُسْتَتِرُ مِنَ النَّباتِ إلَخْ. ولا شَيْءَ في هَذِهِ المَعانِي يُلائِمُ الآلِهَةَ والأصْنامَ، حَتّى يُطْلَقَ عَلَيْها في فَصِيحِ القَوْلِ الَّذِي يُعْرَضُ عَلى مُلُوكِ البَلاغَةِ وأُمَراءِ الكَلامِ. فَلا أظُنُّكَ تَعْتَقِدُ إلّا أنَّها مِن مُفْتَرِياتِ الأعاجِمِ ومُخْتَلَقاتِ المَلَبِّسِينَ، مِمَّنْ لا يُمَيِّزُ بَيْنَ حُرِّ الكَلامِ، وما اسْتَعْبَدَ مِنهُ لِضُعَفاءِ الأحْلامِ. فَراجَ ذَلِكَ عَلى مَن يُذْهِلُهُ الوَلُوعُ بِالرِّوايَةِ، عَمّا تَقْتَضِيهِ الدِّرايَةُ: ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ﴾ [آل عمران: ٨] انْتَهى كَلامُ الأُسْتاذِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
ومِمَّنْ جَزَمَ بِوَضْعِ هَذِهِ القِصَّةِ جَزْمًا باتًّا، الإمامُ ابْنُ حَزْمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، حَيْثُ قالَ في كِتابِهِ " المِلَلِ " في الرَّدِّ عَلى مَن لَمْ يُوجِبِ العِصْمَةَ عَلى الأنْبِياءِ ما مِثالُهُ: اسْتَدَلُّوا بِالحَدِيثِ الكاذِبِ الَّذِي لَمْ يَصِحَّ قَطُّ في قِراءَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ في: ﴿والنَّجْمِ إذا هَوى﴾ [النجم: ١] وذَكَرُوا تِلْكَ الزِّيادَةَ المُفْتَراةَ الَّتِي تُشْبِهُ مَن وضَعَها مِن قَوْلِهِمْ: وإنَّها لَهي (الغَرانِيقُ ) العُلى وإنَّ شَفاعَتَها لَتُرْتَجى، ثُمَّ قالَ بَعْدُ: وأمّا الحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ الغَرانِيقُ فَكَذِبٌ بَحْتٌ مَوْضُوعٌ. لِأنَّهُ لَمْ يَصِحَّ قَطُّ مِن طَرِيقِ النَّقْلِ، ولا مَعْنى لِلِاشْتِغالِ بِهِ، إذْ وضْعُ الكَذِبِ لا يَعْجِزُ عَنْهُ أحَدٌ. وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إلا إذا تَمَنّى ألْقى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: ٥٢] الآيَةَ، فَلا حُجَّةَ لَهم فِيها. لِأنَّ الأمانِيَّ الواقِعَةَ في النَّفْسِ لا مَعْنى لَها. وقَدْ تَمَنّى النَّبِيُّ ﷺ إسْلامَ عَمِّهِ أبِي طالِبٍ، (p-٤٣٧٣)ولَمْ يُرِدِ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ كَوْنَ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الأمانِيُّ الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ لا سِواها، وحاشا لِلَّهِ أنْ يَتَمَنّى نَبِيٌّ مَعْصِيَةً. وبِاللَّهِ تَعالى التَّوْفِيقُ.
وهَذا الَّذِي قُلْنا هو ظاهِرُ الآيَةِ دُونَ مَزِيدِ تَكَلُّفٍ، ولا يَحِلُّ خِلافُ الظّاهِرِ إلّا بِظاهِرٍ آخَرَ وبِاللَّهِ تَعالى التَّوْفِيقُ. انْتَهى، وقَوْلُهُ تَعالى:
{"ayah":"وَلِیَعۡلَمَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡعِلۡمَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَیُؤۡمِنُوا۟ بِهِۦ فَتُخۡبِتَ لَهُۥ قُلُوبُهُمۡۗ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











