الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٢٧ - ٢٨] ﴿وأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالا وعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ ﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهم ويَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ فَكُلُوا مِنها وأطْعِمُوا البائِسَ الفَقِيرَ﴾ [الحج: ٢٨] . ﴿وأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ﴾ أيْ: نادِ فِيهِمْ بِهِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والنِّداءُ بِالحَجِّ أنْ يَقُولَ: حُجُّوا، أوْ عَلَيْكم بِالحَجِّ: ﴿يَأْتُوكَ رِجالا﴾ أيْ: مُشاةً، جَمْعَ (راجِلٍ ): ﴿وعَلى كُلِّ ضامِرٍ﴾ (p-٤٣٣٥)أيْ: رُكْبانًا عَلى كُلِّ بَعِيرٍ مَهْزُولٍ، أتْعَبَهُ بُعْدُ الشُّقَّةِ فَهَزَلَهُ. والعُدُولُ عَنْ رُكْبانًا الأخْصَرِ، لِلدَّلالَةِ عَلى كَثْرَةِ الآتِينَ مِنَ الأماكِنِ البَعِيدَةِ، وقَوْلُهُ تَعالى: { يَأْتُونَ } صِفَةٌ لِكُلِّ ضامِرٍ، لِأنَّهُ في مَعْنى الجَمْعِ. وقُرِئَ يَأْتُونَ صِفَةً لِلرِّجالِ والرُّكْبانِ. أوِ اسْتِئْنافٌ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ لِلنّاسِ: ﴿مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ أيْ: طَرِيقٍ واسِعٍ بَعِيدٍ: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ﴾ [الحج: ٢٨] أيْ: لِيَحْضُرُوا مَنافِعَ لَهم دِينِيَّةً ودُنْيَوِيَّةً: ﴿ويَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ﴾ [الحج: ٢٨] أيْ: عَلى ما مَلَّكَهم مِنها، وذَلَّلَها لَهم، لِيَجْعَلُوها هَدْيًا وضَحايا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَنّى عَنِ النَّحْرِ والذَّبْحِ، بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ. لِأنَّ أهْلَ الإسْلامِ لا يَنْفَكُّونَ عَنْ ذِكْرِ اسْمِهِ إذا نَحَرُوا أوْ ذَبَحُوا. وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الغَرَضَ الأصْلِيَّ فِيما يُتَقَرَّبُ بِهِ إلى اللَّهِ أنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ - زادَ الرّازِيُّ - وأنْ يُخالَفَ المُشْرِكُونَ في ذَلِكَ. فَإنَّهم كانُوا يَذْبَحُونَها لِلنُّصُبِ والأوْثانِ، قالَ القَفّالُ: وكَأنَّ المُتَقَرِّبَ بِها وبِإراقَةِ دِمائِها مُتَصَوَّرٌ بِصُورَةِ مَن يَفْدِي نَفْسَهُ بِما يُعادِلُها. فَكَأنَّهُ يَبْذُلُ تِلْكَ الشّاةَ بَدَلَ مُهْجَتِهِ، طَلَبًا لِمَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى، واعْتِرافًا بِأنَّ تَقْصِيرَهُ كادَ يَسْتَحِقُّ مُهْجَتَهُ. والأيّامُ المَعْلُوماتُ أيّامُ العَشْرِ. أوْ يَوْمُ النَّحْرِ وثَلاثَةُ أيّامٍ أوْ يَوْمانِ بَعْدَهُ. أوْ يَوْمُ عَرَفَةَ والنَّحْرِ ويَوْمٌ بَعْدَهُ. أقْوالٌ لِلْأئِمَّةِ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ويُعَضِّدُ الثّانِيَ والثّالِثَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ﴾ [الحج: ٢٨] يَعْنِي بِهِ ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ ذَبْحِها. انْتَهى. أقُولُ: لا يَبْعُدُ أنْ تَكُونَ (عَلى ) تَعْلِيلِيَّةً، والمَعْنى: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وحْدَهُ في تِلْكَ الأيّامِ بِحَمْدِهِ وشُكْرِهِ وتَسْبِيحِهِ، لِأجْلِ ما رَزَقَهم مِن تِلْكَ البُهْمِ. فَإنَّهُ هو الرَّزّاقُ لَها وحْدَهُ والمُتَفَضِّلُ عَلَيْهِمْ بِها: ولَوْ شاءَ لَحَظَرَها عَلَيْهِمْ ولَجَعَلَها أوابِدَ مُتَوَحِّشَةً. وقَدِ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِها في غَيْرِ مَوْضِعٍ مِن تَنْزِيلِهِ الكَرِيمِ. كَقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا خَلَقْنا لَهم مِمّا عَمِلَتْ أيْدِينا أنْعامًا فَهم لَها مالِكُونَ﴾ [يس: ٧١] ﴿وذَلَّلْناها لَهم فَمِنها رَكُوبُهم ومِنها يَأْكُلُونَ﴾ [يس: ٧٢] (p-٤٣٣٦)والسِّرُّ في إفْرادِهِ هَذِهِ النِّعْمَةَ، والتَّذْكِيرِ بِها دُونَ غَيْرِها مِن نِعَمِهِ وأيادِيهِ، أنَّ بِها حَياةَ العَرَبِ وقِوامَ مَعاشِهِمْ. إذْ مِنها طَعامُهم وشَرابُهم ولِباسُهم وأثاثُهم وخِباؤُهم ورَكُوبُهم وجَمالُهم. فَلَوْلا تَفَضُّلُهُ تَعالى عَلَيْهِمْ بِتَذْلِيلِها لَهم، لَما قامَتْ لَهم قائِمَةٌ. لِأنَّ أرْضَهم لَيْسَتْ بِذاتِ زَرْعٍ وما هم بِأهْلِ صِناعَةٍ مَشْهُورَةٍ، ولا جَزِيرَتُهم مُتَحَضِّرَةٌ مُتَمَدِّنَةٌ. ومَن كانُوا كَذَلِكَ، فَيَجْدُرُ بِهِمْ أنْ يَذْكُرُوا المُتَفَضِّلَ عَلَيْهِمْ بِما يُبْقِيهِمْ، ويَشْكُرُوهُ ويَعْرِفُوا لَهُ حَقَّهُ. مِن عِبادَتِهِ وحْدَهُ وتَعْظِيمِ حُرُماتِهِ وشَعائِرِهِ. فالِاعْتِبارُ بِها مِن ذَلِكَ، مُوجِبٌ لِلِاسْتِكانَةِ لِرازِقِها، والخُضُوعِ لَهُ والخَشْيَةِ مِنهُ. نَظِيرُ الآيَةِ - عَلى ما ظَهَرَ لَنا - قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البَيْتِ﴾ [قريش: ٣] ﴿الَّذِي أطْعَمَهم مِن جُوعٍ وآمَنَهم مِن خَوْفٍ﴾ [قريش: ٤] هَذا أوَّلًا. وثانِيًا: قَدْ يُقالُ: إنَّما أُفْرِدَتْ لِتُتْبَعَ بِما هو البِرُّ الأعْظَمُ والخَيْرُ الأجْزَلُ. وهو مُواساةُ البُؤَساءِ مِنها. فَإنَّ ذَلِكَ مِن أجَلِّ ما يُرْضِيهِ تَعالى، ويُثِيبُ عَلَيْهِ. واللَّهُ أعْلَمُ. ﴿فَكُلُوا مِنها﴾ [الحج: ٢٨] أيْ: مِن لُحُومِها. والأمْرُ لِلنَّدْبِ. وإزاحَةُ ما كانَ عَلَيْهِ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ مِنَ التَّحَرُّجِ فِيهِ. وقَدْ ثَبَتَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمّا نَحَرَ هَدْيَهُ، أمَرَ مِن كُلِّ بَدَنَةٍ بِبُضْعَةٍ فَتُطْبَخُ، فَأكَلَ مِن لَحْمِها، وحَسا مِن مَرَقِها» . وعَنْ إبْراهِيمَ قالَ: كانَ المُشْرِكُونَ لا يَأْكُلُونَ مِن ذَبائِحِهِمْ. فَرُخِّصَ لِلْمُسْلِمِينَ فَمَن شاءَ أكَلَ ومَن شاءَ لَمْ يَأْكُلْ. قالَ في (الإكْلِيلِ "): والأمْرُ لِلِاسْتِحْبابِ حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الدَّمُ واجِبًا بِإطْعامِ الفُقَراءِ. وأباحَ مالِكٌ الأكْلَ مِنَ الهَدْيِ الواجِبِ، إلّا جَزاءَ الصَّيْدِ والأذى والنَّذْرَ، وأباحَهُ أحْمَدُ، إلّا مِن جَزاءِ الصَّيْدِ والنَّذْرِ. وأباحَ الحَسَنُ الأكْلَ مِنَ الجَمِيعِ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ الآيَةِ. وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ (p-٤٣٣٧)الأكْلَ مِنَ الأُضْحِيَّةِ واجِبٌ، لِظاهِرِ الأمْرِ. وقَوْمٌ إلى أنَّ التَّصَدُّقَ مِنها نَدْبٌ، وحَمَلُوا الأمْرَ عَلَيْهِ. ولا تَحْدِيدَ فِيما يُؤْكَلُ أوْ يُتَصَدَّقُ بِهِ، لِإطْلاقِ الآيَةِ. انْتَهى. ﴿وأطْعِمُوا البائِسَ﴾ [الحج: ٢٨] أيِ: الَّذِي أصابَهُ بُؤْسٌ: أيْ: شِدَّةٌ: ﴿الفَقِيرَ﴾ [الحج: ٢٨] أيِ: الَّذِي أضْعَفَهُ الإعْسارُ، والأمْرُ هُنا لِلْوُجُوبِ. وقَدْ قِيلَ بِهِ في الأوَّلِ أيْضًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب