الباحث القرآني
وقَوْلُهُ تَعالى:
(p-٤٢١٧)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[١٢٤] ﴿ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ [١٢٥] ﴿قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ [طه: ١٢٥] [١٢٦] ﴿قالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى﴾ [طه: ١٢٦] ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي مَن أسْرَفَ ولَمْ يُؤْمِن بِآياتِ رَبِّهِ ولَعَذابُ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبْقى﴾ [طه: ١٢٧] .
﴿ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ ﴿ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ ﴿قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ [طه: ١٢٥] ﴿قالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى﴾ [طه: ١٢٦] ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي مَن أسْرَفَ ولَمْ يُؤْمِن بِآياتِ رَبِّهِ ولَعَذابُ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبْقى﴾ [طه: ١٢٧] اعْلَمْ أنَّهُ لَمّا أخْبَرَ سُبْحانَهُ عَنْ حالِ مَنِ اتَّبَعَ هُداهُ في مَعاشِهِ ومَعادِهِ، أخْبَرَ عَنْ حالِ مَن أعْرَضَ عَنْهُ ولَمْ يَتْبَعْهُ، مِن شَقائِهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. وهَذا الشَّقاءُ بِقِسْمَيْهِ، هو نَوْعٌ مِن أفانِينِ العَذابِ اللّاحِقَةِ لِمَن تَوَلّى عَنْ هُدى اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ خاتَمَ أنْبِيائِهِ، ولَمْ يَقْبَلْهُ ولَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ، ولَمْ يَتَّعِظْ بِهِ فَيَنْزَجِرَ عَمّا هو عَلَيْهِ مُقِيمٌ مِن خِلافِهِ أمْرَ رَبِّهِ.
وفِي الآيَةِ مَسائِلُ:
الأُولى: قالَ الرّازِيُّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَنْ ذِكْرِي﴾ الذِّكْرُ يَقَعُ عَلى القُرْآنِ وعَلى سائِرِ كُتُبِ اللَّهِ تَعالى. ويَحْتَمِلُ أنْ يُرادَ بِهِ الأدِلَّةُ. وقالَ ابْنُ القَيِّمِ في (مِفْتاحِ دارِ السَّعادَةِ): أيْ: عَنِ الذِّكْرِ الَّذِي أنْزَلْتُهُ. و(الذِّكْرُ) هُنا مَصْدَرٌ مُضافٌ إلى الفاعِلِ. كَـ(قِيامِي وقِراءَتِي) لا إلى المَفْعُولِ. ولَيْسَ المَعْنى: ومَن أعْرَضَ عَنْ أنْ يَذْكُرَنِي. بَلْ هَذا لازِمُ المَعْنى ومُقْتَضاهُ مِن وجْهٍ آخَرَ. وأحْسَنُ مِن هَذا الوَجْهِ أنْ يُقالَ: الذِّكْرُ هُنا مُضافٌ إضافَةَ الأسْماءِ، لا إضافَةَ (p-٤٢١٨)المَصادِرِ إلى مَعْمُولاتِها. والمَعْنى: ومَن أعْرَضَ عَنْ كِتابِي ولَمْ يَتْبَعْهُ، فَإنَّ القُرْآنَ يُسَمّى ذِكْرًا. قالَ تَعالى: ﴿وهَذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أنْـزَلْناهُ﴾ [الأنبياء: ٥٠] وقالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحَكِيمِ﴾ [آل عمران: ٥٨] وقالَ تَعالى: ﴿وما هو إلا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾ [القلم: ٥٢] وقالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهُمْ﴾ [فصلت: ٤١] وقالَ تَعالى: ﴿إنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: ١١] وعَلى هَذا فَإضافَتُهُ كَإضافَةِ الأسْماءِ الجَوامِدِ الَّتِي لا يُقْصَدُ بِها إضافَةُ العامِلِ إلى مَعْمُولِهِ. ونَظِيرُهُ في إضافَةِ اسْمِ الفاعِلِ: ﴿غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقابِ﴾ [غافر: ٣] فَإنَّ هَذِهِ الإضافاتِ لَمْ يُقْصَدْ بِها قَصْدُ الفِعْلِ المُتَجَدِّدِ، وإنَّما قَصْدُ الوَصْفِ الثّابِتِ اللّازِمِ. ولِذَلِكَ جَرَتْ أوْصافًا عَلى أعْرَفِ المَعارِفِ، وهو اسْمُ اللَّهِ تَعالى في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَنْـزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ [غافر: ٢] ﴿غافِرِ الذَّنْبِ﴾ [غافر: ٣]
الثّانِيَةُ: قُرِئَ (ضَنْكًا) بِالتَّنْوِينِ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، ولِذا لَمْ يُؤَنَّثْ لِاسْتِوائِهِ في القَبِيلَيْنِ. كَما قالَ ابْنُ مالِكٍ:
؎ونَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرًا فالتَزَمُوا الإفْرادَ والتَّذْكِيرا
وفِي القامُوسِ: الضَّنْكُ الضِّيقُ في كُلِّ شَيْءٍ، لِلذَّكَرِ والأُنْثى. يُقالُ: ضَنُكَ كَكَرُمَ، ضَنْكًا وضَناكَةً وضُنُوكَةً، ضاقَ. وقالَ السَّمِينُ: (ضَنْكًا) صِفَةُ مَعِيشَةٍ. وأصْلُهُ المَصْدَرُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤَنَّثْ. ويَقَعُ لِلْمُفْرَدِ والمُثَنّى والمَجْمُوعِ بِلَفْظٍ واحِدٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (ضَنْكًا) بِالتَّنْوِينِ وصْلًا وإبْدالُهُ ألِفًا وقْفًا كَسائِرِ المُعْرَباتِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ (ضَنْكى) بِألِفٍ كَسَكْرى. وفي هَذِهِ الألِفِ احْتِمالانِ: فَإمّا أنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنَ التَّنْوِينِ، وإنَّما أُجْرِيَ الوَصْلُ مَجْرى الوَقْفِ، وإمّا أنْ تَكُونَ ألِفَ التَّأْنِيثِ بُنِيَ المَصْدَرُ عَلى (فَعْلى) نَحْوَ دَعْوى.
(p-٤٢١٩)الثّالِثَةُ: ذَكَرُوا في هَذِهِ المَعِيشَةِ الضَّنْكِ الَّتِي لِلْكافِرِ أقْوالًا: إنَّها في الدُّنْيا أوْ في القَبْرِ أوْ في الآخِرَةِ أوْ في الدِّينِ. والأظْهَرُ الأوَّلُ لِمُقابَلَتِهِ بِالوَعِيدِ الأُخْرَوِيِّ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أيْ: ضَنْكًا في الدُّنْيا فَلا طُمَأْنِينَةَ لَهُ ولا انْشِراحَ لِصَدْرِهِ. بَلْ صَدْرُهُ ضَيِّقٌ حَرَجٌ لِضَلالِهِ، وإنْ تَنَعَّمَ ظاهِرُهُ، ولَبِسَ ما شاءَ، وأكَلَ ما شاءَ. وسَكَنَ حَيْثُ شاءَ، فَإنَّ قَلْبَهُ ما لَمْ يُخْلِصْ إلى اليَقِينِ والهُدى، فَهو في قَلَقٍ وحَيْرَةٍ وشَكٍّ. فَلا يَزالُ في رَيْبِهِ يَتَرَدَّدُ: فَهَذا مِن ضَنْكِ المَعِيشَةِ. انْتَهى.
وذَلِكَ لِأنَّ الِاعْتِقادَ بِالدِّينِ الحَقِّ واليَقِينِ الصَّحِيحِ لِراحَةِ الضَّمائِرِ والأنْفُسِ، فَوْقَ كُلِّ الأهْواءِ والذّاتِ والمَآرِبِ. فالضَّنْكُ المَعْنِيُّ بِها، إذَنْ هو الضَّنْكُ الحَيَوِيُّ والقَلَقُ الدُّنْيَوِيُّ، مِنِ اضْطِرابِ القَلْبِ وعَدَمِ سُكُونِ النَّفْسِ إلى الِاعْتِقادِ الحَقِّ والإيمانِ بِالدِّينِ القَيِّمِ الَّذِي هو دِينُ الإسْلامِ. فَكُلُّ مَن لَمْ يُؤْمِن بِهِ فَهو في ضِيقِ صَدْرٍ وهُمُومٍ ومَحابِسَ، لا يَجِدُ مِنها مَخارِجَ إلّا بِهِ ولا يَرْتابُ في ذَلِكَ مِن كابِرِ حِسِّهِ وناقِضِ وِجْدانِهِ. فَإنَّ دِينَ الإسْلامِ هو دِينُ الفِطْرَةِ. دِينُ اليُسْرِ. دِينُ العَقْلِ. دِينُ النُّورِ الَّذِي تَنْشَرِحُ بِهِ الصُّدُورُ وتَطْمَئِنُّ بِهِ القُلُوبُ وتُشْفى بِهِ الأنْفُسُ مِن أدْوائِها، وتَهْتَدِي بِهِ مِن ضَلالِها وحَيْرَتِها، وتَسْتَنِيرُ بِهِ مِن ظُلُماتِها. ولِذَلِكَ سُمِّيَ هُدًى ونُورًا وشِفاءً ورَحْمَةً. ألْقِ نَظَرَكَ عَلى الأدْيانِ كُلِّها، وقابِلْ بَيْنَها وبَيْنَهُ، لِتُدْرِكَ ذَلِكَ.
هَذِهِ اليَهُودِيَّةُ، يُرى في اشْتِراعِها في الآصارِ والأغْلالِ والتَّكالِيفِ الشّاقَّةِ في المَعِيشَةِ الحَيَوِيَّةِ ما لا يُطاقُ. قُيُودٌ في المَأْكَلِ والمَشْرَبِ. وحَجْرٌ في المَنكَحِ والمَبِيتِ والمُعاشَرَةِ. وضَغْطٌ عَلى الأنْفُسِ بِتَقْسِيمِها إلى طاهِرِينَ يَحْضُرُونَ الِاحْتِفالاتِ، ونَجِسِينَ مُبْعَدِينَ لا يَلْمِسُونَ ولا يُلْمَسُونَ. دَعْ عَنْكَ خُرافاتِ الِاعْتِقاداتِ والِافْتِراءِ بِالأهْواءِ في التَّشْرِيعاتِ وتَشَعُّبِها في الأهْواءِ إلى شُعَبٍ تَتَبايَنُ في العِباداتِ.
وهَذِهِ النَّصْرانِيَّةُ، الَّذِي أساسُها تَعْدِيلُ الشِّرْعَةِ المُوسَوِيَّةِ قامَ رُهْبانُها بَعْدَ رَفْعِ المَسِيحِ، (p-٤٢٢٠)ومُضِيِّ عَصْرِ الحَوارِيِّينَ. فَأطْلَقُوا لِأتْباعِهِمْ كُلَّ قَيْدٍ في اليَهُودِيَّةِ. وأمَرُوهم بِنَبْذِ أحْكامِ التَّوْراةِ نِكايَةً لِلْيَهُودِ. وأخَذُوا يُشَرِّعُونَ لِلنّاسِ ما لا يَنْطَبِقُ عَلى أصْلِ التَّوْراةِ ولا بَعْثَةِ عِيسى. فَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: (ما جِئْتُ لِأهْدِمَ النّامُوسَ -التَّوْراةَ- بَلْ لِأُتَمِّمَهُ).
فَتَرى ما أُحْدِثَ مِن طُقُوسِ الكَنِيسَةِ وتَعالِيمِها، اعْتِقادًا وعِبادَةً وسُلْطَةً وسَيْطَرَةً جائِرَةً عَلى العَقْلِ والفِكْرِ، ورَبْطِ الأُمُورِ بِأيْدِي الكَهَنَةِ حَلًّا وإبْرامًا، تَبَعًا لِرَغائِبِ الأنْفُسِ والشَّهَواتِ، مِمّا يَتَضَجَّرُ مِنهُ كُلُّ مَسِيحِيٍّ ذاقَ جَوْهَرَ الدِّينِ المَسِيحِيِّ حَقًّا. إذْ جَوْهَرُهُ مَعَ ابْتِداعِهِمْ عَلى طَرَفَيْ نَقِيضٍ، فَأنّى لا يَضِيقُ ذَرْعُهُ ولا تَضْنَكُ مَعِيشَتُهُ! لِذَلِكَ لَمّا اسْتَقَرَّ سُلْطانُ الإسْلامِ بِالأنْدَلُسِ، واحْتَكَّ النَّصارى بِالمُسْلِمِينَ في الحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ، واسْتَمَدُّوا مِن مَعارِفِ الإسْلامِ وعُلُومِهِ ما قَلَّدَ جِيدَهم مِنَنًا لا تُنْكَرُ؛ أخَذُوا يُقاوِمُونَ الكَنِيسَةَ في حَظْرِها عَلى المَعارِفِ والفُنُونِ، ومُعاداتِها لِلْعُلُومِ. وجَرى بِإغْراءِ الكَهَنَةِ، مِنَ الدِّماءِ المَسْفُوكَةِ ما اسْوَدَّتْ بِهِ صُحُفُ التّارِيخِ. ثُمَّ كانَ الفَوْزُ لِدُعاةِ الإصْلاحِ. وتَفَرَّقُوا أحْزابًا. ولا يَزالُونَ يَتَقَرَّبُونَ إلى الإسْلامِ، بِنَبْذِهِمْ سَخائِفَ ما ورِثُوهُ. ولِذا تَراهم في عِيشَةٍ ضَنْكٍ يَسْعَوْنَ لِأرْقى مِمّا هم عَلَيْهِ، عِلْمًا بِأنَّ الدَّخائِلَ والبِدَعَ في دِينِهِمْ، أفْسَدَتْ عَلَيْهِمْ ما أفْسَدَتْ. ولَنْ يَتَسَنّى لَهُمُ الرُّقِيُّ إلّا بِالرُّجُوعِ إلى دِينِ الفِطْرَةِ. وهم يَسْعَوْنَ إلَيْهِ، وإنْ كانُوا لا يَشْعُرُونَ، أوْ يَشْعُرُونَ ويَتَجاهَلُونَ. هَذِهِ رَشَحاتٌ مِنَ المَعِيشَةِ الضَّنْكِ لِأُمَّتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ، وهُما تَنْتَمِيانِ إلى كِتابَيْنِ مُنَزَّلَيْنِ.. فَما ظَنُّكَ بِالمَجُوسِ والوَثَنِيِّينَ وفِرَقِهِمُ الَّتِي لا تُحْصى. ولا يَزالُ عُقَلاؤُهم يَطْلُبُونَ التَّمَلُّصَ مِنها، لِكَثْرَةِ خُرافاتِها وضَرَرِها، نَفْسًا ومالًا وعِرْضًا. فَأهْلُها في شَقاءٍ وعَذابٍ لا يُشاكِلُهُ عَذابٌ. ومَن نَجا مِن ويْلاتِها بِالإسْلامِ، لا يُعَدُّ ولا يُحْصى. وقِسْ عَلى هَؤُلاءِ، الطّائِفَةَ المُسَمّاةَ بِالمادِّيِّينَ. وهُمُ الدَّهْرِيُّونَ والطَّبِيعِيُّونَ. فَإنَّهم بِلا رَيْبٍ أضْيَقُ صَدْرًا وأضْنَكُ مَعِيشَةً وأشَدُّ اضْطِرابًا وأعْظَمُ فُرْقَةً. فَلا يُمْكِنُ أنْ يُوجَدَ اثْنانِ عَلى رَأْيٍ واحِدٍ. بَلْ يَتَصَوَّرُ كُلٌّ مِنهم إلَهَهُ كَما يَهْوى وكَما تُخَيِّلُهُ لَهُ رَغائِبُهُ وشَهَواتُهُ. قالَ بَعْضُهُمْ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَحْصُرُونَ دِينَهم في أنْ يَعْرِفَ الإنْسانُ اللَّهَ، ويَكُونَ مُسْتَقِيمًا في أعْمالِهِ، إذا سُئِلُوا: (p-٤٢٢١)ما هو الدِّينُ الطَّبِيعِيُّ الَّذِي تَعْتَرِفُونَ بِهِ؟ فَيُجِيبُونَ إنَّما هو الَّذِي يُرْشِدُ إلَيْهِ العَقْلُ عَرِيًّا عَنِ الوَحْيِ. فَيُقالُ لَهُمُ: العَقْلُ، مِن حَيْثُ هُوَ، ضَعِيفٌ مُتَغَيِّرٌ قاصِرٌ. يَرى اليَوْمَ صَوابًا ما يَراهُ في الغَدِ خَطَأً. ويَحْكُمُ اليَوْمَ عَلى أمْرٍ أنَّهُ حَلالٌ مُباحٌ، ويَرى غَدًا أنَّهُ حَرامٌ لا يَجُوزُ إتْيانُهُ. تَحْمِلُهُ أغْراضُهُ عَلى اسْتِحْلالِ ما يَلَذُّ لَهُ وتَجْعَلُهُ مُسْتَنْفِرًا مِمّا يُضادُّ أهْواءَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ صاحِبُهُ مُسْتَقِيمًا في أعْمالِهِ؟ وما هي القاعِدَةُ المُطَّرِدَةُ الثّابِتَةُ لِلِاسْتِقامَةِ عِنْدَ هَؤُلاءِ؟ وكُلٌّ يَرى نَفْسَهُ ويُخَيَّلُ لَهُ أنَّهُ مُسْتَقِيمٌ! فالصِّينِيُّ مَثَلًا يَرى نَفْسَهُ مُسْتَقِيمًا ولَوْ باعَ أوْ قَتَلَ أوْلادَهُ. والهِنْدِيُّ يَرى هَذِهِ الِاسْتِقامَةَ في نَفْسِهِ، ولَوْ أحْرَقَ المَرْأةَ عَلى جُثَّةِ رَجُلِها. والوَثَنِيُّ يَرى نَفْسَهُ مُسْتَقِيمًا، ولَوِ ارْتَكَبَ الفَحْشاءَ تَكْرِمَةً لِلزَّهْرَةِ.
هَذا، وإنَّ أكْبَرَ الفَلاسِفَةِ ضَلُّوا في مَوادِّ ما يُشَرِّعُونَ. ولَمْ يَهْتَدُوا لِجادَّةِ الِاسْتِقامَةِ الحَقَّةِ. فَأنّى يُمْكِنُ لِعامَّةِ النّاسِ أنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنهم دِينٌ طَبِيعِيٌّ يَقْبَلُهُ كَيْفَ شاءَ، ويَجْعَلُهُ كَشَيْءٍ مَرِنٍ، يَمُدُّهُ إلى ما طابَ لَهُ، ويَقْصُرُهُ عَنْ كُلِّ ما عافَهُ. فَيَخْتَلِفُ هَذا الدِّينُ بِاخْتِلافِ العُقُولِ والأهْواءِ فِيهِمْ. وكَيْفَ نُسَمِّي شَرِيعَةً ثابِتَةً عامَّةً، ما كانَ وقْفًا عَلى إرادَةِ كُلِّ فَرْدٍ وأهْوائِهِ؟ وإذا سَلَّمْنا، مُجاراةَ، أنَّهُ يُوجَدُ مَن كانَ مَيّالًا طَبْعًا إلى الِاسْتِقامَةِ والعَدْلِ والعِفَّةِ، فَيَحْمِلُهُ طَبْعُهُ عَلى ذَلِكَ، فَماذا نَقُولُ فِيمَن كانَ بِالطَّبْعِ مُحِبًّا لِلِانْتِقامِ والِاعْتِداءِ والشَّهَواتِ. لا سِيَّما والعَقْلُ ضَعِيفٌ والنَّفْسُ أمّارَةٌ بِالسُّوءِ، فَأنّى يَكُونُ العَقْلُ وحْدَهُ وازِعًا عَنِ ارْتِكابِ المَعاصِي والجَرائِمِ. فَما قَضى سُبْحانَهُ بِشَرِيعَتِهِ لِمَخْلُوقاتِهِ رَحْمَةٌ مِنهُ بِهِمْ، إلّا لِضَعْفِهِمْ ومَيْلِهِمْ إلى الشَّرِّ. وضَعْفُ الإنْسانِ وانْحِرافُهُ يَقْضِي بِإلْزامِهِ شَرِيعَةً يَخْضَعُ لَها. فَهي ضَرُورِيَّةٌ لَهُ ضَرُورَةَ نِظامِ الأجْرامِ الفَلَكِيَّةِ لَها. ومُلازِمَةٌ لَهُ مُلازَمَةَ النُّطْقِ والإدْراكِ والحُرِّيَّةِ، ولُزُومَ الِامْتِدادِ والثِّقَلِ والجَذْبِ والدَّفْعِ لِلْأجْرامِ الجامِدَةِ. وأوَّلُ بَيِّنَةٍ عَلى مُلازَمَةِ الشَّرِيعَةِ طَبْعَ الإنْسانِ، ما يَجِدُهُ في نَفْسِهِ ووِجْدانِهِ مِنِ انْغِراسِها فِيهِ انْغِراسًا نَظَرِيًّا. حَتّى لا يُمْكِنَهُ أنْ يُجَرِّدَ نَفْسَهُ. مَثَلًا، كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْإنْسانِ، ولَوْ مَهْما تَعامى في الشَّرِّ، أنْ يُجَرِّدَ نَفْسَهُ عَنْ تَصَوُّرِ (p-٤٢٢٢)أنَّهُ خاضِعٌ لِشَرِيعَةٍ تَنْهاهُ عَنِ القَتْلِ واخْتِلاسِ مالِ غَيْرِهِ والِاعْتِداءِ عَلَيْهِ بِأيِّ نَوْعٍ كانَ؟ فالشَّرِيعَةُ مَكْتُوبَةٌ عَلى قُلُوبِنا في ألْواحٍ لَحْمِيَّةٍ. ومَن بَحَثَ عَنْ عُمُومِ سُكّانِ البَسِيطَةِ، وجَدَ إجْماعَ القَبائِلِ والشُّعُوبِ قاطِبَةً عَلى شَرائِعَ، وإنِ اخْتَلَفَتْ في بَعْضِ مَوادِّها. والحُرِّيَّةُ الَّتِي مُنِحَتْ لِلْإنْسانِ إنَّما قُيِّدَتْ مَحاسِنُها بِالشَّرائِعِ والخُضُوعِ لَها. وإلّا فَهي دَمارٌ لِنِظامِ العالَمِ، وجائِحَةٌ لِلْأدَبِ، وآفَةٌ لِما غَرَسَ البارِئُ في عُقُولِ النّاسِ أجْمَعِينَ، مِن عَهْدِ آدَمَ إلى يَوْمِنا هَذا. وذَلِكَ لِاسْتِلْزامِها إفْسادَ الطَّبْعِ الإنْسانِيِّ، والإجْحافِ بِالشَّرائِعِ الأدَبِيَّةِ. لِأنَّ الإنْسانَ مَتى عَلِمَ أنْ لَيْسَ لَهُ إلَهٌ يُثِيبُ عَلى الخَيْرِ ويُعاقِبُ عَلى الشَّرِّ، أطْلَقَ لِنَفْسِهِ عِنانَ الفاسِدِ، واطَّرَحَ العِذارَ في مِضْمارِ الشَّهَواتِ وإحْرازِ الرَّغائِبِ، قَضاءً لِما يَحْسَبُهُ مِن سَعادَتِهِ، واعْتِقادِ أنَّ نَفْسَهُ لَيْسَتْ خالِدَةً. ولَيْسَ لِسَعادَتِهِ مَوْضُوعٌ خارِجٌ عَنْ هَذِهِ العاجِلَةِ. ولِاسْتِلْزامِها أيْضًا هَدْمَ الِاجْتِماعِ الإنْسانِيِّ والذَّهابَ بِشَأْفَتِهِ. إذْ لا تُرْعى بَعْدَ اللَّهِ ذِمَّةٌ بَيْنَ المَلَأِ، ولا حُرْمَةٌ لِلسُّنَنِ والشَّرائِعِ، ولا بَرٌّ بِالمُلُوكِ، ولا عَدْلٌ بِالرَّعِيَّةِ، ولا مَحَبَّةٌ ولا صِدْقٌ ولا وفاءٌ ولا نَحْوَ ذَلِكَ مِمّا هو ضَرُورِيٌّ بِالذّاتِ لِقِيامِ الأُلْفَةِ البَشَرِيَّةِ ونِظامِ العُمْرانِ.
وبِالجُمْلَةِ، فَلا يَظُنَّنَّ أحَدٌ أنَّ العالَمَ يَدُومُ أوْ يَبْقى فِيهِ شَيْءٌ مِنَ النِّظامِ أوِ الهَيْئَةِ الِاجْتِماعِيَّةِ، إذا لَمْ يَكُنِ النّاسُ مُقَيَّدِينَ بِشَرِيعَةٍ إلَهِيَّةٍ، تَصُدُّ الفاجِرَ عَنِ الفُجُورِ. فَكَما أنَّ الهَواءَ ضَرُورِيٌّ لِلْحَياةِ الطَّبِيعِيَّةِ، فَكَذا الشَّرِيعَةُ ضَرُورِيَّةٌ لِلْحَياةِ الأدَبِيَّةِ. فَلا حَياةَ لِلْمَوْجُوداتِ الحَيَّةِ دُونَ هَواءٍ، فَكَذا لا انْتِظامَ ولا هَيْئَةَ في العالَمِ دُونَ الشَّرِيعَةِ. انْتَهى.
وقالَ إمامٌ مُدَقِّقٌ، في بَحْثِ تَصْحِيحِ الِاعْتِقادِ وضَرُورَتِهِ لِطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ وسَعادَتِها، ما مِثالُهُ: إنّا نَرى أمامَ أعْيُنِنا بَعْضًا مِنَ النّاسِ قَدْ رُزِقُوا صِحَّةً عَظِيمَةً وثَرْوَةً جَسِيمَةً وتَهَذَّبُوا بِأنْواعِ العُلُومِ والمَعارِفِ، ولَكِنَّهم كَثِيرُو الضَّجَرِ شَدِيدُو الحَيْرَةِ. لا يَكادُونَ يَشْعُرُونَ بِالرّاحَةِ ولا يَتَلَذَّذُونَ بِمَلَذَّةٍ. كَأنَّ لَهم في لَذَّةٍ ألَمًا، وبِإزاءِ كُلِّ فَرَحٍ تَرَحًا، يُحِسُّونَ بِكَآبَةٍ قَدْ رانَتْ عَلى صُدُورِهِمْ: فَلا يَعْلَمُونَ سَبَبَها ولا يَعْرِفُونَ مُوجِبَها. كَآبَةٌ لا تُزايِلُهم إلّا بِزَوالِ عُقُولِهِمْ (p-٤٢٢٣)عَنْهُمْ، بِكَأْسٍ مِنَ الرَّحِيقِ. فَلِذَلِكَ تَراهم شَدِيدِي الكَلَفِ بِهِ كَثِيرِي التَّحَرُّقِ لِفِقْدانِهِ، لِأنَّهُ دَواؤُهُمُ الوَحِيدُ. ما سِرُّ هَذا الأرَقِ والضَّجَرِ، مَعَ هَذِهِ الصِّحَّةِ الجِسْمِيَّةِ وتِلْكَ الثَّرْوَةِ المالِيَّةِ، وهُما الأمْرانِ اللَّذانِ عَلَيْهِما، كَما يَزْعُمُونَ، مَدارُ السَّعادَةِ الإنْسانِيَّةِ؟ ما هَذِهِ الحَيْرَةُ الوِجْدانِيَّةُ والوَحْشَةُ الضَّمِيرِيَّةُ، مَعَ تَهَذُّبِهِمْ بِأنْواعِ العِلْمِ، وهو كَما يَزْعُمُونَ، الشّافِي لِلنّاسِ مِن نَزَعاتِ الوَسْواسِ؟
أما يَدُلُّنا هَذا الضَّجَرُ السِّرِّيُّ عَلى أنَّ النَّفْسَ تائِقَةٌ لِأمْرٍ ما، إنْ غابَ عَلى الإنْسانِ عِلْمُهُ، فَقَدْ دَلَّهُ عَلَيْهِ أثَرُهُ. وإنَّ ذَلِكَ الأمْرَ لَيْسَ هو صِحَّةَ البَدَنِ ولا وفْرَةَ المالِ ولا كَثْرَةَ البَنِينَ، ولا سُكْنى القُصُورِ، ولا أكْلَ الصُّنُوفِ، ولا سَماعَ العِيدانِ، ولا مُغازَلَةَ الغِيدِ. بَلْ هو أمْرٌ آخَرُ لا تُعَدُّ هَذِهِ المَلاذُّ بِالنِّسْبَةِ لَهُ إلّا هَباءً، ولا الأكْوانُ بِجانِبِهِ إلّا فَناءً.. ما هو هَذا الأمْرُ السّامِي الَّذِي لَوْ حَصَلَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ اطْمَأنَّتْ وسَكَنَتْ، وهامَتْ بِهِ وسَكِرَتْ، ورَضِيَتْ بِهِ وقَنِعَتْ. هو لا شَكَّ صِحَّةُ المُعْتَقَدِ، وإلَيْكَ الدَّلِيلُ:
لَيْسَتِ النَّفْسُ مِن طَبِيعَةِ هَذِهِ الأجْسامِ الصَّمّاءِ. ولا مِن طِينَةِ هَذِهِ المادَّةِ العَمْياءِ، حَتّى تَأْنَسَ إلى شَيْءٍ مِن أشْياءَ هَذِهِ الأرْضِ الحَقِيرَةِ، أوْ تَهْتَمَّ بِمَلاذِّها مَهْما كانَتْ كَبِيرَةً. بَلْ هي مِن طَبِيعَةٍ نُورانِيَّةٍ مَحْضَةٍ. فَلا تَأْنَسُ إلّا لِنُورٍ يُجْلِي عَنْها ظُلُماتِ الأشْياءِ الأرْضِيَّةِ الكَثِيفَةِ، لِتُشْرِفَ عَلى حَضْرَةِ القُدْسِ المُنِيفَةِ، وتُطِلَّ عَلى حَظائِرِها الشَّرِيفَةِ. النَّفْسُ أجَلُّ مِن أنْ تَقْنَعَ بِالمُشْتَهَياتِ الجُسْمانِيَّةِ، وأكْبَرُ مِن أنْ تَرْضى بِمَلاذِّها المُمَوَّهَةِ الفانِيَةِ. فَمَهْما غالَطَ الإنْسانُ نَفْسَهُ، بِجَمْعِ المالِ ورَفاهَةِ الحالِ، لِيَرْتاحَ سِرُّهُ ويَسْكُنَ اضْطِرابُهُ، فَإنَّ النَّفْسَ لا تَفْتَأُ تُقِيمُ عَلَيْهِ الحُجَّةَ بَعْدَ الحُجَّةِ، لِيَهْتَدِيَ إلى وضَحِ المَحَجَّةِ. فَإنْ تَبَصَّرَ في أمْرِهِ، واكْتَنَهَ حَقِيقَةَ سِرِّهِ، وأنالَ نَفْسَهُ بُغْيَتَها مِن إبْلاغِها نُورَها المَرْجُوَّ لَها، سَكَنَ فُؤادُهُ وآبَ إلَيْهِ رَشادُهُ. ولَوْ كانَ جِسْمُهُ بَيْنَ القَنا والقَنابِلِ. وحالُهُ مِنَ الفَقْرِ في أخَسِّ المَنازِلِ. فَما هو السَّبِيلُ إلى إبْلاغِ هَذِهِ النَّفْسِ الهائِمَةِ أُمْنِيَتَها، وإمْتاعَها بِطُلْبَتِها، مِن صِحَّةِ العَقِيدَةِ؟ السَّبِيلُ لِذَلِكَ هو العَقْلُ (p-٤٢٢٤)السَّلِيمُ. العَقْلُ في النَّوْعِ الإنْسانِيِّ خِصِّيصَةٌ مِن أجَلِّ خَصائِصِهِ، ومِنحَةٌ مِن أفْضَلِ مِنَحِ اللَّهِ عَلَيْهِ، لَوِ اسْتُعْمِلَ فِيما وُضِعَ لَهُ، واعْتَنى بِصِحَّتِهِ واعْتِدالِهِ. بِالعَقْلِ يَسْبُرُ الإنْسانُ غَوْرَ هَذا الوُجُودِ العَظِيمِ، عَلى ضَخامَةِ أجْزائِهِ وعِظَمِ أبْعادِهِ، ويَسْتَكْنِهُ سَيْرَ النَّوامِيسِ السّائِدَةِ عَلَيْهِ، فَيُسْتَدَلُّ بِها عَلى وُجُودِ الخالِقِ عَزَّ وجَلَّ، وعَلى تَنَزُّهِ أفْعالِهِ عَنِ العَبَثِ، وصَنائِعِهِ عَنِ اللَّهْوِ. كَما يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلى عِلْمِهِ وتَدْبِيرِهِ ورَحْمَتِهِ وحِكْمَتِهِ، اسْتِدْلالًا مَحْسُوسًا لا يَقْبَلُ شُبْهَةً ولا يُداخِلُهُ رِيبَةٌ. بِالعَقْلِ يَدْرُسُ الإنْسانُ أحْوالَ الجَمْعِيّاتِ البَشَرِيَّةِ. في نَوامِيسِ رُقِيِّها وهُبُوطِها، وأسْبابَ رِفْعَتِها وضِعَتِها. ويَتَصَبَّرُ في أحْوالِ الأنْبِياءِ الَّذِينَ أرْسَلَهُمُ اللَّهُ إلى خَلْقِهِ هادِينَ مُرْشِدِينَ. فَيَسْتَدِلُّ بِالتَّدْقِيقِ فِيما جاؤُوا بِهِ، وفي الآثارِ الَّتِي تَرَكُوها، عَلى مَعْنى النُّبُوَّةِ وضَرُورَتِها لِلْبَشَرِ. وحِكْمَةُ اللَّهِ تَعالى في اخْتِلافِ المَدارِكِ والإحْساساتِ، وفي تَبايُنِ المِلَلِ والدِّياناتِ. بِالعَقْلِ يُمَيِّزُ الإنْسانُ بَيْنَ أحْوالِ الماضِي والحالِ. فَيُفَرِّقُ تَبَعًا لِذَلِكَ بَيْنَ الدِّياناتِ الخاصَّةِ وبَيْنَ الدِّياناتِ العامَّةِ. ويَعْثُرُ بِتَعْضِيدِ العِلْمِ والبَداءَةِ، عَلى الدِّيانَةِ الَّتِي يَجِبُ أنْ تَكُونَ خاتِمَةَ الأدْيانِ كُلِّها، وباقِيَةً بَقاءَ النَّوْعِ الإنْسانِيِّ، وهي شَرِيعَةُ خاتَمِ النَّبِيِّينَ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وسَلامُهُ.
الرّابِعَةُ: رَأيْتُ لِلْإمامِ ابْنِ القَيِّمِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، كَلامًا عَلى هَذِهِ الآيَةِ في كِتابَيْهِ: (الجَوابِ الكافِي) و(مِفْتاحِ دارِ السَّعادَةِ) فَأحْبَبْتُ نَقْلَهُ هُنا لِفَوائِدِهِ ولِلْعِنايَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَإنَّها جَدِيرَةٌ بِذَلِكَ. قالَ في (الجَوابِ الكافِي) في فَصْلٍ أبانَ فِيهِ العُقُوباتِ المُتَرَتِّبَةَ عَلى المَعاصِي: ومِنها المَعِيشَةُ الضَّنْكُ في الدُّنْيا وفي البَرْزَخِ والعَذابُ في الآخِرَةِ. قالَ: وفُسِّرَتِ المَعِيشَةُ الضَّنْكُ بِعَذابِ القَبْرِ. ولا رَيْبَ أنَّهُ مِنَ المَعِيشَةِ الضَّنْكِ. والآيَةُ تَتَناوَلُ ما هو أعَمُّ مِنهُ، وإنْ كانَتْ نَكِرَةً في سِياقِ الإثْباتِ، فَإنَّ عُمُومَها مِن حَيْثُ المَعْنى. فَإنَّهُ سُبْحانَهُ رَتَّبَ المَعِيشَةَ الضَّنْكَ عَلى الإعْراضِ عَنْ ذِكْرِهِ. فالمُعْرِضُ عَنْهُ لَهُ مِن ضَنْكِ المَعِيشَةِ بِحَسَبِ إعْراضِهِ، وإنْ تَنَعَّمَ في الدُّنْيا بِأوْصافِ النِّعَمِ، فَفي قَلْبِهِ مِنَ الوَحْشَةِ والذُّلِّ والحَسَراتِ الَّتِي تَقْطَعُ القُلُوبَ، والأمانِي الباطِلَةِ (p-٤٢٢٥)والعَذابِ الحاضِرِ ما فِيهِ، وإنَّما تُوارِيهِ عَنْهُ سَكَراتُ الشَّهَواتِ والعِشْقُ وحُبُّ الدُّنْيا والرِّياسَةِ، إنْ لَمْ يَنْضَمْ إلى ذَلِكَ سُكْرُ الخَمْرِ. فَسَكَرُ هَذِهِ الأُمُورِ أعْظَمُ مِن سُكْرِ الخَمْرِ. فَإنَّهُ يُفِيقُ صاحِبُهُ، ويَصْحُو. وسُكْرُ الهَوى وحُبُّ الدُّنْيا لا يَصْحُو صاحِبُهُ إلّا إذا سَكِرَ في عَسْكَرِ الأمْواتِ. فالمَعِيشَةُ الضَّنْكُ لازِمَةٌ لِمَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الَّذِي أنْزَلَهُ عَلى رَسُولِهِ ﷺ في الدُّنْيا والبَرْزَخِ ويَوْمِ المَعادِ. ولا تَقَرُّ العَيْنُ ولا يَهْدَأُ القَلْبُ ولا تَطْمَئِنُّ النَّفْسُ إلّا بِإلَهِها ومَعْبُودِها الَّذِي هو حَقٌّ، وكُلُّ مَعْبُودٍ سِواهُ باطِلٌ، فَمَن قَرَّتْ عَيْنُهُ بِاللَّهِ، قَرَّتْ بِهِ كُلُّ عَيْنٍ. ومَن لَمْ تَقَرَّ عَيْنُهُ بِاللَّهِ، تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ عَلى الدُّنْيا حَسَراتٍ. واللَّهُ تَعالى إنَّما جَعَلَ الحَياةَ الطَّيِّبَةَ لِمَن آمَنَ بِاللَّهِ وعَمِلَ صالِحًا، كَما قالَ تَعالى: ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧] فَضَمِنَ لِأهْلِ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ، الجَزاءَ في الدُّنْيا بِالحَياةِ الطَّيِّبَةِ، والحُسْنى يَوْمَ القِيامَةِ. فَلَهم أطْيَبُ الحَياتَيْنِ وهم أحْياءٌ في الدّارَيْنِ. ونَظِيرُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ولَنِعْمَ دارُ المُتَّقِينَ﴾ [النحل: ٣٠] ونَظِيرُها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكم مَتاعًا حَسَنًا إلى أجَلٍ مُسَمًّى ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ [هود: ٣] فَفازَ المُتَّقُونَ المُحْسِنُونَ بِنَعِيمِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، وحَصَلُوا عَلى الحَياةِ الطَّيِّبَةِ في الدّارَيْنِ، فَإنَّ طِيبَ النَّفْسِ وسُرُورَ القَلْبِ وفَرَحَهُ ولَذَّتَهُ وابْتِهاجَهُ وطُمَأْنِينَتَهُ وانْشِراحَهُ ونُورَهُ وسِعَتَهُ وعافِيَتَهُ، مِن تَرْكِ الشَّهَواتِ المُحَرَّمَةِ والشُّبُهاتِ الباطِلَةِ، هو النَّعِيمُ عَلى الحَقِيقَةِ. ولا نِسْبَةَ لِنَعِيمِ البَدَنِ إلَيْهِ، فَقَدْ كانَ بَعْضُ مَن ذاقَ هَذِهِ اللَّذَّةَ يَقُولُ: لَوْ عَلِمَ المُلُوكُ وأبْناءُ المُلُوكِ ما نَحْنُ فِيهِ، لَجالَدُونا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ. وقالَ آخَرُ: إنَّهُ يَمُرُّ بِالقَلْبِ أوْقاتٌ أقُولُ فِيها: إنْ كانَ أهْلُ الجَنَّةِ في مِثْلِ هَذا، إنَّهم لَفي عَيْشٍ (p-٤٢٢٦)طَيِّبٍ. وقالَ آخَرُ: إنَّ في الدُّنْيا جَنَّةً، هي في الدُّنْيا كالجَنَّةِ في الآخِرَةِ. مَن لَمْ يَدْخُلْها لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الآخِرَةِ.
وقَدْ أشارَ النَّبِيُّ ﷺ إلى هَذِهِ الجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: ««إذا مَرَرْتُمْ بِرِياضِ الجَنَّةِ فارْتَعُوا. قالُوا: وما رِياضُ الجَنَّةِ؟ قالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ»» . وقالَ: ««ما بَيْنَ بَيْتِي ومِنبَرِي رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الجَنَّةِ»» ولا تَظُنَّ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ الأبْرارَ لَفي نَعِيمٍ﴾ [الإنفطار: ١٣] ﴿وإنَّ الفُجّارَ لَفي جَحِيمٍ﴾ [الإنفطار: ١٤] يَخْتَصُّ بِيَوْمِ المَعادِ فَقَطْ، بَلْ هَؤُلاءِ في نَعِيمٍ في دُورِهِمُ الثَّلاثَةِ. وهَؤُلاءِ في جَحِيمٍ في دُورِهِمُ الثَّلاثَةِ. وأيُّ لَذَّةٍ ونَعِيمٍ في الدُّنْيا أطْيَبُ مِن بَرِّ القَلْبِ وسَلامَةِ الصَّدْرِ ومَعْرِفَةِ الرَّبِّ تَعالى ومَحَبَّتِهِ والعَمَلِ عَلى مُوافَقَتِهِ؟ وهَلْ عَيْشٌ في الحَقِيقَةِ إلّا عَيْشُ القَلْبِ السَّلِيمِ؟ وقَدْ أثْنى اللَّهُ تَعالى عَلى خَلِيلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِسَلامَةِ قَلْبِهِ فَقالَ: ﴿وإنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبْراهِيمَ﴾ [الصافات: ٨٣] ﴿إذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: ٨٤] وقالَ حاكِيًا عَنْهُ أنَّهُ قالَ: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ﴾ [الشعراء: ٨٨] ﴿إلا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٩] والقَلْبُ السَّلِيمُ هو الَّذِي سَلِمَ مِنَ الشِّرْكِ والغِلِّ والحِقْدِ والحَسَدِ والشُّحِّ والكِبْرِ وحُبِّ الدُّنْيا والرِّياسَةِ. فَسَلِمَ مِن كُلِّ آفَةٍ تُبْعِدُهُ مِنَ اللَّهِ، وسَلِمَ مِن كُلِّ شُبْهَةٍ تُعارِضُ خَبَرَهُ، ومِن كُلِّ شَهْوَةٍ تُعارِضُ أمْرَهُ. وسَلِمَ مِن كُلِّ إرادَةٍ تُزاحِمُ مُرادَهُ. وسَلِمَ مِن كُلِّ قاطِعٍ يَقْطَعُهُ عَنِ اللَّهِ. فَهَذا القَلْبُ السَّلِيمُ في جَنَّةٍ مُعَجَّلَةٍ في الدُّنْيا، وفي جَنَّةٍ في البَرْزَخِ وفي جَنَّةِ يَوْمِ المَعادِ انْتَهى مُلَخَّصًا.
(p-٤٢٢٧)وقالَ رَحِمَهُ اللَّهُ في (مِفْتاحِ دارِ السَّعادَةِ): فَسَّرَ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ السَّلَفِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ بِعَذابِ القَبْرِ. وجَعَلُوا هَذِهِ الآيَةَ أحَدَ الأدِلَّةِ الدّالَّةِ عَلى عَذابِ القَبْرِ. ولِهَذا قالَ: ﴿ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ ﴿قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ [طه: ١٢٥] ﴿قالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى﴾ [طه: ١٢٦] أيْ: تُتْرَكُ في العَذابِ كَما تَرَكْتَ العَمَلَ بِآياتِنا. فَذَكَرَ عَذابَ البَرْزَخِ وعَذابَ دارِ البَوارِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى في حَقِّ آلِ فِرْعَوْنَ: ﴿النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وعَشِيًّا﴾ [غافر: ٤٦] فَهَذا في البَرْزَخِ: ﴿ويَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ﴾ [غافر: ٤٦] فَهَذا في القِيامَةِ الكُبْرى. ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَوْ تَرى إذِ الظّالِمُونَ في غَمَراتِ المَوْتِ والمَلائِكَةُ باسِطُو أيْدِيهِمْ أخْرِجُوا أنْفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلى اللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ وكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأنعام: ٩٣] فَقَوْلُ المَلائِكَةِ: ﴿اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الهُونِ﴾ [الأنعام: ٩٣] المُرادُ بِهِ عَذابُ البَرْزَخِ الَّذِي أوَّلُهُ يَوْمَ القَبْضِ والمَوْتِ. ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَوْ تَرى إذْ يَتَوَفّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهم وذُوقُوا عَذابَ الحَرِيقِ﴾ [الأنفال: ٥٠] فَهَذِهِ الإذاقَةُ في البَرْزَخِ. وأوَّلُها حِينَ الوَفاةِ، فَإنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٠] وهو مِنَ القَوْلِ المَحْذُوفِ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ كَنَظائِرِهِ. وكِلاهُما واقِعٌ وقْتَ الوَفاةِ.
وفِي الصَّحِيحِ، عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ في قَوْلِهِ: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثّابِتِ في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾ [إبراهيم: ٢٧] قالَ: نَزَلَتْ في عَذابِ القَبْرِ. والأحادِيثُ في عَذابِ (p-٤٢٢٨)القَبْرِ تَكادُ تَبْلُغُ حَدَّ التَّواتُرِ. والمَقْصُودُ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أخْبَرَ أنَّ مَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ هو الهُدى الَّذِي مَنِ اتَّبَعَهُ لا يَضِلُّ ولا يَشْقى، بِأنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا، وتَكْفُلُ لِمَن حَفِظَ عَهْدَهُ أنْ يُحْيِيَهُ حَياةً طَيِّبَةً ويَجْزِيَهُ أجْرَهُ في الآخِرَةِ فَقالَ تَعالى: ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧] فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ عَنْ فَلاحِ مَن تَمَسَّكَ بَعْدَهُ عِلْمًا وعَمَلًا في العاجِلَةِ بِالحَياةِ الطَّيِّبَةِ، وفي الآخِرَةِ بِأحْسَنِ الجَزاءِ. وهَذا بِعَكْسِ مَن لَهُ المَعِيشَةُ الضَّنْكُ في الدُّنْيا والبَرْزَخِ، ونِسْيانُهُ في العَذابِ في الآخِرَةِ. وقالَ سُبْحانَهُ: ﴿ومَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهو لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: ٣٦] ﴿وإنَّهم لَيَصُدُّونَهم عَنِ السَّبِيلِ ويَحْسَبُونَ أنَّهم مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٣٧] فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ ابْتِلاءَهُ بِقَرِينِهِ مِنَ الشَّياطِينِ وضَلالَهُ بِهِ، إنَّما كانَ لِسَبَبِ إعْراضِهِ وعُشُوِّهِ عَنْ ذِكْرِهِ الَّذِي أنْزَلَهُ عَلى رَسُولِهِ. فَكانَ عُقُوبَةَ هَذا الإعْراضِ، أنْ قَيَّضَ لَهُ شَيْطانًا يُقارِنُهُ فَيَصُدُّهُ عَنْ سَبِيلِ رَبِّهِ وطَرِيقِ فَلاحِهِ. وهو يَحْسَبُ أنَّهُ مُهْتَدٍ. حَتّى إذا وافى رَبَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ مِن قَرِينِهِ، وعايَنَ هَلاكَهُ وإفْلاسَهُ قالَ: ﴿يا لَيْتَ بَيْنِي وبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ القَرِينُ﴾ [الزخرف: ٣٨] وكُلُّ مَن أعْرَضَ عَنْ الِاهْتِداءِ بِالوَحْيِ الَّذِي هو ذِكْرُ اللَّهِ، فَلا بُدَّ أنْ يَقُولَ هَذا يَوْمَ القِيامَةِ.
فَإنْ قِيلَ: فَهَلْ لِهَذا عُذْرٌ في ضَلالِهِ، إذا كانَ يَحْسَبُ أنَّهُ عَلى هُدًى كَما قالَ تَعالى: ﴿ويَحْسَبُونَ أنَّهم مُهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: ٣٠] ؟ قِيلَ: لا عُذْرَ لِهَذا وأمْثالِهِ في الضَّلالِ، الَّذِينَ مَنشَأُ ضَلالِهِمُ الإعْراضُ عَنِ الوَحْيِ الَّذِي جاءَ بِهِ الرَّسُولُ. ولَوْ ظَنَّ أنَّهُ مُهْتَدٍ، فَإنَّهُ مُفَرِّطٌ بِإعْراضِهِ عَنِ اتِّباعِ داعِي الهُدى. فَإذا ضَلَّ فَإنَّما أُتَيَ مِن تَفْرِيطِهِ وإعْراضِهِ. وهَذا بِخِلافِ مَن كانَ ضَلالُهُ لِعَدَمِ بُلُوغِ الرِّسالَةِ، وعَجْزِهِ عَنِ الوُصُولِ إلَيْها، فَذاكَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ.
والوَعِيدُ في القُرْآنِ إنَّما يَتَناوَلُ الأوَّلَ. وأمّا الثّانِي فَإنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ أحَدًا إلّا بَعْدَ إقامَةِ (p-٤٢٢٩)الحُجَّةِ عَلَيْهِ كَما قالَ تَعالى: ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ [الإسراء: ١٥] وقالَ تَعالى: ﴿رُسُلا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥] وقالَ تَعالى في أهْلِ النّارِ: ﴿وما ظَلَمْناهم ولَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ﴾ [الزخرف: ٧٦] وقالَ تَعالى: ﴿أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتا عَلى ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللَّهِ وإنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ﴾ [الزمر: ٥٦] أوْ تَقُولَ ﴿لَوْ أنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ المُتَّقِينَ﴾ [الزمر: ٥٧] أوْ تَقُولَ حِينَ تَرى العَذابَ ﴿لَوْ أنَّ لِي كَرَّةً فَأكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ [الزمر: ٥٨] بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها واسْتَكْبَرْتَ وكُنْتَ مِنَ الكافِرِينَ، وهَذا كَثِيرٌ في القُرْآنِ.
الخامِسَةُ: قالَ ابْنُ القَيِّمِ: اخْتُلِفَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ ﴿قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى﴾ [طه: ١٢٥] هَلْ هو مِن عَمى البَصِيرَةِ أوْ مِن عَمى البَصَرِ ؟ والَّذِينَ قالُوا هو مِن عَمى البَصِيرَةِ، إنَّما حَمَلَهم عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا﴾ [مريم: ٣٨] وقَوْلُهُ: ﴿لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَةٍ مِن هَذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: ٢٢] وقَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ المَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان: ٢٢] وقَوْلُهُ: ﴿لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾ [التكاثر: ٦] ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ اليَقِينِ﴾ [التكاثر: ٧] ونَظائِرُ هَذا مِمّا يَثْبُتُ لَهُمُ الرُّؤْيَةُ في الآخِرَةِ لِقَوْلِهِ: ﴿وتَراهم يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: ٤٥] وقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطور: ١٣] ﴿هَذِهِ النّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ﴾ [الطور: ١٤] ﴿أفَسِحْرٌ هَذا أمْ أنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ﴾ [الطور: ١٥] وقَوْلِهِ: ﴿ورَأى المُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنُّوا أنَّهم مُواقِعُوها﴾ [الكهف: ٥٣]
(p-٤٢٣٠)والَّذِينَ رَجَّحُوا أنَّهُ مِن عَمى البَصَرِ، قالُوا: السِّياقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: ﴿قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ [طه: ١٢٥] وهو لَمْ يَكُنْ بَصِيرًا في كُفْرِهِ قَطُّ، بَلْ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُ حِينَئِذٍ أنَّهُ كانَ في الدُّنْيا في عَمًى عَنِ الحَقِّ. فَكَيْفَ يَقُولُ: ﴿وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ [طه: ١٢٥] وكَيْفَ يُجابُ بِقَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها﴾ [طه: ١٢٦] ؟ بَلْ هَذا الجَوابُ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُ مِن عَمى البَصَرِ وأنَّهُ جُوزِيَ مِن جِنْسِ عَمَلِهِ. فَإنَّهُ لَمّا أعْرَضَ عَنِ الذِّكْرِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وعَمِيَتْ عَنْهُ بَصِيرَتُهُ، أعْمى اللَّهُ بِهِ بَصَرَهُ يَوْمَ القِيامَةِ، وتَرَكَهُ في العَذابِ، كَما تَرَكَ الذِّكْرَ في الدُّنْيا، فَجازاهُ عَلى عَمى بَصِيرَتِهِ عَمى بَصَرِهِ في الآخِرَةِ. وعَلى تَرْكِهِ ذِكْرَهُ، تَرْكَهُ في العَذابِ. وقالَ تَعالى: ﴿ومَن يَهْدِ اللَّهُ فَهو المُهْتَدِي ومَن يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهم أوْلِياءَ مِن دُونِهِ ونَحْشُرُهم يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا﴾ [الإسراء: ٩٧] وقَدْ قِيلَ في هَذِهِ الآيِ أيْضًا: إنَّهم عُمْيٌ وبُكْمٌ وصُمٌّ عَنِ الهُدى. كَما قِيلَ في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ قالُوا لِأنَّهم يَتَكَلَّمُونَ يَوْمَئِذٍ ويَسْمَعُونَ ويُبْصِرُونَ.
ومَن نَصَرَ أنَّهُ العَمى والبُكْمُ والصَّمَمُ، المُضادُّ لِلْبَصَرِ والسَّمْعِ والنُّطْقِ، قالَ: هو عَمًى وصَمَمٌ وبَكَمٌ مُقَيَّدٌ لا مُطْلَقٌ. فَهو عَمًى عَنْ رُؤْيَةِ ما يَسُرُّهم وسَماعِهِ. وهَذا قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: لا يَرَوْنَ شَيْئًا يَسُرُّهم. وقالَ آخَرُونَ: هَذا الحَشْرُ حِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ، يَخْرُجُونَ مِنَ الدُّنْيا كَذَلِكَ. فَإذا قامُوا مِن قُبُورِهِمْ إلى المَوْقِفِ قامُوا كَذَلِكَ. ثُمَّ إنَّهم يَسْمَعُونَ ويُبْصِرُونَ فِيما بَعْدُ. وهَذا مَرْوِيٌّ عَنِ الحَسَنِ.
وقالَ آخَرُونَ: هَذا إنَّما يَكُونُ إذا دَخَلُوا النّارَ واسْتَقَرُّوا فِيها، سُلِبُوا الأسْماعَ والأبْصارَ والنُّطْقَ، حِينَ يَقُولُ لَهُمُ الرَّبُّ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿اخْسَئُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨] فَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ الرَّجاءُ وتَبْكُمُ عُقُولُهم فَيُبْصَرُونَ بِأجْمَعِهِمْ، عُمْيًا بُكْمًا صُمًّا، لا يُبْصِرُونَ (p-٤٢٣١)ولا يَسْمَعُونَ ولا يَنْطِقُونَ. ولا يَسْمَعُ فِيها بَعْدَها إلّا الزَّفِيرَ والشَّهِيقَ. وهَذا مَنقُولٌ عَنْ مُقاتِلٍ.
والَّذِينَ قالُوا: المُرادُ بِهِ العُمْيُ عَنِ الحُجَّةِ، إنَّما مُرادُهم أنَّهم لا حُجَّةَ لَهُمْ، ولَمْ يُرِيدُوا أنَّ لَهم حُجَّةً، هم عُمْيٌ عَنْها، بَلْ هم عُمْيٌ عَنِ الهُدى كَما كانُوا في الدُّنْيا. فَإنَّ العَبْدَ يَمُوتُ عَلى ما عاشَ عَلَيْهِ. ويُبْعَثُ عَلى ما ماتَ عَلَيْهِ. وبِهَذا يَظْهَرُ أنَّ الصَّوابَ هو القَوْلُ الآخَرُ، وأنَّهُ عَمى البَصَرِ. وأنَّ الكافِرَ يَعْلَمُ الحَقَّ يَوْمَ القِيامَةِ عَيانًا، ويُقِرُّ بِما كانَ يَجْحَدُ في الدُّنْيا. فَلَيْسَ هو أعْمى عَنِ الحَقِّ يَوْمَئِذٍ.
وفَصْلُ الخِطابِ؛ أنَّ الحَشْرَ هو الضَّمُّ والجَمْعُ. ويُرادُ بِهِ تارَّةً الحَشْرُ إلى مَوْقِفِ القِيامَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ ««إنَّكم مَحْشُورُونَ إلَيَّ حُفاةً عُراةً»» وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا الوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ [التكوير: ٥] وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وحَشَرْناهم فَلَمْ نُغادِرْ مِنهم أحَدًا﴾ [الكهف: ٤٧] ويُرادُ بِهِ الضَّمُّ والجَمْعُ إلى دارِ المُسْتَقَرِّ. فَحَشْرُ المُتَّقِينَ جَمْعُهم وضَمُّهم إلى الجَنَّةِ. وحَشْرُ الكافِرِينَ جَمْعُهم وضَمُّهم إلى النّارِ. لِأنَّهُ قَدْ أخْبَرَ عَنْهم أنَّهم قالُوا: ﴿يا ويْلَنا هَذا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الصافات: ٢٠] ﴿هَذا يَوْمُ الفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [الصافات: ٢١] ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأزْواجَهُمْ﴾ [الصافات: ٢٢] الآيَةَ وهَذا الحَشْرُ الثّانِي، وعَلى هَذا فَهم ما بَيْنَ الحَشْرِ الأوَّلِ مِنَ القُبُورِ إلى المَوْقِفِ والحَشْرِ الثّانِي. يَسْمَعُونَ ويُبْصِرُونَ ويُجادِلُونَ ويَتَكَلَّمُونَ، وعِنْدَ الحَشْرِ الثّانِي يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا. ولِكُلِّ مَوْقِفٍ حالٌ يَلِيقُ بِهِ، ويَقْتَضِيهِ عَدْلُ الرَّبِّ تَعالى وحِكْمَتُهُ. فالقُرْآنُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا: ﴿ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢] انْتَهى.
(p-٤٢٣٢)السّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى﴾ [طه: ١٢٦] أيْ: لِما أعْرَضْتَ عَنْ آياتِ اللَّهِ وعامَلْتَها مُعامَلَةَ مَن لَمْ يَذْكُرْها بَعْدَ بَلاغِها إلَيْكَ، تَناسَيْتَها وأعْرَضْتَ عَنْها وأغْفَلْتَها. كَذَلِكَ اليَوْمَ نُعامِلُكَ مُعامَلَةَ مَن يَنْساكَ: ﴿فاليَوْمَ نَنْساهم كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذا﴾ [الأعراف: ٥١] فَإنَّ الجَزاءَ مِن جِنْسِ العَمَلِ. فالنِّسْيانُ مَجازٌ عَنِ التَّرْكِ.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَأمّا نِسْيانُ لَفْظِ القُرْآنِ مَعَ فَهْمِ مَعْناهُ، والقِيامِ بِمُقْتَضاهُ، فَلَيْسَ داخِلًا في هَذا الوَعِيدِ الخاصِّ. وإنْ كانَ مُتَوَعَّدًا عَلَيْهِ مِن جِهَةٍ أُخْرى. فَإنَّهُ قَدْ ورَدَتِ السُّنَّةُ بِالنَّهْيِ الأكِيدِ والوَعِيدِ الشَّدِيدِ في ذَلِكَ.
رَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: ««ما مِن رَجُلٍ قَرَأ القُرْآنَ فَنَسِيَهُ، إلّا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ يَلْقاهُ، وهو أجْذَمُ»»؛.
السّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي مَن أسْرَفَ﴾ [طه: ١٢٧] الآيَةَ، أيْ: وهَكَذا نَجْزِي المُسْرِفِينَ المُكَذِّبِينَ بِآياتِ اللَّهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. وعَذابُ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبْقى، مِن ضَنْكِ العَيْشِ في الدُّنْيا. لِكَوْنِهِ دائِمًا. ثُمَّ أشارَ تَعالى إلى تَقْرِيرِ ما تَقَدَّمَ مِن لُحُوقِ العَذابِ، بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
{"ayahs_start":124,"ayahs":["وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَةࣰ ضَنكࣰا وَنَحۡشُرُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَعۡمَىٰ","قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرۡتَنِیۤ أَعۡمَىٰ وَقَدۡ كُنتُ بَصِیرࣰا","قَالَ كَذَ ٰلِكَ أَتَتۡكَ ءَایَـٰتُنَا فَنَسِیتَهَاۖ وَكَذَ ٰلِكَ ٱلۡیَوۡمَ تُنسَىٰ","وَكَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی مَنۡ أَسۡرَفَ وَلَمۡ یُؤۡمِنۢ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِۦۚ وَلَعَذَابُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبۡقَىٰۤ"],"ayah":"قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرۡتَنِیۤ أَعۡمَىٰ وَقَدۡ كُنتُ بَصِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق