الباحث القرآني

(p-١٨٥)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٨٧ ] ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ وقَفَّيْنا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وآتَيْنا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّناتِ وأيَّدْناهُ بِرُوحِ القُدُسِ أفَكُلَّما جاءَكم رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ بَعْضٍ آخَرَ مِن جِناياتِهِمْ. وتَصْدِيرُهُ بِالجُمْلَةِ القَسَمِيَّةِ لِإظْهارِ كَمالِ الِاعْتِناءِ بِهِ. والمُرادُ بِالكِتابِ التَّوْراةُ. ﴿وقَفَّيْنا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ يُقالُ: قَفّاهُ بِهِ أتْبَعَهُ إيّاهُ، مِنَ التَّقْفِيَةِ وهي مُتابَعَةُ شَيْءٍ شَيْئًا. كَأنَّهُ يَتْلُو قَفاهُ، وقَفا الصُّورَةَ مِنها، خَلْفُها المُقابِلُ لِلْوَجْهِ. والمَعْنى لَمْ نَقْتَصِرْ عَلى الضَّبْطِ بِالكِتابِ الَّذِي تَرَكَهُ فِيكم مُوسى، بَلْ أرْسَلْنا مِن بَعْدِهِ الرُّسُلَ تَتْرى، لِيُجَدِّدُوا لَكم أمْرَ الدِّينِ ويُؤَكِّدُوا عَلَيْكُمُ العُهُودَ. "وآتَيْنا عِيسى" اسْمٌ مُعَرَّبٌ أصْلُهُ يَسُوعُ. لَفْظَةٌ يُونانِيَّةٌ بِمَعْنى مُخْلَصٍ، ومِثْلُهُ يَشُوعُ بِالمُعْجَمَةِ، في اللُّغَةِ العِبْرانِيَّةِ "ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّناتِ" المُعْجِزاتِ الواضِحاتِ الَّتِي لا مِرْيَةَ فِيها لِذِي عَقْلٍ. كَإحْياءِ المَوْتى وإبْراءِ الأكْمَهِ والأبْرَصِ "وأيَّدْناهُ" أيْ: قَوَّيْناهُ عَلى ذَلِكَ كُلِّهِ "بِرُوحِ القُدُسِ" بِالرُّوحِ المُقَدَّسَةِ كَما تَقُولُ: حاتِمُ الجُودِ ورَجُلُ صِدْقٍ، وهي الرُّوحُ الطّاهِرَةُ الَّتِي نَفَخَها اللَّهُ فِيهِ ومَيَّزَهُ بِها عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ خَلَقَ. قالَ تَعالى ﴿ورُوحٌ مِنهُ﴾ [النساء: ١٧١] ولِذا كانَ لَهُ، عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، بِالرُّوحِ مَزِيدُ اخْتِصاصٍ لِكَثْرَةِ ما أحْيى مِنَ المَوْتى. وعَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ: القُدُسُ هو اللَّهُ، ورُوحُهُ جِبْرِيلُ. والإضافَةُ لِلتَّشْرِيفِ. والمَعْنى: (p-١٨٦)أعَنّاهُ بِجِبْرِيلَ. قالَ الرّازِيُّ: والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ رُوحَ القُدُسِ جِبْرِيلُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ نَـزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ﴾ [النحل: ١٠٢] واللَّهُ أعْلَمُ. وتَخْصِيصُهُ مِن بَيْنِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِالذِّكْرِ ووَصْفُهُ بِما ذَكَرَ مِن إيتاءِ البَيِّناتِ، والتَّأْيِيدِ بِرُوحِ القُدُسِ لِحَسْمِ مادَّةِ اعْتِقادِهِمُ الباطِلَ في حَقِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِبَيانِ حَقِّيَّتِهِ وإظْهارِ نِهايَةِ قُبْحِ ما فَعَلُوا بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿أفَكُلَّما جاءَكم رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أنْفُسُكُمُ﴾ مِنَ الحَقِّ، أيْ لا تُحِبُّهُ. مِن هَوِيَ كَفَرِحَ، إذا أحَبَّ "اسْتَكْبَرْتُمْ" عَنْ الِاتِّباعِ لَهُ، والإيمانِ بِما جاءَ بِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى "فَفَرِيقًا" مِنهم "كَذَّبْتُمْ" إذْ لَمْ تَنَلْ أيْدِيكم مَضَرَّتَهُ "وفَرِيقًا" آخَرَ مِنهم "تَقْتُلُونَ" غَيْرَ مُكْتَفِينَ بِتَكْذِيبِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب