الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٧٩ ] ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهم مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ ووَيْلٌ لَهم مِمّا يَكْسِبُونَ﴾ "فَوَيْلٌ" فَإنْ أُضِيفَ، نُصِبَ. نَحْوَ: ويْلَكَ ووَيْحَكَ -وإذا فُصِلَ عَنِ الإضافَةِ، (p-١٧٤)رُفِعَ. نَحْوَ: ويْلٌ لَهُ. الوَيْلُ: الهَلاكُ وشِدَّةُ العَذابِ "لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ" أيِ المُحَرَّفُ. أوْ ما كَتَبُوهُ مِنَ التَّأْوِيلاتِ الزّائِفَةِ "بِأيْدِيهِمْ" تَأْكِيدٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ المَجازِ. كَقَوْلِكَ: كَتَبْتُهُ بِيَمِينِي. وقَدْ يُقالُ في مِثْلِ هَذا: إنَّ فائِدَتَهُ تَصْوِيرُ الحالَةِ في النَّفْسِ كَما وقَعَتْ حَتّى يَكادَ السّامِعُ لِذَلِكَ أنْ يَكُونَ مُشاهِدًا لِلْهَيْئَةِ "ثُمَّ يَقُولُونَ" لِما كَتَبُوهُ، كَذِبًا وبُهْتانًا "هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ" أيْ يَأْخُذُوا لِأنْفُسِهِمْ بِمُقابَلَتِهِ "ثَمَنًا قَلِيلًا" أيْ عَرَضًا يَسِيرًا. ويَجُوزُ في الآيَةِ مَعْنًى آخَرُ؛ أيْ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينِ يَكْتُبُونَ كِتابَ التَّوْراةِ بِأيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ، فَيَشْهَدُونَ بِذَلِكَ. وكانَ مِن مُقْتَضى كِتابَتِهِمْ بِأيْدِيهِمُ الَّتِي تَقِفُهم مِنَ الكِتابِ عَلى ما لا يَقِفُونَ عَلَيْهِ، لَوْ كانَ كِتابَةَ غَيْرِهِمْ، ومُقْتَضى قَوْلِهِمْ وإقْرارِهِمْ بِأنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ -الوُقُوفُ مَعَ عُهُودِهِ ومَواثِيقِهِ، إجْلالًا لِمُنْزِلِهِ ومُوحِيهِ، ودَعْوى النّاسِ إلى ظَواهِرِهِ وخَوافِيهِ. ولَكِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنهم. بَلْ كانَ أنْ حَرَّفُوا كَلِمَهُ عَنْ مَواضِعِهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. وحاصِلُ هَذا الوَجْهِ إبْقاءُ الكِتابِ المَكْتُوبِ عَلى أصْلِهِ، وصِدْقُهم في قَوْلِهِمْ: هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ. ثُمَّ مُخالَفَتُهم لِذَلِكَ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى "لِيَشْتَرُوا بِهِ" تَعْلِيلًا لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّياقُ. أيْ: ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُحَرِّفُونَهُ لِيَشْتَرُوا بِهِ، وهو وجْهٌ جَيِّدٌ يُوافِقُ آيَةَ "يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ" ورُبَّما يُشِيرُ إلى هَذا الوَجْهِ قَوْلُ مُجاهِدٍ فِيما رَواهُ ابْنُ جَرِيرٍ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ عَرَفُوا أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ يُحَرِّفُونَهُ: ﴿فَوَيْلٌ لَهم مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ﴾ أيْ: فَشِدَّةُ العَذابِ لَهم مِمّا غَيَّرَتْ أيْدِيهِمْ "ووَيْلٌ لَهم مِمّا يَكْسِبُونَ" يُصِيبُونَ مِنَ الحَرامِ والسُّحْتِ. قالَ الرّاغِبُ: إنْ قِيلَ: لِمَ ذَكَرَ "يَكْسِبُونَ" بِلَفْظِ المُسْتَقْبَلِ و"كَتَبَتْ" بِلَفْظِ الماضِي ؟ قِيلَ: تَنْبِيهًا عَلى ما قالَ النَّبِيُّ ﷺ ««مَن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةٍ فَعَلَيْهِ وِزْرُها (p-١٧٥)ووِزْرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ»» فَنَبَّهَ بِالآيَةِ أنَّ ما أصَّلُوهُ وأثْبَتُوهُ مِنَ التَّأْوِيلاتِ الفاسِدَةِ، الَّتِي يَعْتَمِدُها الجَهَلَةُ، هو اكْتِسابُ وِزْرٍ يَكْتَسِبُونَهُ حالًا فَحالًا (إنْ قِيلَ) لِمَ ذَكَرَ الكِتابَةَ دُونَ القَوْلِ. (قِيلَ) لَمّا كانَتِ الكِتابَةُ مُتَضَمِّنَةً لِلْقَوْلِ وزائِدَةً عَلَيْهِ؛ إذْ هو كَذَّبَ بِاللِّسانِ واليَدِ، صارَ أبْلَغَ. لِأنَّ كَلامَ اليَدِ يَبْقى رَسْمُهُ والقَوْلُ يَضْمَحِلُّ أثَرُهُ. (إنْ قِيلَ): ما الَّذِي كانُوا يَكْتُبُونَهُ ؟ (قِيلَ): رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أنَّ رُؤَساءَ اليَهُودِ كانُوا يُغَيِّرُونَ مِنَ التَّوْراةِ نَعْتَ النَّبِيِّ ﷺ . ثُمَّ يَقُولُونَ هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ. وهَذا فَصْلٌ يَحْتاجُ إلى فَضْلِ شَرْحٍ. وهو أنَّهُ يَجِبُ أنْ يُتَصَوَّرَ أنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أتى بِوَصْفٍ لِنَبِيٍّ بَعْدَهُ، فَإنَّهُ أتى بِلَفْظَةٍ مُعَرِّضَةٍ وإشارَةٍ مُدْرَجَةٍ، لا يَعْرِفُها إلّا الرّاسِخُونَ في العِلْمِ. وقَدْ قالَ العُلَماءُ: ما انْفَكَّ كِتابٌ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّماءِ مِن تَضَمُّنِ ذِكْرِ النَّبِيِّ ﷺ، لَكِنْ بِإشاراتٍ. ولَوْ كانَ ذَلِكَ مُتَجَلِّيًا لِلْعَوامِّ لَما عُوتِبَ عُلَماؤُهم في كِتْمانِهِ. ثُمَّ ازْدادَ ذَلِكَ غُمُوضًا بِنَقْلِهِ مِن لِسانٍ إلى لِسانٍ؛ مِنَ العِبْرانِيِّ إلى السُّرْيانِيِّ إلى العَرَبِيِّ. وقَدْ ذَكَرَ المُحَصِّلَةُ ألْفاظًا مِنَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، إذا اعْتُبِرَتْ وُجِدَتْ دالَّةً عَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِتَعْرِيضٍ، هو عِنْدَ الرّاسِخِينَ في العِلْمِ جَلِيٌّ، وعِنْدَ العامَّةِ خَفِيٌّ. فَبانَ بِهَذِهِ الجُمْلَةِ أنَّ ما كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ كانَتْ تَأْوِيلاتٍ مُحَرَّفَةً، وقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعالى بِالآيَةِ عَلى التَّحْذِيرِ مِن تَغْيِيرِ أحْكامِهِ، وتَبْدِيلِ آياتِهِ، وكِتْمانِ الحَقِّ عَنْ أهْلِهِ، وتَرْكِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، طَمَعًا في عَرَضِ الدُّنْيا، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُ عَنى بِالثَّمَنِ القَلِيلِ، أعْراضَ الدُّنْيا وإنْ كَثُرَتْ. لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ﴾ [النساء: ٧٧] اهـ كَلامُ الرّاغِبِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب